الفصل الرابع والعشرين

(أوّل المُعذّبين)
**********
ها قد حلّت نسائم السعادة.. ها قد انغلقت أبواب المصيبة..
وإن بدا على الشجرة كرب.. ففي الطيّات أينع الفرج..
أهلا بعودة الفرح.. أهلا بابتسامة من القدر.
#إسراء_الوزير
خرجت ريم من غرفتها بينما تتثاءب بنعاس.. وما أن اقتربت من غرفة والديْها حتى أصابها الفزع من هُتاف والدتها بعدم تصديق:
_ "يا حبيبتي يا وتين.. إنتي بتتكلمي بجد؟!"
التفتت إلى داخل الغرفة لتجد جيهان ممسكة بالهاتف والابتسامة الواسعة تشقّ ثغرها.. أصابها التعجّب بينما تتساءل بحيرة عن خطب وتين فاقتربت منها ثم قالت:
_ "في إيه يا ماما؟"
لمّا تجاهلت تساؤلها حاولت جذب الهاتف من بين أناملها ناطقة بلهفة:
_ "مالها وتين؟"
ظلّت متشبّثة بالهاتف بينما تقول بأمر:
_ "إستني بس."
ثم أكملت حديثها باتّجاه وتين قائلة ببهجة:
_ "في الشهر الكام؟"
مطّت شفتيْها بدهشة بينما تقول بعدم فهم:
_ "مين دي اللي في الشهر الكام؟"
أكملت جيهان بحفاوة:
_ "على خير يا حبيبتي.. خدي بالك بقى ماتشيليش حاجة تقيلة."
وبعد ثوان تساءلت بذات النبرة السعيدة:
_ "وعامل إيه بدر بعد الخبر ده؟"
اتّسعت عينا ريم بصدمة بينما تتساءل على لسان حالها بعدم تصديق:
_ "بدر! معقولة يكون وتين وبدر!"
وكان ذلك الخبر كفيلا بتكميم فاهها وإلجام لسانها عن المجادلة.. حيث تراجعت بهدوء بينما تفكّر مليّا في ما سمعت عن طريق والدتها.. وإن كان جميعهم يعلمون أن وتين لن تعيش حياتها بشكل طبيعيّ وسينتهي بها الأمر إلى الانفصال إلا أن تلك المفاجأة لم تكن بهيّنة بحيث تردع فرحة جيهان كأم ترجو لابنتها كل الخير.. أمّا بالنسبة لريم فهي كانت على علم بما تطوّرت إليه علاقتهما من مشاعر متبادَلة.. ولكن ترجو حقّا أن يكون الأمر على ما يرام وليس كما تدّعي وتين لتطمئنهم دائما..
**********
خرج من الغرفة بخطوات وئيدة والغضب ينهش خلاياه في حين يظهر الامتعاض جليّا على ملامحه.. وفي ذات الأثناء أتى أمان من الجهة الأخرى حتى وقف أمامه ثم مدّ يده قائلا بشيء من الانتصار:
_ "ملف الحالة لو سمحت؟"
ناوله المستند الذي يحوي عددا من الأوراق ليلتقطه أمان ثم يقول ببرود:
_ "شكرا بالتوفيق."
ثم يكمل طريقه نحو غرفته بثبات يحمل في دواخله سعادة كبيرة.. فلم يكن يرجو أن تكون تلك الحالة بيد من لا يستحقّ فيرجئ علاجها لسنوات.. ولأول مرة يشكر رسالة الماجستير التي لولاها لما استطاع تولّي أمر الحالة 122..
**********
نطقت بنبرة خافتة يسكنها الضّعف:
_ "أنا مش مصدّقة اني هقدر اخلّف من غير أيّ مشاكل يا ابراهيم."
أماء برأسه بقوّة بينما يقول بتأكيد:
_ "والله هتقدري تخلّفي يا حبيبة قلب اخوكي.. الحمد لله الورم راح وهنعمل متابعة علطول بحيث ما يرجع تاني."
ثم ربت على وجنتها برقّة قائلا بحنان:
_ "هشيل أولادك بإديّا.. وهلعب معاهم طول الوقت لدرجة انهم هيحبوني أكتر منك انتي وبدر."
خفتت ابتسامتها تدريجيّا مع تلفّظه بكلمته الأخيرة التي تفيد بأن يكون لها أولاد من ابن عمّتها.. ولكن حاولت جاهدة أن لا تُظهر حيث اندفعت إلى احتضانه قائلة بسعادة:
_ "متأكّدة انك هتكون أحسن خال يا اخويا."
نفث زفيرا حارّا مُعبّأ بأثقال أوجاعه بينما يسند رأسه على مرفقيه والألم يطبق بخفقاته.. الحزن صار لقلبه عنوان.. الهمّ أثقل على صدره كالجبال.. خاصة بعد ما تلقّى اليوم من خبر أعاد جراحه الماضية.. جراحه التي لم تلتئم أبدا.. ولم ينجح الزمن بعلاجها.. يذكر كم كان يرجو أن تصير أخته زوجة لصديقه العزيز بدر.. كم كان يتمنّى أن يصير خالا لأولاده.. تمنّى وسما في الرّجاء حتى اصطدم بالواقع المرير الذي رسمت أخته بداياته.. حين اتّضح دافعها الحقيقيّ خلف إرجاء زواجها من بدر لهدف داخليّ أنانيّ.. ماتت قبل أن تنال العتاب.. ماتت تاركة بدر كالجسد الأجوف بلا حياة.. ماتت وتركته لينال فرصة أخرى متمثّلة في المحاميّة وتين.. تزوّجها لتكون له خير الشريك.. تزوّجها لتترك عملها وكل أحلامها لأجله.. تزوّجها والآن ينتظران ثمرة اتّحادهما.. تزوّجها وبات إبراهيم أول المُعذّبين.. عذاب لا مفرّ منه ولا نهاية له.. عذاب التفجّع على أخته التي لم تحقّق هذا الحلم.. وغضبا منها لأنها السبب في الوصول إلى هذه النتيجة.. والآن هي ليست هنا ولا يستطيع معاتبتها أو نسيانها.. فيكفي أن يتلوّى بنيران الوجع التي أهداها له القدر.
**********
دلفت وتين إلى داخل غرفة المعيشة حيث تجلس شذا وخلفها صفيّة التي تحمل بين يديها واجب الضيافة.. اقتربت منها حتى جلست مقابلها قائلة بترحيب:
_ "نورتيني يا شذا."
بادلتها شذا بابتسامة واسعة بينما تقول:
_ "النور نورك يا حبيبتي."
ثم أردفت بنبرة يعلوها السرور:
_ "حقيقي انبسطت بالخبر اللي سمعته.. ربنا يجعله ذريّة صالحة ليكم يا رب."
_ "آمين."
تمتمت بها وتين بهمس ثم استطردت بنبرة أعلى قليلا:
_ "مجيّتك النهاردة تسوى عندي كتير."
حدّقت بها شذا باهتمام تستشفّ ما وراء جملتها الغامضة لتكمل الثانية موضّحة::
_ "إنتي مش بتيجي كتير للجناح وأغلب وجودك بيكون مع العيلة.. هل مثلا الخبر هو اللي...."
أسرعت شذا إلى أن تحتوي كفّ زوجة أخيها قائلة بشيء من الاعتذار:
_ "أنا آسفة يا وتين.. سامحيني على تقصيري في حقك طول الفترة دي.. الحكاية وما فيها إني كنت مشتّتة شويّة بعد الجواز."
ثم نظرت إليها قائلة بتبرير:
_ "يعني إنتي عارفة مرحلة جديدة وكدة."
أماءت برأسها بهدوء وفي داخلها عدم الاقتناع بذلك فهي تعلم جيّدا أن السبب الأصليّ لتجاهل شذا هو كونها لم تقنع بعد بأن تحلّ وتين مكان تقوى كأخيها تماما.. وعلى الرغم من ذلك أردفت:
_ "ولا يهمك."
أسرعت شذا تقول بوعد:
_ "أوعدك ده ما يتكرّرش حبيبتي."
**********
انتهى النادل من وضع الأطباق على المائدة ثم انصرف تاركا المجال لهما لتناول وجبة الغداء.. ذهب ليحلّ السكون حولهما سوى من أصوات اصطدام الشوكة بالأطباق.. لاكت قطعة الطعام بين أسنانها ثم ابتلعتها بينما تخطف النظرات إلى فهد بين الفينة والأخرى بضجر.. فمن يراه بالأمس يرجوها أن تقبل دعوة الغداء لا يصدّق أنه ذات الشخص المنشغل بتناول الطعام.. زفرت بضيق قبل أن تردف باستنكار:
_ "هو انت طلبت اجي النهاردة عشان تفضل ساكت كدة؟
ضحك بخفوت بينما ينظر إليها قائلا بتعجّب:
_ "في الحقيقة مش عارف أبدأ منين."
تساءلت بعدم فهم:
_ "بتتكلم كأنك أول مرة تقعد معايا؟"
أماء برأسها إيجابا بينما يقول:
_ "مش هكدب عليكي أنا فعلا شايف انها أول مرة."
قطبت جبينها بتعجّب من سماع تلك الكلمة حيث سلّطت حدقتيْها بعينيه قائلة:
_ "ليه؟ إيه اللي اختلف؟"
أجابها بينما يسلّط زرقاوتيْه بماستيها المختبئتين خلف عدسات لاصقة بينما يقول بجديّة:
_ "أنا عايز ابدأ صفحة جديدة معاكي بعد غلطة مش مقصودة."
ثم ترك الشوكة من بين أنامله مكملا:
_ "في اليوم ده أنا ركزت على المهمة وافتكرت اني كشفت حاجة مهمة."
ثم استطرد يقول بإقرار:
_ "لكن بعد كدة لقيت نفسي دخلت فــ أسرار أكتر.. حسيت اني بشوفك لأول مرة.. لما كشفتك وقفتي تمثيل قدامي وبقيتي بتتصرفي بشكل طبيعي احترت معاكي أكتر."
شبّكت أناملها ببعضهما قائلة بصدق:
_ "وأنا ما يرضينيش تبقى فــ حيرة.. إنت عايز تعرف عني إيه وانا مستعدة اقولك؟"
أسرع يدير رأسه نفيا بينما يقول موضّحا:
_ "لا مش كدة أبدا.. حاليا أنا ناسي المهمة وأيّ حاجة بخصوصك أنا مخبّيها لحد ما ييجي الوقت المناسب اللي يخلّيكي تقولي."
ثم أكمل بنبرة هادئة:
_ "أنا متأكّد إن شغلك فيه هدف وأنا مش موافق اني اعارضه وهساعدك فيه."
أسبلت جفونها بينما ترمقه بتركيز حيث قالت بتساؤل:
_ "لأول مرّة تتكلم بطريقة مش رسميّة! يا ترى إنت فعلا عايز ابقى صديقة ليك؟"
أجابها بتأكيد:
_ "أحلف لك أول مرة أتكلم كدة فــ حياتي."
ثم مدّ يده منتظرا مصافحتها قائلا:
_ "موافقة نتعاون سوا؟"
بادلته المصافحة قائلة بعدم تكلّف:
_ "موافقة يا فهد."
**********
_ خبر سار للجميع.. عودة استئناف عرض الأعمال الإبداعيّة والدورات الفنيّة ابتداء من بداية الأسبوع القادم مع أخذ كل الإجراءات الوقائيّة من الفيروس.. بانتظار تشريفكم."
اعتلت الابتسامة ثغر حمزة ما أن قرأ المنشور الذي ساهم علاء بكتابته.. استئناف العمل بالمعرض وعودة النشاط إلى فنون الرسم.. ومن الجدير بالذكر عودة دورات تعليم الفنون للقاء الطلبة ومنهم المنشودة التي رسم لأجلها لوحة تحت مسمّى "العشق خُلِقَ لأجلك" ولا يدري إن كان ذلك سينال رضاها أم لا.. كل ما يعرفه أنه سيكون سعيدا بلقائها من جديد.. نطق من بين سروره براحة:
_ "حاسس بخير كبير من الخبر ده."
وإلى جانب البهجة المضيئة بوجهه كان الظلام معتما على ملامح وجهها هي حيث قالت بنبرة يعلوها الألم:
_ "مش حاسّة بخير أبدا."
**********
أحنى ظهره قليلا بينما يقرّب وجهه من شاشة الحاسوب الذي يعرض أمام بعض الصور أغلبها يخصّ نهلة.. فقد طالع ملف حالتها وعلم أنها سيدة شابّة تبلغ من العمر ستة وعشرين عاما.. ابنة صناعيّ معروف أُصيب بنوبة قلبيّة فور رؤية طفلته بهذه الحالة.. وزوجة لرجل أعمال مرموق المكانة يُدعَى وليد حسّان ابن الصناعيّ أنور حسّان الذي قدم إلى مصر منذ عشرين عاما وبدأ باستثمار أمواله لبناء شركة كبيرة لإنتاج الأسمنت وتصديره.. وبعد التعرّف على معلوماتها الأساسيّة طالع الانترنت للحصول على معلومات إضافيّة.. وبالفعل تحقّق ذلك فقد كتبت الصحف عن زواجها من وليد مع إرفاق بعض الصور.. ولذلك اقترب بوجهه قليلا لرؤي صور الزفاف عن كثب.. انفغر فاهه بعدم تصديق بينما يرمق هذه الفتاة بفستان الزفاف.. بهيئتها الساحرة وابتسامتها البريئة التي لا يشوبها اصطناع تقف بفستانها المرصّع بحبّات اللؤلؤ اللامعة سعيدة بحضن زوجها.. لا يصدق أن الحالة 122 كانت بهذا الجمال وابتسامتها كافية لإفقاد الحواس.. وآلت إليه صورتها في الأخبار بعدما تعرّضت لهذا الحادث الشنيع لتعلو الشفقة ملامحه.. تم اغتصابها ولأن روحها رقيقة كالبلّورة لم تستطع الاحتمال وتهشّمت مع أول صدام.. ضاعت براءتها وانتهى كل جميل بحياتها فما كان منها إلا أن تتخلّص من هذه الدنيا القاسية.. ولذلك هي ترفض العودة لعالم الواقع من جديد.. أو بالأحرى تخشى البقاء فيه.. انطفأت سعادتها وضاعت ابتسامتها وما عاد لها من عزز يهتمّ لأمرها.. فقال من بين تألّمه بنبرة واعدة:
_ "هعمل اللي اقدر عليه عشان الابتسامة دي ترجع تاني."
**********
دلفت جيهان بداخل الغرفة وبيدها كوب من الشاي وضعته على الكومود بجانب رياض الذي يقرأ بالجريدة.. عادت حتى جلست على طرف السرير لينظر باتّجاهها ثم ينادي:
_ "جيهان."
التفتت إليه قائلة:
_ "أيوة."
طوى الجريدة ثم وضعها جانبا بينما يقول بجديّة:
_ "عايز اسألك وتجاوبيني بصراحة."
حدقت به بتركيز بينما يقول متسائلا بقلق:
_ "هي فعلا وتين عرفت تعيش مع بدر بشكل طبيعي؟"
أماءت برأسها بتأكيد قائلة بحبور:
_ "أيوة يا رياض أنا سمعت وتين وهي بتتكلم وحلفت لي إن كل حاجة بقت تمام وعرف بدر ينسّيها اللي حصل."
شعر بنسمات الراحة تتسلّل إلى فؤاده قائلا بتضرّع:
_ "ربنا يهديلهم الحال ويكرمهم بالخلف الصالح."
_ "آمين."
**********
دخل بدر إلى الشقة ومنه سار حتى غرفة النوم حيث وجد وتين تجلس على السرير بينما تشاهد التلفاز.. أردف بهدوء:
_ "مساء الخير."
لم تجبه وإنما ظلّت ساهمة تحدّق بالمشاهد دون أن تشعر بتغيّر نحو المرح فتناول نفسا عميقا أخرجه على مهل قبل أن يقترب منها حتى جلس إلى جانبها قائلا:
_ "وتين."
حرّكت رأسها نحوه بينما تنظر إليه بهدوء ليقول هو مُعتذرا كطفل صغير:
_ "أنا آسف.. ما تزعليش من اللي حصل بس والله أنا ما فاكر إيه اللي انا قلته بس أكيد غلط."
امتعضت ملامحها بينما تقول بثبات يحمل في طيّاته ألما وانكسارا:
_ "إيه اللي غلط؟ في حالتك كل اللي بيتقال بيبقى صراحة."
ثم استطردت تقول مغيّرة مجرى الحديث:
_ "عموما أنا مش عايزة اناقشك فــ حاجة زي كدة دلوقتي.. بس أرجوك بلاش تعادي حبايبك بسببي."
ضيّق عينيه بينما ينظر لها باستفهام أسرعت بإجابته شارحة:
_ "أولا خالك وابنه اللي ما قبلوش وجودي عشان فترة حدادك على تقوى كانت قليّلة."
أسرع يقول مبرّرا:
_ "بس إبراهيم...."
قاطعته بنبرة جازمة:
_ "يا بدر أنا فاهمة كل حاجة بتحصل.. حتى معاملة شذا اللي كانت مش ولابد.. وربنا يعلم أنا بدعيلها أد إيه إن مشكلة زي كدة ما تأثّرش على حياتها."
ألجم الموقف لسانه بينما ينظر لها كالمُخطئ الذي ينتظر العتاب في حين أكملت وتين بجديّة:
_ "لكن لمّا تزعّل إنسانة ربّتك واعتبرتك زيّ ابنها لمجرد كلام في حقّي يبقى ده الغلط بعينه.. إنت فضّلت حقي على أمك؟"
زمّ شفتيْه بتعب بينما يجيبها بتوضيح:
_ "مش مسألة تفضيل بس هي اتسرّعت وما كانش ينفع تقول كدة تحت أيّ بند.. وده اللي خلّاني اتسرّعت في كلامي."
تكلمت بنبرة راجية:
_ "بدر إنت لازم تعتذر لها.. أرجوك."
أجل عليه أن يعتذر وقد نوى أن يقوم بذلك دون رجائها ولكن سبقت بتذكيره بحق تلك الإنسانة عليه فما كان منه إلا أن يومئ برأسه موافقا ليعتلي شبح ابتسامة على شدق وتين حيث قالت بامتنان:
_ "شكرا."
وقد كانت تلك ختام الليلة ليعود كل إلى النوم طالبا قسطا من الراحة استعدادا للزحف بمطالب اليوم التالي.. فوداعا للشمس المشرقة وأهلا بالبدر المنير في كبد سماء معتمة..
**********
في اليوم التالي..
_ "سلام عليكم."
أردف بها أمان بابتسامة هادئة لتقف الممرضة قائلة بابتسامة ترحاب:
_ "أهلا يا دكتور أمان."
ثم أكملت بتساؤل:
_ "تحب اساعدك فــ حاجة؟"
أجابها بنفي:
_ "لا بس دي أوّل جلسة ليّا مع مدام نهلة."
اعتلى التساؤل داخل عقل نهلة التي تأكّدت بأن حالتها ميؤوس منها إلى درجة أن ضاق بها المدعوّ ربيع ذرعا فيتركها لآخر.. وفي نفس الأثناء نطقت الممرّضة بعدم تصديق:
_ "إيه ده؟ الحالة اتنقلت لحضرتك؟"
أماء برأسه دون كلام لتقول الممرّضة بحفاوة:
_ "أنا فــ خدمتك طبعا."
أجابه أمان بابتسامة مجاملة:
_ "تسلمي بس كل اللي طالبه منك انك تخرجي وما تدخليش غير بعد ساعة."
نظرت له بتساؤل ليجيبها بجديّة:
_ "د جزء من العلاج."
امتثلت الممرضة للخروج في حين أردفت نهلة بداخلها باستهجان:
_ "هل يئس الطبيب العجوز بهذه السهولة بحيث حلّ شاب مكانه صدره أكثر اتّساعا؟!"
انتبه ذهنها إلى صوت أمان الذي قال ولا تزال الابتسامة مرتسمة على ثغره
_ "مساء الخير.. ازيّ الحال؟"
أجابته بضيق:
_ "كما هو لم يتغيّر."
أكمل قوله بتعريف:
_ "أنا إسمي أمان.. طب نفسي وعلى مشارف تحضير الماجستير."
ثم أشار نحوها بسبّابته قائلا:
_ "إنتي نهلة زاهر خريجة كليّة آداب قسم جغرافيا.. عندك 26 سنة."
أجابته بنبرة ساخرة:
_ "أنت تحدّثني عن نفسي أمامي؟! أيّ علاج هذا؟!"
أكمل بإعجاب:
_ "عرفت كمان انك دخلتي أدبي.. ومن كتر حبّك في الجغرافيا دخلتي القسم ده بالذات مع إن كان أدامك أقسام أعلى.. علفكرة إنتي ذكيّة أوي.. أنا كنت فــ علمي واتبهدلت من الفيزيا.. وكنت بدعي ربنا ما توقعنيش.. والحمد لله نقصت فيها أربع درجات بحالهم........"
لم تعد تسمع أو بالأحرى تمنّت لو كانت تستطيع الحركة حتى تهرب من هذا الثرثار.. يظلّ يتحدّث عن نفسها وحالها بشكل يثير الاستفزاز حيث قالت في نفسها بغضب:
_ "ما كل هذه الثرثرة؟! هل أتيت للعلاج أم لتروي قصّة كفاحك مع التعليم؟!"
ولم ينتبه لانزعاجها أو أنه يتعمّد ذلك حيث أكمل ونبرته تزداد علوّا يريد إثارة انفعالها لتقول مستنجدة:
_ "يا إلهي ما عدتّ أطيق متى تنتهي هذه الساعة؟!"
اختتم قوله بنبرة أكثر نضجا:
_ "دلوقتي هعلمك شفرة يا مدام نهلة وركزي معايا كويس."
انتبهت لكلماته بينما يقول:
_ "لما تحبي تقولي (آه) إرمشي بعينك مرتين.. ولو (لأ) يبقى مرّة واحدة ده هيخلّيني أفهم إللي عايزاه أكتر."
بينما ينتظر ردّها سمع صوت الباب يُفتَح لتدخل الممرّضة قائلة:
_ "دكتور أمان.. عدّت الساعة."
التفت أمان نحو نهلة قائلا:
_ "قوليلي بقى إنتي شايفاني رغّاي وصدّعتك ولازم أخرج؟"
لأول مرّة تحرّك شيئا من خلاياها حيث رمشت بجفنيْها مرّتيْن فتضحك الممرّضة بخفوت بينما يقف هو قائلا بهدوء مصطنع:
_ "تمام.. أشوفك بكرة.. سلام"
أجابته بحدة:
_ "أتمنى أن أموت قبل أن يحدث ذلك."
**********
وبين غضب بدر وأذاها الغير المقصود لوتين.. أتت صورة ابنها الحقيقيّ إلى ذهنها.. حقّا افتقدته وترجو لقاءه وطالت المدّة وترك الهجر بصماته بفؤادها.. وإن كان نسي الاتصال بها فسوف تقوم هي بالتواصل معه والاطمئنان على حاله عسى أن يكون بخير.. ما أن أمسكت بالهاتف حتى علا صياحه واسم صغرها مزيّنا شاشته فأسرعت تجيب قائلة بسعادة:
_ "أيوة يا حبيبي عامل إيه...."
قاطعها الطرف الثاني قائلا بحزن:
_ "أنا مش نائل يا طنط.. أنا أحمد صاحبه."
أسرعت الخوف يجد طريقه إلى نبضاتها حيث تنطق باستفهام وقلق:
_ "إيه؟ وانت ماسك تليفونه ليه؟ نائل فين؟"
وعلى الجانب الآخر كانت كل من سلوى ونيروز تمرّان بالرّدهة تتحدّثان بشأن وتين وزيارتها.. وبينما تمرّان بجانب الغرفة أصاب الذّعر قلوبها بينما يعلو صياح نجلاء بهلع:
_ "إبنـــي!"
تبادلتا النظرات المرتاعة قبل أن تقتحم نيروز الغرفة وخلفها سلوى لتجدا نجلاء جالسة على الأرض والتعب بدا جليّاعلى ملامحها والهاتف ملقى بجانبها بإهمال.. اقتربت منها سلوى بينما تسندها قائلة بخوف:
_ "مالك يا نجلاء يا حبيبتي في إيه؟!"
ثم اقتربت منها نيروز قائلة بقلق:
_ "ماله نائل يا طنط؟"
لمّا لم تجد منها القدرة على الإجابة أسرعت تلتقط الهاتف ثم وضعته على أذنها قائلة بثبات ظاهريّ:
_ "ألو مع حضرتك بنت عمّ نائل.. جراله إيه؟"
اعتلى الرعب ملامحها بينما اتّسعت عيناها بصدمة حتى شعرت بالدمع يهاجر طالبا الحريّة من مقلتيْها.. شحب وجهها وشعرت بألم غير معلوم المصدر يخالج خافقها حتى وقع الهاتف من بين أناملها المرتجفة.. في حين تنطق سلوى وهي تربت على ذراع نجلاء:
_ "ماله نائل يا نيروز؟"
أجابتها نيروز بصوت دامع يعلوه القلق:
_ "نــ نائل اتصاب بكورونا وفي الحجر دلوقتي.."
**********
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي