الفصل السادس والثلاثون ضحايا جدد

٣٦- ضحايا جدد

أغلقت ليالي الخط مع سليم، وظلت ماكثة في غرفتها إلى أن اختفى صوت ابنها خارج الغرفة، خرجت ليالي من الغرفة وكان الكثير من الأهل والمعارف والجيران يملأون الصالة ويقدمون التعازي والدموع تملأ أعينهم، وقع نظر ليالي على نجاة... أقبلت عليها وسألتها عن أدهم هامسة:

ماما أين ذهب أدهم؟

نجاة: لقد نام..وهو مع لمياء في غرفتها.

في هذه اللحظة اطمأنت ليالي؛ فقد أصبح بعيدا عنها الآن.

انقضى اليوم وحل الظلام، نامت ليالي في أحد الغرف بالشقة وأغلقت على نفسها الباب بإحكام خوفا من ذلك الصغير الممسوس، ورأت ليالي حلما.. أو بالأحرى ..كابوسا لعينا.

رأت أن ابنها أدهم يقترب منها ويديه ملطختان بالدماء ويقول:

ماما.. عليكِ أن تنظفي الدماء، لأنك انت الفاعلة، هذه هي دماءك وليست دمائي، هذه لن تكون دمائي أبدا.. عليك أن تستعدي لهذا.

لم تفهم ليالي المغزى من كلمة الطفل، ولكنها تيقنت أنه شيء خطير ومظلم، وبعد أن فكرت قليلا أدركت أن الطفل يقصد شيء ما، لعله يكون تهديدا ووعيدا بقتل ليالي، وكان الطفل يحذرها بملامح بريئة لا تنم عن خبث أو لؤم.

ظنت ليالي أن ابنها يحذرها من شيء ما أو من شخص ما بالفعل، ثم استخدمت ذكائها لتدرك أنه يحذرها من نفسه، أو بالمعنى الأصح، من الكيان الذي يحتل جسده، من شبح محمود زوجها الذي لن يهدأ إلا بالثأر منها.
استيقظت ليالي مفزوعة بعد ساعة واحدة فقط من نومها، وأدركت أنها لن تحظى بليلة هادئة، علمت أن الليلة سيكون النوم المتقطع المرهق من نصيبها، وتوقعت أن ترى كوابيس أخرى، كانت مرهقة للغاية فغفت مرة أخرى، لتلقى ما كان ينتظرها من كوابيس أخرى بالفعل.

رأت كابوسا مكررات، ولكن لم يكن أدهم فيه هذه المرة، على الرغم من أنه تواجد فيه في المرة الأولى، رأت ذلك الكابوس الذي كان سليم يرقص مع ريم فيه، عندما تحدث إلى ليالي بطريقة غير مهذبة، وعندما انتهى الكابوس بموت ريم، هذا الجزء لا يعتبر كابوسا بالنسبة لليالي، فهذه المرة زاد جزء إضافي على الكابوس حيث رأت أن سليم سقط جثة هامدة بجانب ريم، استيقظت ليالي للمرة الثانية بعد مرور ساعتين فقط من نومها وقررت ألا تنام مرة ثانية في هذه الليلة، فإرهاق قلة النوم أو عدمه حتى أهون بكثير من الكوابيس المتكررة المتتابعة التي لا تترك دماغها في المنامات.

مكثت ليالي على سريرها، وبينما كانت أفكارها المرهقة تطوف في خيالها تذكرت أنها لم تحضر معها كتاب الأشباح، هي لم تكن ناسية ولكنها قررت أن تأخذ اجازة من كل هذه الأمور المعذبة المرهقة، وفعلت هذا من تلقاء نفسها دون أن تعرف أو تتأكد من الأشباح ما إذا سيكون هذا مناسبا بالنسبة لهم، بدأت تقلق من أفعالهم، فربما يفعلوا لها شيئا لأنها تركت الكتاب متعمدة، وربما يكون هنالك ضحية قادمة قريبة ولا بد أن تقوم بمهمتها في أسرع وقت، هي تعلم أنهم قادرون على التواصل معها لأنهم يلاحقونها في كل مكان دون أن يكون معها الكتاب، ولكن المشكلة أنها خافت أن يتعبروا أن هذا سوء استخدام منها ويلقنونها درسا من الممكن أن ينتهي بموتها!

وبالصدفة وكأن الأشباح كانوا يقرأون أفكارها، أحست ليالي بوخز خفيف يسري في جسدها بالكامل، ثم بدأ الصداع العنيف المعتاد، الذي يسببه لها الأشباح ولأي شخص يتواجدون حوله.. وبدأت الهمسات الغير مفهومة تهمس في أذن ليالي، حينها ظلت ليالي منتبهة وممسكة برأسها من الألم، حتى يتكلم أحدهم ويخبرها بالجديد.

بدأت الكلمات تصبح أكثر وضوحا فسمعت صوتا يقول:
مرحبا يا ليالي، أنا سارة.. سافرت معك إلى هنا لأخبرك بكل جديد يُطلب منك، أولا علي أن أخبرك أنك تؤدين عملك على أكمل وجه، أنت شيطانة سامة مثالية تجيد أعمالنا السوداء، لم نندم أبدا في اختيارك.. نعلم أنك تركت الكتاب عن عمد، ولكن هذا لن يشكل أي مشكلة، لأننا لا نحتاجك الآن، وسيتأخر موعد الضحية التالية قليلا، عندما نريدك أن تعودي ستعودي رغما عنك.. أرجو أن تكوني على دراية تامة بهذا الأمر.

قالت ليالي مخاطبة الصوت الذي يتحدث في أّنها:
أعلم هذا، سمعا وطاعة.

مكثت ليالي طوال الليل وحيدة في غرفتها إلى أن حل الصباح، ودقت الساعة تمام السابعة صباحا، وأتاها اتصالا من سليم..أسرعت ليالي للرد عليه وقالت: مرحبا يا سليم، صباح الخير.

سليم: صباح الجمال، كيف حالك اليوم يا جميلتي؟


ليالي: لن أكذب عليك وأقول أنني بخير حال، ولكن حالتي مستقرة، هدأت عيناي من البكاء قليلا، ولكنني حزينة ومذعورة.

سليم: لا تقلقي.. إنها فترة وستمضي، وسيصبح كل شيء على ما يرام.. طالما أننا سويا.

ليالي: نعم هذا صحيح، متى ستأتي؟

سليم: كنت سأسألك ما الوقت المناسب للمجئ، هل من الممكن أن أتواجد عندكم في وقت الظهيرة؟

ليالي: نعم، هذا الوقت مناسب.. سأكون في انتظارك وسأستقبلك، ولكن أرجوك تصرف كما اتفقنا.

سليم: حسنا يا عزيزتي، اتفقنا.. أراك بعد عدة ساعات.. إلى اللقاء.

ليالي: إلى اللقاء.

خرجت ليالي من غرفتها دون أن تحتك بأي أحد من عائلتها او من الأشخاص الذين أتوا لتقديم واجب العزاء، فلم ترد أن تتحدث إلى أحد، ذهبت إلى المطبخ وأخذت حصتها من الافطار بسرعة، وأسرعت إلى غرفتها قبل أن يراها أدهم.

نجحت ليالي في الوصول إلى غرفتها وأغلقتها كالعادة، ومكثت فيها عدة ساعات منتظرة وصول سليم، وبعد مرور الساعات اتصل عليها سليم بالفعل فردت عليه بسرعة:

مرحبا سليم هل وصلت؟

سليم: نعم، سأطرق الباب حالا، أنا أمامه.. ليالي، أعلم أن هذا ليس التوقيت المناسب، ولكن لا بد أن أخبرك أنني اشتقت إليك حد السماء.

قالت ليالي بنبرة حزينة:

وأنا أيضا اشتقت لك كثيرا.

قامت ليالي لتهندم شكل شعرها قبل أن تقابل سليم، وخرجت من غرفتها وفتحت الباب قبل أن يطرقه، سلمت عليه ودعته للداخل.. كانت أمها على علم من قبل أنه سيأتي، ولكنها كانت أول مرة تراه، أقبلت عليه نجاة وقالت: مرحبا يا أستاذ سليم.

سليم: مرحبا سيدتي، البقاء لله.. أتمنى أن يلهمك الصبر والسلوان.

نجاة: شكرا لك، تفضل يا ابني.

دعت ليالي سليم أن يدخل غرفة الضيوف، فلم يكن فيها أحد سوى لمياء، وفور أن رأته لمياء ابتسمت له مجاملة، وخرجت من الغرفة لتتركه مع ليالي وحدهما.
جلس سليم مع ليالي واقترب منها قليلا وقال:

كيف حالك الآن؟ أرجوك تجاوزي، أنا أعلم أنك قادرة على هذا.

ليالي: أنا بخير يا سليم، وسأتجاوز هذا كله؟.. لا تقلق.

سليم: هل يمكنني تغيبر الموضوع لتخرجي من هذه الحالة؟ هللا سمحت لي بالتحدث عن العمل أم سيكون هذا غير لائق؟

ليالي: يمكنك التحدث في أي شيء يا سليم، فهذا ما أحتاجه الآن تحديدا.

سليم: حسنا.. هذا ممتاز، أريد أن أخبرك أن هناك احتفالا سيتم قريبا في أحد الفنادق، هذا لالاختفال تابع لشركتنا، وسنعرض فيه آخر أعمالنا ومشاريعنا، وسيكون خلال شهر واحد من الآن، وأ،ا أريد أن تحضريه.

أتمنى أن تكون المدة كافيه بالنسبة لك حتى تخرجي من هذه الحالة، ويتسنى لك الذهاب إلى الحفل بشكل عادي.. ماذا قلتِ؟

صمتت ليالي لبضع ثوان وكأنها قد استنتجت شيئا ما للتو، ثم اتسعت عيناها في دهشة ولاحظ سليم هذا فقال:
ماذا بك يا ليالي؟ ماذا دهاكِ؟

كانت ليالي لا زالت شاردة وأخذت تفكر، وأخذ صوت عقلها يحدثها:

إذن هذا الحفل هو الحفل الذي حلمت به أكثرمن مرة، هذا الحفل هو نفسه الحفل الذي ستُراق فيه الكثير من الدماء من قِبلي، ماذا سيحدث لو اعتذرت عن حضور الحفل؟ بالطبع سيقوم الأشباح بقتلي، لن أستطيع أن أختار أي شخص غيري، أنا الآن أُخير بيني وبين سليم وربما أشخاص آخرين، لذلك سأختار نفسي، لا بد أن أحضر الحفل ولكنني لا أريد قتل أحدا، ولا أريد أن أموت.. يا إلهي ماذا سأفعل!

وفجأة.. أدركت ليالي أنه مر دقيقة تقريبا ولم ترد على سليم الجالس أمامها، نظرت إليه وقالت: آسفة لقد شردت فقط، أنت تعلم أن ذهني مزدحم هذه الأيام، وكل هذه الأحداث التي تحدث لا يتحملها بشر.

قال سليم وهو يعتدل في جلسته:

آسف يا ليالي لم ينبغي علي أن أدعوك إلى حفل وأنا أقدم التعازي في أختك ووالدك، هذا غير لائق أبدا.. لقد أخطأت.. أعتذر مرة ثانية.

قالت ليالي نافية:

لا لا.. الأمر ليس هكذا.. لا عليك.. إنه موضوع عادي، والحفل حدث مهم وسوف أحضره، وطالما أنه بعد شهر من الآن فسيكون مناسبا بكل تأكيد.

سليم: ممتاز، حسنا يمكنك أن تفتحي موضوع آخر لكي نتحدث فيه، لا أريد أن أتركك لخيالك وشرودك، ولا أود أن أترك المجال لعقلك أن يذكرك بأحزانك وهمومك.

ابتسمت ليالي مسرورة من اهتمام سليم بها وقالت:

شكرا لك يا سليم، هذا لطف كبير منك، حسنا يمكنني أن أفكر في هم جديد، وهو أنني سأكون بعيدة عنك في هذه الفترة.. شهر كامل لن أراك فيه.. هذا كثير.

سليم: لن يكون شهرا كاملا، سآتي لزيارتك خلال هذا الشهر بين الحين والآخر إذا سمحت لي.

ليالي: أمتأكد من هذا؟ لأنني سأمكث وحدي، لن أبق هنا، لا أعتقد أنه سيكون بمقدورك مقابلتي في شقتي...سيتكلم عنا الناس.

سليم: إذن يمكنني أن أحدد معك مقابلة في أي كافيه أو مطعم كل أسبوع.. ماذا قلت؟

ليالي: حسنا هذا يبدو مناسبا.

اقترب سليم من ليالي وقبل رأسها في حنان، ثم ودعها ورحل بعد أن اتفق معها أن يبقيا على تواصل في المدة التي ستأخذها اجازة حدادا على أبيها وأختها، بالاضافة إلى أنه تعطف عليها وأخبرها أنه سيعطيها راتبا خلال هذا الشهر كما لو أنها تعمل بشكل يومي وطبيعي، وهذا تعويضا لها عما حدث وعما يحدث.

مر أسبوعا كاملا والناس يأتون إلى بيت الراحل ممدوح ليقدموا التعازي فيه وفي ابنته، ويواسون نجاة وابنتيها، وكانت ليالي خلال هذا الأسبوع لا تخرج من غرفتها تقريبا حتى لا تقابل ابنها، لأنها تعلم أنه سيتكلم عن الدماء، وربما لو جلست معه لعدة دقائق فقط يتحول ويصبح شبح محمود مسيطرا عليه تماما، ويحاول قتلها.
كان سليم خلال هذا الأسبوع يتصل بها كثير ويطمأن عليها كل يوم، وبعد هذا الأسبوع قررت ليالي أن تلملم حاجياتها وتذهب إلى شقة الزوجية.. تلك الشقة التي عاشت فيها مع زوجها الراحل محمود الأسمر.

وصلت إلى الشقة وكان هذا اليوم هو يوم الخميس، نفس اليوم الذي اتفق معها سليم على أن يتقابلا فيه، قام بتحديد الموعد والمكان، وكان الكافيه المختار في مدينة ليالي.. مدينة الشروق، سافر سليم إليها لكي يراها، وقررت ليالي أخيرا أن تتخلى عن الأسود، وارتدت فستانا باللون الفضي، وارتدت حلي وحقيبة وحذاء يتماشون مع لونه، ووضعت مكياجا خفيفا، واستعدت لعشاء فاخر.

قابلت سليم وفور أن رآها ضمها إلى أحضانه في حب وقال: اشتقت لك.

ليالي: اشتقت لك أيضا.

سليم: تبدين رائعة، استعدت الكثير من الحيوية والجمال، كيف كان أسبوعك؟

ليالي: كان مليئا بالوحدة، لأنني لم أحتك بأي شخص في المنزل، بسبب الخلافات التي أخبرتك عنها من قبل وماشابه.

سليم: آه فهمت، والآن انتقلت إلى شقتك أليس كذلك؟

ليالي: نعم

سليم: وأين أدهم؟

قالت ليالي في ارتباك:
لقد فضّل البقاء مع جدته هذه الفترة.

ضاقت عينا سليم في حيرة وقال:

هل علاقتك بابنك غير جيدة؟ آسف على السؤال.. آه أقصد.. هل أنت لست صديقة ابنك؟

أخفضت ليالي رأسها وبدا على وجهها علامات الضيق من السؤال وقالت:

إنه فقط متعلق بجدته، لكن علاقتي بابني جيدة، وهو سنه فقط أربعة سنوات، ولا يفهم شيئا حتى تكون علاقته معي سيئة!
سليم: آسف على كثرة الأسئلة، ولكن مقصدي فقط هو أن أتقرب منك.. أقسم لك.

ليالي: لا عليك.

كانت الأمسية رائعة وقضى كل من سليم وليالي ليلة من أجمل الليالي في حياتهما، ثم رحل سليم ووعدها أن يعود في الأسبوع القادم، وكانت قد طلبت منه أن تعود إلى العمل، ولكنه قال أن هذا سيكون غير لائق، وأن شكلها امام أهلها سيزداد سوءا وسيبغضون تصرفاتها أكثر وأكثر لأنها ستظهر بأنها لا يهمها أختها وأبيها، وأنهما غير فارقين معها.

مضت ثلاثة أيام ولم يتصل بها سليم، وهذه ليست عادته، فبادرت ليالي بالاتصال به فلم يرد عليها، اتصلت حوالي ثلاثين مرة ولم يرد، ثم مر حوالي أسبوع من آخر مقابلة لهما ولم يتصل أيضا، فعاودت الاتصال مرات عديدة، ولم يرد، ففعلت ليالي ما تجيد فعله.. أخذت تبكي وهي جالسة بجوار هاتفها منتظرة منه أن يحن عليها ويتصل.

بعد عشرة أيام اتصل عليها سليم أخيرا.. ردت ليالي بسرعة قائلة:

سليم، هل أنت بخير؟ لماذا لا ترد عليّ ما الذي حدث لك؟

قال سليم بنبرة غير حماسية:

اعطيني فرصة أتحدث ولو بكلمة، كيف حالك يا ليالي؟
ليالي: كيف حالي؟ وكيف تتوقع أن يكون حالي؟ لا ترد منذ عشرة أيام وتركتني دون أن تتحدث معي، ماذا فعلتُ لأستحق كل هذا الإهمال؟

سليم: ليالي أرجوك.. لقد سئمت هذا الصراخ، كل ما في الأمر أنني كنت مضغوطا في العمل، لم لا تلتمسي الأعذار؟

قالت ليالي بكل بلاهة وسذاجة:

أنا آسفة..معك حق.. متى سنتقابل؟ مر أكثر من أسبوع ولم تأت.. هل ما زلت مضغوطا؟

سليم: سنتقابل بعد خمسة أيام.... ما رأيك؟

ليالي: حسنا أنا موافقة.

أغلقت ليالي الخط مع سليم، وحدث ما لم تتوقعه، حدث شيء غريب لا يحدث منذ فترة، أغمضت عينيها فجأة ورأت مربعا مرسوما على أرضية، ويقف على كل حافة منه شخصا، كان هؤلاء الأربعة أشخاص هم: سليم وريم ودلال السكرتيرة وصابرين.


يتبع...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي