الفصل الرابع عشر

بنظرات متشفية شامتة تحمل كراهية لم تعتقد صبا أنها ستحملها بقلبها لمخلوق..بدأت تسكب البول فوق ملابسه ببطئ شديد حتى إنتهت فتسللت مغادرة الغرفة كما دخلتها وصعدت نحو الغرفة العلوية لتنام كما لم تنم منذ أن دخلت هذا المنزل فكل شيء تم ترتيبه كما ينبغي ولن تسمح لأي شيء أن يهدم مخططها.
بالصباح هبطت متجهة نحو المطبخ وإلتقطت من جيب جلبابها عبوة الدواء التي إبتاعتها من الصيدلية ثم وضعت عشرين نقطة مع كوب حليب دافئ وضاعفت كمية العسل به حتى يخفي أي مذاق غريب ثم اتجهت مع إبتسامة مزيفة نحو غرفته..
"صباح الخير يا حاج،هل نحتاج كالعادة لتغيير الملاءات؟"
بكبرياء منكسر وكرامة مهدرة أخفض عينيه بدون أن يجيب فإقتربت منه:"لا عليك سأستبدلهم ولكن أولاً يجب أن تشرب هذا الحليب الطبيب أخبرنا أنه مهم جداً حتى تلتئم عظامك بسرعة"
بدون أن يتفوه بحرف أمسك بكوب الحليب الدافئ من بين يدها وبينما يتجرعه بالكامل أمسكت بعصاه خلسة ووضعتها بعيداً عن متناول يده حينها كان قد انتهى وأعاد لها الكوب فقالت:"سأحضر ملابس نظيفة لك وملاءات نظيفة وأعود"
وبينما تستدير ‘لتقطت هاتفه المحمول خفية وغادرت الغرفة متجهة نحو المطبخ تعد الإفطار لها ولرابحة التي ستحضر بعد قليل وهي تدندن
عل راح منك ياعين بتبكي ليه
بتبكي ليه
ده الزمان جاسي ومين يعتب عليه
مين يعتب عليه
اوعي تشكى لعبد زيك ولا تبكي
ريحي بالي واوعي تشغليه.
على اللي راح منك ياعين بتبكي ليه
ده الزمان جاسي ومين يعتب عليه
العوازل لما تبكى هيلوموكي
والجرايب بعد منهم يظلموكي
والحبايب من ودادهم يحرموكي
تندمي وبس الندم هيفيد بإيه
ع اللي راح منك يا عين بتبكي ليه
وبينما تدندن وتعد إفطار دسم سمعت صوت طرقات على الباب فاتجهت نحو الباب واستقبلت شقيقتها وأحمد الصغير بإبتسامة واسعة:"هيا لقد أعددت الإفطار وأنتظرك"
خطت الشقيقتان نحو المطبخ وافترشتا الأرض لتناول الطعام بينما سألت صبا على الفور:"أين العقود؟وهل أكدت على المحامي حضور موظف الشهر العقاري؟"
"لا تقلقي،ها هي العقود والمحامي أكد أن الموظف سيكون هنا الساعة العاشرة"
أجابتها رابحة وهي تفتح كيس بلاستيكي باللون الأسود وتقدم ما به من أوراق لصبا،فتنهدت الأخيرة وأصغت بترقب للصوت الذي تنتظره..
"لا أعرف كيف ستقنعينه بأن يوافق على ختم تلك الأوراق؟"
كانت رابحة تدرك أن الأمر صعب حقيقة وخاصة أن شقيقتها الآن لا ترغب بالمنزل فقط بل والأرض أيضاً..
"سيقبل..سيقبل لا خيار آخر لديه وإلا سأجعله مضغة في أفواه كل نساء البلدة..منذ وقت وأنا أعد لذلك"أجابتها صبا بعزيمة وإصرار وثقة لم تدرك رابحة من أين آتت بها.
"لم تعتادي أن تخفي عني شيء يا صبا،وأشعر أن هناك ما تخفيه"
حدقت رابحة بوجه صبا محاولة اكتشاف ما تخفيه عنها فضربت صبا براحة يدها فوق ساق شقيقتها:"لم أخفي عنك شيء ولكنني لم أكن أعلم أن كان الأمر سينجح ام لا"
"أي أمر؟نقل ملكية المنزل والأرض لكِ؟"
"لا..هل تتذكرين حينما أخبرتك أن تجعلي ابن أم محمود أو مصطفى صديق هاشم،يعلمك التسجيل الصوتي بالهاتف والتصوير أيضاً؟"
منذ أسابيع وهي تخطط لتلك اللحظة..حينما تمتلك كل شيء ستشعر بانتصارها،فالجميع بلا استثناء علموها بأقسى الطرق أن لكل شيء ثمن وهي تريد ثمناً غالياً لروحها المنتهكة..لجسدها المغتصب..تريد ثمناً لعروس أحمد التي قيدوها وألقوا بها كالنعجة أسفل قدمي ذلك النذل فنحرها بلا شفقة.
"نعم أتذكر بالطبع،وحفظت كل شيء ثم علمتك إياه"
"وأنا استخدمت هذا"أجابتها صبا ثم التقطت الهاتف من جيب جلبابها و فتحت التسجيلات الصوتية المخزنة.
"هل فعلتها الليلة أيضاً يا حاج؟يجب أن تذهب لطبيب أو تجد حلاً،كل يوم أستبدل ملاءات الفراش"
"اصمتي يا إبنة الأفاعي وأحضري لي ملابس نظيفة من الخزانة"
"إنني أتحدث لصالحك يا حاج،تحملت أنك تنام بجواري بالفراش كوالدتي لا نفع ولا رجاء ولا أمل في أن ينتصب المائل،لكن أن تبلل فراشك كل يوم هذا أصبح فوق قدرتي على التحمل،لما لا تخبر أولادك ربما يعرضوك على طبيب؟"
"لو علم أبنائي بأي شيء من هذا سأقتلك.."
"مثلما حاولت قتلي من قبل وخنقتني حتى كدت أن تزهق أنفاسي ولكنك تعثرت وسقطت،وأخبرتك أن لكل شيء ثمن وأنا أنتظر هذا الثمن"
"إن علم أحد بأي شيء من هذا لن يوقفني شيء هذه المرة سأقتلك ولن يعيقني شيء "
أوقفت صبا التسجيل الصوتي بينما رفعت عينيها نحو رابحة التي إتسعت حدقتيها وهي تتمتم:"أنتِ داهية ماكرة يا صبا،كيف جاءتك هذه الفكرة؟كيف جرؤت على فعل هذا؟"
"من رحم القهر والمرار تُولد القسوة،لا أحد يستحق الرحمة.."
"بدأت أخشى عليك من نفسك يا شقيقتي"تمتمت رابحة بقلق فتلك التي تدبر وتخطط ليست أبداً شقيقتها التي تعرفها،إنها إمرأة سواها لئيمة داهية.
"لا تخشي علي من شيء،ثم إننا اتفقنا على الإقتصاص من كل من جاروا علينا وظلمونا،والآن لا وقت للتراجع،أنتِ لن تتخلي عني أليس كذلك يا رابحة؟"
"أنا معك يا توأم الروح وحتى آخر نفس بصدري"
إنحنت صبا نحوها تعانقها بقوة بينما استمعتا لصوت عبد الرحيم يصرخ منادياً صبا..
"إنه يريدك"
"دعيه الآن.."
"لا نريد إغضابه يا صبا قبل مجيئ المحامي و موظف الشهر العقاري"
"هل تعتقدين أنه سيكون سعيداً بعد سماعه هذا التسجيل الصوتي؟او الصور؟"
"ماذا؟ هل التقطتِ له صور أيضاً؟"هتفت رابحة بدهشة و هي تهز رأسها محاولة التغاضي عن صراخ عبد الرحيم بأسم شقيقتها وكأنه يحتاجها بطريقة يائسة ملحة.
"نعم"أجابت صبا بثبات ودون أن يطرف لها جفن وكأن نداؤه اليائس يمنحها نشوة الانتصار.
أدارت الهاتف بإتجاه شقيقتها فرأت رابحة صورة لعبد الرحيم وهو يقف مولياً ظهره للكاميرا بينما الصورة تبرز البلل بسرواله الأبيض.. مررت صبا لتظهر صورة أخرى وهو يرقد بمنتصف الفراش بسروال مبلل ومن بين ساقيه يبدو الفراش أيضاً مبلل.
"لم أستطع إلتقاط غيرهما ولكنهما كافيان"
قالت بينما تتذكر الهلع والذعر التي كانت تلتقط بهما الصورة،خوفاً من رؤيته لها فلو فعل لإنهال عليها ضرباً وانتزع منها الهاتف.
"أعتقد ذلك،فالتسجيل الصوتي وحده يكفي لأن تكون فضيحة تتناقلها الألسن لسنوات"أجابت رابحة بينما لاتزال بدهشة من دهاء شقيقتها،فهي لم تتخيل أنها كانت تريد تعلم التسجيل الصوتي أو إلتقاط الصور بالهاتف من أجل هذا الغرض.
"إنني أيضاً ذهبت للطبيبة بالصيدلية وابتعت منها ملين قوي وأخبرتها أنني أعاني من إمساك شديد منذ أسبوع فمنحتني دواء فعال،ولهذا هو يصرخ الآن لأنني وضعت ضعف الكمية التي أخبرتني بها الطبيبة في كوب لبن دافئ مع العسل"
فغرت رابحة فمها بصدمة محاولة استيعاب هذا الكم من التخطيط الذي فاجأتها شقيقتها به،حسناً بالبداية لم يكن لديها أدنى أمل أن يمنح ابن القاضي لصبا فتاة السوق بائعة الزبدة والجبن منزله أو أرضه ولكنها الآن لا تعرف حقاً هل الرجل الذي يصرخ بالغرفة هاتفاً على شقيقتها لديه أدنى فرصة للاختيار؟!
تكرر نداؤه مرات ومرات حتى بات متوسلاً ضعيفاً بينما صبا تستمع له كموال شجي عذب يتسلل لروحها ويداويها..انه ذليل مقهور،وحيد الآن،كما كانت هي تماماً حينما توسلت له أن يرحمها..صمت هتافه أخيراً وحينها وقفت صبا وبعينيها بريق من القوة ممتزجة بالإصرار والشماتة واتجهت إلي غرفته وهي تعد التسجيل الصوتي للعمل بينما تمسك الهاتف بيدها..
"ماذا هناك؟ ما كل هذه الضجة؟ ألا يمكنني أن أتناول فطوري بسلام؟"صاحت به بقوة وهي تحدق بعزم بملامحه المنكسرة وترقرق الدموع بعينيه وجسده ممدد على الأرض بمنتصف الغرفة..ضعفه كان مداواة لآلامها وعذابه طبيباً يقطب جراحها بمهارة.
"ما هذه الرائحة يا ستار،رائحتك بشعة،وما الذي جعلك تغادر الفراش؟"
بزيف اتسعت عينيها تدعي الفزع وهي تصيح وتندب بأعلى طبقة صوت لديها:"يا مرارك يا صبا..يا حظك الأسود من جناح الغراب،ألا يكفي يا رجل أن تتبول على نفسك وأنك مثل طرح الأرض الطالح لكن زادت الطين بلة وتتبرز على نفسك"
"بالله عليك صبا توقفي عن الصراخ،كنت بحاجة للعصا أو لأحد لأستند عليه ولكن العصا لم تكن بجانب الفراش ولا هاتفي أيضاً..لقد قلت من قبل أنكِ زوجتي وستسترينني حياً وميتاً.."
اقتربت منه وألقت اليه بالعصا:"حاول أن تقف بمفردك حتى تغتسل من هذه القذارة،لا أستطيع الاقتراب منك..سأتقيئ ما تناولته"
استند على الخزانة والعصا محاولاً الوقوف وتعثر عدة مرات بينما هي تضحك ساخرة بدون أن تخفي سخريتها وحينما فشل بعد عدة مرات وصرخ من تضرر ساقه اقتربت منه تمسك به وتساعده حتى ينهض بدعم من العصا والخزانة حتى استقام فتراجعت للخلف واشهرت الهاتف لتلتقط صورة واضحة له بدون أن تبالي او تهتم لرؤيته لها..صورة لسرواله الأبيض وهو يبدو ملطخاً ببرازه والأرض من أسفله ملطخة بفضلاته التي تسللت عبر نسيج السروال.
"ماذا تفعلين يا إبنة.."كاد أن يسبها ولكنها اقتربت منه وعينيها تومض بالغضب والشر.
"أصمت وإياك أن تتفوه بكلمة،سأتأكد لك أن لا أحد بالخارج ثم سنتجه للحمام بالبهو حتى تغتسل وتستبدل ملابسك وبعدها سنتحدث.."
أراد أن يخنقها بكلتا يديه ولكنه عاجز على فعل ذلك لقد أوى حية بمنزله،ما أن جائتها الفرصة حتى أخذت تنثر سمها بكل مكان حوله..بومة أصابت حياته بوابل من المصائب الذي لا يعرف كيف يتخلص منها..لكنه الآن سيقبل مساعدتها حتى يتخلص من تلك الملابس ويستحم.
بعد أكثر من نصف ساعة عاد للغرفة وقد اغتسل واستبدل ملابسه ولكنه وجد الفراش كما هو ولم تستبدل ملاءاته وصبا تقف أمامه محدقة به وهي عاقدة ذراعيها أمام صدرها..
"اجلس لأنني لديّ ما أريدك أن تسمعه"أمرته وحقداً وكرهاً ملئ صدرها حتى لم يعد هناك بصيص للرحمة او الشفقة بقلبها نحوه وهو يقف منكسراً بشيب شعره وانحناء كتفيه،لكنها تعلم جيداً انه لو استعاد قوته سيدهسها بقدميه.
"أنتِ لم تستبدلي الملاءات"تمتم بود محاولاً عدم إثارة غضبها وبداخله الشعور بالعجز والوحدة يزداد فهو مستحيل أن يستنجد بأحد أبناؤه ومستحيل أيضاً أن يستنجد بإبن عمه فهو سيشمت به و لن يتأخر دقيقة في إخبار أولاده..وسينتهي الأمر به بدار رعاية كبار السن وحكم محكمة يمنح أولاده الوصاية عليه..ستنكس رأسه ولن يستطيع رفعها ابداً.
"أنت تنام عليها طوال الليل،إجلس"أمرته بنبرة حادة ثم اقتربت منه تجذب العصا من يده وتلقي بها بعيداً قبل أن تتراجع قليلاً حتى لا تصبح بمتناول يديه وأعادت تشغيل التسجيل الصوتي.
"استمع ثم نتحدث"
استمع للحوار الذي يدور بينهما على التسجيل الصوتي ويليه الحوار الذي دار منذ قليل وهو يتوسل لها..غضب ممزوج بالعجز وقلة الحيلة لأول مرة يشعر بهذه الوحدة ليس لديه انسان مقرب يمكنه أن يكون سره وستره..وللمرة الأولى يعترف أنه السبب في هذا!!لطالما شعر بالغيرة والحقد من إبن عمه ووضع بينهما أسواراً وجدران وحتى أبناؤه كان يلقي بعبئ تنشأتهم على والدتهم وعمه والد زوجته..لما الآن سيكونوا ستره وحماه من تكالب القدر ضده؟
شهرت الهاتف بوجهه ثم أظهرت له الصورتين مع الصورة الأخيرة التي إلتقطها منذ قليل...
"الآن هناك محامي وموظف من الشهر العقاري سيحضران وأنت ستختم أمامهما على عقد بيع لصالحي بالأرض والمنزل..."
"ماذا هل أصابك الجنون؟!"صرخ بها ببقايا انتفاضة غاضبة وعقله يموج بالأفكار اليائسة والتساؤل عما تنويه تلك الخبيثة.
"أنا إمرأة شابة معافاة تماماً،الأخرق هو من يتبول ويتبرز على الفراش والأرض..استمع لي..الأرض والمنزل سيكونان ملكي لكن لن يعلم أحد بذلك إلا بعد موتك..كما أخبرتك سأكون زوجتك وسترك..لكنني لن أصبر على كل هذه القذارة وعلى تلك الحياة البائسة بلا ثمن..لن أصبر حتى موتك وبعدها يلقي بي أبناءك بالشارع..أو ربما تسوء حالتك ويعلمون فيجبروك على طلاقي والإلقاء بي بالشارع..إما أن تختم الآن أمام الموظف والمحامي وإما سأخرج من هذا المنزل وأذهب لشيخ المسجد ورجال البلدة ونسائها وأجعل الجميع يسمعون ويرون ما على الهاتف وبالتأكيد الأخبار ستنتقل كالبرق للقاهرة،وبعدها سأذهب لقسم الشرطة لأتهمك بمحاولة قتلي..آثار يديك لازالت حول عنقي والتسجيل الصوتي إعتراف منك أنك لن تتوانى عن قتلي"
"صبا..لقد كنت تريدين المنزل،حسناً أنا موافق سأمنحك المنزل"أجاب بنبرة مرتجفة خافتة ويد ترتجف بالكاد يستطيع أن يمسك بالعصا،منذ عدة أشهر بدأ يشعر وكأنه أصبح كهلاً عاجز لا يقوى على شيء،ولكن بتلك اللحظة شعر بجفاف فمه وكأنه ابتلع رمال والتصق لسانه بفمه وعرق غزير بارد انهمر من كل خلية بجسده.
"لا..الأرض والمنزل وسترك حتى تموت،أو سأغادر هذا المنزل الآن وسأخبر رجالك أن يدخلوا المنزل ليستبدلوا لك الملاءة ويغسلون ملابسك التي بالحمام،ثم أنتقل لأخبر كل فرد بالبلدة قبل أن أذهب لقسم الشرطة،ما اختيارك؟"
دقات على الباب الخارجي جعلت صبا تلتفت نحو باب الغرفة وتعود لتحدق به بتحدي :"يبدو أن المحامي قد وصل،هل أستبدل الملاءات وأجعلهما يدخلان أم أغادر المنزل؟"
باللحظة التي ستغادر بها المنزل لن يستطيع استعادة أي شيء لا كرامته ولا كبرياؤه ولا إيقاف الفضيحة التي ستتلقفها الألسن..لن يستطيع سوى أن يكون تحت رحمة أبناؤه وما سيقررونه تجاهه..وهو يعرف سليمان وناجي جيداً الأرض هي هدفهما وسعد هدفه الوحيد هو أن يتخلص منه وكأنه وباء لا يريد أن يراه أو يتذكر انتسابه له..لكنه أن وافق صبا يمكنه أن يتودد لها حتى يطيب وبعدها سيجبرها على التنازل عن المنزل والأرض حتى ولو اضطر لقتلها فلن تكون المرة الأولى.
إنها إمرأة ضعيفة ما تبديه من قوة الآن ما هو إلا بسبب ضعفه وعجزه ولكن ما أن يشفى ويقف على قدميه يمكنه أن يقيدها ويحتجزها ويكممها ويستعيد الهاتف الذي معها وسيجبرها على إعادة منزله وأرضه له..
"استبدلي الملاءات يا صبا"تمتم محاولاً اقناع نفسه بقدرته على الخروج من تلك الأزمة بدون خسائر.
بعد قليل كان المحامىي والموظف على وشك مغادرة المنزل بينما سألت صبا:"متى أحصل على العقود؟"
"يمكنني أن أمر على الحاج عبد الرحيم وأسلمها له خلال يومين"
"لا.. رابحة ستقابلك بأي مكان تحدده معها على الهاتف وستدفع لك مقابل خدماتك وتتسلم العقود،أم تستلمها من مكتب أستاذك؟"أجابت على المحامي بحزم ونبرة تهديد
فتلعثم المحامي الشاب الذي أعتقد أنه يمكنه أن يتقرب من عبد الرحيم القاضي ليكون محاميه الخاص ولكنه تقاضي عمولة جيدة ولن يغامر بخسارتها او خسارة عمله بمكتب أستاذه من أجل مجرد إحتمال.
"بالطبع لا،يمكن للسيدة رابحة أن تلتقي بي أمام المحكمة بعد يومين وسأؤكد عليها الموعد من خلال الهاتف"
غادر الرجلان بينما إلتفتت رابحة لصبا تحتضنها:"مبارك يا صبا،أصبحت تملكين أرض ابن القاضي ومنزله"
"عبد الرحيم سيحاول استرداد الهاتف بأية طريقة لذا يجب ألا يبقى معي هنا،إحتفظي به بمكان أمين وابتاعي هاتف جديد لنستخدمه،وأريدك أن تتعلمي كيف ننقل التسجيل الصوتي للهاتف الجديد أيضاً"
أجابت صبا على شقيقتها بدون أن تبالي لتهنئتها فلازال وقت التهنئة لم يحن بعد،الآن وقت إحكام الطوق حول عبد الرحيم حتى لا ينقض هو عليها بأية لحظة تستدير لتوليه ظهرها منتشية بالانتصار.
طرقات على الباب مرة أخرى أفزعتهما ففتحت صبا الباب بسرعة لتجد أحد رجال عبد الرحيم وبجواره محمود ابن جارة زوجة عمها فهتفت رابحة بفزع من وجه الشاب الصغير:"هل حدث شيء يا محمود؟"
"جيران والدتكما وجدوها متوفية بالدار"
***********

السعادة والحياة كانت تدب بكل شريان بجسده،وقلبه يقفز من موضعه وكأنه يستطيع أن يكون أسرع من السيارة بالوصول إليها..اليوم ستعود معه لمنزلهما..ستنبض الحياة بجدران شقتهما الصغيرة،ستشرق شمس عالمه من جديد وسيعود قلبه ليدور بمدارها بعد أن كان هائماً،طريداً بدونها..كل شئ من حوله يبدو أكثر سعادة حتى سيارته بدا لونها أكثر اشراقاً..هل سيتهمه احد بالجنون لو اخبرهم أنه يشعر وكأن المقعد الأمامي بالسيارة يفتقدها..
ربما سعادته منقوصة لكنه يكفيه أن تتواجد من حوله،تستمع له..تبتسم...تتهادى أمامه لتشعل الشوق بلياليه،فنيران الشوق لها خيراً الف الف مرة من صقيع فقدها،فلتعاقبه كما تشاء وسيصبر على عقابها فالذنب ذنبه هو من انساق وراء نزوة غبية ولم يدرك إلي أي مدى كان غارق بهواها..حينما ابتعدت وكأنه أدرك كم يعشقها وكم حياته فقدت ألوانها،سيظل نادماً عمره بأكمله على جرحها..سيظل نادماً على جدار الثقة الذى هدمه بأفعاله الصبيانية الخرقاء.
توقفت السيارة أمام المبنى الذى يقطن به زين وغادرها خالد متلهفاً،فاليومين التي طلبت منه أن تبقى بمنزل شقيقها لتستعد للعودة معه لشقتهما ها قد مرا وأخبره زين بالعمل أنها بإنتظاره اليوم لتعود معه..يريد أن يصرخ ويحتضن العالم من حوله..يريد أن يحتضنها فهي كل العالم،حتى لو مانعت عناقه لها،يمكنه ان يعانق عينيها بعينيه،يلامس وجنتيها بأنفاسه ويمنحها اشتياقه وحنينه بكلماته..
رنين وطرقات متتالية جعلتها تنتفض من موضعها على الآريكة،إنها تعرف أن تلك الدقات اللحوحة له،تشعر بشوقه حتى من صوت دقات يديه على الباب ولكن لا شيئ سيثنيها عن قرارها ولا حتى عشقها له..
اسرعت مليكة لتفتح الباب وهى تصرخ:"آتية،آتية،توقف عن هذه الضوضاء"
"أين زين؟" هتفت به مليكة ما أن رأته.
"لا أعرف توقف بالطريق ليبتاع شيئ ما"أجابها وعينيه تتألق ببريق من السعادة لرؤيته حقائبها بجوار الباب وكأنها تنتظره بلهفة كلهفته لها.
كادت مليكة تغلق الباب ولكن زين عبر من خلاله قائلاً:"كان يقف أمامي بسيارته ولم اتأخر بمتجر البقالة سوى لدقيقتين فخرجت لم أجده"
"لقد حضر لتوه"أجابته مليكة بنبرة منخفضة وكأنها لا تريد لموجات صوتها كسر اتصال عيني شقيقها وزوجته.
اغلقت الباب ووقفت صامتة بجوار زين الذى شاركها صمتها مترقباً لرد فعل خالد على ما تريده شقيقته ولكن انتظاره لم يدم طويلاً..
"سأحمل الحقائب وانقلها للسيارة"تنحنح خالد قائلاً محاولاً أن يعتاد ولو لبعض الوقت فكرة ان تكون أمامه ولا يحتويها بذراعيه ليطفئ اشتياقه.
بإصرار استجمعته خلال اليومين الماضيين وقوة استمدتها من اشتياقه لها وادراكها أنها تحتل كيانه وروحه أجابته:"قبل أن تحمل الحقائب لنعود للمنزل،طلقني يا خالد"
سقطت الحقائب من يديه واتسعت عينيه بهلع وبدون تصديق وربما الصدمة كانت أيضاً تختلط بجميع تلك المشاعر:"ماذا!!"
"ما سمعته تماماً،لن أعود للمنزل إلا إذا طلقتني" أجابته بإصرار ونبرة حاولت بقدر طاقتها ان تكون حازمة فهذا قرارها ويجب أن تتعلم ألا تضعف أمام توسلاته أو نظرات الصدمة بعينيه.
"نحن لم نتفق على ذلك سلمى؟لما منحتيني الأمل واعدتي لي الحياة ثم الآن تسلبيني كل هذا؟هل هذا جزء من عقابك لي؟لقد اخبرتك أنني مستعد لمغادرة شقتنا لكن بدون طلاق!!"
اخذ يثرثر بأسئلة متتالية وهو يدور بالبهو الصغير بإضطراب،فكل أحلامه عن عودة حياتهما معا انهارت بلحظة بينما مليكة وزين يتبادلان النظرة فيما بينهما بصدمة مماثلة لصدمة خالد.
عقدت سلمى ذراعيها أمام صدرها بتحدي:"من أخبرك انك ستغادر شقتنا؟! يجب أن تتحمل نصيبك من مسؤلية هذه العائلة لا مزيد من التواكل والإعتماد"
مرر أصابعه من بين خصلات شعره وهتف بنبرة أقرب للتوسل:"هل تتلاعبين بي سلمى؟كيف يمكنني أن ابقى بشقتنا بعد الطلاق؟"
"كما أنت تماماً،لازلت أناني،لازلت لا تهتم سوى لنفسك وما يرضيك..أنا لن اتحمل وزر (ذنب) منع حقوقك الزوجية لذا الطلاق هو الحل"
حسناً هى حقاً ليست على استعداد تماماً لأن تتحمل ذنب منعه من حقوقه الزوجية ولكنها أيضاً تدرك أن شعور خالد بأنها محرمة عليه وليست حلالاً له أمر جلل بالنسبة له،وهى تريد أن تجعله يبيت على فراشه الجديد وهو يتلظى بنيران هذا الشعور..أنها محرمة عليه،ليست مباحة.
"لكنني متنازل عن هذا الحق بملئ إرادتي،لذا لا ذنب سيقع عليكِ"
كيف يمكنه ألا يفعل!كيف يمكنه ألا يعفيها من هذا الحق؟!لقد أذنب بحق نفسه وعائلته وقبل كل شيئ أذنب بحق حبهما وحياتهما.
"لا..لو يوماً رقدت بفراشك غاضباً من اتفاقنا ولو للحظات محتمل حينها يقع عليّ الوزر،وأنا لن أقبل بذلك"الطلاق عقاب له لن تتنازل عنه،حتى لو كانت ستعاقب نفسها معه ولكن كلاهما سيتعلم منه الكثير لذا لن تتنازل عنه بالرغم من قلبها الذى يئن لمرآى حبيبها يتخبط بتوتر وقلق عاجز لا يعرف ما الذى يمكن أن يفعله.
اقتربت مليكة من زين تستند لذراعه وهى ترفع عينيها نحوه بتساؤل فمط شفتيه دلالة انه لا يعرف ما الذى سينتهى إليه هذا الوضع فتمسكت بقوة أكثر بذراعه وكأنها تطلب دعمه لتتقبل اي قرار سيصل هذان البائسان اليه.
"هل لك ان تخبريني كيف سيتحمل كلانا وزر اقامتنا بشقة واحدة ونحن منفصلين؟!" سألها بأمل بدأ يداعب عقله وكأنه توصل لحجة أقوى من حجتها.
رفعت احد حاجبيها بنظرة أقرب التحدى وإصرار لن يتزعزع:"يجب أن تقرأ أكثر بالشريعة خالد،طوال فترة العدة يجب أن تبقى المرأة بمنزل زوجها ومع انتهاء العدة تغادر منزل الزوجية،ما يحدث خلاف ذلك ليس من الشرع بشيئ"
"من أين لك كل تلك القسوة التي تواجهيني بها سلمى؟لم تتحملي يوماً رؤيتي حزيناً أو قلقاً!كنتِ مرفأ الأمان والهدوء في خضم كل ما مررنا به بحياتنا"
تساءل بصمت بينما رفع عينيه ليقابل عينيها..انه يرى بعمقهما رغبتها في أن تختضنه وتربت على صدره كعادتها لتخبره ان كل شيئ سيكون على ما يرام وان مهما كانت المشاكل فهى ستمر وستصبح ذكرى،لكنها ترفض الإستسلام لتلك الرغبة.
"تعلمت القسوة من ليالي قضيتها ارثي حب الصبا خالد فلا تلومنى الآن وقاتل لتستعيد ثقتي بك..حتى لو اضطررت ان تقاتلني انا ذاتي"
"لو طلبتِ مني بتر عضو من جسدي لكان أيسر من طلب انفصالنا سلمى..وانت تعرفين ذلك جيداً"
"الطلاق لن يغير شيئ في اتفاقنا خالد"
تريده ان يوافق وينتهى الأمر لأنها على شفا حفرة من الإستسلام والرضوخ أمام حزنه،فقلبها يؤلمها و يجلدها لأنه لا يتحمل ضعف الرجل الوحيد الذى عشقه.
"وماذا لو لم تغفري لي حتى إنتهاء الثلاثة أشهر وقت العدة؟بالطبع سأغادر المنزل لأن حينها سيكون بقائنا سوياً محرماً!!"
"إذا مر ثلاثة أشهر ولم أستطع ان اغفر لك إلى حد ما..إذا لم تستطع أن تجعلني أشعر بأن جدار ثقتي بك قيد الترميم..حينها لن تكون هناك فرصة لأن نستمر سوياً"
طعنت قلبها قبل أن تطعنه،لكنها تعمدت ان تتحدث عن حياتهما وكأنه مشروع قابل للفشل أو النجاح..بالرغم من تأكدها أنها ستقاتل من أجلهما بكل ما آوتيت من قوة وإصرار.
اخفض رأسه بقهر وهو يري إصرارها بينما لمح زين المرارة واليأس على وجه صديق عمره وشقيقه الأصغر فتقدم ليربت على كتف خالد واستدارت ذراعه حول كتف خالد ثم دفعه برفق ليبتعدا سوياً لداخل غرفة المعيشة..
"خالد لازال يمكنك أن تعيد سلمى لعصمتك قبل انتهاء شهور العدة حتى بدون علمها"
اخبره زين وهو يغمز له بعينه بمشاكسة ثم اضاف:"لكن لن اسمح لك ان تفعل ذلك إذا شعرت انك تتهاون بحقها و إذا آلمتها وآذيتها مرة أخرى لن اعيدها لك هذه المرة حتى لو كانت حياتك تعتمد على ذلك..اتفقنا؟"
التفت له خالد ثم اقترب منه يعانقه بامتنان:" تعلمت الدرس بطريقة قاسية زين،سأحتاج لوقت طويل حتى استعيد ثقة سلمى"
سارا عائدين نحو سلمى التي تقف ثابتة بلا أية دلالة عما يعتمل داخلها من طوفان حنين لزوجها..هى على صواب قوتها من وجودها بقربه،قوتها في قتالها من أجل استعادة حياتهما.
"حسناً سلمى أي عقاب ستختارينه أنا استحقه،لكن رفقاً بي يا حبيبة الصبا لن يستطيع لساني نطقها..لن أستطيع ان انظر بعينيك وأخبرك بها..لن أقوى على ذلك سلمى،سأذهب للمحكمة الشرعية وانتهى من إجراءات.. الانفصال..بمفردي سلمى"
كل كلمة كانت توسل وتضرع حتى توافق فرضخت سلمى واومأت موافقة:
"قبل أن أدرك ما معنى الحب عشقتك..وحينما علمت ماهيته ازداد عشقي لك،وهبتك قلبي وروحي،ولكنك وضعتني بلحظة اختيار ما بين كبريائي وكرامتي وبين قلبي..اذهب بمفردك خالد لكن تأكد أنني الآن بعد أن روضت قلبي عن الإبتعاد عنك يمكنني أن اعيدها مرة أخرى ولكن إن حدث هذا سيكون فراقنا هذه المرة للأبد..فاحذر يا حبيب الصبا حياتنا الآن بين يديك"
ظلت كلماتها تتردد بعقله طوال الطريق للمحكمة وهو يجلس بجوار زين بسيارته وحتى وقف أمام المحكمة شعر أن جسده متيبس وعرق بارد ينهمر من جسده،قبضة من فولاذ تقبض على قلبه تعتصره وبخطوات بطيئة مستنداً إلى زين كان يصعد الدرج وكأنه يُساق لهلاكه..لا يستطيع أن يصدق أنها لن تكون له،لن تكون امرأته..منذ صباهما وهى له فتاته..امرأته،كيف يصدق أن حضنها سيُحَرم عليه!!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي