الفصل الثامن عشر

حين وصلت غادة إلى المشفى كانت قد مضت أكثر من ثلاث ساعات وهي تحاول جاهدة أن تصل إلى جهتها المنشودة،توقفت في الطرق الجانبية مرات عديدة،بفعل العراقيل التي خلفها المطر،كانت تشعر بالتوتر كلما مرت دقيقة وتأخر بها الوقت عن رؤية الجد،بعض النسوة مدت لها يد العون حتى تجتاز بعض الأزقة الضيقة،والبعض الآخر نصحها أن تعود مرة أخرى ولكن بعض الطرق يجب أن نواصل الخطى بها،لأن ما نريد الوصول إليه مكانته تستحق التعب والألم،والبعض الآخر نعتها بالجنون

لقد كانت حركة السير متوقفة تماماً،بعض الأزقة كانت غارقة مثل مدينة البندقية الإيطالية،وسكان الزقاق جعلوا الصخور الضخمة المتفرقة،جسور يعبرون من خلالها،لم تشاهد غادة اي من سيارات الأجرة،حتى تقوم على توصيلها،إنهيار الجسر جعل جميع سائقي المدينة يلتزمون منازلهم،فور أن وصلت غادة قفز صفوت من أمام المشفى،حتى يقف في مواجهتها تماماً،كانت ملابسها قد تلطخت من الطين والماء،ونال حذاءها عدة ثقوب من الصخر

نظر لها في إهتمام وتفكير عميق ثم قال:
_لقد توقفت أمام المنزل صباحاً،فكرت في أن الأمر سوف يكون شاق عليك ،الوصول إلى هنا فترة الصباح،طرقت الباب عدة مرات ولكن لم استمع إلى أي إجابة تدل على تواجدك في الداخل،لهذا،فكرت في السير إلى الطريق الخارجي من المدينة،هو الوحيد الذي تستطيع السيارات السير من خلاله،والمشاة أيضاً ولكن لم أعثر لك على أثر،لقد تسلل لي القلق كثيراً

كانت غادة شاكرة إلى صفوت كثير جميل صنعه،حتى إذا كان الأمر لم يسير مثل ما فكر هو به،ولكنه فكر بها في تلك الأزمة وهذا يكفى،لهذا قالت وهي تنظر إلى باب المشفى:
_لقد أتخذت طرق جانبية،وهذا هو سبب التأخير

لم تشاء غادة أن تخبره،أنها أمضت الليل إلى جوار مسك،اتخذت خطواتها إلى الداخل،ثم قالت وهي تنظر في ساحة الإنتظار، المزودة بعدد كبير من بالوعات الصرف، التي تمتص كل قطرات الماء داخلها:
_أمر جيد،أن المشفى مزود بكل الطرق التي تكافح توابع الأمطار

تنهدت في عمق ثم قالت وهي تنظر إلى غرفة الجد التي تقترب كثير منها:
_ كنت مشغولة الذهن كثير يوم أمس

ما كادت غادة تفتح باب الغرفة الخاصة بالجد،حتى انطلقت الطفلة الصغيرة،تجذب يدها وهي تقول:
_لقد أقام لنا الجد أحتفال ليلة أمس

نظرت غادة إلى الجد،الذي يجلس على مقعد إلى جوار النافذة، ينظر إلى حديقة المشفى الخلفية ثم قالت وهي ترفع الطفلة إلى أعلى،حتى تضمها لها في حنان،ثم تابعت:
_ ما أجمل الإحتفال الذي يقام يوم سقوط المطر

قالت الطفلة في شغف:
_لقد قمت على رسم قوس قزح عدة مرات، وقام جدي رفيق على صبغ الألوان على الورق،إلى أن ظهر في السماء وهو سعيد

قال صفوت وهو يتجه إلى بعض الأوراق المتناثرة على الفراش،التقط احد اهم ثم رفعها إلى أعلى قائلاً: .
_إذن الصغيرة ساشا،تمتلك عدة مواهب، سوف تصبح رسامة ذات ريشة مميزة،بالإضافة إلى أنها سوف تكون نجمة كبيرة

قالت ساشا وهي تنظر إلى الصحفي:
_ هل من الممكن أن نمتلك عدد من المهن والوظائف حين نكبر؟

ارتفعت ضحكة الصحفي عالياً،ثم قال وهو ينظر إلى الفتاة وقد لمعت عيناه:
_عليه أن يجاهد إذن،حتى لا يفقد عقله،أنتِ طفلة ذكية حقاً،المهنة تختلف عن الوظيفة وتختلف أيضاً عن الموهبة

قال رفيق وهو يشير إلى الطفلة أن تقترب منه وتترك حضن غادة:
_الوظيفة هي عمل نحن نستحق عليه أجر،والموهبة هي أشياء وضعها الله بنا،لأنه يحب لنا أن نكون مميزين،والمهنة هي الحرفة مثل أعمال النجار أو الحداد

قالت الطفلة في حيرة وقد ظهر العبوس على جانب وجهها:
_وماذا على أن أكون حين أصبح كبيرة في السن؟

قال صفوت في لهجة عتاب:
_ عزيزتي،النساء لا يكبرون في العمر،عليكِ تعلم هذا منذ الآن

رمقت غادة صفوت بنظرة تحذيرية ثم قالت وهي تشد على يد الطفلة:
_عليك فعل ما هو محبب لك، هذا هو ما يجعلك جميلة دائماً

أقتربت الطفلة من الصحفي ثم تساءلت:
_هل سوف أظل طفلة إلى الأبد؟ لماذا لن تكبر النساء

أبتسم صفوت ثم قال وهو يجلس على الفراش:
_سوف تصبحين شابة جميلة جداً،وأنيقة،ولكن لا يجب أن يغزو الشيب قلبك أو روحك، لهذا يجب أن يكون قلبك دائماً محب إلى الحياة

نظر رفيق إلى غادة ثم قال وقد تذكر شيء:
_كيف كانت ليلة أمس؟ هل واجهت بعض الصعاب في النوم؟

تذكرت غادة سطح المنزل،لا شك أنه يحتاج الآن نزوح الماء منه،وحديقتها أيضاً، لا شك أن البستان الصغير الذي أعطته رعاية سنوات وسنوات،قد انتهى أمره،هل يجب أن تخبر الجد عن ليلة أمس؟ظهر التردد جلياً على تفاصيل وجهها،لهذا أبعدت الفكرة عنوة عن ذهنها

بعض الأخبار من الأفضل لها أن يتم تأجيلها،حين يتم الإفصاح عنها في الأوقات العصبية تزيد من الأمر سؤء،قالت غادة وهي تفكر في المكتبة،وتمنت من اعماقها،الإ يكون هناك أي تلف أو ضرر أصاب الكتب:
_ كل الأمور في خير تمضى

دلفت الممرضة إلى الغرفة دون إستئذان،قالت وهي تنظر إلى الصحفي:
_شاهدتك من قبل

هز صفوت رأسه في علامة تأكيد ثم تابع:
_أجل، جئت إلى زيارة العم رفيق عدة مرات

أعترضت الممرضة وهي تعطي العم رفيق الدواء:
_لا،لقد شاهدت عدة مقالات خاصة بك،أنا قارئة في أوقات الفراغ الخاصة بي

تساءل رفيق في إهتمام كبير:
_ أي نوع من الكتابات هي أهتماماتك؟

ابتسمت الممرضة،ثم قالت:
_ الأبحاث العلمية،وخاصةً الطبية الحديثة

قال صفوت وهو ينظر لها في عمق:
_هذا بعيد تماماً عن نوع المقالات التي أكتبها، مقالاتي دائماً في الأدب العربي الحديث

هزت الممرضة رأسها وهي تضع السماعة الخاصة بقياس الضغط وتقرأ المؤشرات:
_كان المقال الذي أتابعه،يجاوره مقال لك و صورتك مطبوعة عليه

ثم نظرت إلى العجوز المريض وقالت:
_ جيد كل الأمور تسير في الطريق الصحيح، الحالة الصحية ممتازة،وكل الأمور مستقرة وجيدة

حين غادرت الممرضة، قالت غادة في صوت منخفض جداً وهي تنظر له:
_الفتاة مهتمة بك

ألقى صفوت نظرة لا مبالاة، ثم نظر إلى ساشاوقال:
_ هل اطلب منك خدمة؟

هزت الطفلة رأسها في علامة الإيجاب، مما دفع الصحفي أن يكمل:
_أريد منكِ الإهتمام بالجد رفيق

لوحت غادة إلى ساشا وهي تغادر،بعد أن طبعت قبلة حانية على جبين الجد،في الممر بين الغرف، كانت الممرضة القارئة تمر بين المرضى،أشارت لهم مودعة إياهم،مما دفع غادة أن تتابع في ثقة وتأييد إلى كلماتها السابقة:
_أخبرتك من قبل هي مهتمة بك

ظهرت بعض علامات الغضب على وجه الصحفي،مما دفعه إلى القول:
_فليكن،إهتمام قلبي في إتجاه آخر يسير

صمت دقيقة ثم تابع:
_ غادة من فضلك لا يجب أن ندعى عكس المشاعر،أو ندفع بعض إلى تجاهل هذا الأمر، هذا خطأ كبير

أجفلت غادة لحظات،أسوأ من الأعتراف بالحب رفضه،هذا هو أمر من أمور الإحراج العتيق، التي فشلت كل الطرق في العالم عن تفاديه،ولم يوجد قاموس أو كتاب يشرح في سهولة ويسر كيفية الهرب من تلك الأمور، في الحب لا يجب أن تترك الأمور معلقة،في الحب يجب الأخذ ببيت القصيد،وشرح النص الذي يرافقه من مشاعر،والإ تصبح خارطة القلوب في ضلال

لم تجد غادة مفر من المواجهة،قالت في هدوء:
_أنت أخ عزيز وغالي، مشاعرك لا يجب أن تكون مهدرة

هتف الصحفي في صوت به من الصدمة قدر يسير:
_ لن تكون مشاعري مهدرة لأنك على علم بها

حاولت غادة ان تنمق الكلمات،قالت في صوت به لهجة تحذيرية ولكنها لينه:
_ما أعلمه حقاً،أن ما حدث من إهداء الحياة لي أخ ،في هذا التوقيت هي محبة من الله لي

ران صمت بين الأثنين كان صمت ثقيل،وقت تجلى الحقائق وقت عصيب قوانين القلوب لا نستطيع تبديلها،قوانين تسير على أهواء صاحب الشأن

قطع الصمت الذي ظنت الفتاة إنه سوف يكون إلى آخر العمر، صوت صفوت وهو يسأل في إهتمام:
_هل تودين الذهاب إلى المكتبة مباشرة أو المنزل أولاً؟
أجابت في صوت منخفض:
_المكتبة هي الأقرب لي

حين توقفت سيارة صفوت أمام المكتبة كانت الساعة تجاوزت العاشرة صباحاً،بثلاثين دقيقة،دق قلب غادة فرحاً،وهي تشاهد المكتبة جافة وخالية من اي آثار إلى التلف،أغلقت الأبواب في سرعة،وفضلت أن تذهب إلى المنزل،حتى تصلح ما أفسده المطر،اختارت من جديد أن تسير في الطرق الجانبية،ولكن تلك المرة كان الطريق مسافات أقل، وسعة الشوارع كانت تسمح لها بالحركة،وكثرة المتاجر، التي ساعدت درجاتها الأمامية المرتفعة عن سطح الأرض، الكثير من الأشخاص في العبور

ما فكرت به غادة في أمر الحديقة، كان صائب، لقد تلفت الحديقة تماماً،وظهرت في وضوح حبات الطماطم وهي طافية على بركة الماء،وبعض من الفلفل والبازلاء، تعانقا في نهاية حدود الحديقة، كان المنزل من الداخل رطب جداً،ورائحة غير جيدة تنتشر به مع الظلمة الحالكة، التي حظى بها المكان

فتحت غادة النوافذ،وقامت على فحص الأجهزة الكهربائية، كانت سليمة تماماً،ولكن ماء السطح قد تسلل إلى الطابق السفلي،وأغرق السجاد مما دفع غادة أن تدفع به إلى الحمام، وتبدأ في عملية التنظيف،التي أستغرقت ساعتين،بعد ذلك أختارت أن تبدل ملابسها، وتدفع ماء ساخن على جسدها المرهق

وهي تستمع إلى الراديو وهو يبث إلى سكان البلدة أن الطرق البديلة قد تم فتحها، وأن هيئة الطرق، قد قامت على إنشاء جسور خشببة عديدة، في بيان لها أن الوضع هو وضع مؤقت،حتى تعود حركة السير والحياة الى المدينة،بعد تعطل دام ساعات، إلى أن يتم إصلاح الجسر الحيوي بالمدينة، وإشار البيان الذي تم إصداره في عدد من وسائل الإعلام المختلفة في عدد من ساعات متفاوتة و بصورة مستمرة، أن لا يتم التدافع على الجسور الخشبية،أو تكريس المهام الى عدد من الجسور وترك الآخرين، حتى تتم حركة التوازن في الجسور، وحرصاً على سلامة الجميع

بحثت غادة كثير عن القط بشر دون فائدة، مما جعلها تعود مرة أخرى إلى المكتبة وهي تفكر في أمر القط الشارد عن المنزل،ما كادت غادة تصل إلى المكتبة،حتى جاء سائق سليم،حتى يقلها إلى المنزل، كادت أن تسأله عن سيده،هل وصل أو لا؟ثم عدلت عن الفكرة،لقد تذكرت كلمات مسك بالأمس عن أن السيد لن يعود من السفر اليوم،وربما هو قد قام على الإتصال بهم وترك لها بعض المهام عن طريق الهاتف

حين وصلت هي إلى المنزل، كان وجه شاهين يظهر في وضوح،أنه بالكاد قد أنتهى من أعمال الحديقة، في حين استقبلت مسك الفتاة بسيل من العتاب قائلة:
_عزيزتي، سررت برؤيتك على خير،شعور القلق تجاه كل شخص أعرفه هو أمر مرضي أمر به

شعرت غادة بالشفقة تجاه مسك،بعض القلوب ضعفها علة لا يجدي معها دواء، بررت غادة خروجها قبل أن تستيقظ الأخرى:
_ كان على الإطمئنان على الجد

صاحت مسك وهي تدنو من الفتاة:
_ عزيزتي الصغيرة،لم أعلم من قبل أن لديكِ عدد من المسئوليات غير العمل

صوت الخطوات على الدرج جعل غادة ترفع رأسها إلى أعلى، كان سليم يهبط درجات السلم،في ثقة وثبات،يرتدي جاكت من الصوف الأسود الطويل بلا أزرار يظهر في وضوح البزة البيضاء التي يرتديها في الأسفل،كان ظهوره في تلك اللحظة، صدمة ومفاجأة إلى غادة،التي ظنت أن اليوم سوف يكون خالي من وجوده،في حين قال هو في ثقة:
_ مسك من فضلك، أنا في أشد الحاجة إلى فنجان من القهوة السوداء

أسرعت المرأة إلى المطبخ تجر في خطواتها،جسدها الثقيل، تلاحقها كلمات سليم:
_ لم أنال أي قسط من النوم منذ الأمس، أحتاج إلى قوى تركيز

نظر إلى غادة دون أن يتكلم، ثم سار في خطوات سريعة إلى المكتب،وهو يتوقع منها أن تسير خلفه،
ما كادت غادة تجلس خلف الآلة الكاتبة ،حتى فتح شاهين الباب دون طرق عليه،وهو يصيح في ضجة بها إزعاج:
_إذن لقد عاد رجل القلم

أبتسم سليم من إطراء شاهين الذي تابع وهو ينظر إلى غادة في جذل:
_صباحك طيب يا عزيزتي، ما قمت على فعله هذا الصباح،قام على تذكير عقلي بموقف سندريلا

شعرت غادة بالخجل والخزي،لماذا دفع شاهين كلمة عزيزتي؟ في سياق الحديث،تلك الحميمة التي يحاول أن يظهرها إلى سليم زائفة،الكلمات توحى إلى من يستمع لها أن هناك رقصة أقيمت بين شاهين والفتاة،الأمر به من الإحراج لها الكثير،مما دفعها إلى القول:
_عذراً، لا أفهم كلماتك سيد شاهين

قال شاهين وهو يصر على كلماته في لهجة تأكيد:
_ليلة أمس، هروبك في الصباح الباكر

كان وجه سليم قد أصبح مثل قطعة قماشة سوداء من الغضب،وقال في صوت مرتفع بعض الشيء
_ مسك هل إنتهيتِ من صنع القهوة؟

أبتسم سليم في مرح،ثم قال في صوت مرتفع،يبتغي تقليد نبرة صوت سليم:
_سوف أغادر،هناك عدة أعمال في الحديقة لا تزال لم تتم بعد

غادر شاهين وهو يطلق صفير عالي، في حين قالت غادة وهي تحاول أن تدفع التهمة عن ذاتها:
_لقد أمضيتِ الليل في غرفة مسك

لم يبد على وجه سليم أنه صدق كلمات غادة،كان يبدو وجهه به من التوتر الكثير،دلفت مسك إلى غرفة المكتب في سرعة، تحمل صينيه خشبية وضع عليها أكواب القهوة

مما دفع غادة أن تقول في صوت به من التوسل والرجاء الكثير:
_ سيدتي، لقد أمضيتِ الليل هنا بعد إلحاح منك، أليس كذلك؟

نظرت مسك إلى الفتاة في حيرة،ثم قالت:
_أجل يا صغيرتي

نظر سليم إلى مسك لحظات، ثم قال:
_ أشكركِ يا مسك،ولكن ينبغي الآن أن نبدأ العمل

هزت مسك رأسها في علامة الموافقة،ثم أسرعت إلى العمل في المطبخ،قال سليم وهو يغلق الباب خلفها:
_والآن، آنستي،ينبغي لنا القيام بالعمل

لم تمض سوى ثلاثون دقيقة في العمل،حتى تلقى سليم إتصال هاتفي،جعل الشاب يسرع إلى الغرفة المجاورة في سرعة، ويترك باب غرفة المكتب مفتوح على مصراعيه ولقد كانت غادة شاكرة إلى تلك الدقائق التي سمحت إلى يداها بالراحة،بعد التشنج الذي اصابها

دلف شاهين إلى الغرفة فجأة،ظهر من العدم،ولا تسمع وقع خطوات تسبق مجيئه،قالت في صوت غاضب:
_ لماذا تحدثت بتلك الطريقة؟ كم أنت وقح

أبتسم شاهين ثم تابع:
_ هل نال الغضب منك يا صغيرة؟فقط أردت أن أنجو بك من جحيم سليم

هتفت غادة في عدم فهم:
_ما الذي تتحدث عنه؟

قال شاهين في صوت غاضب:
_ سليم ينوي أن يقوم بنسج حيل الحب عليك

قالت غادة في سرعة:
_هل أنت مجنون؟ أنا هنا من أجل العمل مع السيد سليم

أبتسم في سخرية واضاف:
_كل من جاء إلى المنزل سابقاً،كان يظن نفس الشيء،سليم ماكر ويجيد العبث مع الفتيات،يجب أن تكوني ممتنة لي، ولا تضعي أحلام على الشاب،هو قيد سلمي إلى الأبد،أمس واليوم وغداً

قالت غادة وهي تشير له أن يغادر:
_ لا شأن لي بحياة الرجل،أقوم بعمل هنا حين ينتهي،سوف أغادر إلى الأبد،ما قمت على فعله منذ لحظات،هو جريمة لن أغفرها لك

قال شاهين وهو يحك ذقنه بيده:
_لا شأن لك بحياة الرجل،أنت قطة ساذجة صغيرة،ولكن يا عزيزتي،الرجل يهتم،الرجل يريد،الرجل لا يعطي دون مقابل،ما فعلته منذ قليل هو حماية لك من براثن أسد غادر ينتظر فقط لحظة الأنقضاض

ما يغضب الكاتب الشهير الآن أن مخطط بشأن فتاة وفريسة جديدة قد فسد، الجميع في نظر سليم ذبابات تدلف إلى شبكة الصياد في دلال،فقط سلمى هي فراشته الزاهية الألوان

غادر شاهين في خطوات سريعة،دون أن يترك لها فرصة إلى الكلام،كانت هي تشعر بالحنق والغضب، لقد شاهدت طريقة العلاقة بين الرجلين،تبدو أشبهه بأصدقاء، تجمعهم سنوات وسنوات،علاقة تحمل ود وألفة، دائماً سليم مسرور في رؤية الشاب شاهين،ولكن ما يفعله شاهين ينم عن كراهية كبيرة له،لا تحمل كلماته اي نوع من الحب، إذا كانت تلك هي شخصية سليم كما يصورها شاهين بكل بشاعتها،وحقارتها ودناءتها أيضأ، لماذا يصر على التقرب منه بهذا الشكل؟ هل هو حقيقي ما تفوه به؟ فعل هذا من أجلها،كذبة يريد بها نهر حسنات

ولكن الشاب طعنها في شرفها،وألقى عليها حجر ثقيل حتى تتساوى سمعتها بالطين الأسود، من مثل هذا لا يعترف بالصدق وشرف الكلمة،من مثله يجب أن يكون الإبتعاد عنه قرار، متى تنتهى الأيام الثقيلة هنا؟ لقد واجهت في خلال ثلاثون يوم، منذ مرض الجد رفيق

متاعب بالجملة،الأمر أشبه بقوافل من الأحزان، أصبح عقلها مثل دوائر من الغم والهم، لم تعد تستطع تحمل المزيد، عاد سليم فجأة من الغرفة الأخرى،نظر لها في إهتمام وتفكير عميق ثم قال:
_ هناك كلمات اود الحديث عنها بشأن الشاب شاهين

قالت غادة وهي تحاول ان تدفع التهمة بعيداً عنها من جديد:
_ما تفوز به كذب وهراء

وضع سليم يده على المكتب ثم تابع في صوت منخفض:
_شاهين يعاني من علة في الرأس، هو شاب جيد في عمله،ولكن ظل فترة كبيرة يتلقى علاج في مشفى بعد إصابة في الرأس،بعد سقوطه من إحدى الأشجار،الأمور ليست على خير وجه

صمت سليم دقيقة ثم تابع:
_عليك فقط البعد عنه قدر الإمكان،وعدم التورط معه بأي وعد،وكذلك عدم الإستماع له على إنفراد
لا اقصد إخافتك،ولكن الأمور مشوشة في ذهن الشاب،لم يعترض طريق اي فتاة من قبل،لم يصدر عنه أي عنف جسدي او لفظي،ولكن الشاب،لديه حيل كثيرة في المكائد العقل به صور متداخلة، ولا يمكن الاستغناء عنه،هو أحد رجال عائلتي

تنهدت غادة في عمق إذن سبب تمسك الكاتب به أصبح واضح إليها الآن،سليم مسئول عن الشاب،ولا يمكن التخلى عنه،بعض الأشخاص تم تواجدهم في الحياة، حتى يقومون بدور العائلة،وتلبية كافة المسئوليات،في حين أن الشخص ما هو الإ فرد واحد فقط ولكنه يحمل من الهموم أطنان وأطنان

فكرت غادة في حيرة، هل من الممكن أن يدفعه كل تلك المسئوليات إلى سلك طريق العبث مع النساء؟
لا تكف الصحف عن ربط اسم الكاتب الشاب مع عدد من الفتيات هل هذة هي حقيقة الأمور؟بعض من اللهو بعد عناء سنوات،لقد تحدث لها الصحفي من قبل،أن بعض المشاهير هم من يسعون إلى خلق كل تلك الضجة حول أسماءهم، وأن الكثير منهم يميل إلى الحزن بل والأكتئاب إذا كفت عنه الأضواء،وتجاهلت الصحف ذكر اي خبر عنه حتى إذا كان غير ذي قيمة

صوت ضجة في الخارج وصياح شاهين في الخارج، جعل غادة وسليم يتوقفون عن العمل، في البداية حاولا تجاهل الأمر،ظناً منهم أن أمر عادياً يحدث في الردهة،ولكن كلمات شاهين التي تكاد تكون مذاعة،عبر مكبرات الصوت،وليس عبر أحباله الصوتية، كان صوته يردد:
_ عودة ميمونة يا ملكة، أخبرتك يا مسك أنها قادمة وأن رحيلك على وشك الحدوث

فتح سليم باب غرفة المكتب،كانت الفتاة تقف في مواجهته تماماً بالرداء الأحمر القصير والشال الأسود،الذي التف حول عنقها،ورائحة عطرها تنتشر في المكان،وكأنها تعلن في زهو عن صاحبتها

ساد سكون ثقيل فى المكان،الأمر أشبه بتوقف عقارب الزمن،تجمد الوقت،حين خطت سلمى بضع خطوات إلى حيث يقف سليم ثم قالت في صوت هاديء ذو نغمة مميزة:
_ أيها العزيز لقد اشتقت لك حقاً

تكهرب الجو فجأة،أصبح الجو خانق،مسك كانت تراقب في خوف ورعب،تكاد تصرخ على سليم أن يبتعد عنها،حتى لا يصاب بإي سؤء، نهضت غادة من خلف مقعدها،ثم قالت وهي تعتذر عن تواجدها في تلك اللحظة:
_سوف أجلس في الخارج

نظرت لها سلمى في نظرة تحدي كبير،في حين اطلق شاهين ضحكة ساخرة،وأخرج علبة سجائر من سترته،وجلس ينفث دخانها في بطء شديد،وهو يكاد يعلن إلى الجميع،أن الموقف أشبه بمسرحية هزلية

أمسكت غادة يد مسك التي كانت مثل قطع الثلج، ثم جلست إلى جوارها،وقالت في صوت منخفض:
_ الأمر أهون من هذا بكثير،رجاء لا تجعلي اعصابك تفلت منك

نظرت لها مسك في حزن عميق،ثم قالت وهي تنهض واقفة:
_ هناك أعمال مؤجلة في الداخل،رجاء عزيزتي رافقيني إلى الداخل

وقفت مسك أمام حوض الأطباق صامتة،فتحت صنبور الماء، وتركت العنان إلى دموعها،مما دفع غادة إلى القول:
_ سيدتي،أخبرتك من قبل أن الأمر يسير في قبضة رب قدير،ربما الأفضل هو الغد

مسحت مسك دموعها،ثم قالت في صوت يقطر من حروفه الضيق:
_ كادت تدفعه إلى الإنتحار مرة،هي ليست بريئة أبداً،لقد كان وجودها في حياته موت بطيء له

كانت كلمات مسك صادمة إلى غادة،لا تستطيع أن تتخيل،أن الشر يمكن أن يطغى في ذات بشرية إلى هذا الحد،أن تراقب إنسان وهو ينهار وينتهى في غضون لحظات،ولا تمد له يد المساعدة،أو ترأف له بحال،قوانين العلاقات في هذا الكون،تم إيجادها حتى نختار منها ما يوافق أهواءنا،وما تتآلف معه أرواحنا

همست مسك وهي تغلق الماء المنهمر على حوض فارغ:
_سليم أعطاها كثير من المال، حتى تتجدد ضحكتها،كان لا ينفك يبحث لها دائماً عن أسباب السعادة

كان شاب صغير،سهل أن يتم خداعه،لم تكن له يوماً عون أو سند،لقد كان يمنحها هو كل شيء وهي تبحث عن أي شيء حتى تمحو وجوده من الحياة،سبب زواجها من سليم هي الشهرة،الشهرة فقط،هي لا تعبأ كثير به، هي تريد هذا الكاتب اللامع، التي غزا اسمه الوطن العربي،ونال عدد من الجوائز من أول إصدار ورقي له، أحاطت به حتى تلتهم نجاحه،ويزيد من شهرتها،وتتسع دائرة الضوء عليها من خلاله،وهو كان أغر، صدق حيلة الفاتنة،أنه ساذج يا عزيزتي

النور الذي لوحت له بها،كان شعلة نار حرقت فؤاده،وكادت تقضي عليه،رغم أن سليم كان كان يقيم حفلات كبيرة من أجلها هي،كان يفكر بها طوال الوقت،وماذا سوف يكون مسقبلها، كان يريد لها الأكثر والنجاح،زادت الأضواء التي تحيط بها،تنافست دور الأزياء عليها، مضت عدد من العقود في لبنان والجزائر والإمارات وغرب فرنسا أيضأ،تم اختيارها من عدد من أثرياء العرب،حتى تقوم على تقديم إعلان عن الماس هناك،بعد هذا اليوم،بعد عودتها من فرنسا،تبدلت الأحوال كثيراً،تغيرت طباع الحية الرقطاء،بعد الملمس الناعم،ظهر ناب السم من بين الفاه

فشل سليم في إرضاءها،فشل في معالجة هذا المزاج العصبي دون أسباب،كانت تقذف بالزجاج من كل مكان،كانت مثل لهب شرر متطاير يريد أن يدمر كل شيء،إلى أن أفصحت عن رغبتها في الطلاق،ونيل حريتها،حاول سليم معها مراراً،كاد يجن وهو يحاول أن يجعلها تظل في حياته،كان خائف من فكرة مغادرتها حياته،ولكنها أصرت وتشبثت بهذا القرار،في النهاية رضخ سليم إلى هذا القرار،كان يريد أن يترك لها فرصة حتى تفكر بها في العودة له واستئناف الحياة الزوجية مرة آخر ى

ابتسمت مسك في سخرية تحمل مرار كبير ثم قالت:
_ لقد ظن سليم أن سلمى متعبة، رغم جهله عن سبب التعب،وما تريده هي فترة نقاهة تستعيد بها توازنها،ولكن الضربة القاصمة إلى كيانه،كانت زواجها من أحد الأثرياء،بعد انتهاء فترة العدة بينهم مباشرة،لقد ظل سليم في ظلام غرفته أيام طويلة،لا يتحدث إلى أحد،لا يغادرها،الوضع كان كارثة في هذا الوقت، كانت دوامة لا متناهية من السقوط نسبة له،عزوفه عن الطعام،وعدم الرغبة في الحياة،جعل العقل ينفصل تماماً عن الإدراك،أدت إلى غيبوبة،وكنت إلى جواره ،بعيد عن أعين الصحافة والجميع،إلى أن تعافى منها، وعاد إلى هنا،سليم تغير نوعاً ما عن الماضي،لقد أصبح عصبي المزاج كثيراً،يميل إلى الصمت والعزلة أيضأ،وحين عاد مرة أخرى إلى النجاح، حين عاد مرة آخر إلى الحياة،بعد أن راهن الجميع على فناء أسم سليم إلى الأبد،عادت الحية من جديد،بعد أن برأ من سمها الزعاف،
تريد أن تعود مرة أخرى، تريد أن تقضي عليه، هل تظنين أن عودتها اليوم نابعة عن حب؟ أنها لا تعترف بالحب في حياتها،من مثل تلك الملعونة تعيش وتتغذي على جراح الآخرين،تم طلاقها ،ثم ظهرت من جديد في صحبة آخر،والآن نجم سليم في أعلى مراحل له، تريد أن تعيد الكرة مرة أخرى،ولكن تلك المرة،إذا عادت لن تمر الأمور في سهولة ويسر،أعلم هذا،وأعلم أنها عادت لاهثة،من أجل ثروة سليم التي جاءت بعد كتابه الأخير

تنهدت غادة في حيرة،أنها المرة الأولى التي تعرف فيها كل تلك الأمور حول سليم وحياته الشخصية، لقد عانى كثير هذا الشاب،إذا قدر إلى بعض القلوب أن تعلن عن مقدار تعاستها في الحياة،ربما تم نقش سيرتهم الذاتية على حوائط تخليد لهم ورمز إلى صمودهم،يقول البعض أن مشاهير الأدباء،لم تنال قلوبهم لحظات حب صادقة،وأن مرحلة نضجهم الأدبي جاءت نتيجة مراحل عذاب عاشوا كل تفاصيلها،أشفقت غادة على الكاتب والمرأة،بعض المنازل أيضأ ساكنيها،محرم على جدرانها الإستقرار

وبعض القلوب خير لها أن يمضي العمر دون ان تطأ قلوبهم أرض الهوى،حفاظاً على كرامتها من الذل والهوان،حين يعود لك الماضي معتذراً،هل قلبك قادر على الصفح والغفران؟

(في غرفة مكتب سليم)
وضعت سلمى حقيبة يدها في هدوء على الآلة الكاتبة،وحررت خصلة من شعرها ثم قالت:
_ عزيزي،لقد علمت في اليومين الماضيين، أمر رسائل التهديد

اكتفى سليم بنظرة جامدة لها،في حين تابعت هي،وهي تتجول في المكان في أريحية كبيرة:
_لقد نال مني الفزع، من هذا الذي يريد أن يقوم على إيذاء شاب صالح مثل سليم؟

اتجهت في هدوء وثقة كبيرة إلى النافذة ثم قامت على فتحها،طارت خصلة شعرها النافرة،ثم قالت وهي تنظر في عين سليم مباشرة:
_لقد اشتقت إلى تلك الغرفة كثيراً،أنت تذكر تلك الذكريات الخاصة بنا،التي احتوتها تلك الجدران

نظرت إلى سليم تنتظر منه جواب،ولكنه لم يتفوه بإي كلمة، مما دفعها إلى القول،في صوت به الكثير من الغنج والدلال:
_ سليم،أنت تعلم جيداً،أنك أول قصة حب في حياتي حظيت بها، لا تدع أخطاء طيش شباب تفسد ما بيننا

هتف سليم في صوت يحمل الكثير من السخرية:
_ما بيننا،لقد تم الإنفصال منذ زمن بعيد

اعترضت الفتاة في صوت ناعم:
_القلوب لا تزال على وصال، لا تستطيع أن تنكر هذا،هل تفعل؟

لم يجب سليم مما دفعها إلى القول:
_ لدي حجة، وعدد كبير من الأدلة، لدي برهان منذ أول لحظة،خطت بها قدمي المنزل بعد الفراق

تبادلا نظرا صامتة، مما جعل سلمى تكمل في سرعة:
_لماذا سمحت لي بالدخول؟ لماذا لم ترفض اللقاء؟

رفع سليم رأسه في عزة وكبرياء،ثم تابع:
_كيف أقوم على طرد اي زائر جاء إلى منزلي؟ تعلمين جيداً،أن تلك الصفة ليست بي

رفعت سلمى اصبع يدها،ظهر ظفرها الذي تم طلاءه بلون ذهبي،حركت الظافر عدة مرات، أمام وجهه في حركة طفولية،ثم قالت في صوت يشبه صوت الصبيان:
_لقد فعلت هذا من أجل أيامنا الخوالي،لا تحاول أن تخدع قلبك يا سليم، نستطيع العودة من جديد،نستطيع أن نكون معاً،ما مضى كان درس قاسي،وحدي من دفعت ثمنه جيداً،لا تظن أن قلب سلمى ربح أو فاز بعد سليم،لقد تخبطت في جراحي،إلى أن أدركت جيداً،أن الشفاء لن يكون،الإ في رفقتك،وإلى جوارك

تأملت سلمى وجه سليم الخالي من المشاعر،الذي يشبه كتلة الصخر،ثم قالت:
_لا بأس،ربما يحتاج قلبك عدة أيام،سوف تستعيد خلالها كل لحظات الحب التي جمعتنا سوياً

غادرت سلمى في خطوات رنانة، وكأنها تريد أن تلقى رسالة ما إلى كل شخص في المنزل،تتبع خطواتها شاهين،في سرعة غريبة وهو يهمس لها ببضع كلمات

في حين قام سليم بالنداء على غادة قائلاً:
_من فضلك، يجب أن نعود إلى العمل

ربتت غادة على يد مسك،ثم قالت وهي تحاول أن تجد كلمات تعيد لها المزاج الطيب:
_ بعض القرارات ظاهرها سيء وباطنها خير وصواب
هزت مسك رأسها ثم أطلقت زفير عالي،يعبر عن رحلة ألم عميقة مرت بها المراة،وما كادت تلتقط أنفاسها،وظنت أن الأمور عادت إلى مسارها الصحيح، حتى عادت رياح الأنين من جديد تهز الأبواب والنوافذ،شهقات وزفرات الوجع حين تدق القلوب،تترك شرخ في الروح،لا سبيل إلى التداوي منه،قد يمضي العمر،وتضع عظامنا في لحدها،ولم تشفى بعد جراحنا،خذلان الأحبة لا دواء له

سارت غادة في إتجاه غرفة المكتب،جلست خلف الآلة الكاتبة،رفعت الحقيبة التي تركتها الفتاة،كانت خفيفة الوزن،تشير إلى أن لا شيء داخلها،هي حقيبة من أجل إكتمال مظهر الأناقة، وضعتها في هدوء على حافة المكتب، قالت في صوت منخفض:
_ يمكنك البدء

ألقى سليم نظرة على الحقيبة، ثم قال في هدوء:
_بعض المشاعر الصادقة لا ينبغي لنا أن نفصح عنها،بعض الكلمات يجب أن تكون حبيسة القلوب،لا ينطق بها اللسان،الأحساس المقدس،لا يجب أن تكون رسالته الإ إلى القلوب النقية فقط،هي وحدها القادرة على قراءة الكلمات

كانت غادة تستمع إلى الكلمات،وهي تضع يدها على الآلة الكاتبة،مما دفعها إلى الإعتذار:
_ عذراً،ولكن كان الذهن مشغول نوعاً ما

هز سليم رأسه علامة التفهم ثم عاد من جديد إلى نطق الكلمات مرة ثانية، في هدوء شديد
حين عادت غادة إلى المنزل في هذا اليوم،كان الهاتف قد صمت اخيراً،بعد إطلاق آخر رنين له

أبدلت ملابسها وهي تشعر أن رأسها يطن من الأفكار المتراكمة داخله، حالة الجد رفيق أصبحت في حالة جيدة،هذا الأمر جعل الأمل يبعث في داخلها من جديد،أن عودته إلى البيت سوف تكون في فترة قريبة،لقد اشتاقت إلى حضوره في المنزل، اشتاقت إلى الجلوس إلى جواره في ساعات أمام التلفاز، إن هناء الروح وعزتها في حضور الأحبة، يفرد داخل الذات بساط من السكينة،التي تجعلك تدرك أن وجودنا في الحياة من أجل تلك اللحظات، فتحت غرفة الجد وأخرجت من خزانة ملابسه بعض الثياب،قامت على وضعهم في الغسالة،ثم بحثت عن الجوارب الطويلة التي يعشق الجد إرتداءها، إلى جوار الجوارب

كان هناك ألبوم قديم يحتوي على عدد من صور خاصة بإيفون،وقلادة فضية تحتوي على قلب فتحت غادة القلب،وجدت صورة قديمة مهترئة،مطموس ملامحها،فشلت في معرفة من هي صاحبة الصورة،الشعر الأحمر الناري جعلها على يقين أن صاحبة الصورة ليست إيفون، حين خلدت غادة إلى النوم،كان القط بشر قد تسلل من النافذة لها، وهو يعلن عن حضوره مع إطلاق صوت مواء ضعيف،وكأنه يشكو حاله لها

مما دفعها إلى أن تنهض من النوم قائلة وهي تتحدث له:
_أيها الهر الشقي،أين كنت يا مشاغب؟

حين أطلق القط مواء آخر ضعيف، أدركت أن هناك أمر سيء قد حدث له،مما دفعها إلى أن تدير زر الإضاءة في الغرفة،تفحصت قدم الهر في إهتمام،ثم قالت في صوت به نبرات رعب واضحة:
_ ما الذي حدث لك؟

مررت يدها في جلده الكثيف،إرتطمت يداها بجزء مجروح أعلى ظهره،حملته في لطف،ذهبت إلى حيث ماكينة الخياطة القديمة الخاصة بالجدة إيفون، كانت الجدة تحتفظ دائماً بأدوات إسعاف أولية،وضعت بعض من مطهرات على جسده،ثم قامت على احتضانه حتى تبث داخله بعض من الدفء والراحة، التهم القط في صوت مسموع طبق اللبن التي وضعته نصب عينيه،ثم دس ذاته في الفراش إلى جوار غادة،التي فشلت أن تجد سبيل إلى النوم،إلى أن أعلنت الساعات منتصف الليل،فتسلل النوم إلى جفونها المتعبة،شاهدت عدد من الأحلام المزعجة المتلاحقة القصيرة جداً، حين استيقظت كانت تشعر بألم شديد في الرأس، صنعت إلى ذاتها كوب من القهوة،ثم تذكرت أن أحلامها كانت بها سليم وسلمى،وكانت سلمى تصرخ في وجهها أن عليها أن لا تطأ البيت مرة أخرى،لأن المنزل لا ينبغي سوى أن يكون لها هي فقط،وشاهدت أيضأ مسك وهي تجلس على حافة قطار معطل وتضع حقيبة سفر فارغة إلى جوارها

فكرت غادة أن تلك الأمور ما هي الإ انعكاس إلى أفكارها التي تدور في سرعة كبيرة في إتجاه مسك مديرة منزل سليم، المرأة التي لم تلد ولد أو بنت في الحياة،كان عليها أن تكافح بعد وفاة زوجها، فإتجهت إلى بيع الأطعمة الشهية،بداية إلى الجيران،ثم في الأكشاك الصغيرة،إلى أن ذاع صيتها

تولت صنع وجبات كاملة خاصة في المناسبات،والأفراح،والمأكولات والمشروبات، التقت بالكاتب الشاب،حين طلب منها الإشراف على مأدبة خاصة بحفلة قد أقامها،إلى زوجته في هذا الوقت سلمى،وأبدى إعجابه

بطعامها،وطلب منها أن تظل في المنزل مديرة له وطاهية،ترددت مسك في بداية الأمر أن تقبل بهذا العرض، فهي لم تعتاد حياة الآخرين، ولم تطأ منازل آخر ى غير منزلها،ولا تعرف طبيعة الأعمال بالمنزل، ولكن الشاب الذي لمست معه الصدق والتواضع،جعلها تتخذه ولداً،خاصة بعد أن انتابتها الآم الزائدة الدودية،وهرع لها في منتصف الليل،يطلب لها طب ودواء،حين عادت بعد مضي سبع ايام من القضاء في المشفى،كان سليم يواظب على السؤال عنها ليل ونهار،أيقنت المرأة في تلك اللحظة،أن الحياة أعطتها ولد لها،لم يبخل عليها بإهتمام أو سؤال، ومنذ تلك اللحظة،وضعت بينهم علاقة أسرية قوية متينة جدارها الرحمة،وجمالها في الحنان المتبادل بين كل منهم إلى الآخر، في أيام أزمة سليم الأخيرة

رفضت مسك أن تغض الطرف عن ما يمر به الكاتب الشاب،ورؤيته إلى الإنهيار الذي يهوى إليه،لم تقف مكتوفة الأيدي،حاربت بكل ما أوتيت من ضراوة،وشراسة، حتى تقتنصة من بوتقة الأحزان،تدفعه دفع إلى أن يكون ند قوي إلى احزانه،وضعت يدها على يده تشد عليها أن يمضي معها إلى المستقبل،وهي تلمح داخل عينيه هذا الإنكسار المرير،وصدمته في حبيبة الفؤاد، كانت تتذوق معه جراحه رغبة منها،في تقليل ملوحتها على قلبه الذي ينزف من الغدر،شدة ارتباطها بالشاب هو نتيجة أزمة طاحنة كانت مسك هي القوة الوحيدة التي يمتلكها سليم في مواجهة الفشل والسقوط الذي يعقبه كل مراحل الضياع

وسليم هو عائلة منحت إلى مسك في منتصف الطريق،ءامنت خوفها من شبح العجز والشيخوخة،
سليم هو سيف مسك التي تحارب به جبروت الوحدة وهيمنة الزهايمر،وتوابعه، كان كل منهم حاجز أمان
إلى الآخر من تقلبات الحياة

فكرت غادة في حيرة في أمر القط بشر،كان الجرح أعلى ظهره لا يزال ينزف في قوة،مما دفعها إلى حمله إلى المشفى في خلال زيارتها إلى الجد،فكرت في عرض الأمر على اي طبيب بيطري في الجوار،ولكن العيادات الطبية كانت مغلقة في الصباح الباكر، مما دفعها إلى التفكير في إحدى الممرضات،ربما اختارت إلى القط بعض الأدوية التي توقف هذا الجرح،كان الجد رفيق أيضاً،قد شعر بالقلق على القط الصغير، بعد ان قام على الاحتفاء به بوضعه على قدمه،والترحيب به،بعد أن لعق القط يد رفيق،وتلقى العجوز الإشارة، وقام على تفسيرها، أن القط يعبر عن شوقه له بلغة القطط، وكذلك الصغيرة ساشا،التي أبدت تعاطف كبير مع بشر الطيب،كما أطلقت عليه، كان الجد رفيق هو اول ما تحدث عن حالة القط الى أحد الأطباء،الذي لم يجد أي مانع في فحص حالة القط،ومن ثم قام على تنظيف الجرح الغائر وخياطته،بعد إزالة قطع زجاج كانت قد استقرت فوق ظهره

وتم حقن القط بإحدى الأمبولات الطبية التي أعطت القط جزء من النوم،وأوصى الطبيب غادة،أن تلتزم القط الأيام القادمة،وأن يتم وضعه بعيداً عن البرد الشديد،ويتم تقديم وجبات من الأدوية الجافة المخصصة إلى الحيوانات، حتى تضمن إلى القط توازن في مقاومة الألم وتعطي إلى القط سلامة بدنية

خاصة مع ضرورة إعطاءه امبولات حقن آخر ى بعد ثلاث ساعات،مما جعل الفتاة في حالة تفكير مستمرة،عن كيف لها أن تعود في منتصف فترة العمل مع سليم وتباشر حالة القط؟ التي لا تستطيع أن تتركه وحيداً،أو تتجاهل مرحلة الشفاء الخاصة به،وتمضي في طريقها، وأيضاً لا تستطيع أن تترك القط في رعاية الجد العجوز،لهذا قررت أن تحمل القط معها إلى العمل،وهي تفكر في تركه إلى مسك،خاصة أن الصندوق الخاص به،لا يظهر اي من ملامح القط،لهذا سوف يكون من السهل اخفاء بشر عن أعين سليم

حين وصل السائق أمام المكتبة،كام ينظر إلى الصندوق في فضول،وتساؤل نهم،ولكن لسانه لم يجرؤ على البوح، وانطلق بالسيارة،وهو يريد أن يصل إلى المنزل في الموعد المحدد له، حمدت غادة الله أن سليم كان خارج المنزل،وقد أفضت غادة إلى مديرة المنزل، بما يحتويه صدرها والصندوق أيضأ، ووجدت من مسك ترحيل بالقط رغم أحزانها التي تظهر في وضوح في عيناها المنطفيء بريقها،
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي