الفصل السادس والثلاثون

الفصل السادس وثلاثون
وتغيرت أقداري
للكاتبة هدى محمود

الحزن يخيم على أهالى قرية بارود بعد فجيعتهم في كبيرهم الذي وافته المنية بشكل مفاجيء، البيت الكبير يمتليء بالمعزين الذين يتوافدون ليقدموا واجب العزاء لفارس البارودي وعمه الحاج مراد البارودي وولده أحمد البارودي، يقف فارس في حزن وآسي ليتلقى العزاء في والده، الجميع لا يصدقوا ما حدث فأخر مشهد يروا فيه الشيخ فؤاد البارودي وهو يرقص بالعصا مع حفيده الغائب عن العزاء.

الحاجة آمال تتلقى العزاء في زوجها وحبيبها وحولها جميع نساء العائلة، أما الاء فلم يخبرها أحد عن وفات والدها لتعلقها الشديد به، ولكن في نفس الوقت تطلب الاء من زوجها أن يذهبوا لقضاء عدة أيام في بيت والدها الذي تشتاق إليه كثيراً.

الجميع يجلس في العزاء الذي إمتلأ بالمعزين عن آخره والذي يستدعي إنصراف البعض من أهالي القرية ليفسحوا بالمعزين القادمين.

تصل سيارة أمام البيت وتنزل منها الاء فؤاد البارودي فيلفت إنتباهها هذا العزاؤ الفخم الكبير الذي يدل على أن صاحبه شخصية كبيرة الشأن فتتسائل قائلة:
—لمن هذا العذاء؟
ولكن كل من تقوم بسؤاله يبكي ويتركها ويمشي.
شعرت الاء بالخوف والقلق، شعرت أن الأمر يوحي بأن أحد أفراد العائلة قد وافته المنية فيدق قلبها خوفًا على والدتها، ولم يخطر ببالها مطلقاً أن المتوفي هو والدها، تسرع الاء بالعدو لداخل البيت فترى والدتها تجلس وسط النساء تبكي فقيدها الذي كسر قلبها بفراقه،وقفت الاء ثم سألت بصوتٍ عاليٍ قائلة:
— أمي ما الأمر، من المتوفي؟

الحاجة آمال تبكي بكائاً شديداً، بينما تسرع قدرية وزوجة أخيها سارة إليها فتسرع الاء بالخروج خارج البيت الكبير تبحث عن والدها فتجد أخيهافارس يقف مع زوجها الذي أسرع بالذهاب إلى عزاء الرجال دون أن يعلم أنه للشيخ فؤادالبارودي،ولكن ما إن دلف للصوان حتى عرف وتأثر تأثراً شديداً مقدماً العزاء لعائلة البارودي ويقف معهم ليتلقى واجب العزاء.

فتنادي بصوتٍ عاليٍ قائلة:
—أبي أين أنت؟ أبي أريد أن أراك ليطمئن قلبي.
ولكن لا تجد المجيب، فيسرع إليها أخيها ويحتضنها ويبكي قائلاً:
— قمت بإخفاء الخبر عنكي لعلمي بواقعه الأمر عليكي.

تبكي الاء بكائاً شديداً حتى تغيب عن الوعي فيحملها زوجها ويسرع فارس بإستدعاء الطبيب الذي كان متواجداً بالعزاء فيسرع إليها ويقوم بإسعافها.

يلتف حولها أبنائها والحزن والبكاء يخيم عليهم، يقترب مازن الولد الأكبر لديها ويجلس بجوارها قائلاً:
—أمي لا ينبغي أن تنهاري هكذا، أعلم أن فراقه مصيبة كبرى، ولكن أين الرضا بالقضاء والصبر عند البلاء، أحتسبي يا أمي، ولكي أن تسعدي فجدي كان رجل خير، شديد الإحسان إلى الفقراء والمساكين.

فارس يذهب إلى والدته للإطمئنان عليها فقلبه يكاد أن ينفطر من الحزن على والده وخوفًا على والدته يذهب إليها ويعانقها وهو يقول:
—صبراً أُماه.
تبكي الحاجة آمال حتى يُذهب البكاء بصوتها وتقول:
— فارس إصطحبني إلي غرفتي فأنا أشعر بإجهاد وتعب ولا أقوى على الجلوس أكثر من ذلك.
يمسك فارس بيد والدته التي تسير معه بصعوبة بالغة، ويزداد شعوره بالخوف والقلق على والدته.

تدلف الحاجة آمال إلى غرفتها فتنظر إلى فراشها وتتفاجأ هي وفارس بأنس الذي يرقد مكان جده ويحتضن عبائته، فينفجر فارس بالبكاء ويسرع إلي إبنه الذي لم يشعر به ولم يسأل عنه منذ أن توفي جده، وهو يعلم مدي تعلقه الشديد بجده فيقترب منه ويعانقه فينفجر أنس بالبكاء ويمسك عباءة جده ويقول:
—جدي كان يعلم إنه سيموت يا أبي، فقد رأى رؤية أنه عريس بليلة عرسه ولكن العروسة التي يحبها تبكي بشدة بينما تعلو الزعاريد، فيأتي والده ويخبره قائلاً "دعك من هذه وتعالى معي فالحور ينتظرونك، ويمسك جدي بيده ويذهب معه، وعندما منا نرقص معاً، همس إلي قائلاً:
—سأشتاق إليك كثيراً يا قلب جدك.
يواصل أنس حديثه ويقول:
—عندما أخبرني برؤيته أخبرني أن تأويل هذه الرؤيا هو أن موته إقترب، وعندما بكيت يا والدي عانقني وضحك معي قائلاً:
_" والدي يخبرني أن هناك عروس من الحور العين تنتظرني، فوالدي لا يعلم أن جدتك هي حور العين التي ملأت قلبي وعيني بحبها".
وهنا سقطت الحاجة آمال على الأرض ليتوقف قلبها ويعلن عن اللحاق بزوجها ورفيق دربها، ماتت الحاجة آمال وعلى الحزن والبكاء والصياح مرةأخرى بالبيت الكبير.

الجميع يشعر وكأنهم داخل كابوس مفزع، ويتمنون الإستيقاظ منه.

تم نقل الاء البارودي إلى المشفى لإصابتها بإنهيار عصبي بينما فارس ظل بحجرته بعد أن شيع والدته إلى مثواها الأخير، لترافق زوجها وحبيبها الذي لم تقوى على فراقه.

قدرية تلتف حول أبناء الاء وتحاول تهدئة أبنائها وطمئنتهم على والدتهم قائلة:
— لا تقلقوا فستكون بخير، ولابد أن تتمالكوا أنفسكم حتى تعينوها على تخطي هذه المرحلة الحرجة.

تبتسم قدرية أمام نازن ونهال لتجعلهم يتناولون ما أعدته لهم من طعام، بينما قلبها ممتلأ بالحزن والآسي على أحبابها الذين فارقوها في يومٍ واحد وبدون أي مقدمات.

تسرع لتبحث عن إبنها أنس الذي قد إختفى ولم يراه أحد، بحثت عنه في كل مكان فلم تجده فدلفت لغرفة فارس لتخبره قائلة:
—أبحث عن أنس ولم أجده، أشعر بالقلق الشديد على ولدي، يخرج فارس من غرفته وقد طالت لحيته حزناً على والديه، فيسرع ويقوم بالأتصال على الحاج مراد ليسأله عن إبنه أنس فيخبره أنه لم يراه من تشيع جنازة الحاجة آمال.


وفجأة تشعر قدرية بالقلق يزداد بداخلها فتقول:
— فارس أخاف أن يكون أنس قد ذهب إلى المقابر بمفرده.
فيسرع فارس ومعه أحمد أبن عمه وجميع شباب العائلة، ويتوجهوا ناحية المقابر.

وفي المقابر يجلس أنس بجوار قبر جده وجدته يبكي ويقول:
—-لماذا قمتم بتركي، لماذا لم تصطحباني معكم، لا أستطيع أن أحيا حياة لستم بها، ويحتضن قبر جده ويقول:
— الم تخبرني يا جدي أنني سأكون معك ولن أفارقكم، لماذا أخلفت وعدك لي؟
ومن كثرة البكاء ينام أنس من التعب والإجهاد، فيحلم بجده يربت على كتفه ويقول:
— لم أخلف وعدي معك فدائماً ستجدني بجوارك، ولكن لو علمت منزلة جدك لما بكيت وظللت سعيد وفرح لما يجده جدك من خير.

يمسح أنس دموعه ويقول:
— وجدتي أين هي؟
فيبتسم الجد ويقول:
— هى معي في النعيم يا بني، فمهما أصف لك يا بني لن أستطيع وصف ما نجده، إنها الجنة يا بني التي أرى مقعدي بها، فأوصيك بالخير والصدقة الخفية التي لا يعلمها إلا الله.

تأتي جدته وتحدثه قائلة:
— أوصيك يا بني بأبيك وأُمك خيراً، وأخبرهم الأ يحزنوا وليحتسبوا فما نراه هنا يجعلنا نتمنى الموت من وقت طويل حتى نهنأ بما نحن فيه.

وفجأة أختفي الجد والجدة ليستيقظ أنس وينادي قائلاً:
—جدي جدتي أين أنتم.
فيصل فارس ومن معه بالكشافات الضوئية ليجدوا أنس بجوار قبر جده فيسرع إليه ويقول:
— أحمد الله يا بني على سلامتك، كيف ظللت هنا في هذا الظلام الدامس.
ينظر أنس إلى والده ويقول:
— أبي لم يكن هنا ظلام النور كان يخرج من قبر جدي ينير لي.
تعجب فارس ونظر إلى أحمد إبن عمه الذي دنا من ابن أخته وعانقه وهو يبكي ويقول:
— هل رأيت نوراً يخرج من قبر جدك حقا يا بني؟
نظر إليه أنس وقال:
—نعم يا خالي هل تعرف عني غير الصدق؟
أبتسم الخال وعلق قائلاً:
— لا والله يا بني لم أعهد عنك غير الصدق.

فنظر أحمد البارودي إلى أبن عمه فارس البارودي وعلق قائلاً:
— أبشر يا فارس إنها حسن الخاتمة.

أنس نظر إلى والده وأشفق عليه بعد رؤيته للحالة التي بدى عليها فيقول:
— يا أبي معي رسالة من جدي.
تعجب فارس وقال:
— رسالة من جدك! وما هي هذه الرسالة؟
إبتسم أنس إبتسامة رقيقة وتحدث قائلاً:
— جدي يخبرك الأ تحزن فهو يرى مقعده من الجنة، وأنه لو كان يعلم ما ينتظره من نعيم لتمنى الموت من وقت طويل.

أما عن جدتي فقد حدثتني قائلة:
—أوصيك بأبيك وأُمك، وأن أخبركم الا تحزنوا وأن تحتسبوا عند الله فنحن في منزلة عالية.

إبتسم فارس وعانق ولده قائلاً:
—نعمة الرسالة ونعم حامل الرسالة، لقد أزلت هموماً وأحزاناً ملئت قلب أبيك.
ثم ينظر إلي أحمد إبن عمه ويقول:
— أسمعت يا أحمد ما قاله ولدي أنس.
أبتسم أحمد وقال:
—نعم يا أبن عمي سمعت وسأبلغ هذا لوالدي فحزنه على أخيه يكاد أن يتسبب في هلاكه، فربما يخفف ذلك عنه أحزانه.

يعود فارس إلى البيت الكبير ومعه ولده وأبناء عمته، فتسرع إليه قدرية وتعانقه وتبكي قائلة:
— كاد قلبي ان ينفطر من الخوف عليك يا بني.
إبتسم فارس وأخبرها قائلاً:
— لا تبكي ومن اليوم لا أريد بكائاً في هذا البيت هذه وصية والدي ووالدتي التي أوصوا بها لإبني أنس.
تعجبت قدرية من حديث فارس وتسألت قائلة:
— ما الأمر يا بني ما الذي يتحدث عنه والدك.
أنس يضع يده على كتف والدته ويقول:
— لا عليكي يا أمي، فالبكاء لا يجدى نفعاً.

نظرت قدرية إلى فارس وقالت:
— أين وجدت أنس؟
فارس يخبرها قائلاً:
— عند قبر جده.
قدرية تضع يدها فوق صدرها وتعلق قائلة:
— في الظلام وبالمقابر كيف حدث ذلك الا تخاف يا بني؟!
نظر إليها أنس وقال:
— لم يكن هناك ظلام يا والدتي فقد كان هناك ما يؤنس وحشتي.

تعجبت قدرية وقالت:
— أنا لا أستطيع فهم شيء مما تقوله يا أنس، فالنور لم يصل بعد إلى المقابر فكيف إستطعتأن تجلس ومن الذي كان يرافقك هناك.

أنس يخبرها قائلاً:
— أمي إنني أشعر بالتعب والحاجة إلى النوم.

يربت فارس على كتف ولده ويخبره قائلاً:
— إصعد إلي غرفتك وخذ قسطاً من الراحة.

نظر إليه أنس وقال:
— أبي لي عندك طلباً ورجاًء.
نظر إليه والده وقال:
— ما الأمر يا بني سل ما شئت.
أنس يخبر والده عن إستحياء ويقول:
—أريد أن أنام بغرفتهما، من فضلك يا والدي.

إبتسم فارس وقال
— ليس هناك من هو أحق بالغرفة منك يا حبيب جدك.

شعر أنس بالسعادة وأسرع إلى غرفة جده وتمدد في سريره وذهب في ثبات عميق.

وفي الصباح توجه فارس وأنس إلى المشفى لرؤية أخته الاء وليطمئن عليها.

دلف فارس إلى الغرفة المتواجدة بها أخته التي ما إن رأته حتى بكت بكائاً شديداً فيدنو منها فارس ويخبرها بماحدث ليلة أمس فتشعر بإرتياح شديد وتخبره قائلة:
— أبن أخي وحبيب قلبي أعلم مكانتك لدي جدك وجدتك ومدى تعلقك بهم، ووجودك بالقرب منهم جعلك السبب في طمئنة قلوبنا على والدينا.

أبتسم أنس وقبل رأس عمته ويدها وقال:
— عمتي الغالية كان يخبرني جدي عنك ويقول" إنكي النجمة المفضلة في سمائه".

إبتسمت الاء وقالت:
— دائماً يابني كان يخبرني ويناديني بالنجمة.

تتابع الاء الحديث وتقول:
— رحم الله ملائكة كانوا يسيرون على الأرض ويعيشون معنا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي