الفصل 58

قامت شما من مكانها على أثر سماعها صوت طرق الباب, وما أن فتحت؛ حتى تجهمت ملامحها؛ فقد كان الطارق الكابتن أنس.
رحبت به على مضض وأشارت له بالدخول.
دخل يتأمل أثاث الشقة فقال باعجاب:
_ ذوقك واضح منه شخصيتك, وأعتقد إنه مشابه جداً فى فخامة أثاث بيتك الآخر, ولأنى ونظراً لطبيعة عملى؛ فقد حطت أقدامى فى كل أنحاء العالم؛ حتى صرت أستطيع أن أصنف ذوقك أنه شبيه بالتراث الانجليزى القديم؛ فيبدو أنك ممن لا تستهويكى الموضة فى الأثاث بل تهوين العتاقة والدفء.

كان الأثاث حوله حقاً كما وصف؛ فجميع الأثاث يميل إلى البنى الداكن, والمزخرف منه يميل إلى الزخرفة الكلاسيكية الإنجليزية.
حتى أن هناك كان يوجد ركن واضح منه إنه ركن اعد خصيصاً للقراءة, وشرب القهوة نظراً لوجود مكتبة عتيقة, وبجوارها طاولة موضوع عليها فنجان قهوة واضح من الأبخرة التى تتصاعد منه إنه لتوه قد أعدته, ونظر لتلك الأريكتان المغطتان بالكامل من القماس المزركش بألوان ورود داكنة تشع دفء خاص بهما يضفى العراقة لهذا الركن.
حتى تلك الشرفة قد صممتي ستائرها على نفس التراث القديم, وكأنى الآن أقف فى إحدى البيوت الإنجليزية حقاً؛ فذوقها لا يدل على أمثال بيوتنا المصرية لا القديم منها, ولا الحديث.

أطلق صافرة إعجاب وأكمل قائلاً:
_ حتى إنك لم تنسى تلك المدفأة, وذاك الكرسى الهزاز أمامها, وكانك إستهواك أن تعيشين فى نفس أجواء الماضى.

عاد وإبتسم لها, وإستأذنها أن يجلس على إحدى هاتين الأريكتين, وطلب منها أن ترافقه الجلوس على الأريكة المقابلة منها.

إبتسمت له شما إبتسامة باهتة, وقالت وهى ترقبه يجلس, ونفذت رغبته فى الجلوس على الأريكة المقابلة لها :
_ تحليلك كله سليم, ولكن ما لا تعرفه؛ فعلى الرغم أن هذا الأثاث هو ما يستهوينى, وبالطبع فقد رأيت شبيهه فى بيتى الأخر؛ إلا أنى يؤسفنى أنى أذكر لك أن كل هذا الأثاث لم يكن لى أى لمسة, أو إختيار؛ بل جهزه لى هشام زوجى, وكان فى عجاله من أمره.

أنس :
_ أحقاً هذا ؟ إن كانت كل تلك الفخامة, وكان هو فى عجالة من امر؛ فكيف كان سيكون البيت إن كان معه الوفرة من الوقت ؟!

شما وهى تضع ساق فوق الأخرى :
_إن أردت أن تعرف الإجابة؛ فيجب أن ترى بيت هشام الذى هو بيت الزوجية الخاص بنا؛ فكان أفخم من هذا بكثير؛ حتى أن هناك من الغرف قد أتى لى بها من إنجلترا نفسها, والبعض الأخر من لندن.

أنس :
_ أوه يبدو أنه عاشق لك عشق كبير؛ فمن يتحمل تكاليف شراء أثاث من لندن, ونقله إلى القاهرة؛ إلا إذا كان الطالب فريد فى حبه ؟

إبتسمت شما وقالت:
_ ليس كل صاحب حب فريد, سعيد بحبه!!

كان رده إبتسامة عذبه, ولم يعلق؛ فهو يعلم ما تقصده؛ فقد كان لديه معلومات كافية عنها من سماح.

قامت من مكانها وقالت:
_ ساعد لك فنجاناً من القهوة؛ ولن أسألك فقد علمت من سماح ما هو مذاقك لها.
تحركت خطوتين نحو المطبخ؛ إلا إنه توقفت مولياه ظهرها, وهى تسمعه يرد عليها قائلا:
أنا أيضاً لدى الكثيرعنك, وإن سمحتى لى بالتوغل فى الحديث معك؛ إن قبلتى صداقتى.

نظرت له بجانب وجهها, وقالت متحديه إياه:
_ لا أقبل صداقة بسهولة؛ خاصة تلك الصداقة التى لا تأتى إلا بإجبارى على موقف معين.

قال لها متحدياً:
أنتى تعتبرين المواقف التى لا تستهواك مواقف إجبار, ولم تعط الفرصة لمن هم حولك التبرير؛ فربما إعتبروك هم أيضاً أن وجودك فى حياتهم جاء بالإجبار.

أكملت خطواتها نحو المطبخ, وهى تردد بصوت مسموع:
_ أنا لم أفرض نفسى على أحد قط؛ حتى زوجى, ومن يعتبرنى أننى كنت جبرً عليه؛ فعدمه فى حياتى أفضل, وأيسر, على كل حال فأنا لا أبقى على أحد لا يستهوينى, ولا تستهوينى مواقفه.

كانت عند تلك الجملة قد إختفت عن نظره إلا انها لا تزال فى مقدورها أن تسمعه؛ مما جعله يقول لها بنفس التحدى وكأن الحديث كله أصبح بينهما إرتجالياً, عبارة عن مناورات تحدى بينهما على من منهما سيكسب الجولة لنفسه؛ فهو لا يحب أن يقف موقف المدان؛ لأنه على يقين أنه لم يفعل الخطأ, وأن لا شأن لشما بما فعله.

فى حين أن هى الأخرى تشر أنه على حق؛ فعلاقتها بسماح تعطى لها هذا الحق, وأنه أخطأ عندما تزوجها بهذه الطريقة :
_ إن كنت صادقة فيما تقولين|؛ فلما لم تفلحى فى إقلاع من آذاكى, وتركك؟!

هنا سمع صوت إرتطام وصوت تهشم زجاح؛ ربما زجاج كأس أو أى شىء فى المطبخ, وهذا ما جعله ينتفض مفزوعاًً عليها, ومؤنباً لنفسه فى ذات الوقت؛ فهو قد زاد التحدى معها قاصداً إيلامها أو كسرة كبريائها؛ حتى يتسنى له كسب الجولة الآتية معها.

قام من مكانه باحثاً فى الممر على مكان المطبخ, وقد فلح فى الوصول؛ فقد كان المطبخ أول شىء فى الممر. وما أن وقف أمامها؛ حتى وجدها تمسح دمعه قد إنسابت منها عن عدم إرادة منها, وقد أفرغت غلها بكسر الكأس الزجاجية.

إعتذر لها, ومال يلملم الزجاج؛ فلملمت هى حالها وقالت لا عليك؛ فقد سقط منى دون إرادة.
أترك البقية, وأنا سأنظفها وإنتظرها هو فنجان قهوتك؛ قد إنتهيت من إعداده.

اخذ منها الفنجان وخرج, ولملمت هى البقية من الزجاج المتناثر, وتبعته للخارج.
أنس محاول تغيير مجرى الحديث :
_ أعتذر أنى قد أتيتك دون أن أستاذن السيد هشام, أو السيد آدم فإغفرى لى هذا.

شما :
_ لاعليك فآدم أنا قد أخبرته أنك قادم, وهو فى الطريق إلى هنا و سيصل خلال تلك الدقائق القادمة.

شعر أنس أنه لا مجال للمناورة من جديد, ولا داعى للتحدى؛ فخوفها على سماح حتم عليها أن تتصرف؛ هكذا وهذا شىء لا يشين تصرفها؛ بل هو شىء يحسب لها لا عليه, وتذكر كذلك سماح وحبها لشما؛ فشعر أنه لابد له أن يتلطف فى حديثه. لأنه إن ظل على نفس الحال سيكون رغم مكسبه لأن الوضع لن يتغير على أية حال؛ إلا أن سماح لن تكون متقبله لتصرفه ولهذا قال بود :
_لندخل إذن فى موضوعنا. وأول شىء لابد أن تسمعيه منى, هو الإعتذار لك, ولكن صدقينى لم يكن هذا ذنبى؛ إنما هو ذنب سما على أية حال؛ فهى بعفويتها وأنوثتها اوقعتنى دون ترتيب منها, ودون قصد منى فى حبها؛ فقد وجدتنى بلا شعور وبلا ترتيب أنقاد نحوها.
نحو أنثى بمعنى الكلمة . نحو أنثى شعرت معها بذاتى, وعادت إلى نفسى, ورجولتى وصدقينى؛ لم أفكر يوماً أن ألعب بمشاعرها, أو أستغل موقفها, وكل ما فعلته هو رغبة منى وحباً لها.

ظل الحديث بينهما قرابة الساعتين تخللها وصول آدم الذى لم يحاول أن يتوغل فى الحديث؛ بقدر ما حاول أن يهدىء الأجواء بينهما كلما شعر أن الأمور تسير نحو منحنى متهور.
وأخذ يلطف الجلسة بإعداده مشروب الكاكاو مرة, ومرة الشاى الأخضر بالنعناع, ومرة أخرى يلطف بالمواقف الغريبة؛ حتى سارت الجلسة لينة. كلاً منهم يتحدث عن شىء أخر خارج الموضوع الاساسى.

إنتهت الجلسة؛ وقد طيب أنس خاطر شما, وتواعدا على مفاجأة قريبة لسماح, وانه لن يأخذها لبيته؛ حتى يهيىء لها الأجواء مع زوجته, وأن يجهز لها غرفة كاملة بجناح خاص بها؛ ليضمن لها الخصوصية.

قام أنس وقد تبدل الشعور لديه من التحدى إلى الألفة, والشعور بمقدار حب شما لسماح,
وكذلك كان الحال عند شما؛ فقد تبدلت فكرتها عن أنس, وشعرت فيه بالرجولة وأنه سيصون سماح, وانه لم يكن ذاك الرجل الذى كانت تعتقد إنه إستغل طفولتها وبرائتها, وحاجتها.
..........................
فى صباح اليوم التالى وهو اليوم السابق على حفلة الزفاف كانت شما مشغولة إلى حد كبير بين القاعة, ومكتبها؛ ثم أسندت بقية المهام إلى موظفيها وغادرت لبيتها؛ لتكمل معهما التنسيق ولتبشر؛ سماح بأنها قد وصلت لإتفاق مع أنس.

كانت سهيلة تنظم غرفة عرسها فى شقتها, وتنسق مزهريات الورد فى كل ركن, وتنسق شكل الستائر, وتنثر العطور, وترتب ملابس آدم فى الخزائن, وكأنها ليلة زفاف حقيقية بين عاشقين دام حبهما لسنوات؛ فما أعطاه آدم لها فى تلك الأيام البسيطة كفاها؛ كما لو كانت عاشقة فى الحقيقة منذ سنوات, والآن يتوج حبهما بالزواج.

دخلت عليها والدتها وأخذت تجول بنظراتها فى كل جوانب الغرفة بغيرة, وقالت لها :
_من يراك هكذا يقول أنك عاشقة منذ زمن, وعلى حسب حديثك لنا ذكرتى أن حبكما كان منذ وقت قصير!

سهيلة بكبرياء وثقة:
_ من تختار آدم زوجاً لها, او حبيباً, أو حتى صديق؛ لكفاها فى أى جانب إختارته فيه, أقصد أنى إن كنت اإخترته كصديق؛ فانا متأكدة أنه سيكون لى خلاً وفياً, وإن إخترته حبيب لعشت معه أجمل قصة حب تغلب كل الاساطير, ولكنى إخترته زوج وانا على يقين أنى سأجد فى زواجه كل معنى للحبيب, وللصديق, وللأخ, وللسند؛ فلا تنكرى يا أمى أن بعدكم عنى جعلنى فى حاجة دوماً للسند؛ حتى أنى إعتمدت على نفسى وكأنى شخصاً آخر أستند على نفسى؛ ولكن ما أن تعرفت على آدم ؛ حتى صار للسند معنى آخر ,وصار للغيرة عندى منظور آخر فالغيرة الحق هى تلك التى أراها فى عيون آدم
صمت للححة تخيلته امامها فابتسمت بحالمية وكأنها تتحدث له وجهاص لوجه.
_أما عن الرجولة فسأتحدث دون أن أمل ولا أنتهى! وكأنما كل خصال الرجولة إجتمعت؛ لتكون له وحده.

كانت سهيلة فرحة جداً بكلامها هكذا عن آدم, كما أنها كانت تشعر بنشوة غريبة وهى ترى الغيرة تلمع فى عيون أمها؛ إذ أنها كانت تشعر أنها حقاً أصبحت بمفازة يوم أن إختارت آدم.

والدتها بغل: الله يسعدك إبنتى, ولكن أخاف أن تملى من وجودنا معك فى البيت, فكانت نيتنا هو حضور حفل زفافك ليس إلا؛ ولكن ما دبت قدماى أرض مصر؛ حتى شعرت بالحنين وصممت أن نقيم لنا هنا فرع لشركتنا.
كانت سهيلة تنظر لها بضيق فهى تعلم أن أمها لم تقل ذلك إلا بغرض أن تغلها؛ وما حبها لإقامة فرع هنا إلا لإرادتها أن تبقى بجوار آدم.

تحركت أمها قليلاً نحو طاولة فى منتصف الغرفة, وأخذت تداعب تلك الورود التى فى المزهرية وتكمل قائلة بخبث:
_لهذا إتفقت مع والدك أن نترككما تنعمان بأيامكما الأولى؛ ثم نعود ونمكث معكما هنا؛ حتى ننهى أوراق الشركة لأنه لن يصبح لدينا وقت كاف لنبحث عن شقة أخرى لنا.

ظلت سهيلة صامتة ولكن ملامحها المتجهمة قالت أكثر مما كانت تستطيع تعبيره بلسانها.
تحركت والدتها ناحيتها مرة أخرى وربتت على ثغرها, وقالت لها بإبتسامة ماكرة: أرجو إلا تنزعجى منا بنيتى.
...........
جميلة :
_ أبشرى يا سماح؛ فقد بشرتنى شما أنها قد اتفقت مع أنس ومر الموضوع بسلاسة. ألم أقل أنا وسهيلة أن أنس ذكى, ولن يخسر الجولة أمام شما.

إبتسمت سماح بدلال, وعادت إليها حركاتها الطفولية وقالت لجميلة :
_ أمممم إن الموضوع قد مر لأن شما تحبنى, ولا تريد خسارتى؛ فأنا يا جميلة الجميلات لن يعوضنى أحد؛ اما عن أنس حبيبى فأنا أعلم أنه ذكى؛ ثم غمزت بطرف عينها لجميلة وأردفت وجذاب أيضاً.

هنا لم تتحمل جميلة وقذفتها بوسادة كانت جوارها وقالت :
_ ااااه منك أيتها الشيطانة, أنا فقط هونت عليكى الأمر لتعودى إلى صحتك, ولكنك مغرورة

سماح وهى تضحك بعمق :
_ ااااه لقد أصابت الوسادة طفلى الوسيم مثل أبيه. لقد كنت أنوى أن أسميه جميلة إن كانت طفلة وبفعلتك هذه لن أسميها أبداً جميلة, وأخرجت لها لسانها لتكيدها.

جميلة بضحك عليها :
_ أيتها الكاذبة الماكرة أنا أعلم أنها إن كانت طفلة لن تسميها أبداً جميلة؛ بل كنتى ستسميها شما, وإن انجبتى الف طفلة ستسميهن جميعهن شما .

سماح بسخرية:
_ نعم شما واحد, شما إثنان, شما ثلاثة, شما ألف ههه

جميلة:
_على العموم سأعقد إتفاقية مع سهيلة إن أنجبت طفلة عليها أن تسميها جميلة.

سماح :
_ هل تعتقدين أن سهيلة ستنجب حقاً من آدم ؟! أى سيصير زواجهما حقيقياً!!

جميلة :
_ أنا متأكدة من ذلك فكلاهما العشق واضح جلى فى عينيه, ولكنه قد يتأخر قليلاًً لأن آدم كما تعلمين شهم, ولن يأخذ الأمر هكذا؛ حتى لا يقال أنه إستغل الظروف, أو تجنى عليها بل سيتركها؛ حتى تأتيه بنفسها, وهى عاشقة.

سماح وعادت إلى مناغشتها:
_ إذن إنسى أن تسمى سهيلة جميلة؛ فإبنة آدم ستسمى شما أيضاً.

ثم غمزت لها بطرف عينها وقالت, ولكن من المؤكد أن يونس سيسمى إبنته جميلة على إسم أمها.

إحمرت وجنتا جميلة ولم ترد.

سماح بخبث:
_هل تواعدتما على موعد للزفاف؟

جميلة بخجل:
_ لا هو لم يطلب منى هذا على الإطلاق, ولكن جلستنا كانت جلسة صراحة بيننا وتعارف بعضنا البعض على حقيقة الآخر مجرده.

سماح:
_ليس بعد هذا إلا الزواج.

جميلة بحزن :
_ أخشى أن أكون له مجرد حالة ساعدته على الشفاء مما كان فيه؛ ولكن إن وقف على الحقيقة والإختيار بالتأكيد لن يختار عاجزة؛ فما عندى لأعطيه له ؟!

سماح بحزن :
_ أنتى عندك الذى لن يجده عند غيرك, ولكنك تظلمين نفسك.

قطع كلامهما صوت مفتاح الباب فعلموا أنها شما.

إضطربت سماح, وهربت بسرعة لغرفتها خجلاً من شما.

فتح الباب, وولجت شما من الباب, وغمزت لها جميلة؛ ففهمت شما أن سماح كانت تجلس معها؛ فابتسمت وتقدمت نحوها, وسلمت عليها وقالت لها بصوت هادىء :
_ سأدخل لها, وأخبرها بما دار مع أنس؛ ثم جهزى حالك فلدينا موعد.

جميلة بتعجب: اى موعد هذا ؟!

شما وهى تربت على صدغها:
_ لا تقلقى حبيبتى جهزى فقط حالك, والبقية على.

كانت سماح تقف خلف الباب سترق السمع؛ لتفهم ما تقوله شما, ولكنها لم تسمع, وعندما شعرت أن شما تحرك مقبض باب غرفتها ركضت مسرعة, وإنكمشت فى سريرها, وتدثرت فى عجالة,
ولجت شما وقد شعرت بركضها, وما كانت تفعله؛ فنظرت إليها؛ فلم تستطع سماح أن ترد إليها النظرة؛ فانكمشت فى مكانها وهى خجلة مضطربة؛ فبتسمت شما عليها وإقتربت منها, وجلست بجوارها على طرف الفراش؛ فانكمشت سماح أكثر, وكادت تختفى تحت الملاءة التى كانت تتدثر بها.

مدت شما يدها وسحبت عنها الملاءة بهدوء وقالت مناغشة لها :
_ ألم تستوحشى حضن أمك ؟!

هنا لم تستطع سماح الإنتظار, وإنكضت نحو شما, ودفنت رأسها فى صدرها, وأنفجرت باكية وأنهالت بالآف الإعتذارات فى ألفاظ متتالية.

شعرت بها شما؛ فضمتها أكثر ومدت يدها تمسح بها على شعرها, وقالت لها:
_ لم أعد أصدق أنك من هى فى صدرى الأن هى نفسها تلك المخبولة التى كثيراً ما صدعتنى بمناغشتها.

ضحكت سماح ولم تزل دافنة رأسها فى صدرها.

شما وهى لازالت على نفس الوضح تمسح على شعرها:
_ولم أصدق أيضاً أن تلك المخبولة؛ ستنجب لى أجمل مخبولة صغيرة مثلها.

هنا إبتعدت سماح عن صدرها وقالت:
_ سأسميها شما.

هنا كان البكاء من نصيب شما؛ فضمتها إلى صدرها مرة أخرى وأردفت بدموع :
_ لا يهمنى تسميها شما أو أى شىء, ما يهمنى أن تقومى أنتى لى بألف سلامة وأراك بعينى وأنت أم جميلة, وأنا جدة لأجمل طفل أو طفلة.

عانقتها سماح وأخذت تقبلها فى جميع أنحاء وجهها, وتمسح عنها دموعها وقالت لها:
_والله ما يهمنى فى كل هذا؛ سوى رضاك. وأعلم أنى أخطأت فى حقك قبل أن اخطىء فى حق نفسى؛ ولكن أيضاً أعلم أن بين جنباتك قلب كبير يغفر الذلات.

إبتسمت لها شما وقالت:
_ وهل تغضب الأم من إبنتها مهما حدث؟ فمن الجائز أن تغضب عليها, وتقسو؛ ولكن إن كان لمصلحتها, ولكن فى النهاية تغفر وتسامح وتنسى.

ساد الصمت بينهما حتى كسرته شما قائلة:
المهم من الآن أريدك أن تهدأى وتنسى سماح الشقية؛ حتى لا تؤذى طفلك؛ فتمهلى عليه من حركاتك السريعة الغير محسوبة هذه, ولا تهلكى نفسك فى أى شىء, ومن اليوم سأجلب لجميلة مساعدة.
صمتت للحظة وكأنها أتتها فكرة لم تكن خطرت لها على بال من قبل ثم قالت:
_أو ربما طلبت من صفوة أن تأتى لتساعدها, وأنتى ستلازمين الفراش؛ حتى يجهز أنس جناحك هناك؛ ثم سردت لها ما دار بينها وبين أنس وما إتفقا عليه.
.........................
إنتهى الحوار مع سماح وخرجت شما لتجد أن جميلة قد تجهزت بالفعل.

شما وهى تبتسم لها إبتسامة عذبة:
_هيا بنا أيتها الجميلة, وبدأت تحرك كرسى جميلة نحو الباب إستعداداً للخروج, وأردفت كلامها قائلة . فى الحقيقة لا أعرف سبب مناداتى لك بالجميلة. هل هو وصفك الذى غلب إسمك؟! أم جمال إسمك الذى غلب وصفك؟!

جميلة ولازال التوتر مسيطراً عليها :
_إلى أين نحن ذاهبين يا شما؟

شما وقد إستقرت أمام سيارتها وفتحت الباب, وبدأت تساعد جميلة فى الركوب جوارها؛ ثم أغلقت كرسيها, ووضعته فى المقعد الخلفى, وبعدها جلست هى خلف المقود, وقبل أن تتحرك نظرت لجميلة وقالت:
_ لا تقلقى يا عزيزتى لدينا موعد مع أكبر جراح مخ وأعصاب؛ فأنا لم أستهين بشكواك من ألم أعصاب ساقيك.

جميلة بخجل ويأس فى آن واحد:
_ لما هذا يا شما؟ فلا داعى لنضع آمال واهية؛ حتى لا نعود لنطفى الحزن على السطح من جديد.

شما :
_ولما حكمتى أنه سيكون حزن؟ ولما لم تعطى للفرحة طريق لطرق أبوابك؟

جميلة :
_ لقد قص علي يونس كل شىء يا حبيبتى, وعلمت مقدار تفانيك لأجل إسعادنا. جعله الله لك فى حياتك قبل آخرتك.
شما بإبتسامة وهى تحرك المقود وبدأت السيارت تتحرك:
وأنا لا أريد أكثر من تلك الدعوة.
..........................
فى بيت أنس
والدته ترقد فى فراشها مريضة, وهو يجلس إلى جوارها على طرف الفراش, ويداعب إبنة أخته الصغيرة, وهى تلعب بعروستها بجوار جدتها.

والدته ببكاء:
_كم هى سعادتى الآن يا بنى؛ فكم كانت أمنيتى فى كل ليلة أن أرى لك طفلاً يكون عوضاً لك على تلك الحياة؛ التى لم تعشها يوماً, وبقدر فرحتى يتساوى معها حزنى لأنى على يقين أن عمرى لم يمهلنى لأشبع منه؛ كما كنت أتمنى؛ فقد جاء فى وقت أودع أنا فيه الدنيا.

أنس برفق:
_لا تقولى هذا يا أمى, ولا تستسلمى لليأس والأوهام؛ فكل ما فى الأمر قليل من الإرهاق.

الأم بإبتسامة حزينة :
_يا ولدى إنه ليس إرهاق. إنه جزء من أمراض الشيخوخة؛ التى إن بدأت؛ إلا وتوالت الأمراض بسبب, أو بدون سبب. المهم فى النهاية أن النتيجة ستكون واحدة. ألا وهى أنى سأصبح إنسانة طريحة الفراش. وعبء على كل من هم حولى.

أنس :
_ أمى كفاك هذا الحديث؛ فلا أرى منه بد, ولا أرى فيه إلا إستسلام متعمد؛ للهروب من الحياة.

والدته وهى تمسد شعر تلك الصغيرة:
_ والله كنت أنشغل بحالك وبهمومك وأدعوا الله أن يعوضك, ولكنى الآن وقد قر الله عينى بخبر حمل سماح؛ أصبح أكبر همى, هى تلك الصغيرة؛ التى لم أستسيغ فكرة أنى سأموت وأتركها هكذا وحيدة.

أنس:
_كيف هذا يا أمى؟ وهل أنا منها لست برفيق عليها؟ أهذا إعتقادك عنى ؟

أمه:
أعتذر لك يا بنى؛ فهذا لم أقصده بالمرة؛ وربما خانتنى كلماتى؛ فلا تعقب على هذيان عجوز مثلى, ولكن ما كنت أقصده هو وجود أم حنون لها؛ فمهما كان وجود الأب مهماً؛ فالأم فى حياة بناتها أهم, وكنت أتعشم أن يرق لها قلب نهى, ولكن للأسف فنهى بعد فضائح والدها وشعورها بالكسرة إنغلقت على نفسها تماماً وتحولت لرماد يأكل نفسه؛ فعلى الرغم من سكينتها الآن؛ إلا أن وجيعتها جعلتها إمرأة تائهة, تتخبط بين السلام النفسى, وبين تكبرها, الذى إعتادت عليه؛ فهى قد تتقبل تلك الصغيرة؛ كنوع من الأشياء التى ربما أنستها ما حل بها وتعوضها, عما حرمت منه, ولكنك لا تأمن عليها فقد تتحول فى نفس اللحظة لإمرأة عنيدة, متكبرة, ترفض الصغيرة فى حياتها بالمرة؛ لأنها تشعر أن وجودها يعتبر سبب من الأسباب التى تذكرها بعقمها؛ ولهذا لا أأمن على طفلتى معها .

أنس:
_لا يا أمى يؤسفنى أن أغالطك الرأى؛ فنهى حقاً قد تحولت, وهى الآن فى أشد الحاجة لمن يلمس قلبها بحنانه؛ ليزيل عنها شعورها بأن من حولها يشمتون فيها.

والدته:
_هل أخبرتها ؟
أنس :
_ سأخبرها, ولكنى أتحين فرصة تكون فيها هادئة إلى حد ما؛ لأنى سأصيغ لها الخبر تدريجيا؛ حتى أمهدها؛ لتقبله وإن شعرت منها بعدم تقبلها؛ سأخيرها بالطلاق.

أمه :
_ وكيف حال سماح؟

أنس:
_لم أكن أعلم أنها إستطاعت بفطرتها أن تسلبنى قلبى؛ بهذه الدرجة فشعور إشتياقى لرفقتها الآن يفوق شعور إحتياجى للاطفال؛ فقد كفتنى هى بهذا الشعور؛ فأصبحت أشعر أنها إبنتى وحقاً أصبحت أشفق عليها من إرهاقها فى الحمل؛ فأشعر أنها صغيرة لا تتحمل, وعلى أن أحتويها وأداويها.

إبتسمت أمه وقالت:
ومتى ستأتى بها إلى هنا؟

أنس:
_لن آتى بها إلا؛ وقد جهزت لها مكان يناسبها؛ كزوجة وليست خادمة.

والدته بحزن:
_جهز لها جناح أختك رحمة الله عليها؛ ففيه كل ما تحتاجه من أثاث وكماليات, وهذا لن يكلفك الكثير.

أنس:
_سأفكر فى الأمر, والآن عليك أن تهتمى بصحتك, ولا تفكرى فى أى شىء سواها.
..............
فى عيادة طبيب المخ, والأعصاب, وهو ينظر إلى الأشعة التى فى يده, ووجهه يتلألأ؛ دليل أنه سينطق ببشارة.

بينما كانت دموع جميلة تسبقها؛ فهى لا تريد أن تتشبث بأمل التعافى؛ فربما يصير أمل واهى؛ وفى ذات الوقت لا تريد سماع ما يمحو هذا الأمل؛ فالأمل عندها أهون؛ حتى وإن ظل مجرد أمل ممزوج بألم إستحالة التحقيق.

أخذت تردد بصوت هامس؛ ظناً أنها الوحيدة التى تسمع نجوى نفسها من بعد الله:
_ ربى أعوذ بك من طول التمنى, ومن حرمان الوصول, ومن الطرق المنتهية, والفرحة المنقطعة.

ربى علمنى كيف أختصر أوجاعى فى يقينى بحكمتك, وساعدنى أن أتجاوزها بجرعة صبر.

تغرغرت عينا شما على دعائها؛ فمالت نحوها وقالت هامسة:
_ إن أراد الله شيئاً؛ تعطلت قوانين الحياة؛ فالبحر لا يغرق, والنار لا تحرق, والجبل لا يعصم, والحوت لا يهضم , والعذراء تلد, والرضيع يتكلم ويشهد, والحجريتكلم.

نظرت لها جميلة نظرة أمل أقوى عن تلك التى سبقتها بلحظات, وإبتسمت إبتسامة هادئة دون ان تجيب بحرف.

هنا أتسعت إبتسامة الطبيب, وقال لها:
_من الواضح إنك مررتى بحالة إنهيار عصبى تسببت فى تيبس العضلات؛ التى تشنجت بطريقه قوية, والتى بدورها قد ضغطت على الأعصاب الخارجة من الحبل الشوكى؛ فأثرت على الأعصاب الموصلة للساق, وكذلك عضلاته.

ولهذا فحالتك لم تكن سوى علاج لإلتهاب الأعصاب وتشنجات العضلات؛ فترتخى مبتعده عن الحبل الشوكى؛ فيندفع الدم بسهولة للساقين وينقبض الضغط على فقرات العمود الفقرى.

شما بأمل:
_ أتقصد أن تشنج العضلات هى السبب؟

الطبيب: الأمر ليس بهذه السهولة, ولكن للتفسير المبسط, فجميلة لديها وراثة ضعف الأعصاب بالحبل الشوكى, ولما تعرضت لصدمة إلتهبت الأعصاب, وتشنجت العضلات فضغطت على أعصاب الحبل الشوكى؛ التى بدورها كانت ضعيفة؛ فتسببت فى حالة الشلل.
ومع إستمرار الحالة فقدت بعض فقرات العمود الفقرى جزء من غضروفها؛ فتلامست الفقرات؛ فتثاقل الشفاء, وعلى العكس؛ فدوام جلوسها وعدم حركتها جعل جزء من فقرات أخرى يضمر غضروفها فيها.

ولهذا فنحن سنواظب على علاج تقوية الأعصاب من ناحية, وعلاجات أخرى لإنبساط تيبس العضلات؛ ثم سنجرى جراحة فى العمود الفقرى؛ لحقن الفقرات بالغضروف.

جميلة بخوف:
_عملية جراحية؟

شما وهى تربت على كتف جميلة؛ كنوع من التهدأة وقالت :
_ نحن جاهزين لإجراء العملية من اليوم.

الطبيب موجها حديثة لجميلة؛ ليهدأ من روعتها :
_ إنها عملية بسيطة؛ لن تستغرق أكثر من ساعة على الحد الأقصى؛ ثم أن تقدم الجراحة فى هذا المجال جعلها من أبسط الجراحات؛ وسوف نجريها بالمنظار؛ فجزء نحقنه, وجزء نسحب منه؛ فيتساوى العمود, وتستقيم الفقرات؛ فيقل تيبس العضلات, والأمر كله متشابك.

شما :
_ حدد الموعد ونحن مستعدين, ولكن سؤالى الآن لما شعرت صديقتى بتلك الآلام فى الأعصاب هذه الأيام؟ وكأنها شعرت بالشلل من جديد؟

الطبيب وهو يبتسم ويوجه كلامه لجميلة :
_ إن ما تسبب لها بالشلل؛ هو تعرضها لصدمة نفسية أثرت على كل ما سبق وشرحته, ونفس الشىء حدث عندما تعرضت لعوامل نفسية عكسية؛ مما ساعد الهرمونات على التدفق فأثرت على الأعصاب وهكذا!!

عاد ينظر إلى شما؛ ثم تحرك قليلاً ليجلس خلف مكتبه, وخلع منظاره الطبى, والقى به برفق فوق سطح مكتبه:
_يا سيدتى الجهاز العصبى جهاز مثله مثل كل أجهزة الجسم, قد يصاب بأى مرض أو أى حالة نفسيه تؤثر فيه, وكذلك هناك أجهزة متصلة به تتأثر به؛ كما لو كنا نتحدث مثلاً عن الجهاز الهضمى؛ فبعض الأطعمة تؤثر فيه فيتأثر جزء منه كالقولون مثلاً, ولكننا نجد أن الأمر لم يتوقف عند هذا؛ بل نجد أن الجهاز التنفسى قد تأثر, والجهاز العصبى كذلك؛ مما يجعلك تشعر بتوتر, او صداع ,أو حالة إرتباك نتيجة إنتفاخ القولون.

شما :
_ نعم, نعم هكذا فهمت ما تقصده.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي