الحلقه الثامنة

الساعة قد تعدت الثانية عشر بعد منتصف الليل ولكنك تسمع اصوات السيارات في الخارج، فنحن في مدينة الإسكندرية التي يجوز أن نطلق عليها المدينة التي لا تنام، فهي دائمة الحركة ليل نهار.
كان الأستاذ محمد المحامي وصاحب مكتب المحاماة المعروف، والذي يقع في شارع كامب شيزار بمنطقة وسط البلد في الإسكندرية، يجلس على مكتبه لكي يراجع بعض الأوراق، التي تخص قضية من المفترض أنه سوف يترافع بها غدا صباحا، في المحكمة، ولم يقطع حبل افكاره غير بعض الطرقات الخفيفة على باب غرفته، انتبه من شروده لكي يأذن لمن يقف خلف الباب:
= ادخل.
فتح الباب ودخل ساعي المكتب؛ عم حسن الذي يبلغ الخامسة والستين من العمر؛ وهو يعمل مع الأستاذ محمد منذ خمسة أعوام تقريبا، بعد أن أحيل إلى المعاش من وظيفته الحكومية، وهو يأتي قبل الجميع في الصباح وينصرف بعد الجميع مساء، وقف عند الباب وهو يشعر بالتردد، لذلك سأله أستاذ محمد:
= خير يا عم حسن في حاجه؟.
ظهر التوتر في صوته:
= كل الأساتذة مشوا.
عندما لم يكمل جملته، نظر له الأستاذ محمد متعجبا:
= انا لسه قدامي شويه حاجات؛ مش همشي دلوقتي انت ممكن تروح؛ وانا هقفل المكتب ورايا.
ولما لم يتحرك عم حسن من مكانه، نظر له الأستاذ محمد بتعجب وتساؤل:
= في حاجه يا عم حسن ؟.
تردد عم محسن قليلا، ثم قال على استحياء:
= انا كنت بس عايزه استأذن حضرتك؛ في سلفه لحد اول الشهر؟.
ترك الأستاذ محمد من يده القلم، ثم أسند ظهره للخلف باسترخاء قائلا:
=خير يا عم حسن أنت كل شهر كده ؟.
رد عليه عم حسن مسرعا:
= غصب عني بس دي ان شاء الله تكون اخر مره.
رجع الأستاذ محمد ل اوراقه في لا مبالاة، وقال له وهو يشير له بيده كي ينصرف:
= على كل حال الأستاذ أمير المحاسب مشي، لما يجي بكره ابقى فكرنى اقول له.
زاد توتر عم حسن فهو بحاجة لتلك السلفة في الوقت الراهن، لكي يدفع تكاليف علاج زوجته المريضة، التي تنتظره في المنزل ولكنه في النهاية لا يستطيع الاعتراض لذلك أنصرف في استسلام وهو يقول:
= شكرا لحضرتك.
فأشار له الأستاذ محمد بيده ان ينصرف، دون أن يرد عليه فقد كان عقلة مشغول بتلك القضية، وفي جميع الأحوال هو يتعامل بشكل رسمي جدا مع كل من حوله، حيث يعد العمل هو المحرك الأساسي لكل الأمور ولا يعترف بالمشاعر، وبعد أن خرج الساعي واغلق الباب من خلفة، استكمل الأستاذ محمد عمله وعندما انتهى من تلك الأوراق، قام بجمعها في حقيبته لانه سوف يذهب للمحكمة غدا مباشرة ولن يستطيع المرور على المكتب، كانت الساعة قد تعدت الواحدة من منتصف الليل في تلك اللحظة، وتأكد من غلق أدراج المكتب الخاص به، ثم اتجه الى باب الغرفة؛ وقد كانت غرفته في آخر الرواق المؤدي إلى صالة الإستقبال بالمكتب، وبه ثلاث غرف غير غرفته، تأكد من عدم وجود أي شخص في تلك الغرف، كذلك عمل على التأكد من أن الأضواء كلها قد تم غلقها، وخرج الى الصالة التي لم يكن بها سوى ضوء خافت وضعيف، يأتي من البوفية وعندما توجه لغلق تلك الإضاءة؛ شعر بوجود حركة تأتي من الحمام، للحظة جاءه ذلك الإحساس الذي يقول لك أنك لست وحدك، في المكان وأن هناك شئ يتحرك بالقرب منك، وقبل أن يستوضح ما يحدث امسكه احد من الخلف، واعاق حركته بشكل نهائي؛ وكتم أنفاسه ب منديل لتكون أخر ما يشعر به في هذه الحياة هي وخزة بسيطة في رقبته، وما هي الا لحظات بدأت الدنيا تظلم من حوله، لكي تتوقف كل أجهزته الحيويه بالتدريج.
في الساعة العاشرة صباحا؛ كانت الآنسة رانيا التي تعمل بمكتب المحامي المعروف الأستاذ محمد، تقف أمام باب المكتب في انتظار عم حسن الساعي، لكي يفتح لها ولكل الموظفين الباب، وعلى غير العادة تأخر عم حسن عن موعده، وهو المعروف بنشاطه والتزامه عن باقي الموظفين؛ على الرغم من كبر سنه، فقد حضر المحامي الشاب زياد الذي جاء ليحضر بعض
أوراق القضايا، التي سوف يترافع بها الأستاذ مصطفى في المحكمة اليوم، وعندما وجد رانيا تقف وهي تحاول أن تضيع الوقت؛ عن طريق الهاتف الخاص بها سألها متعجبا:
=انت واقفه من بدري ؟.
نظرة له بضيق:
=من عشر دقائق تقريبا.
نظر في ساعته وهو يتحدث لها:
= الساعة بعد عشر؛ مفروض اكون في المحكمة قبل الساعة أحدا عشر؛ ايه العطلة دي بس يارب.
سمع كليهما صوت اقدام على السلم وسعال عم حسن، فقد كان المكتب في الدور الأول ولا يحتاج لاستخدام المصعد، فقالت رانيا في نفاذ صبر:
= عم حسن وصل اخيرا.
جاء عم حسن وهو يخرج مفاتيحه الخاص من جيبه، واتجه الى الباب وهو يعتذر منهم:
= اسف على التأخير.
لم يعلق احد منهم، وقد انضم اليهم ايضا استاذ سيد المحامي، ذلك أن المكتب الخاص بالأستاذ محمد من أحد أهم المكاتب في المنطقة، حيث تجد به ثلاثة من المحامين الكبار، الذين يحملون سمعت المكتب بشكل مشترك بينهم، ومنهم الأستاذ سيد والأستاذ محمود والأستاذ مصطفى، واثنين من المحامين حديث التخرج تحت التدريب هما زياد ولمياء ، كما يوجد هناك السكرتيرة رانيا والمحاسب أمير، وكذلك عم حسن الساعي أما عن مالك
المكتب فهو الأستاذ محمد، وهو حاصل على دكتوراه في القانون المدني، ويعمل كأستاذ مساعد في كلية الحقوق بجامعة الأسكندرية.

فتح عم حسن الباب، ودخل و من وراءه استاذ سيد ورانيا وزياد في تلك اللحظة، توقف الجميع في صالة الإستقبال بالمكتب مصدومين، ينظرون الى مديرهم الذي يرقد ممددا بلا حركة على الأرض، ومن هول الصدمة لم ينطق أي أحد منهم، حتى أخذت الشجاعة زياد الذي اقترب من الجثة، وقد أرتكز على إحدى ركبتيه بالقرب منها، و حاول ان يحركه ظننا منه أنه غائب عن الوعي، فاقترب الأستاذ سيد ووضع يده تحت اذن ذلك الجسد الممدد على الأرض بمسافة لكي يشعر ب نبضه ولكنه لم يجد اي شيء فنظر الى زياد وهو يشعر بالتردد:
= مفيش نبض.
هنا شهقت رانيا متراجعة للخلف، على الرغم من أي اعتبار يعد التفكير في الموت؛ كفيل بان يرهب اقسى القلوب، فما بالك بفتاة في مقتبل العمر، كان أكثرهم يظهر التماسك، وعلى وجه الخصوص الأستاذ سيد، والذي اتصل برقم طبيب يعرفه، ويعد من أحد عملاء المكتب في وقت من الأوقات، وعندما رد عليه سأله الأستاذ سيد:
= دكتور سالم معيا ؟.
جاءه الرد:
=ايوه استاذ سيد ازيك عامل ايه ؟.
= انا الحمد الله بخير .... بس بصراحه انا في موقف غريب ويحتاج لحضرتك!.
= اتفضل تحت امرك.
= انت قريب من المكتب حاليا ؟.
= مكتب الأستاذ محمد أيوة، أنا في طريقي للمستشفى ممكن اعدي عليك ...
= تمام انا في انتظارك.
جلس الأستاذ سيد على احد الكراسي، وهو ينظر إليهم وهم بلا حركة ولا احد ينطق فيهم، حتى قام الأستاذ سيد بسؤال عم حسن:
= انت اخر واحد كنت في المكتب ؟!.
رد عليه مسرعا:
=ايوه ومشيت و الأستاذ محمد كان لوحده.
تساءل الأستاذ سيد ب استغراب:
= وكان كويس مش تعبان يعني ولا حاجه ؟.
توتر عم حسن عندما وجد أنه محط أنظار الجميع:
=اه والله كان زي الفل.
سكتا قليلا يفكر في الأستاذ محمد فهو ليس كبير، في السن ولا يعاني من أي أمراض مزمنة؛ لكي يصاب بأزمة مفاجئة، ولم يمضي الكثير من الوقت حتى دخل عليهم الدكتور سالم، ولاحظ على الفور وجود جثمان الأستاذ محمد على الأرض، فاقترب منها و جلس على ركبتيه بقربه؛ لكي يقوم بفحصه وتساءل
=هو ايه اللي حصل ؟!.
جاءت الإجابة من الأستاذ سيد بكل التفاصيل، من وقت ما فتح
باب المكتب حتى وصوله، وقام الدكتور بالتأكد من أنه قد فارق الحياة، لذلك قام من مجلسه وهو يردد:
= البقاء والدوام لله.
سأله زياد وقد ظهر عليه التأثر وقد اصيب الجميع بالذهول:
=حضرتك متأكد ؟!.
فأجابه بلا تردد:
= مفيش نبض وكمان من درجة حرارة الجثة اللي نزلت، واضح انه قد فارق الحياة من أكثر من ثماني ساعات.
هنا تساءل الأستاذ سيد محاولًا عدم التركيز مع بكاء رانيا وانهيارها:
= طيب اعمل ايه دلوقت ؟!.
رد عليه الدكتور سالم على الفور:
= لازم يروح المستشفى عشان يطلع له تصريح الدفن، و يكتبوا في سبب الوفاة، واكيد طبعا هتبلغ أسرته بكل اللي حصل.
وأخرج دكتور سالم هاتفه المحمول، و اتصل برقم و طلب سيارة الأسعاف لنقل جثمان الأستاذ محمد، إلى أقرب مستشفى حكومي بالنسبة لهم.
نعود مرة آخرى للساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل؛ قبل حادثة الأستاذ محمد المحامي بساعة، وتحديدا في منطقة الإبراهيمية الهادئة نسبيا، كان الدكتور ممدوح طبيب المخ والأعصاب عائدا من عمله بأحد المستشفيات الخاصة، يقود سيارته الى داخل جراج البرج الذي يقيم به، وقد بدى على الجراش الهدوء التام، حيث لا يوجد به أي حركة خاصة في المكان المخصص لسيارته، قام ب ركن السيارة بمكانها المعتاد وخرج منها، قبل أن يغلقها فتح الباب الخلفي لكي يحضر حقيبته، وبينما هو ينحني داخل السيارة لكي يلتقط الحقيبة، أنتبه إلى وجود حركة تأتي من خلفه؛ حاول أن يلتفت لكي يرى من الذي يتحرك، لكن ذلك الشخص عاجله بضربة على رأسه أفقدته توازنه، وحاول المقاومة وقد التفت إلى ذلك المتعدي عليه وهو يقول:
= أنت..
ولكنه لم يعطيه فرصه لكي يكمل جملته، فقد وضع يده على فمه وشعر بوخزه صغيرة، و ما هي إلا دقائق وقد اظلمت الدنيا من حوله، لكي تكون آخر المشاهد التي التقطتها عيناه ذلك الوجه المألوف إليه.
في الساعة السابعة صباحا، كان المهندس مجدي ذاهبا الى عمله واتجه الى سيارته، وقد لاحظ أن الباب الخلفي للسيارة التي تقف بجواره مفتوحه، لحظة كاد أن يمضي في طريقه، ولكنه
قرر أن يغلق الباب، تحسب لأن يكون صاحب السيارة قد نسيا ان يغلقه، وتحرك في اتجاه الباب ودفعه، لكن الباب لم يغلق وكأن شيئا يمنعه من ذلك، اقترب أكثر لكي ينظر إلى داخل السيارة، لكي يتفاجئ بوجود شخص ممددا على الكنبة الخلفية للسيارة وقدمه خارج السيارة، وهي التي تعيق الباب فقال بصوت مرتفع نسبيا
= حضرتك بخير؟!.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي