الفصل الرابع

وبهدوء دعا هاري للدخول قبل السكرتيرة ، ولكن هاري دارك تنحى قليلا ، ولمس كتفيها يقدمها امامه ، مما جعل الخادم يعتذر بلطف :



" إنني آسف سيدتي ، كان يجب علي ان ادعوك الى الدخول أولا ، عفوا ! والآن سآخذكما الى سيدي ."



كان المدخل عبارة عن قاعة واسعة ، مؤثثة بأجمل الأثاث وأفخرها ، مما يدل على ذوق رفيع ، وقيمة غالية ،



بينما القطع الأثرية النادرة موضوعة في كل مكان مناسب من القاعة ،



وفي إحدى الزوايا وعاء كبير فضي وضع على قاعدة واسعة فضية أيضا ممتلئ بالورود الصفراء والحمراء .



كان المنظر بأكمله غاية في الجمال ..



وقف رجل عند دخولهما ، وتقدم نحوهما ،



بينما تسمرت ساندرا مكانها وحدقت فيه ، لا تكاد تصدق اذنيها ، عندما قدم نفسه الى هاري .



" باريس فيليب ."



رددت ساندرا في نفسها ، باريس ! لا ، لا يمكن أن يكون ، لا يمكن أن يكون هذا باريس فيليب !







هذا الرجل الضخم الخشن ، بهاتين العينين اللتين تشع منهما القسوة ، والخطوط القاسية العميقة التي تبدو على وجهه .







هزت راسها بألم ، وكان عليها أن تُصدق ان هذا هو نفس الرجل الذي عرفته من قبل ، الرجل الرقيق اللطيف الجميل الجذاب .



رددت بخفوت :



" يا ألهي .. ما الذي حدث ؟!





ابتلعت ساندرا ريقها بصعوبة عندما استقرت على وجهها تلك العينان النافذتان القاتمتان ،

ومد باريس يده إليها ، وهي ناولته يدها بتوتر واضح وابتسامة مرتعشة ،

، آلمتها قبضة يده ، فأجفلت ، واخذ ينعم النظر في عينيها الذابلتين .

بدت على شفتيه شبه ابتسامة ساخرة ، فعرفت من دون شك ان تلك كانت علامة ليجعلها تحس بقسوته .

هزت ساندرا كتفيها ، وحاولت ان ترجع الى الوراء بعيدا عنه ، ولكنه استبقى يدها بيده ،

بل وضغط عليها بشدة فيها معنى العنف والسيادة .

" هكذا التقينا ثانية ، يا ساندرا ! "

صوته قد تغيّر ايضا ، زال ما كان فيه من لطف ، والقليل من المرح ، وماتت النغمة الحنون التي أعلن لها بها عن حبه ذات يوم .

وبعد لحظة ساد فيها السكون ، تابع باريس فيليب كلامه :

" لقد مضى زمن طويل ."

تحركت عيناه الداكنتان ، وأخذ ينقل نظراته من راسها حتى قدميها بسخرية مهينة ،



صعد الدم الى وجهها ، مدركة أن عيني رئيسها عالقتان بها ، واستمر باريس يتفحصها بوقاحة ، ثم قال :

" علينا أن نتحدث معا ، نتبادل الثقة على الأقل ، اليس كذلك ؟ ." كانت الطريقة التي تكلم ، الإهانة بعينها ، وعرفت على الفور أنه مطلع على زواجها ، ويعرف أيضا من تزوجت ،

وأنها اختارت ، وهذا ما كان يعتقده ، اختارت

رجلا بدينا بغيضًا ، وفضّلته عليه هو .

ايقنت ساندرا أنه علم بذلك ، وهذا هو سر معاملته القاسية البعيدة عن حدود اللياقة ،

ولكنها لا يمكن أن تظن ان هذا هو سبب التغيير الكامل في مظهره وسلوكه .

ضج رأسها بالأفكار المختلفة ، واختلطت عليها الأمور ، وتساءلت ترى هل حدث أمر فظيع في حياته ؟

ام بعث المرارة في صدره فاصبح هكذا ، كما رأته ، قاسيا ، لا

رحمة في قلبه ......

بدا اختلاف في سلوكه عندما التفت الى هاري ، أرستقراطيا في وقفته ،مترفعا في نظرته ،

تطلعت ساندرا الى الرجلين، وأحست بالارتباك وهي ترى باريس ، يتفحص هاري وكأنه اقل منه شانا ، ولاحظت الهوة السحيقة بين كليهما .

وقف كالسيد اليوناني ينقل النظر بينهما باحتقار ، وكأنه يترفع عن هذين المخلوقين اللذين جاءوا واقفين في حضرته المهيبة .

ومن أعجب العجائب انه عندما تكرم وتكلم ، تكلم بلطف غير منتظر ، وبدا تغيير



طفيف في ملامح وجهه ، فقال :

" أنا آسف لأنني لم اتمكن من الذهاب الى اثينا لمناقشة هذه الصفقة ."

سكت هنيهه وتابع بصوت ازداد رقة :

" ولكن والدتي كانت مريضة في المستشفى هنا ، فلم أتمكن من تركها . "

توقف قليلا قبل أن يتمم كلامه ، ثم قال :

" لقد توفيت منذ ايام ثلاثة ، وكنت منهمكا بالجنازة ."

لم تلحظ ساندرا في عينيه اثرا للحزن ولا في صوته معنى للعاطفة ، ولا في تعابير وجهه شيئا من التأثر ، ف عجبت ، ولكنها اسرعت تقول :

" إنني آسفة جدا ، يا باريس .".

ثم توقفت من غير ان تكمل ، فيده ارتفعت توقفها عن الكلام ...

وتكلم باريس :

" لا بأس ، فقد كانت آلامها لا تطاق " .

استعادت ساندرا في ذاكرتها ما قاله لها ذات يوم ، أن من تشتد آلام أمه ويتعذر شفاؤه ،

فكان يحدثها بصدق أنه يجب ان يترك له خيار الموت ، ولصغر سنها في ذاك الوقت لم تناقش رأيه مطلقا .

وعلى الرغم من القناع القاسي الذي كان يتقنع به ، كانت تدرك انه حزين من اجل



امه ، شديد التأثر لما اصابها ، وتأكدت من ذلك ، عندما سمعته يقول لهاري :

" لقد كانت تعاني آلاما لا تحتمل ، ولذا تقبلت موتها بصبر ، ليس بحجم ما اقاسيه من الم لفقدها ، ولكن المهم ان الموت جاء راحة ورحمة لأمي ."

يتألم ....

رددت ساندرا تلك الكلمة في نفسها ، واستمرت في النظر اليه ، وآليا هزت رأسها ، وهي تلاحظ خطوط القسوة عميقة في وجهه وعينيه الباردتين الجامدتين ،

خاليتين من كل عاطفة ،

وتساءلت في نفسها بتعجب ..

اهكذا يتألم ؟



كان باريس يتحدث وهو يلوي شفتيه ، إذا قال شيئا لا يعجبه ، فهو يلوي شفته بسخرية ، إيماءة الترفع علامة تميزه ، إنه الاحتقار ...

تمنت ساندرا ان تجد صفات أخرى تنعته بها .

جلست على الأريكة واتكأت الى الخلف ، واخذت تنعم النظر فيه ، تفكر في التمثال الحجري البارد الذي تراه لأول مره ،

تمثال من زمن اليونانيين القدامى ، وجهه خال من العواطف ،

والخطوط المنحوتة فيه تدل عل القسوة والخشونة .

جلس باريس وهاري ايضا ، أما الخادم فقد كان يحوم عند الباب ، لما سمع سيده



يصفق ، اسرع ليستجيب ، ولكنه بقي واقفا عند الباب ، ومن الواضح أنه كان يخشى ان يقطع على سيده النقاش ، تركه باريس حيث هو يقف وينتظر ، واستمر يتابع حديثه مع هاري .



شعرت ساندرا بالنار تتقد في جوانبها ، فارتفعت حرارتها ، ولم يمكنها ان تمنع ذلك ، إنها تعلم أن المسالة لا تخصها ، ولكن معاملة باريس فيليب للرجل بهذا الاسلوب ، هو الذي

جعل الدم يغلي في عروقها ، وتساءلت :

" حق يتصرف على هذا المنال؟ "

ولكنها احتفظت بالسؤال في نفسها ، ولم تكن تملك غير الصمت .

وأخيرا ، وبعد طول انتظار ، شمل الرجل بنظرة ، وأمره بقسوة قائلا :

" اخبر كاتينا أن يأتي الى هنا ."

اجابه الرجل :

" حاضر ، سيد باريس ، انا .".... "

لم يستمع لباقي جملته وأكمل أوامره :

وليكن الغداء جاهزا في الواحدة ."

" حاضر ، سيد باريس ."

كان الرجل يهم بمغادرة الغرفة عندما تكلم باريس ثانية :

" ولتكن الغرف جاهزة ."

" حاضر ، سيد فيليب ."

كتمت ساندرا غضبها في صدرها ، فجملة – حاضر ، سيد باريس - اثارت اشمئزازها وتقززها ،

فوق جميع الأسباب الأخرى .

على اية حال فقد حولت ساندرا نظرها نحو هاري تستوضحه بسكينة ، فهز كتفيه



وفتح يديه بإذعان ، اضطرت ساندرا ان تسأل :

" هل سنبقى هنا ؟ كنت أحسب اننا سنعود الى المدينة للإقامة في الفندق ."

التفت اليوناني البغيض اليها بعينيه الداكنتين وقال لها بصوته الهادئ :

" ولكنني افضل ان تكونا ضيوفي ."

وجال بنظره في الغرفة ، وعله بذلك كان يقصد ان يلفت نظرها الى فخامة المكان الذي يستضيفها فيه ،

وجالت ساندرا بنظرها معه ، كان كل ما في الغرفة من اثاث يدل على الذوق الرفيع ،

ساندرا تعرف من قبل ان باريس قد زار عواصم أوروبية ، حيث

كان يجمع قطعا نادرة تتناسب مع اثاث بيته ، فالشمعدان الفضي الرائع العالي كان من صنع ألمانيا ،

أما السجاد فقد كان من السجاد العجمي ، وهناك كثير من التماثيل الثرية وتحف أخرى واخرى لا حصر لها .

وبعد لحظات تكلم باريس فيليب :

" كاتينا سيكون هنا على الفور ليقودكما الى غرفتيكما ."

عيناه عادتا للنظر الى ساندرا ، فأحست ان الاحمرار بدأ يسري بطيئا في وجنتيها ،

وايقنت من ذلك مما بدا من رضى في عيني باريس الضيقتين والتواء شفتيه القرمزيتين ،

شعرت ساندرا بالألم يوجع قلبها ، ولكنها مع ذلك توقعت أنها ستعتاد على ذلك أثناء إقامتها في هذا البيت .



تمنت ساندرا من كل قلبها في هذه اللحظة ان يتم البيع بسرعة ، حتى تستطيع هي وهاري ان يلحقا بالمركب الذي

سيقلع في الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم التالي ،

فليلة واحدة تحت سقف بيت باريس فيليب ، كانت اكثر من كافية بل أكثر مما تحتمل .

انتقلت مع الخادم نحو غرفتها ، فقد وجدت أن الغرفة التي خصت لها كانت جميلة ومريحة للغاية ، وان اقل ما يمكن أن يقال فيها ، أنها كانت مفروشة بمنتهى الذوق ،

مزينة بأجمل الزخارف ، امامها شرفة تطل على البحر .

كان أول ما فعلت انها خرجت الى الشرفة تتنشق الهواء الطلق بعد هذا اللقاء المقيت ..

والذي تمنت الف مرة لو أنه لم يحصل على الإطلاق ، لتبقى ذكرى باريس فيليب جميلة في مخيلتها .



وقفت هناك تتنفس بعمق ، ثم اخذت تمتع النظر بمرأى مياه إيجه الزبرجدية ،



إلي الشمال كانت تقع جزيرة ليروس، بينما انتثرت جزر صغيرة هنا وهناك بعضها لا يزيد عن صخور ناتئة ، تبدو على شكل حيوانات غريبة رفعت رؤوسها من أعماق البحر تنشد الهواء الطلق الذي يتمايل يمنة ويسره ..

الى جهة اليمين كانت ترتفع الجبال عظيمة ممتدة ، لكنها مجردة من الأشجار ،

بينما المنحدرات تموج وتزهو بأشجارها وشجيراتها واعداد لا تحصى من الازهار الفاتنة ،

وهناك على الروابي تمتد الجنائن بجمالها الخلاب .

بساتين من الليمون والبرتقال تملأ مساحات واسعة تمتد على طول لجهة الجنوبية من الفيلا ،

بينما من الجهة الأخرى حديقة ورود تتوسطها بركة مزخرفة ، يندفع منها الماء في نافورة ،

ما عدا العديد من التماثيل الرخامية ، قائمة هنا وهناك ، وترتفع

وراء الحديقة أشجا ر السرو الشامخة تشكل حاجزا في وجه هواء البحر .

أما وراء الفيلا ، فهناك مرج فسيح ، مخملي ناعم أزرق ، يمتد بعيدا نحو حافة ضخمة ..

أخذت نفسًا عميقًا وهي تتطلع للمنظر الرائع أمامها ، وتتمنى أن لا تطيل المكوث في هذا المكان رغم روعته وراحتها النفسية التي تمتعت بها من مجرد النظر لهذه المناظر الخلابة .. ولكن هل سيكون القدر رحيمًا بها !

إلي الشمال كانت تقع جزيرة ليروس، بينما انتثرت جزر صغيرة هنا وهناك بعضها لا يزيد عن صخور ناتئة ، تبدو على شكل حيوانات غريبة رفعت رؤوسها من أعماق البحر تنشد الهواء الطلق الذي يتمايل يمنة ويسره ..

الى جهة اليمين كانت ترتفع الجبال عظيمة ممتدة ، لكنها مجردة من الأشجار ،

بينما المنحدرات تموج وتزهو بأشجارها وشجيراتها واعداد لا تحصى من الازهار الفاتنة ،

وهناك على الروابي تمتد الجنائن بجمالها الخلاب .

بساتين من الليمون والبرتقال تملأ مساحات واسعة تمتد على طول لجهة الجنوبية من الفيلا ،

بينما من الجهة الأخرى حديقة ورود تتوسطها بركة مزخرفة ، يندفع منها الماء في نافورة ،

ما عدا العديد من التماثيل الرخامية ، قائمة هنا وهناك ، وترتفع

وراء الحديقة أشجا ر السرو الشامخة تشكل حاجزا في وجه هواء البحر .

أما وراء الفيلا ، فهناك مرج فسيح ، مخملي ناعم أزرق ، يمتد بعيدا نحو حافة ضخمة ..

أخذت نفسًا عميقًا وهي تتطلع للمنظر الرائع أمامها ، وتتمنى أن لا تطيل المكوث في هذا المكان رغم روعته وراحتها النفسية التي تمتعت بها من مجرد النظر لهذه المناظر الخلابة .. ولكن هل سيكون القدر رحيمًا بها



وقفت تراقب كل هذا الجمال حولها

لكن بالرغم من كل هذا لم يتوقف عقلها عن التفكير

وتساءلت ساندرا في نفسها : ترى ما الذي حدث له ؟ ما هذا التغيير الغريب الذي لا

يصدق ؟ ما الذي حل بهذا الرجل الذي كان في غاية الظرف والكياسة ، في غاية



اللطف والرقة؟ كان مرحا سعيدا ، فما الذي أصابه ؟ لم تستطع تعليل ما حدث ، ولكنها أحست بألم مفاجىء ، وأسف شديد لهذا التحول ، وشعرت انه لا بد ناتج عن

صدمة أليمة وتعاسة عميقة .

هزت كتفيها وقد نفد صبرها من كثرة ما اعملت التفكير في شأن باريس، وذهبت



الى الحمام العاجي لتغتسل، وايقنت أنها لن تصل الى نتيجة مهما أعملت التفكير في



حظ مضيفها التعس على مر السنين ، وأنه من الحكمة ان تطرد هذا الأمر كليا من ذهنها ....

وبعد أن خرجت من الحمام ، سرحت شعرها الذهبي وتركته ينساب على كتفيها



ناعما لامعا ، وإرتدت ثوبا قطنيا متموجا وعادت الى غرفة الجلوس، تماما في الوقت



الذي كان هاري يغادرها مع الخادم الذي يرافقه ليريه غرفته .

وقبل أن تغادر هي أيضًا وتهرب من هذا المكان جاءها قائلاً

" إجلسي ساندرا ."...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي