الفصل الواحد والعشرون

على صوت جرس المنزل الذي كان مستمرًا بالإزعاج، حتى جعلها تستيقظ من نومتها بسخط، لتنهض مجبرة وهي تُجهز قائمة من السباب لو كانت جارتها هي من تفعل ذلك، فرأسها الثقيل لم يشبع جيدًا من الراحة بالنوم.

وصلت إلى الباب الخارجي لتغمغم ولسانها يتجهز للشتائم:
-نعم يا حمقاء لقد استيقظت، ماذا تريدي؟
قالتها وهي تفتح الباب لتُجفل على رؤية رجل غريب يقف أمامها، والذي تحمحم يشيح وجهه للجهة مردفًا بحرج:

-اَسف سيدني لو ازعجتك، ولكني لم أجد غيرك أمامي .
كانت عزة في هذه اللحظة تلف حاجبها جيدًا، فانتبهت لتسأله بفضول:

-لا تؤاخذني في السؤال، ولكن من أنت؟
اجابها ورأسهِ مازالت على الناحية الأخرى:
-أنا اسماعيل شقيق جارتك ابتسام في هذا المنزل .
ذهبت أبصارها نحو ما يشير، ثم عادت لترحب به:
-مرحبًا مرحبًا، اهلا بيك يا أخي، أنا عزة فلا تخجل مني

قالت الأخيرة لترفع عنه الحرج، فالتف إليها يصافحها مرددًا:
-بارك الله فيكِ يا سيدة عزة، لقد عرفتك دون تقديم، فشقيقتي لا تكف عن ذكر إسمك في كل جلساتنا معًا.
اومأت له بابتسامة ودودة ترد:

-نعم وانا أيضًا عرفتك من قبل أن تخبرني، هذا لأنها أخبرتني بحضورك بالأضافة إلى هذا الشبه بينكم، ولكنها ذكرت بأنك ستحضر في الصباح وليس الان.
التف إليها جيدًا الشاب ليجيب بوجه متغير:

-لقد وعدتها بالفعل أن أصل في الصباح، ولكني لم اقدر على الإنتظار والصبر بعد اتصالها بي وطلبها الحضور ضروري، لاَتِ الاَن ولا أجدها.
-لا تجدها! كيف؟
هتفت بها عزة وعينيها ذهبت نحو الباب الملغق لتكمل:
اضغطت على الجرس جيدًا؟

اومأ الشاب بنزق:
-نعم سيدتي، فقد ضغطت جيدًا، وصرت اطرق على الباب حتى توجعت يداي بلا فائدة، حتى هاتفها اتصل عليها بالمئات ولا تجيب.
تعقد حاجبي عزة باندهاش، لتجيبه بالقلق هي الأخرى:

-لقد كانت عندي هنا بعد المغرب، واستمرت جلستنا لفترة كبيرة من الوقت، حتى تركتني لكي أنام، وهي لا تخرج أساسًا في هذه الساعة.
-هل من الممكن ان يكون اصابها شئ ما؟
تسائل بها الشاب وكأنه يحدث نفسه لتبرق عينيها بالفزع تقول له:

-نسأل الله السلامة، تفائل بالخير يا أخي .
صرخ الشاب بنفاذ صبر:
-ونعم بالله، ولكني لن اظل واقفًا كالعاجز ولا أفعل شئ.
ساكسر الباب.
قالها وهم بالتحرك ليفعل ولكنها اوقفته:

-إنتظر يا أخي دقيقة، فربما قد تكون ذهبت لتبتاع شيئًا ما من محل البقالة بجوارنا، انتظر هنا حتى اتصل بصاحب المحل.
قالتها متوجهة على الفور للداخل تتناول هاتفها مع الشعور بقبضة قوية على قلبها، وإحساس غريب يدفعها لعدم الاطمئنان على الإطلاق.

عادت إلى الشاب من الداخل لتفاجأ بالطبيب عزيز امامها، ليسألها على الفور:
-أين زوجك يا عزة؟
ردت بعدم فهم:
-زوجي أنا ما به؟

هتف الطبيب يجيب بانفعال:
-أتصل به منذ ساعات ولا يرد، والاَن أصل ولا أجده في حراسة المبنى، سوف احاسبه على هذا الإهمال، اما الاَن فتعالي أنت يا بني لتحمل معي الجهاز الطبي الجديد للعيادة.

وجه الاَخيرة لشقيق ابتسام إسماعيل والذي هم ليعترض:
-ولكن...
قاطعته عزة على الفور تخاطبه بإلحاح:
-إذهب لتساعد الطبيب في حمل الجهاز يا أخي، وانا سوغ أتصل وأطمئنك بإذن الله.

قالتها في محاولة لصرف الشاب عنها قليلًا، حتى إذا ما غادر مع الطبيب، دخلت لمنزلها سريعًا، حتي تبحث بنفسها، فالربط بين إختفاء الإثنين، يجعل الظنون تدور برأسها ويذهب عنها إلاطمئنان لغير رجعة.

❈-❈

من الباب الخلفي للحديقة دلف الطبيب وهو يحمل في الجهاز الكبير بمساعدة اسماعيل، والذي كان يحمل الجزء الأكبر لقوته الفارقة عن الطبيب الذي كان يغمغم بالسباب على المدعو عمران، لترك عمله اليوم مع غياب عصام، ويتورط هو بحمل شئ لم تعد به لياقة بدنية لفعله.

دلفا الإثنين بحملهما الثقيل من باب المطبخ الخلفي ليكملا طريقهما في اتجاه العيادات، فانتبه الطبيب إلى إلى إنارة اللمبة الكهربائية للمطبخ، والرواق خارجها، ليتمتم بارتياب:
-ما هذا؟ من ألذي أشعل الإضاءة في المنزل؟

هزهز الشاب رأسهِ بعدم فهم، قبل أن ينتبه على قول الطبيب الذي امره بترك الجهاز على الأرض، ثم طلب منه مرافقته في الدخول بحرص حتى يتبينا؛ عن المتسبب في إضاءة المنزل، أكملا طريقها للداخل بخطوات حذرة ليتتبعا الإضاءة حتى وصلا إلى الغرفة التي كان يصدر منها الأصوات الغريبة.

أشار إسماعيل نحوها بقلق نحو الطبيب، ليهمس بصوت خفيض:
-أنه صوت صراخ مكتوم وبكاء شديد مختلطًا بأصوات أخرى.
سمع منه الطبيب ليتوجه نحوها متحفزًا بغضب، فسبقه أسماعيل بلياقته، ليدفع الباب بقدمه مرة واحدة لينفتح على مصراعيه.

ويكشف عما بداخلها، فانتفض عمران مجفلًا بجزع لهذه المفاجئة الغير متوقعة على الإطلاق، وعلى مدخل الغرفة اشاح الطبيب رأسه على الفور مغمغًا بالاستغفار والسباب على هذا الفاسد.

أما اسماعيل فقد تطلع بصدمة على وجه المرأة التي غطاها هذا الرجل بالشرشف فور ابتعاده عنها، مقيدة اليدين وفمها مكمم بطرحة نسائية، تتطلع إليه بانهيار وبكاءًا متقطع بنشيج عالي وشهقات متواصلة، بهيئة قبضت على قلبه من الألم، ليتمتم بصوت مذبوح،:
-شقيقتي!

لفظها بعدم تصديق قبل أن ترتفع رأسه فجأة نحو هذا الفاسق والذي كان يتسحب بخطواته نحو باب الغرفة التي تصدر على مدخلها الطبيب يخاطبه بازدراء:
-إلى أين تظن نفسك ذاهبًا يا حيوان؟

قالها عزيز قبل أن يفاجأ بفعل إسماعيل الذي حمل الكرسي الوحيد بالغرفة ليضرب بها رأس الاَخر من الخلف فوقع ارضًا على وجهه، ليكمل بتكسيره فوق راسهِ وظهره رغم صراخ الطبيب الذي كان يحاول بصعوبة منعه حتى لا يموت في يده!

❈-❈

بعد عدة شهور
في غرفتها القديمة، وبعد أن عادت إليها لتشارك السكن مرة أخرى مع عمها وزوجته اللذان اعتبراها الهدية التي عادت إليهم مع قطعة صغيرة جميلة منها تُشع الفرح في قلب العجوزين بعد أن خلا البيت من جميع الأبناء بزواجهم، وذهاب كل فرد منهم لحال سبيله.

مع طفلها كانت تداعبه بقصد حتى يصدر صوت ضحكاته الطفولية المقهقهة بمرح، لينعش قلبها بالسعادة التي تذوقتها اَخيرًا، بعد رزقها بعد الصغير الذي يفهما من نظرة رغم صغر سنه، ليكون عوضها الجميل بعد سنين اليٌتم:

قطع وصلة المرح بينها دخول زوجة عمها التي خاطبتها قائلة:
-عزة، لديك زائر غريب يا ابنتي .
قطبت بدهشة تسألها
-زائر غريب! ألم يخبرك بإسمه؟

❈-❈
-عصام!
هتفت بالأسم فور رؤيته على مدخل غرفة الاستقبال، التي كان جالس بها بصحبة عمها، لتُكمل الترحيب بابتسامة يملؤها الود وهي تتقدم لتصافحه:
-لم أصدق عمتي حين اخبرتني، كيف حالك يا رجل؟

رد بغبطة اكتنفته فور رؤيتها:
-كيف حالك أنتِ يا عزة؟ وكيف حال صغيرك هذا؟
قال الاَخيرة بإشارة على طفلها الذي كانت تحمله على يدها، وقبل أن تجيبه قطع عمها الذي استئذن لصلاة الظهر، وقد أمن الرجل الغريب من ثقة عزة به.

بعد خروج الرجل وجلوس عزة معه، أخذ عصام فرصته في النظر بالطفل ليردف لها:
-يا لهي يا عزة، بسم الله ماشاء الله، هذا الطفل رائع الجمال بالصفات التي توارثها منك، أظنه سيحطم كل قلوب النساء بعسليتيه.

ضحكت تجيبه بابتهاج قلبها:
-نعم هو كذلك، لأني لن أسمح باقتراب واحدة منهن.
-ستصبحين حما شريرة.
قالها بتساؤل لتُجيبه بنظرة محذرة:
-ومؤذية أيضًا.

سمع منها لينطلق بضحكته وشاركته هي أيضًا مع طفلها حتى أذا توقف فاجئها بقوله:
-تزوجيني يا عزة.
طالعته بازبهلال وكأنها لم تعي جيدًا، ليستطرد لها:
-لا يوجد علي قضايا الاَن، فقد اعترفت حبيبة بكل شئ فور إفاقتها من الغيبوبة، حتى لا تظلمني معها.

أما عني، فقد تغيرت كثيرًا بعد كربة السجن والشعور بالظلم، كانت رسالة من الله لكي افوق واعود للصواب، والاَن أريد إكمال توبتي بك، طفلك سيصبح طفلي من اليوم، معزته الغالية ستكون من معزتي في قلبي.

-وزوجتك؟
قالتها بسؤال، فعبس وجهه مع الرد بالإجابة:
-ليس لها شئ عندي بعد الاَن، انا أريد بداية جديدة، والبداية لا تكون أبدًا بنفس الخطأ القديم.

-بل بدايتك لن تكتمل إلا بها.
سمع منها لترتفع رأسهِ إليها قائلًا بدهشة:
-أنتِ من تقولين هذا يا عزة؟ وبعد الذي حدث بينها وبين زوجك؟
تنهدت تقول باعتراض:

-لم يعد زوجي الاَن، لكن هي مازالت صديقتي ولم اقطع علاقتي بها، لأني علمت بكل شئ منها وعرفت بما كان يدبره هذا الرجل للأيقاع بها، وإبعادك انت عنها، أعلم جيدًا بخطئها ولكن من منا معصوم؟

-خطأ عن خطأ يفرق يا عزة.
قالها بحدة قابلتها برد أفحمه:
-وهل كان خطأؤك انت قليل؟
باغتته بجراة سؤالها، فبدا على وجهه الحرج وهو يرد بعينان متهربتان منها:

-لقد اعترفت بالحق، وقولت أني قد توبت عن كل أخطائي القديمة.
ردت بلهجة متأثرة:
-إن كنت انت توبت بسبب كربتك في السجن، فهي قد كُسرت بعد هذا الدرس القاسي.

أنت لا تعرف كيف هي تغيرت الاَن، إذهب إليها يا عصام وابدأ معها من جديد، رممم جرحك مع جرحها، لقد حان وقتكما، بعد أن ابتعدا عنكما الشيطان، وقد أخذ جزاء عمله بالسجن الذي يستحقه.

كلماتها الموزونة بدقة جعلته يسألها بفضول:
-وانت يا عزة، ماذا ستفعلين؟
اشرق وجهها لترفع اليد الصغيرة لطفلها لتقبلها بابتسامة تجيبه:

-أنا أعيش اجمل أيامي الاَن، ولا أريد تعكير صفو حياتي بشئ، ولا يشغلني سوى مستقبله، هذا هو رجلي الحقيقي.
تنهد بقوة ليردف لها بتأكيد:
-بل هو ابنك يا عزة، لاني على ثقة تامة، ان رجلك الحقيقي سيأتي إليك ويجدك، لانكِ تستحقين الأفضل.

❈-❈

بعد كلمات عزة وتفكير عميق استمر معه ليومين حسم امره لياتي إلى البلدة ويراها بنفسه وبعد ذلك يقرر، كان قد اتصل بشقيقها اسماعيل الذي شملها برعايته، طول الشهور الفائتة، وهو من أخبره عن مكانها الاَن، لأنه لا يريد التدخل، حتى يُتيح لهما الفرصة كاملة قبل ان يأخذا القرار .

وصل إلى الحقل الموصوف ليفاجأ برؤيتها أسفل إحدى الأشجار جالسة بهيئة لم يراها به قبل ذلك، كانت شاردة برسم شيئًا ما على الأرض، اقترب ليُلقي التحية برسمية:

-مساء الخير.
انتبهت لترفع رأسها إليه في رد التحية ثم عادت لوضعها السابق بصمت اقترب هو يتناول احد الأحجار ليجلس عليها بالقرب منها، وبادر حديثه بالسؤال العادي:
-كيف حالك؟

أومأت برأسها تجيب بتمتمة وعينيها في الأرض لم ترفعها، لتجعله يأخذ الفرصة كاملة في النظر إليها،
إجابتها المقتضبة بهدوء جديد عليها، نظرة الإنكسار، حتى ملامح وجهها يراها متغيرة عن السابق، تكاد تكون امرأة أخرى.

حين ظل صامتًا لفترة طويلة تكلمت هي:
-لقد اخبرني اخي بزيارتك، وانا من اقترحت عليه ان يكون اللقاء بعيدًا عن أهلي، حتى أعفيك من الحرج.
قالت الاَخيرة بعد ان رفعت عينيها إليه، لتتبع بحسم:
-لا داعي للإطالة أرمي اليمين الاَن وانا سوف اتنازل عن حقوقي .

صمت يطالع نظرتها الحزينه وهذه القوة التي تدعيها ثم اردف يفاجئها:
-منذ متى أصبحتِ ترتادين الخمار؟
تعجبت السؤال وتغير الحديث، ثم صدرت إجابتها بتنهيدة قوية مصحوبة بتوترها:

-منذ عودتي للبلدة، كنت اود ارتداء النقاب ولكني خشيت الا أتحمل واتخلى عنه بعد ذلك، وانا اريد الاستمرار، ها ماذا قررت؟
تجاهل سؤالها الاَخير ليردف لها بابتسامة:
-أصبحتِ كالبدر بعد ارتداءه.
اجفلها بغزله المباغت، فقالت لتُخفي ارتباكها:

-دعنا في حديثنا المهم الاَن، لقد قلت لك اني سوف اتنازل عن كل حقوقي ماذا تريد أيضًا؟
تناول كفها فجأة لينهض عن الأرض وتنهض معه، ثم قال يجيبها بابتسامة مشرقة:
-لا اريد شيئًا غيرك.

اضطربت ثم ارتشعت شفتيها لتقول بدمعة تساقطت على الفور:
-ولكن كيف؟ و...
قطع بوضع كفه على فمها ليضم رأسها اليه وتطلق هي الدمع الغزير، فظل يربت على كتفها لدقائق قبل أن يقول ممازحًا:

-لقد صنعنا مشهد رومانسي في قلب الخضرة يا امرأة.
أوقفت لستدرك مغزى كلماته، مع نظرات الفضول المصوبة نحوهما من البشر، فقالت بحرج:
-يا إلهي والجميع ينظر نحونا.

قالتها وحاولت لتبعد راسها عنه ولكنه اعترض ليشدد بضمها من كتفيها ويردف بحزم مصطنع:
-إهدأي يا امرأة ودعكِ منهم، أنتِ مع زوجك وليس شخص غريب.
هدأت تسأله:
-هذا يعني أنك بالفعل قررت العودة إلي؟

تبسم يجيبها بمرح:
-نعم يا مجنونة،كل هذا ولم تفهمي؟
ختم جملته بقبلة على جبهتها، ليسحبها من كفها بعد ذلك متخذين طريق العودة إلى منزل العائلة وسط حقول الخضرة والذرة

❈تمت❈
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي