النصف الآخر

Mostafa gamal`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-08-01ضع على الرف
  • 60.1K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

فى إحدى غرف خلع الملابس بالمسرح كنت أجلس أمام المرآة أصفف شعرى وأحاول أن أظهر بأكثر صورة تليق بى فى أولى حفلاتى بدار الأوبرا ليس كعازف لألة الجيتار ولكن هذه المرة كمطرب جديد دخل إلى عالم الغناء بعد نجاح الأغنية التى نزلتها بعنوان "كفانا بشراً وحب" الأغنية التى راقت إلى مسامع الكثير من الناس فى الشوارع حتى أننى أصبحت أسمعها كثيراً وأنا أسير فى الطرقات بشوارع الإسكندرية تلك المدينة الساحرة التى ولدت بها وعشت كل ذكرياتى فيها وأيضا تعلق قلبى بعروس بحرها ،ملهمتى الوحيدة وصانعة مجدتى وفنى التى أظن أنها إذا كانت غير موجودة لما فعلت كل هذا ولم أصبح شخصا معروفاً لأحد.

كنت أجلس على الكرسى الخاص بالمرأة ويتتخلل أذنى صوت أم كلثوم وهى تقول "لا أنا قد الشوق" تلك الأغنية التى سكنت بداخلى أعواما وكانت تصاحبنى لليالى كثيرة أثناء جلوسى على إحدى الصخور بشواطئ الإسكندرية هل أنا حقا غير قادراً على الحب ولم يكن لدى القدرة على أن أحب وأن أتذوق مرارته وعذاباته.
مر من عمرى كثيراً والأن وأنا على بعد خطوة واحدة من تحقيق أكبر احلامى أجدنى وحيداً لا يوجد معى من يقاسمنى تلك الفرحة التى أنا بها ،ولايوجد من يدفعنى حينما تغلق الستارة لكى أقف أمام كل هذا الكم من الجمهور والذى لا أعلم كم عدده ولكن الأمر فى الأغلب سيكونون كثيرين فرواد مسرح أوبرا سيد درويش كثيرون ومتزوقون الفن بالإسكندرية لا يمكن حصرهم بطبعهم محبين للفن ،ولكن هل حقاً لا يوجد معى من يطمئننى من يجعلنى أشعر بالأرتياح حينما تفتح الستارة وأسمع تصفيق الجمهور لى تحت تلك القبة العظيمة التى وقف عليها كبار النجوم.
كنت دائما أحلم بأننى سأقف فى يوماً ما على ذلك المسرح وحينما أشعر بالتوتر سأنظر إلى الكواليس لأجد نصفى الآخر تقف وتنظر لى بأبتسامة تعطى قلبى الطمأنينة وتجعلنى أغنى وكأنى متمرس على ذلك الفعل ،لكنى الآن وحيداً حتى أنه لم يكن لدى مساعدين أو شخصاً يدير لى أعمالى لأننى لطالما تمنيتها هى من تكون بجوارى وإلى الآن أنتظرها وانتظر وجودها ودعمها وأن تدفعنى للأمام مثلما كانت تفعل فى السابق.

لا أعرف لماذا أتذكر تلك الأشياء فى ذلك الوقت فربما اخطات فى حضورى مبكرا للمسرح ،كنت قد قررت ذلك بالأمس لأننى أخشى كثيراً الوقوف على ذلك الخشبة ولكنى لم ألقى النظر عليها سوى مرة واحدة حينما أتيت ومن بعدها وأنا ظللت بداخل تلك الغرفة ولم أخرج منها كل ما أفعله هو أن أشغل السجائر وأخرج زفيرها مع صوت تنهيدات أم كلثوم.

هل حقا أنا مازلت حتى الآن ابحث عن نصفى الآخر ولم ايأس هل أنتظر حدوث شيئاً يغير مجرى حياتى مرة أخرى لابد وأنه يحدث مرة واحدة بالعمر ولا يتكرر ولكنى تأكدت من ذلك حينما سمعت صوت أم كلثوم وهى تقول "قابلتك أنت لقيتك بتغير كل حياتى" فى ذلك الوقت وجدت قلبى يتسارع فى نبضاته وتبدأ صورة ما فى التكوين أمام عينى خرجت للتو من مخيلتى فعلمت أننى مهما حدث لى لن أجد مثلها ابدأ تلك التى جاءت إلى بعد تعثرات كثيرة ،جاءت ومعها كل ما تحمله معانى الحب والعشق ،جاءت لتأخذ قلبى معها وتفقدنى إياه وأظل طوال السنوات التى مرت بعدها أسير حبها وأسير ما فعلته بقلبى ،فقد علقت صورتها بخيالى ،كما علق صوتها بذاكرتى ،وأصبحت متيما بالحب ينتظر أن يأتى إليه من تيمه ليأخذ بيده ويجعل لحياته طعم خاص مرة أخرى مثلما فعل بالسابق.

نظرت فى ساعتى فوجدت الساعة الأن الرابعة عصراً ،ضحكت كثيراً على نفسى فباقى من الزمن أربع ساعات على ميعاد الحفل كما ذكر بالتزاكر الخاصة بالحضور ،قمت من جلستى وخلعت السترة التى أرتديها وتوجهت نحو سريراً صغيراً بتلك الغرفة أشبه بالأريكة ،علقت سترتى وقمت بالأرتماء على تلك الأريكة وأنا أراجع رحلتى فى الحياة والتى كانت منحصرة فى بحثى عن نصفى الآخر ،وشغفى فى الموسيقى والغناء.

تذكرت فى ذلك الوقت أولى علاقتى العاطفية والتى بدأت مبكراً جدا وانا بسن أقل من المراهقة لم تخوننى ذاكرتى فأنا أملك ذاكرة قوية لا تقدر على النسيان ،وهذا من أهم الأسباب التى ترهقنى فى بعض الأحيان ،فأجد نفسى أتذكر كل شئ يؤلمنى ويؤذى روحى.

كانت تلك الفتاة تدعى غادة كانت زميلة لى بالفصل المدرسى فى مرحلة الأبتدائى ،وفى أحدى الحصص المدرسية وبالأخص حصة الرسم كنا جميعاً نحب تلك المدرسة التى كانت تدرس لنا هذه المادة وكنت فى سعادة تامة حينما وقفت وقالت إن هناك فكرة خطرت برأسها وتريد تنفيذها الأن ،وكانت الفكرة عبارة عن إذا كان أحداً منا يريد أن يقول شيئاً لأحد ما بهذا الفصل أو حتى بخارجه فليقوم بكتابته على ورقة ويقوم بتطبيقها ولا يذكر إسمه عليها فقط يذكر تلك الأمر الذى يود قوله.
فى هذا الوقت بدأ الجميع فى الكتابة ،وبدأت أنا فى التفكير كنت أود أن أكتب كلمة شكر لتلك المدرسة التى جعلتنى أحب الحصة الخاصة بها بعدما كنت اتهرب منها واذهب إلى غرفة الموسيقى ولكنها بطريقة ما أوضحت لى أن الترابط بين الرسم والموسيقى هام جدا فكلاهما يجعل من خيالك شيئاً جميلا وبدأت فى تنفيذ بعض الأفكار التى جعلتنى أحب تلك الحصص الخاصة بها.

أخرجت قلمى وقطعت ورقة من أحدى الكراسات الخاصة بى وأمسك بالقلم لكى أكتب ،ولكن وجدت نفسى فى النهاية كتبت أمرا أخر لا أعرف من أين أتت لى تلك الجراءة وهذه الفكرة أيضا ظللت أنظر إلى ما كتبت مراراً وتكراراً وأنا لا أفهم لماذا فعلت ذلك حتى أتت تلك المدرسة تلملم الأوراق ووقفت امامى فأبيت أن أعطيها ورقتى وقلت لها أننى لم أكتب شيئا ولا يوجد شئ أريد قوله ولكنها لم تصدقنى وامسكت بيدى لتأخذ تلك الورقة وهى تبتسم ثم أنحنت بظهرها لتحدثنى فى أذنى وهى تقول "لا تخف من شئ أعرف أنك تحدثت من قلبك وهذا ما يخيفك".

تحركت المدرسة لتكمل لم باقى الاوراق كانت تضعهم فى صندوق وهذا ما جعلنى أطمئن أنه لا أحد سيعرف ورقتى بالذات.

عادت المدرسة لتجلس على المكتب المتواجد بالفصل وبدأت فى قراءة ما كتب بتلك الأوراق كانت هناك عبارات مضحكة ومن يقول إنه لا يحب الدراسة ومن يتغزل فى ميس عاليا هذا هو إسمها والذى تسبب فى أن أرسم اولى رسوماتى بعدما جعلتنى أسمتع لأحدى الأغانى التى سميت بأسمها فقمت برسم فتاة ،ومن بعدها وجدت أن الموسيقى مربوطة بكل شيئا جميل فى هذه الدنيا.

ظلت ميس عاليا تقرأ الأوراق حتى وقعت تحت يدها ورقة أعرف جيدا أنها ورقتى بدأ قلبى فى الخفقان وجسدى فى الأرتجاف أشعر بالخوف والقلق معا.
ماذا ستغعل حينما تقرأ الورقة؟
كيف سينظر لى زملائى بعدما يعرفون ذلك؟
ولكن حدث شيئا لم اتوقعه فظلت ميس عاليا ممسكة بالورقة وهى تبتسم وبعدها قامت بوضع الورقة بمكانا بعيداً عن باقى الأوراق وكأنها قررت الأحتفاظ بها ولم تقل للطلبة ما كتب بتلك الورقة ولم يسأل أحدا لماذا لم تقرأها ،ظلت ميس عاليا تقرأ الأوراق حتى انتهت من القراءة وبعدها بدأت فى الحديث معنا قليلا ولكنى أحسست أن كل ما تقوله كان موجها لى كانت تقول:

_ عارفين يا ولاد أنا بعد ما قريت كل كلامكم حسيت بحاجة غريبة أوى مش عارفة هتفهموها دلوقتى ولا لأ، بس أنا متأكدة أنكم لما تكبروا الجملة دى هتتكرر كتير قدامكم وياريت فعلا تعملوا بيها (لما قلبكم يقول حاجة صدقوها مفيش فى الدنيا دى أصدق من كلام القلب).

بعدما سمعت تلك الكلمات شعرت بالأرتياح وتأكدت أن تلك الكلام موجهاً إلى، وقبل أن تنهى ميس عاليا كلامها دق جرس إنتهاء الحصة فقالت:

_ الحصة خلصت للأسف نكمل كلامنا الحصة الجاية مع السلامة يا ولاد.

قامت ميس عاليا من جلستها ولملمت أشياءها لتخرج ،كنت أنظر إلى ورقتى هل ستضعها فى الصندوق أم ماذا ولكنى وجدتها تمسك بها فى يديها بعدما أعادت كل الأوراق إلى الصندوق ،تحركت باتجاه الباب لتخرج ولكنها وقفت مرة واحدة والتفت لتفعل ما يعيدنى لنفس الإحساس الذى شعرت به حينما أخرجت ورقتى، ألتفت ميس عاليا ونادت على زميلتى غادة والتى تحركت باتجاهها فانحنت إليها وهى تعطيها تلك الورقة وتقول:

_ الورقة دى هى الوحيدة اللى مقولتهاش لأن الكلام اللى فيها ليكى أنتى خدى اقريها لوحدك ومتخليش حد يقراها غيرك.

ردت عليها غادة وهى تشعر بالخجل ولا تعرف ما تحتويه تلك الورقة.

= حاضر يا ميس عاليا

ثم أعتدلت ميس عاليا ونظرت إلى وهى تبتسم من ثم خرجت من الفصل تماماً.

فى الحصة التالية لم يسعنى أن أركز فى شئ كانت عينى معلقة وكأنه تم تثبيتها على المنطقة التى تجلس بها غادة ،اخشى أن يقرأ إحدى زميلتها الورقة وما فيها ،وأخشى أيضا من ردة فعل غادة بعدما تقرأ الورقة.

ظللت شاردا طوال الحصة حتى دق جرس الحصة معلننا عن الراحة التى تكون فى منتصف اليوم الدراسى نزل الجميع من الفصل وبقيت غادة وحدها كنت أجلس على مقعدى ولا أقوى على الحركة ،أو بالأصح أننى كنت أريد أن أرى ملامحها حينما تقرأ ما كتبت لها كانت غادة تمسك بالورقة بيديها وتفكر هل لها أن تفتحها الأن أم ماذا! ظلت هكذا حتى قررت أن تترك الورقة فى شنطتها وتقرأها فيما بعد.

قامت غادة من جلستها لتنزل إلى الفناء الخاص بالمدرسة ولكنها شعرت بتواجدى معها بالفصل فنظرت إلى وهى تقول:

_ عمر ،انت مش هتنزل الفسحة؟

أنتبهت إليها وأنا لا أعرف ماذا أقول فلا يوجد شيء أفعله فجاوبتها سريعا:

= ها ،لا هنزل كنت بس بلم حاجتى

أبتسمت غادة فى وجهى وبعدها تحركت للأسفل كانت تلك الابتسامة بمثابة سعادة اليوم كله شعرت بأن المدرسة كلها تبتسم لى حتى اننى نسيت أن أنزل وظللت جالسا على مقعدى ولم أتحرك ،أخرجت كراسة الرسم من شنطتى وبدأت أرسم فتاة وأحاول أن أوضح الملامح كما علمتنى ميس عليا واندمجت كثيرا فى الرسم ،حتى شعرت بأن هناك أحدا يقف على باب الفصل فرفعت عينى لأجد ميس عاليا تقف وتتابعنى وقبل أن اتفوه بشئ قالت:

_ قاعد بتعمل إيه؟
= ها ،لأ مفيش بس حضرتك مخليتناش نرسم انهاردة فقولت أرسم أنا.
_ امممم ،طب ورينى بقى ياسيدى رسمت إيه؟

تحركت ميس عاليا باتجاهى لتنظر إلى ما رسمت وما ان رأت رسمتى حتى ضحكت بصوت هادئ ولا أعرف ما سبب تلك الضحكة حتى قالت:

_ ودى بقى ياسيدى غادة؟

شعرت بالتوتر حينما نطقت إسمها فقلت مسرعا:

= لأ خالص والله ياميس ،انا بس حبيت أعمل زى ما قولتى أننا أزاى نرسم شكل الوش ونحدد الملامح
_ واشمعنى بقى يا سيدى عملت دا دلوقتى؟
= عشان مفيش حاجة أعملها ومش عايز أنزل ألعب تحت
_ طب قولى بقى وبصراحة ،بتحب غادة ليه ،او إيه اللى خلاك تقول إنك بتحبها؟

فى تلك الوقت قررت أن أتحدث مع ميس مريم بكل صراحة:

= بصراحة يا ميس أنا ببقى عايز اشوفها علطول ودايما ببقى مبسوط وهى قاعدة بتزاكر معايا ،حتى لما مستر سامى طلب من ماما أن فى بنت ساكنة قريب منى هتاخد الدرس معايا وطلعت غادة أنا فرحت جدا وكنت كل حصة بيجي فيها مستر سامى كنت بحوش مصروف يومين عشان أشترى ليا وليها شوكلاته وناكلها مع بعض قبل ما مستر سامى يجى

أبتسمت ميس عاليا كثيرا وحركت يدها لتعبث برأسى وهى تقول:

_ أنا فرحانة بكلامك دا أوى يا عمر ،ومبسوطة أنك بالرغم من أنك صغير بس فاهم أنت حاسس بأيه ،بس عايزة أقولك على حاجة الكلام دا مينفعش حد يعرفه خالص لازم يفضل سر ما بينا وهى هتعرف أنك بتحبها بس مينفعش تقولها غير لما تكبروا عشان لو عملت كدا دلوقتى ممكن يحصلها مشكلة كبيرة فى البيت ومتقدرش تشوفها تانى ،هل دا هيخليك مبسوط؟

أشرت لها بوجهى بالنفى.

_ عشان كدا لازم يفضل سر لغاية ما تكبروا شوية وبعدها تقولها كل حاجة ،وتجبلها كل اللى نفسك فيه كمان ياسيدى مش شوكلاته وبس ،وليك عليا أنى هخليها تقعد معاك فى حصة الرسم الخاصة وتبقوا مجموعة لوحدكم ياعم.

شعرت بالفرحة فى تلك الوقت لما قالته لى ميس عاليا وشعرت أيضا بالبهجة أنها ستجعلنى على مقربة أكثر من غادة.

ذهبت ميس عاليا وجلست أنا حتى انتهى اليوم الدراسى وأنا طوال اليوم لم تفارقنى صورة غادة ولم تذهب من خيالى ابتسامتها، كنت أتمنى أن أعرف ردة فعلها حينما تقرأ تلك الورقة ولكننى رغما عنى لم اقدر على معرفة ذلك لأنها من المؤكد ستقرأها اليوم ونحن سنلتقى بعد يومان حينما تأتى إلى منزلى لدرس مستر سامى.

مرت فترة طويلة أشعر فيها أن غادة تحبنى أيضا مثلما أحبها وأنها تشعر بنفس ما أشعر به أصبحنا كل يوم نخرج معا من المدرسة ونتوجه إلى منازلنا سويا ،نجلس فى الحصة التدريبية الخاصة بمادة الرسم معا لكى نعمل على المشروع الذى سنقدمه بنهاية العام الدراسى فكنا فى ذلك الوقت فى الفصل السادس الابتدائي وكانت مدرستى تخصص ثلاثة مشاريع يختار كلا منا أن يشترك في واحد منهم ،كنت قد قررت أن أشارك فى مشروع الموسيقى لأنى أحبها ولكنى غيرت رأيى بعدما وجدت أن مشروع الرسم سيجعلنى على مقربة من غادة.

انتهى العام الدراسى وكانت أخر مرة التقى بها بغادة هى يوم إعلان النتبجة وبعدها افترقنا، بعدما قرر أهلها أن ينتقلوا للعيش بمنطقة أخرى وانتقلت هى أيضا معهم ولم اعد اعرف عنها أى شئ.

ذهبت غادة وذهبت معها أول قصة حب فى حياتى ،ولكن ظلت جملة ميس عاليا عالقة بذهنى (مفيش فى الدنيا دى أصدق من كلام القلب) تلك الجملة التى عاشت معى طوال حياتى حتى أنها ظلت معى إلى الآن وأنا بعمر الثلاثون.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي