السادس وثلاثون الرابع عشر من الجزء الثاني

كان رياض لا يزال بمكتبه، يجاهد لإنهاء عملهُ والتركيز به.

كلما نَفَض الفوضي من رأسه وقرر أن يصُب كامل تركيزه بعمله عادت هي لتداهم عقله وقلبه من جديد.

ألقي القلم من يديه متذمرًا وقال: لااااا.. مش هينفع كده أبدًا!

نهض من مقعده ودلف إلي المغسل المُلحق بغرفة مكتبه، نثر الماء بوفره فوق وجهه وظلّ يتطلع إلى إنعكاس صورته بالمرآه المقابله له، متكئًا علي كلتا كفيه مشرأبًا برأسهُ للأعلي.

كان يفكر مليًا، عقله مشتت في جميع الإتجاهات، إلي أن تردد حديث معتز برأسه من جديد ؛ فعاد إلي مكتبهِ وعلي الفور أمسك بورقةٍ بيضاء وبدأ يخط بها الأحرف والكلمات ثم توقف وقرأ ما قام بكتابته ليمزق الورقه ويُلقيها أرضًا ثم يعود من جديد ويمسك بورقةٍ ويكتب بها ما يودّ قوله ليعود ويمزقها مجددًا.

زفر بحنق وضيق ومسح على وجهه بغضب من نفسه ثم تنهد بهدوء وسمحَ لعقلهِ أن يفكر بتريث قليلًا.

إستعان بسجائره التي لا غني له عنها ؛ فأخرج علبة سجائرهُ وبدأ بالتدخين مغمضًا عينه وصورتها لا تفارق مخيلته.

يتذكر صوتها، حديثها الهادئ الذي آنس وحشتهُ و سرّ قلبهُ، ضحكتها الناعمه التي تبعث في نفسهِ الراحه والسكينه.

وضع سيجارتهُ بالمنفضه ثم سحَبَ ورقةً وأمسك بقلمهِ بكل شجاعه و كتب لها مكتوبًا أسهب بهِ وأطال وإستفاض في الإعتراف بما يكنّهُ لها.

بعد مرور وقت ليس بالقليل، نهض من مكتبهِ ثم أخذ تلك الرساله التي كتبها وأخفاها بجيب سترته الداخلي ثم خرج من مكتبه متجهًا لمكتبها!

توقف أمام مكتبها يفكر كيف يقدم لها الرساله وماذا سيقول فإذ بها تأتي من خلفه وقالت: في حاجه يا مستر رياض؟

إستدار رياض ونظر إليها بإبتسامةً دافئه أصابتها بعدوي الإبتسام ؛ فإبتسمت بدورها ليقول: كنتي فين؟

رَفعَت كوب القهوه من بين يديها أمامهُ قليلًا كإجابه وقالت: لقيت ورايا شغل كتير قُلت أعمل فنجال قهوه، يمكن أفوق.

هز رأسه متفهمًا وقال: طيب.. آاآ.. كنت عايز أقوللك علي حاجه.

تلاشت النظر إلي عيناه الثاقبتان اللتان تنظران إليها بتفحص وثبات وقالت بإبتسامةٍ خجلـي: إتفضل حضرتك.

أخرج المكتوب من جيبهِ وهو يحاول السيطرة على الحرج الذي تملّك منهُ ثم قال: إقرأي الرساله دي الأول وبعدين نتكلم!

نظرت إليه مبتسمه بهدوء وقالت: فيها إيه الرساله دي؟!

_إقرأيها وإنتي تعرفي!

أومأت بموافقه و مدّت يدها تلتقط الرساله من بين يديه ولكنهُ أحكم قبضته حولها فنظرت إليه لتجده ينظر إليها نظرةً يفيض منها العشق، يبث بها كل الوله و اللوعه، نظرةً أنعشت قلبها وكيانها بالكامل.

وكأنهُ كان يريد قول شئ ما بعينيه، وفور أن تأكد من إدراكها لما يقصد أرخي قبضتهُ من حول الرساله لتلتقطها هي بخفه ودلفت إلي مكتبها.

عاد إلي مكتبه ليتلقي إتصالاً من رقم يعرفهُ جيدًا، يحفظهُ كما يحفظ حروف إسمه.

أجاب المكالمه بتوتر يحاول إخفاؤه وأظهر كل قوته قائلًا: Yes, what do you want ( نعم، ماذا تريد؟)

_ Dear Mr. Riad, it has been a long time since you called.(عزيزي السيد رياض، منذ وقت طويل لم تتصل)

= Is there an emergency or something new
(هل هناك أمر طارئ أو جديد؟)

_ no sir, every thing is well.
(لا سيدي، كل شئ علي ما يرام)

= Well, you have to be more careful than before, and don't call me back unless there is an emergency.
(حسنا، عليكم إتخاذ الحرص، ولا تعاود الاتصال بي الا اذا كان هناك أمرا طارئًا.)

أنهي الإتصال وقد أظلمت عيناه وتحول صفاء لونهما إلي سوادٍ حالك..

كان قد نسي الأمر _ أو تناساه_ وصفا ذهنه قليلًا، ولكن علي الأغلب سيظل حبيس الماضي إلي الأبد!

جمع أغراضه الخاصه وغادر المكتب ومن ثم غادر الشركه وإتجه إلي سيارته، أدار محرك السياره ومن ثم قام بإيقافه.. لا يدري هل يريد العوده إلي منزلهُ حقًا أم يريد الذهاب إلي مكانٍ آخر.

إنتبه إليها وهي تقترب منه في طريقها لتستوقف سيارةً ما لتقلها إلي منزلها فدنا منها بسيارتهُ وتوقف أمامها وقال مناديًا: آصال، تعالـي.

تملكها التوتر والحرج وهي تقترب منه ليقول: بلاش تقفي تستني، تعالي معايا أوصلك.

أجابتهُ وهي تنظر حولها بتوتر: معلش أنا هستني وأكيد…

قاطعها بصوتٍ صارم لا يقبل المفاوضه: آصال إسمعي الكلام، إتفضلي إركبي!

فتح باب السياره المجاور لها فدلفت وصعدت إلي المقعد المجاور له ونظرت إليه بتوتر ليقول: خليني أوصلك علي أول الشارع وبعدها لو مش عايزه حد يشوفك معايا إنزلي.

تنهدت بتردد وأومأت بموافقه دون أن تتحدث ولكن نظراتها التي شردت بعيدًا أخبرتهُ عن مدي تخبطها.

_قرأتي الرساله؟!.. تسائل بتوتر مماثل فنظرت إليه و لمّا تقابلت الأعين أشاحت بوجهها جانبًا وكأنها تخشي النظر إليه وقالت: لسه! كنت هقرأها بس بابا إتصل عليا وقاللي أرجع البيت فورا.. لما أرجع هقرأها.

أومأ بعد أن أطلق تنهيدةً مثقله بكل الحيره والتخبط القابعيْن بصدره ثم عاد ينظر إليها وقال: أنا ممكن أسافر كام يوم.

نظرت إليه بضيق إستشفّه هو وقالت: تروح وترجع بالسلامه إن شاء الله.

_إن شاء الله.

نظر كلًا منهما إلي الأمام بشرود وساد الصمت بينهما لدقائق فعادت هي تبادر بالحديث حيث قالت: زهره هتكون معاك؟

أومأ علي الفور بنفي وقال: أنا رايح تورنتو، زهره عندها Mid-year exams وكمان أنا مش هكون فاضي عشان أخلي بالي منها.

أومأت بهدوء ولكن فضولها قد غَلَبَ هدوءها فقالت: ممكن تسيبها مع أهل مامتها الله يرحمها، جدتها أو اخوات مامتها..

_مامتها ملهاش حد، لما إتجوزنا كان والدها متوفي ووالدتها كانت متجوزه وهي كانت عايشه لوحدها.

=كُنت بتحبها؟

تسائلت بفضول تشوبهُ الغيره لينظر إليها مبتسمًا وقد راقهُ سؤالها وتلك الملامح المنزعجه التي بدَت واضحه لهُ فقال: أكيـد كنت بحبها.

ثم نظر أمامه وتنهد مطولًا وأردف: كنت صغير لسه، كان عندي ٢٢ سنه وهي كانت أصغر مني بسنه، كنا زملاء في كلية الهندسة.. نظره فـ إبتسامه فـ كلمتين حلوين و هووب اتجوزنا.. حبيتها أكتر بعد الجواز، كبرت وبقيت رياض المسلماني وهي معايا، كنت دايما بقول إنها وش السعد عليا، كانت حياتنا مستقره جدااا و خاصةً لما جت زهره.. كنت بحمد ربنا إني عندي كل حاجه ممكن أي حد يتمناها.. بيت وزوجه وطفله وصاحب بجد واستقرار ومستوي مادي كويس، مكانش عندي أي تطلعات ولا أحلام لأني كنت راضي ومبسوط باللي بملكه.

توقف عن الحديث لبرهه، يحاول أن يبتلع الحديث الذي صَعَد إلي طرف لسانهِ وكان علي وشك الزحف إلي شفتيه..

طالعتهُ بفضولٍ شرس، يأكل عقلها ويؤرق قلبها، تلك التفاصيل لم تُرضي ولا تشبع فضولها أبدًا، بل زادتهُ.

_وبعديـن؟!.. قررت أن تكف عن تحلّيها بتلك الفتاه الوديعه الهادئه وأن تُطلق العنان لشخصيتها المتهوره الهوجاء وتسأله بفضول..

لا يضُر إن تخلت عن رصانتها قليلًا!

نظر إليها وإبتسم ثم قال مغيرًا مجري الحديث بسلاسه: مممم.. شكلك بتحبي تعرفي كل حاجه بالتفصيل..

_الممـل!

أكملت جُملتهُ كإجابه علي ما قال ليصدح صوتهُ عاليًا يقهقه بمرح فضحكت بدورها ثم نظر إليها بوقار وهدوء بالرغم من عدم تخلّيه عن إبتسامتهُ وقال: شكلي وقعت في واحده فضوليه!

توقف عقلها عن العمل قليلًا..

ماذا يقصد بكلماتهِ تلك!

هل ينسبها إليه؟ أم أن هذا إعترافًا خفيًّا؟ أو إنها مجرد دعابه ألقاها وعليها أن لا تتخذها علي مأخذ الجد!

أشار بيدهُ أمام عيناها وقال: بتسرحي في إيه كده، خليكي معايا هنا!

علي ما يبدو لقد أصابتهُ حمي جعلتهُ يهذي بما لا يدري! أو أنهُ قد تناول حبتين من حبوب الشجاعه وإنطلق لسانهُ دون وعي منهُ!

_آصــال!

برز صوتهُ خافتًا مستكينًا وهو يناديها مما جعلها تنظر إليه وقد لَمَعت عيناها بدمع التوتر والإضطراب ليقول: أنا مش هكون في الشركه بكره ؛ هكون مسافر زي ما قولتلك.. أول ما تقرأي الرساله إبعتيلي رساله فورا.. مش هقدر أصبر لحد لما أرجع.

أومأت بموافقه وهي تتحاشي النظر إليه ليدير محرك السياره قبل أن يرن هاتفها معلنًا عن وصول إتصال من والدها ليصيبها الإرتباك أكثر وأجابت: أيوة يا بابا.

علي الجانب الآخر برز صوت والدها محتدًا يقول: أيوة يا آصال إنتي فين دلوقتي؟

تلعثمت قليلًا وقالت في محاوله بائسه منها للإجابه بثبات: أنا.. أنا خلاص في الطريق أهو.

_أيوة يعني بقيتي فين؟! .. تسائل مجددًا بإصرار غافلًا عن كمّ التخبط الذي أصابها.

لم تعتاد إخبار والدها سوي الحقيقه، ولكن في موقفها هذا!! بماذا عليها أن تُجيبه؟

هل تجيبه بأنها برفقة ذاك! إذن وماذا ستكون ردة فعله تجاهها ؟!

هل تبتدع إجابةً غير الحقيقه وتخدعهُ؟! مجرد كذبةً بيضاء وبعدها ستأخذ علي نفسها ميثاقًا بأنها لن تُعيدها أبدًا!

كذبةً بيضاء لن تضر أحد، بالعكس، ستنفعها كثيرًا وستنقذها من التخلص من ذلك المأزق. ولكنها أبدًا لم تعتاد أن تسلُك مثل هذه الطرق.

لم يكُن الخداع يومًا هو سبيلها، لذا عليها أن تنطق الحق حتي وإن كانت تعلم بأنهُ سيعرّضها لسماع مالا تحب سماعه.

رانَ بصرها نحو رياض سريعـًا وقالـت وهي تنظر أرضًا بحرج: أنا كنت واقفه أستني تاكسي بس….آآاآ.. مستر ريـ…

قاطعها والدها إذ صاح بها غاضبًا: إنتي معاه!!؟ في عربيته؟؟؟

إستمع رياض إلي صراخ والدها الجهور ليغمض عيناه زامًّا شفتيه بأسف وقد تبين ضيق والدها من صعودها سيارته.

أجابت بصوتٍ أقرب للهمس وقالت: أنا كنت هركـ….

_إتفضلي إنزلي حاالااااااا….. هدر بها والدها بغضبٍ عاصف وأضاف: مطرح ما تكوني إنزلي، يلااا.

=حاضر يا بابا.

أذعنت والضيق يملؤها وعلي الفور إمتدت يدها لتفتح الباب ليقول رياض: آصال إستني..

نظرت إليه وقالت:معلش لازم أنزل حالاا..

_أنا آسف إني إتسببت لك في مشكله، أنا بس كان كل اللي هاممني راحتك!

لمَسَت كلماته شغاف قلبها حتي كادت تنفلت دمعاتها من فرط التأثر، هزت رأسها بتفهم وقالت: أنا عارفه..

_طيب أنا هكلم والدك وأفهمه إني أنا اللي ألحّيت تركبي معايا بدل ما يضايقك..

=لاا من فضلك بلاش، بابا ممكن يعند أو يكلمك بأسلوب مش كويس..

_مش مهم خاالص.. المهم إنه ميضايقكيش.

إبتسمت بتهكم علي كلمته الأخيره وقالت: من واقع خبرتي بتصرفات بابا أحب أقوللك إن الموضوع عمره ما ينتهي قبل ما أسمع اللي بابا عايزني أسمعه.. حتي لو مين كلمّه.

أومأ بقلة حيله وقال: إن شاء الله تعدي.

قم فَتَح باب سيارته المجاور له وقال وهو يترجل من السياره: خليكي هنا بقا لحد ما أوقفلك تاكسي.

راقها تصرفه ذلك كثيرًا، لقد شعرت بأنها حقًا تنتمي إليه، إلتمست خوفه وإهتمامه في حديثه معها، و لَكم منحها حديثه ذلك شعورًا بالإطمئنان.

كانت تنظر إليه لا تحيد ببصرها عنهُ وهو يقف إلي جوار السياره يحاول أن يستوقف سيارة أجره إلي أن نجح بالفعل فذهب و أملاهُ عنوان بيتها ودفع لهُ أُجرته ومن ثَم ذهب وفتح الباب لها لتترجل هي بكل دلال وقالت بعد أن منحتهُ إبتسامةً مفعمه بالحب: متشكره جداا.

_خلي بالك من نفسك، وأول ما تروحي كلميني طمنيني عملتي إيه.

=إن شاء الله.

تحركت من أمامه خطوات بإتجاه السياره ثم صعدت وتحرك السائق علي الفور بينما ظل الآخر ينظر إلى السياره حتي إختفت من أمام ناظريه فصعد إلي سيارتهُ مرةً أخري وإنطلق نحو المنزل.

……

_وبعدين يا رقيه هانم يا سلطـان!.. هتفضلي حاطه إيدك علي خدك كده؟

نظرت رقيه إلي أمها التي لم تتوقف عن إلقاء حديثها اللاذع ذاك، إلي جانب بعض التكهنات والتحليلات التي أخطأ بعضها وأصاب البعض الآخر.

=عايزاني أعمل إيه بس يا ماما؟.. هكذا تذمرت بضيق ونفاذ صبر لتجيبها أمها: متعمليش ياروح أمك.. قوليلي اللي بينك وبين الجدع البشمهندس ده إيه؟!

وضعت رقيه كلتا بديها فوق رأسها بنفاذ صبر وقالت: يا أمي إرحميني، بقالنا أربع ساعات قاعدين نفس القعده دي.. طبخنا وإتغدينا وشربنا الشاي وإنتي بتسألي نفس السؤااال.. في إيه بينك وبين الزفت الجدع اللي مايتسمي هباب البرك البشمهندس معتز!

_آه، اتنططي أو يختي إتنططي..

=يا ماما لا بتنطط ولا غيره، أقسم بالله مافي بيننا حاجه، وقدامك أهو هو صدمني لما قال إنه بيحبني!.. مش إنتي شوفتيني وأنا مصدومه!!

إلتوي ثغرها بتهكم وهمهمت: همممم، شوفتك أه وإنتي شبه اللي واكله سد الحنك، لا بتصدي ولا تردي.

= أهوو.. أهو سد الحنك ده أكبر دليل علي إني كنت مصدومه..

_طب وإنتي؟!... تسائلت بخبث وهي تتفحص وجهها بتركيز وإمعان لتقول رقيه وهي تتحاشي النظر بعيناها: أنا إيه؟!

=يــا بــت!! علي مــامــا!! و صوره اللي كانت ماليه الاوضه ولا البراويز اللي كنتي بتحدفيه بيهااا.

أدمعت عينا رقيه ما أكد ظنون والدتها فتنهدت بيأس وقالت: وبعدين؟! لمـا إنتـي متقندله علي عينك وبتحبيه، وافقتي عالخطوبه ليه؟! ذنبه إيه بليغ دلوقتي؟

تساقطت دمعات رقيه تِباعًا كشلالٍ جارف وقد تملكها شعور الإحساس بالذنب لتقول والدتها: دلوقتي بس حسيتي بتأنيب الضمير؟! لما بسلامته إعترف لك إنه بيحبك؟! لما حسيتي إن في أمل تكوني معاه صِعِب عليكي التاني.. لكن ده بُعدك إنتي والبشمهندس بتاعك!

إنزوي ما بين حاجبيها بتعجب وقالت: يعني إيه؟!

هبّت والدتها واقفه وقاات بحزم: يعني ولا كأنه قال حاجه، وإنتي ولا كإنك سمعتي حاجه، والشركه دي تنسيها.. مفيش شغل من هنا ورايح!

نهضت بدورها وقالت بغير تصديق: إزاي يا ماما الكلام ده؟!

_أهو ده اللي عندي، ليكون البيه مفكر إن عشان قال إنه بيحبك هنريل عليه ونسيب التاني اللي توبه من توبنا وشبهنا وبيننا عيش وملح ونجري نقولله شبيك لبيك.. ينســي!

كانت أعصابها علي وشك أن تنفلت، لقد شعرت بأنها علي حافة الجنون، هل والدتها وبكل تلك البساطه تخبرها بأنها لن تكون لهُ بعدما إعترف بحبه لها أمام والدتها؟!!

أوبعد الإنتظار ذلك تقطع والدتها السبيل بينهما بتلك السهولة!!

كانت والدتها قد غادرت الغرفه وإتجهت إلي غرفتها لتلحقها رقيه كالطفل اللحوح وقالت: ممكن أفهم قصدك إيه؟!

رمقتها والدتها بنظرةٍ بارده وقالت: بلاش تمشي في ديلي كده شبه العيال الصغيره، الموضوع منتهي!

لم تجد رقيه بدً من إستخدام طريقتها الأكثر فعاليه، ذهبت وجلست علي قدم أمها وإحتضنتها وبكَت!

لكنها بَكَت بصدق!

_بحبه يا ماما.

هكذا أخبرت والدتها وهي تحتضنها بما يعذب فؤادها و يؤلمه، لكن لزامًا عليها أن تكون أكثر حسمًا وصرامه.

=وأنا مقولتلكيش متحبيش، بس الطريقه اللي بتحبي بيها غلط.. بتحبي بأنانيه، المهم نفسك أولا.. المهم تاخدي اللي إنتي عايزاه، مش فارق معاكي بقا في طريقك تستغلي مين ولا تجرحي مين ولا تكسري مين!!

إزداد نشيجها وهي لا تزال تحتضن والدتها التي لم تهتز وأكملت: مش فارق معاكي الواد الغلبان اللي شاريكي، اللي طالع عينه الـ ٢٤ ساعه عشان يخلص شقته وتتجوزوا.. هتقوليله إيه؟! هتقوليله شكراا يا بليغ مستغنيين عن خدماتك! هتقوليله كنت واخداك سكه، كوبري عشان أستفز البشمهندس اللي انا واقعه فيه لشوشتي وهو مكانش معبرني.. ولما أخيراا إعترف مبقاش ليك لزمه خلاص، أديت مهمتك!

_يـا ماما حرام عليكي بقاا، كفايه اللي أنا فيه!

=اللي إنتي فيه إنتي السبب فيه!! إنتي مش صغيره ولا عيله عندها ١٨ سنه.. ده إنتي شحطه عندك ٢٤ سنه.. يعني بتعرفي تتصرفي والمفروض تكوني بتحسبي لكل حاجه قبل ما تعمليها.

حلّت وثاق يديها من حول رقبة والدتها ونظرت إليها بيأس وقالت: يعني إيه يا ماما؟

_يعني اللي قُلت عليه هو اللي هيحصل، مفيش شركه تاني والكلام اللي إتقال ده تنسيه! وإتفضلي يلا علي أوضتك!

ظلّت تبحث في عينا والدتها عن التأثر، الشفقه، العطف أو ربما المزاح ولكنها لم تجد أيًّا منهم!

لم تري بهما سوي الإصرار والحسم والقوة مما جعلها تيقن بأن والدتها حقًا لن تتراجع تلك المره!

نهضت عن قدميها وعادت إلي غُرفتها تجرّ أذيال الخيبه بينما تركت والدتها تنظر في أثرها بحيره وما إن إبتعدت رقيه حتي هَوَت دمعاتها وقد كسا الحزن والشفقة ملامحها بعد أن تخلّت عن تماسكها وثباتها.

_آااه يا سلطان، الله يرحمك يا حبيبي، الحياه بعدك صعبه أوي يا سلطان والشيله تقيله.. مش عارفه أكون الاتنين.. كل ما رقيه بتكبر بتأكد إني مش عارفه أكون الاتنين، ياريتك فضلت وأنا اللي روحت يا غالي.

إستمعت إلي آذان المغرب الذي صدح عاليًا فتمتمت تستغفر ثم مسحت آثار دموعها وخرجت من الغرفة في طريقها إلي المغسل گي تتوضأ ولكن صوت نشيج إبنتها قد إستوقفها لتنظر إلي باب غرفتها المغلق وتنهدت بحزنٍ عميق وتمتمت: ربنا يا بنتي يريح قلبك.

…..

كانت آصال قد وصلت أمام باب المنزل، أدارت المفتاح بالباب وقلبها علي وشك أن يتوقف عن النبض من فرط الخوف والقلق.

دلفت لتصطدم بوالدها يجلس علي الأريكه المقابله للباب تمامًا فعلمت أنه ينتظرها وفور أن دلفت هبّ واقفًا بتحفز وقال مباشرةً دون تمهيد: إيه اللي مركبك عربية واحد غريب؟!

_والله يا بـ…

قاطعها بحده حيث قال: بابا إيه وزفت إيه.. وهو إنتي لو عامله إحترام لأبوكي كنتي تركبي مع واحد مفيش بينك وبينه أي حاجه في الدنيا.. لا من قريب ولا من بعيد.. لو عامله إحترام لأبوكي يا بشمهندسه يا محترمه كنتي تفكري مليون مره لو حد شافك في عربية مع واحد غريب هيقول عليكي إيه، وعليا قبل منك.

هدأت حدته قليلًا ولكنه ظل متمسكًا بقوته و حزمِه وأضاف: مفكرتيش في ربنا؟! ده حلال ولا حرام لما تركبي عربية مع واحد أجنبي عنك.. يعني خلوه غير شرعيه!!

لم يكُن لديها ما تجيبه به، لم تعتاد المجادله إن كانت هي الطرف المخطأ.. تعلم أن حديث والدها كلهُ صحيح.. لم يُخطأ بحرفٍ واحد.

وإنزعجت ملامحه وإستولي عليه غضبٌ ما إنفك يزداد ويزداد وقال: وسيادة البشمهندس المحترم ده مفكرها سايبه ولا إيه!! ولا مفكر عشان ساعدك مره ولا اتنين يبقا خلاص هنقولله أمرك! ميعرفش حاجه اسمها حرام وعيب وميصحش!!

هالها عُسر الموقف وبدأت أعصابها تنفلت وتسابق وأمطر غيم عيناها وقالت: با بابا كل اللي حصـل إن..

قاطعها مجددًا وصاح في تشنج وعصبيه بالغه: اللي حصل حصل خلااص.. كلمتين ملهمش تالت يا آصال.. مفيش شركه تاني!

تسارعت دقات قلبها في تلاحقٍ عنيف وانعقد لسانها وخرس عن الكلام وهمّت بالحديث ليقول: ولا كلمه لو سمحتي، إتفضلـي!

علي الفور إتجهت لغرفتها كسيرة الفؤاد، تشعر بأن قلبها قد أوشك أن ينفجر حنقًا وأوشكت هي علي الإختناق من شدة الغضب.

خلعت سُترتها ولقتها مع أغراضها بإهمال إلي الفراش لتسقط تلك الرساله من جيب سترتها فأسرعت نحوها وقد عاد الفضول ينهشها ثم فضت الغلاف من حولها وأمسكت بالرساله تقرأها وقد سَرَت فيها رعشه من الخوف والإرتباك أحست بها تضغط علي صدرها فتكاد تكتم أنفاسها..

" بادئ ذي بدء، تلك رسالتـي الأولي ولن تكون الأخيره.

وددت كثيرًا أن أتحدث إليكِ وأنا أنظر إلى عيناكِ مباشرةً ولكنّي لم إتحلي بالشجاعه الكافيه التي تؤهلني أن أفعل ذلك ؛ لذا قررت أن أسلك نفس سبيلك وأُفضي كل ما بجعبتي بتلك الرساله!

عليكِ أن تتحملي تعثري ولعثمتي ؛ فتلك هي أول مره أشعر بمثل ذلك التردد والحيره.

أودُّ أن أذهب إليكِ بضعفي فتحتويني بقوتك!

أريد أن ألملم بقايا روحي بين حنايا قلبك و أمضي معكِ نحو السلام الذي طالما بحثتُ عنهُ.

أحبك!

أعنيها بكل ما للكلمة من معني..

أحبك بقدر أضعاف كل ذرة من دمائي التي تسير بعروقك!

أحبك، ولا يكفيني أن أحبك ؛!

ما زلت أطمح أن أحيطك بذلك الحب!

أطمح أن أغمرك به!

و أصل بكِ إلي مرحلة الإكتفاء!

تلك التي أكون بها _كل البشـر_ في عينيك.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي