الفصل الخامس والسبعون

ترددت كثيرا في الذهاب لرؤية والدها، رغم أن القلق كان ينهش بقلبها إلا أنها كانت خاشية من مواجهته بعدما علم بفعلتها النكراء كما أن رؤيته راقدا بسببها كان أكثر ما لا تتحمل رؤيته، ولكنها حسمت أمرها بعد الكثير من التفكير والذي انتهي بقرارها في الذهاب، فعلى كلٍ لا ينبغي أن يكون والدها راقدا بالمشفى طريح الفراش ولا تذهب للإطمئنان عليه، أبلغت "كيان" بذهابها وطلبت منها الذهاب رفقتها لكي تكون لها معينا إذا لم يسعفها لسانها على التحدث أو إذا فاق الأمر تحملها وتعرضت لإنهبار هي بالكاد تمنع نفسها عنه، وبالطبع جاءت معها "كيان" التي وافقت على الفور، دلفت "لينا" غرفة العناية المركزة تاركة كلا من "كيان" و"راغب" الذي أقلهما للمشفى بالخارج، كانت تتقدم نحو فراش والدها بخطوات ترتجف ودموعها انهمرت رغما عنها وهي ترى والدها الذي لطالما كان سامقا شامخا بجسده طريح الفراش هامدا بكل ذلك الإعياء والشحوب الباديين عليه، ازداد حدة بكاء دون إرادتها وصاحبه نهنهات وشهقات كانت تتخلل بكائها والذي فتح "نوح" عينيه على إثره، وجه نظره لها في نظرة يحتلها الضعف، بينما هي لم تتحنل نظرته وهتفت في محاولة للتحدث معبرة عن ندمها بنحيب:

- بابا.. أنا..

لم يسعفها لسانها على النطق أو الإدلاء بجملة مفيدة، وازدادت في البكاء مما آلم قلب "نوح" عليها، مد ذراعه لها وغمغم بضعف مرددا:

- تعالي يا لينا

اندفعت نحوه مسرعة ملبية ندتئه الذي كانت بحاجة بالغة له، ارتمت بصدره وهي تنتحب بقوة، خاوطها بيده الخالية من ابرة المحلول الطبي، وربت على ظهرها ليصدح صوتها الباكي معتذرة بندم بالغ قائلة:

- أنا آسفة أوي يا بابا، أنا ندمانة والله على اللي عملته، بس أنا مكنتش أعرف إنه بيكدب عليا، مكنتش أعرف إنه بيستغلني

أدمعت عينيه وقلبه ينزف عليها، يعلم أنها مخطئة ولكن خطأه أكبر وأفدح، فمعاملته الخالية من أية اهتمام وحنان أبوي من زجت به لفعلتها تلك، أوصد عينيه بقوة وأخبرخ بصوت مهزوز إثر اختناقه بدموعه الحبيسة المعتصرة حلقه:

- حقك عليا يا لينا

ارتفعت "لينا" عند صدره، رمقته بحدقتين ممتلئتين بالدموع بنظرة تعبر عن شدوهها من اعتذاره، وأردغت باستنكار يحمل الخزي:

- بابا!، انت بتقول ايه؟، أنا اللي المفروض أقولك حقك عليا، أنا الغلطانة في..

هز رأسه بخفة باعتراض، وقاطع كلماتها متكلما بنبرة خافتة إثرا لتعبه محملا نفسه الذنب كله:

- أنا الغلطان في كل اللي حصلك، وأنا الغلطان في كل اللي كان راغب فيه قبل ما كيان تدخل حياته، أنا الغلطان يا لينا وربنا بيخلص مني كل اللي عملته في حياتي، أنا السبب في اللي انتي فيه دلوقتي، مكنتش الأب الصح ليكي ولا لراغب، حقكوا عليا

رغم كل ما قاله وغلدها لم تغفر لنفسها فعلتها، وكأن كانت على عينيخا غشاوة وأبصرت لتوها، استطردت بنشيج بكاء على نفس الشاكلة النادمة:

- بس أنا كبيرة وعارفة الصح من الغلط، أنا أكتر حد غلطان في حق نفسي، كان كل اللي بيعمله بيقول إنه مبيحبنيش وأنا اللي عاندت وكملت معاه ووافقت اني اتجوزه عرفي وانا عارفة ان انا بعمل مصيبة، كنت بنفذله اللي هو عايزه على حساب راحتي وكرامتي، عشان أنا غبية واستاهل كل اللي حصلي

رفع يده بتؤده ومسح فوق وجنتها مجففا عبراتها الغزيرة، وعقب بصوت حنون يحمل الكثير من الهوان:

- انتي مش غبية يا بنتي، انتي كنتي محتجاني وملقتنيش، كان المفروض اعوضك عن وفاة مامتك اللي اتحرمتي منها من وانتي لسه طفلة، لكن أنا لا عوضتك عنها ولا حتى قمت بواجبي معاكي، خليتك تدوري على اللي ملقتيهوش في بيتك بره، خليتك تهيني نفسك وتوجعي قلبك، وخليتيني اتقهر عليكي

انهمرت دمعة من عينه بالتوالي مع العين الأخرى، تبعها جذبه له مجددا إليه لتتكأ برأسها فوق صدره وكلاهما يبكيان على ما اكترفته بحق نفسهما وبحق الأخر منهما، يتابعهما كل من "راغب" و"كيان" الواقفين خلف الباب، لم تستطع "كيان" التحكم في دموعها مما تراه عليهما بينما ترقرقت الدموع بعيني "راغب" الذي كان يحاول إظهار الثبات لكي يشد من أزر والده وشقيقته في ذلك الموقف الذي لا يحسدوا جميعا عليه

¤¤¤¤¤¤

عندما نفتعل الأشياء بتسرع وهوجاء يكون الندم هو النهاية الحتمية التي نظل ندور في دوامتها وتؤرق علينا أيامنا، إن كان قراره حينها عدم إعلانه زواجهما الذي لم يكن سيكلفه بشيء غير أنه ما كان بقى يوما بليلته في ذلك المكان الكريه والذي ما إذا كانت برأته لما كان خرج منه إلي اليوم وبقى به للعديد والعديد من الأيام، ولكن قراره ذلك كان نابعا من عناد وتفكير طائش، كان يظن أنها بحملها تضعه أمام الأمر الواقع وأنه حينها سيخنع لطلبها الذي تطالبه به وتتساءل حوله طوال الأشهر الماضية منذ بداية علاقتهما السرية، لم يفكر في أبعاد عنده الذي جعله يخسرها وكاد يخسر حريته أيضا.

لم يكن يعلم أن لعدم رؤيتها وابتعادها عنه لأيام فقط ستكن تلك حالته، مختنق، بائس، ولا يجافيه النوم سوى القليل وبعدها يصاب بأرق يمنع النوم من أن يطول طرفيه، شعور بالغ بداخله بالإشتياق لها ولكل ما بها جعله يعلم كم هو إحمق لجعل ما بينهما يتبخر في الهواء وكأنه ما كان، لقد خذلها، هانها، وعاملها كأنها إحدى فتايات الليل اللاتي كل عملهن هو أن يُفرَغ بهن شهوات الرجال، هي لم تكن مثل هؤلاء، كانت فريدة في كل شيء، كانت متبسمة دائما ومفعمة بالحياة، لطالما كان يكتفي بالنظر إليها فقط قبلما تعترف له بحبها له، كان يجدها أكبر مما يحلم به

ولكن عندما اعترفت له ووجد أنه حظى بما لم يحظى به العديد ممن كان يراهم يتهافتون فقط على نظرة منها، اغتر بنفسه ورأى أن به ما ليس عند الكثير وما كان منه إلا أن فرض عليه العديد من الأشياء لم تكن تتقبلها وكان ظاهرا عليها ولكنها نفذتها لإرضائه، لاحظ تنفيذها لكل ما يريدها بطاعة والذي قابله هو باستغلال، استغلالها واستغلال مشاعر تفريغا لرغباته الذكورية المكبوتة، قابل عشقها له برغبة جسدية وشهوة تستبد به، لم يدرك حتى تعلق قلبه وتلك المشاعر التي نمت بداخل قلبه لها في خضم تفكيره الذي كان غالب عليه السوء، ما الذي كان سيخيره إن اعترف بزواجهما لأجل ذلك الجنين، ما الذي كان سيخسره إن وافق على الإحتفاظ بذلك الجنين، على الأقل ما كان حدث بينهما كل ذلك والذي هو من صنع يداه، وما كانت رأته بتلك الصورة الدونية، لقد خيب أملها وخذلها، لقد رأي في عينيها نظرة تحمل الإنكسار والذي تسبب هو به والذي لن ينسي تلك النظرة ما حيا

هي حتى لم تعترف عليه في اعتدائه عليها ونفت الأمر عنه أو بمعنى أصح ادعت أن ما تم بينهما علاقة زوجية عادية وادعت أنها مريضة وهذا ما تسبب في حدوث النزيف، وكان ذلك تفاجؤ عظيما بالنسبة إليه، نعم هو على علم بمدى عشقها له، ولكن ليس لتلك الدرجة التي يصل الأمر بينهما لاعتداء منه، وليس جسديا فقط بل هو عالم بأثره الذي خلفه عليها نفسيا أيضا وهي لم ترضَ أن يُسجن رغم أن ذلك أقل شيء يستحقه أمام كل تضحياتها لأجل إرضائه والذي كان يلاحظ أنه على حساب راحتها ورضائها

أمسك هاتفه في نية لمهاتفتها ولكنه تركه من جديد فبأي وجه سيحدثها وبماذا حتى سيخبرها، أغمض عينيه بضيق وهو لا يعرف كيف سيكن بينهما حديث بل كيف سيتسنى له النظر بعينيها بعد كل ما بدر منه من دناءة عارمة، استمع لصوت جرس شقته لينهض بتكاسل ذاهبا لفتح الباب بتعبيرات ممتعضة لرغبته المنعدمة في رؤية أي أحد، فتح الباب ليتفاجأ بوجود "راغب" من خلفه والذي رمقه بنظرة متريثة لا تحمل سوى الجمود، بدون أي كلمة نطقها أفسح له الطريقة للمرور من الباب وأغلق الباب خلفه في صمت مازال يخيم بينهما، تبعه سيرا حتى وجده جلس على أقرب مقعد قابله، جلس هو الآخر على المقعد أمامه، لم تمر سوى برهة كان "راغب" قد وجه نظره له وأردف بجدية:

- اعتقد انت عارف انا جاي ليه

فهم علام يرمي بقوله والذي لن يكون سوى جعل زواجه ب"لينا" رسميا، سحب نفسا مطولا لرئتيه وزفر على مهلٍ ثم هز له رأسه مومئا بالإيجاب وهو يقول بهدوء بطريقة مسالمة ومنصاعة:

- عارف، وهعمل اللي انتوا عايزينه

تفاجأ "راغب" من خنوعه وعدم مراوغته في الحديث والذي كان متوقعا منه أين يفعله، ولكنه لم يظهر ذلك على تعبيراته المبهمة، وزم شفتيه ثم أردف بطريقة آمرة غير قابلة للنقاش ولكن على منوال هادئ:

- تمام، بكرا هتيجي الساعة خمسة، خمسة بالدقيقة، ومتفكرش تلعب بديلك، لإنه مش في مصلحتك، أو بمعنى أصح ماعادش يفرق أنت اعترفت إنكوا متجوزين، ومش هيغير حاجة بالنسبالك أنه يبقى رسمي، وانت أكيد مش حابب تتبهدل في المحاكم ولا اي؟

لم يكن من "هادي" أي نوع من أنواع المماطلة في الحديث أو اللؤم، وكل ما هو ظاهر عليه خنوع تام تكلم به ولكن بثبات:

- خمسة هكون عندكوا

لن ينكر "راغب" صدمته من مسالمته فقد كان مهيئا نفسه لحديث حاد وربما شجارا إن تطلب الأمر، ولكن أن ينتهي التحاور هكذا بجملة وردها ما لم يكن يتوقعه، نهض عن المقعد بطريقته المشابهة لوالده في غطرسته ولكن بحد مقبول عكس ما كان عليه والده، وقال له في إنهاء للنقاش بشيء من العنجهية موجزا:

- وده المطلوب

تحرك نحو الباب تحت أنظار "فارس" الذي زفر بضيق بعدما استمع لصوت غلق الآخر للباب، عاد بظهرها على المقعد وهو يلوم نفسه فإن كان وافق على طلبها منذ البداية وذهب لطلب زواجها ما كان تعامل بتلك الطريقة المتعجرفة المليئة بالكدر وكان علاقته ب"لينا" ظلت كما هي بل لكانت استزداد به حبا ورأته بصورة أفضل عن الحالية

¤¤¤¤¤¤

كانت "كيان" جالسة في بهو القصر على أحد الأرائك الفخمة الموضوعة كواجهة راقية للقصر، بانتظار "راغب" والتي كانت الوحيدة التي تعلم بذهابه ل"فارس" حيث إنه استجاب لما قالته له من عدم تخليه عن شقيقته والتي لاحظت أنه ما كان ينتظر منها أن تستميل فكره فالذي اتضح لها أنه كان يعاقبها بكلماته الجامدة تلك على ما فعلته فحسب، فُتح باب القصر بغتةً لتحول نظرها تجاهه ونهضت بعدها على الفور عندما تأكدت أنه زوجها، تقدمت نحوها بخطوات مسرعة إلى حد ما وسألته بتلهف حينما أضحت قباله تماما:

- عملت ايه؟

حاوط خصرها بذراعه وهو مستمر في تحركه نحو الدرج، وأجابها بهدوء موجزا:

- روحتله

التزمت الصمت وهما يصعدا معا درجات السلم، منتظرا ريثما يصلان غرفتهما لتنهال عليها بسيل تساؤلاتها التي تشغلها منذ خروجه وطوال مدة بقائه بالخارج، دلف "راغب" الغرفة وتبعته "كيان" التي أغلقت الباب على الفور وسألته وهي تتوجه خلفه غرفة الثياب:

- اتخانقت معاه؟

بدأ في خلع ثيابه وهو يجيبها على نفس الشاكلة المتريثة بإيجاز كما البقية:

- لأ

زوت ما بين حاجبيها بغرابة من ردوده الموجوزة والتي لا تتوصل من خلالها لشرح عما دار بينه وبين الآخر، تقدمت نحو ووقفت أمامه بينما كان هو يرتدي ثياب نومه، واطنبت مستفسرة باهتمام:

- يعني وافق؟

همهم لها بهدوء وهو مستمر فيكا يفعل، لترفع حاجبيها مشدوهة من موافقته السريعة والتي خالفت سائر توقعاتها، وأردفت بدهشة وعدم تصديق:

- بسهولة كده؟

مط شفتيه في غرابة مشابهة لغرابتها وعلق بطريقة توحي بدهشته من الأمر هو الآخر:

- ده اللي استغربتله، بس واضح إن اليوم اللي قضاه في الحجز فوقه

تحركا نحو فراشهما لكي يخلدا للنوم، وفي حين استوى "راغب" على الفراش متهيئا للنوم، توقفت "كيان" أمامه وسألته باكتراث بالغ:

- عرفت لينا؟

وضع ساعده خلف رأسه ليرفعه قليلا وهو ينظر إليها، وأجابها بنبرة هادئة غالب عليها القليل من النعاس:

- هعرفها الصبح قبل ما اروح الشركة، والمأذون أصلا والاستاذ بتاعها هيجوا على بالليل

اعتلى الأخير من كلماته بعض النفور الممزوج بالضيق لأتيانه على ذكره، بينما هي لم تلحظ الأمر وتابعت في وجهة نظر مخالفة:

- طب ما تعرفها دلوقتي عشا...

ازداد الحنق في الظهور على وجهه، وقاطعها معترضا بنبرة غير منفعلة:

- لأ، خليها الصبح مفياش دماغ أكلمها دلوقتي

حركت وجهها مومئة في انصياع وأخبرته في خنوع:

- اللي تشوفه

ظلت متوقفة محلها ومعتلي وجهها بعض التخبط أو ربما الشرود، لم يستطع "راغب" أن يستشف ما هو ظاهر عليها، ولكنه عندما طال وقوفها دون أن تأتي لتتسطح الفراش بجانبه، تكلم متوجسا وهو عاقد حاجبيه:

- مش هتيجي تنامي ولا إيه؟

هزت رأسها بالسلب وقالت وهي تتحرك نحو الفراش موضع نومها:

- لأ جاية

تسطحت الفراش بجانبه وقام "راغب" بجذبها نحو لتتوسد صدره، ابتسمت له برقة واستندت برأسها فوق كتفه، ظلت صامتة على غير عادتها ليشعر "راغب" بغرابتها، تساءل وهو خافض نظره نحو وجهها:

- مالك؟

رفعت نظرها له وردت عليه بابتسامة صغيرة وصوت خافت بعض الشيء:

- مفيش

نظر لها بتشكك وارجع رأسه قليلا للخلف لكي يتسنى له رؤية تعبيراتها بوضوح، ثم علق ببعض التهكم:

- والمفروض راغب بقى يصدق مش كده!

شهقت مطولا وهي تنظر له بطريقة تدل على وجود خطب ما تريد التحدث حوله، بينما هو ظن أنها لربما تكون متعبة، لذا تساءل متوجسا:

- تعبانة؟

تأتأت بنفي، ليتنهد بضجر وسألها بنفاذ صبر ولكن بصوت متريث:

- امال مالك يا كيان؟

ترددت لوهلة في إخبغره بما تطرق لفكرها لكي لا يسيء فهمها، ولكنها بالأخير حسمت أمرها وقررت إخباره كما اتفقت معه، لتردف بإيضاح:

- كنت بفكر مع نفسي، لو كنت اتحطيت في نفس الموقف بتاع لينا، مكنتش لقيت اللي يدافع عني، لا ليا أب ولا أخ، يعني أنا كان نفسي أوي يبقى عندي أخ زيك

يعلم أن لنشأتها التي كانت خالية من شقيق أو حتى رفيق دور في الأمر، فقد تربت بمفردها حتى باتت تشعر بافتقاد الكثير من المشاعر التي لازالت تتمنى أن تشعر بها، لم يرِد "راغب" أن يتناول معها الحديث بشكل جدي عالما إلى حد سيؤول في النهاية والذي لن يكون سوى بكائها، أردف مضفيا بعض المرح:

- لازم أخ؟، مايمشيش معاكي زوج!

تشكل على ثغرها ابتسامة صافية ولكن يتخللها القليل من الأسى، مسح فوق خصلاتها متابعا في لهجة جادة إلى حد مقبول مستفسرا:

- وبعدين هو أنا مقصر معاكي في حاحة ومخليكي محتاجة لوجود أخ

أومأت له برأسها على الفور بالسلب وقالت نافية:

- لأ خالص

ابتسم لها بلطف، ثم استطرد مخبرا إياها بنبرته الرخيمة الهادئة:

- عندك واحد زي فارس ده عمل في لينا كده وهو عارف إنها عندها أب وأخ، ومابالك كمان اللي كان ممكن يعمله لو مكانش عندها زيك كده، ده غير إن لولا أحنا موجودين مكانتش لقت اللي يقف معاها، لكن إنتي غيرها، أنا معاكي بعرف اعمل كنترول لو لقيت إني زودتها معاكي، آه حياتنا مبتخلاش من شوية مشاكل وانتي مطلعة عيني طبعا

انفرجت شفتيها بابتسامة متسعة ملء شدقيها، قابله بابتسامة حانية وهو يقرص وجنتيها بحركة مداعبة، وهو يتابع على نفس المنوال:

- بس مقدرش أشوف دمعة نازلة من عينك، يمكن أنا عملت زي فارس معاكي والوجع واحد، بس أنا فوقت من نفسي مستنيتش حاجة تحصل ولا حد يفوقني، إنما واحد زي فارس كان محتاج قرصة ودن والقرصة دي كان اليوم اللي قضاه في الحجز ولو مكانش حوق كان هيبقى فيه رد فعل مني ساعتها وده اللي كنت مستنيه، بس أديني روحت ولقيت العكس، وهشوف برضه اللي هيحصل بكره

زفر بعد انتهاء كلماته، لتنظر له تلك النظرة المترددة ليقرأ بها رغبتها في التحدث، نظر لها في انتباه منتظرا تحدثها، اعتدلت في نومتها قليلا ثم قالت له بربكة:

- أقولك على حاجة بس متفهمنيش غلط

زوى حاجبيه وهو ينظر له بغرابة، ثم رد عليها بهدوء:

- قولي

رمقته بنظرة مهزوزة خشية منها أن يفهم ما هي مقبولة على قوله بشكل خاطئ، ولكنها اعتادت على التحدث إليه، غمغمت على نفس الشاكلة المتوترة:

- أنا بحب لينا وفرحت أوي لما وافقت تساعدها وروحت لفارس، بس أنا بصراحة يعني.. لما بشوفكوا بتهزروا و.. يعني أقصد..

لاحظ تلجلجها في إخراج الكلام، وما قالته استطاع من خلتله تخمين ما تريد قوله، أردف مقاطعا تحدثها متابعا ما تريد قوله بطريقة متوجسة:

- بتغيري عليا منها

فغرت عينيها بتفاجؤ، فقد علم ما كانت تود قوله، وسألته بتعجب:

- عرفت منين؟

قلب الأوضاع ليجعلها أسفل منه واتكأ على مرفقه وهو على وضعية شبه معتليها، وقال بطريقة معتدة وهي يبتسم ابتسامة عابثة بعض الشيء:

- عيب اما تسأليني السؤال ده

طرقت نظرها لأسفل وهي تقول له بنبرة تحمل القليل من التخوف المحتل قلبها على الدوام:

- بخاف تهتم بحد أكتر مني وتهملني وقتها وأنا...

قاطعها قائلا بنفي قاطع وهو يحدق بها بنظرة جادة:

- وده استحالة يحصل

رغم محاولاته دائما أن يغمرها الإطمئنان بشأن وجوده معها ولكن بداخلها لا يخلو من بعض الخوف الذي يؤرق عليها تفكيرها وصفوها، أخبرته وهي مبتسمة بسمة صغيرة موضحة:

- عارفة، بس في أوقات بتيجي عليا بخاف وأنت عارف اني مليش حد غيرك

رفع يده ومسح بظهرها على وجنتها وعقب بحنوٍ رادفا:

- وطالما عارف إنك مالكيش حد غيري، تفتكري هعمل حاجة تتعب نفسيتك أو توجعك؟

حركت رأسها له بالنفي دلالة على علمها بأنه لن يقبل على فعل أي شيء يخلف وجعا أو تعبا لها، بينما هو اطنب على شاكلة مازحة قليلا:

- يبقى نعقل بقى ونبطل خوف شوية ولا انتي بتقولي لنفسك أنا وراغب كويسين فاشوف حاجة تضايقني!

قطبت جبينها بطريقة تنم على عدم اتفاقها مع ما يقوله، وهدرت بنفي مرددة:

- لأ طبعا، مش كده

دنا من عنقها وأردف بتسلية قبلما يقبل عنقها بطريقة تشبه الدغدغة دفعتها للضحك:

- امال ازاي؟

لم تتمكن من التحكم في ضحكاتها من لمساته العابثة، لتنظر له بعبوس وغير رضاء مصطنعين قائلة بصوت يشوبه الدلال:

- بتقلب كل حاجة بهزار انت

رمقها في نظرة حنونة ثم عقب برفق وصوت يحمل بعض الإنهاك وهو يبعد شعرها عن وجهها واستقر بيده فوق جانب وجهها:

- مانتي الجد بتاعك بيقلب بعياط وانا والله ما حمل اختم اليوم بدموعك

استشعرت كم الإجهاد المعتري نبرته، لم ترِد أن تزيده هما كما أنه لا يوجد بدا لكي تتخذ موقف كئيبا الحين، كادت تتحدث له ولكن منعها متابعته التكلم بطريقة خبيثة وهو يتحسس بيده فوق منحنياتها المثيرة:

- وبعدين لاحظي إن مزاجي زفت اليومين اللي فاتوا، يعني عايزك تغيرلي مزاجي

تأثرت من لمساته لها، تهدجت أنفاسها بتلاحق من لعبه على أوتارها الحسية، دنا منها مقبلا جانب وجهها بالقرب من أسفل أذنها، لتسري قشعريرة لذيذة بجسدها، ازدردت واجلت بصوتها الذي بالكاد خرج متممة بلهاث:

- يعني اعمل ايه؟

رفع رأسه ليكون مقابلا وجهها لا يبعده عنه سوى سنتيمتر واحد، همس لها وصوته مليء بما تحفز بداخله واستثار وانفاسه الساخنة تجول فوق وجهها الذي اشتعل من تأثيره الطاغي عليها:

- أنا اللي هقولك تعملي ايه؟، ماتشوفي شغلك يا كيان

لم ترد عليه واكتفت بابتسامة مليئة بالغنج تبعها استجابتها وتلبيتها لما يريده وتتحرق له هي بعدما تهيأت له من فعل لمساته ورقته معها اللذين لا يفشلا دائما في جعلها تنساق خلفهما تاركة نفسها ورغباتها المدفونة بداخلها للتحرر معه والذي يتناغمان به تناغما متعاظما مما يجعلها تشعر أنهما أضحى كيانا واحدا

يُتبع...
.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي