الفصل العاشر

وقفت أنا وسامح مذهولان من صورة السلسال، يشبه كثيرا ذلك السلال الذي أتحسسه بجيب بنطالي الآن، ما يزيد عنه بالصورة هو أن بمنتصفها وجه لسيدة مخيفة تحولت شعراتها إلى ثعابين تتلوى، ولا يوجد هذا الوجه بالسلسال الذي معي..

لم أخبر الشيخ بلال بأمر عثورنا علي ذلك السلسال أو القلادة كما يسمها، حتى لا يربط بين أنني ذلك الأسطورة أو لا؛ فشخص مثله مولع بتلك المعلومات سيصدق أنني هو المميز ذاك، وأنا لا أريد وجع الرأس أو سيرة ترتبط بأمور الجن، يكفيني أنني كاتب مميز ومشهور في مجال الرعب وفقط..

جلست وفردت تلك الأوراق البالية علي الطاولة أمامي وتفحصتها بإمعان وحذر، وأنا أجد بها ما قاله الشيخ بلال بالتفصيل، جلس بجواري وقال وهو يهز رأسه بحيرة:
_ أنا أتمنى أن لا يتم تحريره، حينها سيأخذ في طريقه الأخضر واليابس ولن يرحم أحد ممن سجنه.

طالعت سامح الذي كان يفهم ما يدور في رأسي، وقف الشيخ بلال وقال وهو يشير علي المكان حوله:
_ تلك الغرفة غرفتكما، وتلك الغرفة المقابلة لها اتركها لوالدك، أما أنا سأذهب إلى بيت والدتي لأترككم على راحتكم، وإن حدث أي شيء هذا هو رقمي الخاص.

مد يده ناحيتي بورقة تناولتها منه وناولتها لسامح قائلا:
_ سجله من فضلك يا سامح علي هاتفك.

أخذ مني سامح الورقة وبعدما حفظ الرقم في هاتفه، أشار الشيخ بلال إلى المائدة وكان عليها صواني كبيرة مغطاه بقطعة قماش وقال:

_ لقد أحضرت لكم العشاء، أرجو أن ينال إعجابكم، إنه الفطير المميز الخاص ببلدتنا والعسل والبيض، عشاء خفيف كما يقولون، تناولوه وإن احتجتم لأي شيء فقط هاتفوني، والمطبخ أيضا به كل شيء، سأترككم الآن وفي الصباح بإذن الله؛ سأنتظر أن تهاتفني كي آتي إليكم ونذهب إلى بيت الحج عبد الفتاح، تصبحون علي خير.

قال له سامح بابتسامة ودودة:
_ وأنت من أهل الخير، شكرا جزيلا لك.

تركنا وانصرف فمال سامح ناحيتي وقال بتذمر حاد:
_ عشاء! أين وجبة الغداء من يومنا هذا ؟! أين البط وصواني الخضار المطهوة بالفرن والفتة وغيرها من أكل بلدتنا الشهي؟

ابتسمت رغما عني وقلت له بسخرية مازحة:
_ هل لديك رغبة لتناول أي طعام من الأساس بعد ما مررنا به؟!

أشاح سامح بيده في وجهي وقال:
_ نعم لدى الرغبة فمعدتي لا تتأثر بما يدور حولها أيا كان، ناهيك عن أنني اعتدت تلك الأجواء.

جلست وأنا أطالع الصور التي التقطتها الكاميرا وفيديو ريم من البداية، أخرجني من تركيزي صوت سامح وهو يقول بضحكة عالية:

_ الشيخ بلال عند خروجه قال لنا تصبحون علي خير، والساعة الآن الثامنة مساء، ونحن لا ننام إلا الثانية فجرا، لا أتذكر أننا نمنا بذلك الوقت من قبل سوى أيام المدرسة والدراسة حين كنا صغارا.

رفعت عيني بملل وقلت له حانقا مما يهذي به:
_ يكفي ثرثرة لقد سأمتك، أنا كل ما يشغل تفكيري حاليا هي تلك القلادة التي في الكتاب، والتي عثرنا عليها، ولكن ينقصها القلب.

جلس سامح على الطاولة وشرع في كشف الصواني وهو يقول:
_ لقد التزمت الصمت عندما وجدتك لم تتحدث بأمر ذلك السلسال، عرفت أنك تحتفظ به لنفسك ولا تريد أن يعرف أحد بأمره .

تركت الأوراق ووقفت وأنا أتمطأ بكسل قائلا:
_ جيد وإلا لك يكن ليتركنا، أنا سأدخل للغرفة وأتمدد وربما أغفو قليلا.

ترك سامح الفطير وطالعني بتعجب رافعا حاجبيه باندهاش وقال بتعجب:
_ هل أصابتك لعنة تلك البلدة؟! ستنام من الساعة الثامنة!

أجبته مسرعا:
_ لا، أريد أن أغفو ساعة واحدة، لأنني أشعر بإنهاك شديد في جسدي، لا أعرف هل هو من السفر، أم مما ممرنا به، سأغفو ساعة واحدة فقط، وتعالى إلى غرفتنا وأيقظني كي نبدأ العمل على ما توصلنا له.

لاك سامح قطعة الفطيرة التي كانت في فمه، وقال:
_ حسنا، لا تقلق سأجلس مع والدك نتشاجر قليلا إلى أن أيقظك.

دخلت إلى الغرفة وأنا أطالعها بنظرة شمولية، كانت رغم بساطتها نظيفة للغاية، ارتميت بجسدي على الفراش وأخذت أحملق في السقف وأنا أعيد ترتيب كل ما حدث في رأسي مجددا، أحاول أن أترجم الأحداث، وما الذي يدور هنا وتلك الألغاز المتشابكة..

ويبدو أنني سأدخل في نفق مظلم إن تابعت التقدم في هذا الموضوع، وأنا أسأل نفسي سؤال واحد، هل لو ارتبط تحرير ريم بتحرير ذلك الجن، سأتركها تدفع ثمن شيء ليس لها علاقة به أم أحرره من أجلها وأتحمل العواقب؟! فبالنهاية إنهم يريدونني أنا لا هي..

أغمضت عيني وتمددت على جانبي الأيمن، ووضعت كفي تحت وجهي وانسحبت ببطء إلى عالم الأحلام، رأيت ريم مجددا تجلس أمام الكرسي الثاني من الكراسي الأربعة بجوار كرسي ذلك الظل ذو الوجه الخبيث الذي حررته في أوكرانيا، وجدتها تشير إلى الأعلى بسبابتها..

رفعت رأسي فبدأ يتشكل أمامي ذلك الظل الذي رأيته على وجهها في بيتها، كان أكثر وضوحا وبشاعة بقرونه المتعددة، وهو يطالعني بابتسامة حاقدة، وقد كُبلت رقبته بالسلسلة، تلك السلسلة المتصلة برقبة ريم، وكأنه عرف ما يدور برأسي قبل أن أغفو..

فأكد بهذا الحلم علي أنه، إن أردت تحريرها مما هي فيه، سأحرره هو شخصيا أولا، حتى انتبهت إلى ريم التي ترفع يديها إلى الأعلى وتجذب ذلك السلسال والذي يبدو أنه يعتصر رقبتها بقوة، وجدتها تلفظ أنفاسها بصعوبة وخلفها هذا الظل يطالعني بنظرات ثابتة متحدية..

وكأنه ينتظر أن يرى ماذا سأفعل، بحثت حولي ولم أجد شيئا لأكسر به تلك السلسلة، ولكن الأكيد من داخلي أنني سأحررها مهما حدث، ومهما كانت العواقب التي تنتظرني، وجدتني أحاول أن أكسر هذه السلسلة بيدي، وبمنتهى السهولة كسرتها، طالعت يدي بتعجب من تلك القوة وأنا نفسي لم أتخيلها بي..

وحررتها وهي تطالعني بامتنان واختفت من المشهد تماما، لم أكسر تلك السلسلة التي حول رقبة ريم فقط، بل كسرت أيضا تلك السلسلة التي كانت تطوق رقبة هذا الظل الذي أخذ يصرخ بانتشاء وزهو رهيب..

نفض جسده وكأنه يزيح عنه أشياء كثيرة قد علقت به أثناء سجنه، ما أن انتهي حتي فرد جسده العريض القوي، لم يكن طويل للغاية كحال "مأزر"، ولكن أطول مني بالنهاية..

وجدته يرتفع في الهواء بجسده وهو يصرخ ويضرب صدره بكلتا يديه، ويشعر بانتشاء وزهو، والتف جسده بعباءة ملكية منحته بهاءً غريبا، ووجدته يمسك بيده سيف مليء بالأحجار المنيرة وكأنه محارب شرس..

إلى أن هبط وجلس على كرسيه بكبرياء، التفت ناحية "مأزر" وحياه برأسه والآخر رد له تحيته، مررت بعيني على "مأزر" وجدته ينحني لي برأسه وكأنه يقدم لي فروض الطاعة والولاء، ثم عدت بعيني إلى "كمطم" الذي يجلس بجواره..

انتظرت منه أن ينحني برأسه ويقدم لي خنوعه واستسلامه لي، ولكنه ابتسم بسخرية وأشاح بوجهه بعيدا عني، من دون أن أشعر أخذني كبريائي، وجدتني أرفع ذلك السلسال في وجهه ليعود إلى حالته الأولى..

وتعود ريم كما كانت مكبلة مسلسلة تطالعني بلوم، وكأنها تقول لي لماذا عدت بي إلى هذا المكان، رفعت وجهي ناحية "كمطم" الذي اكفهر وجهه وكأنه يهددني إن لم أحرره سيقضي عليها، وجدت صوته يخترق عقلي ويقول بقوة:

_ لا تعبث مجددا، فالعبث معي لن يرق لك، امضي في طريقك وذلك الطريق قد فرض عليك، ولن تجد له بديلا أيها، المختار.

وأخذ يضحك بصوت عالي في رأسي، رغم ثبات ملامحه التي تطالعني بنفور واحتقار، ثم تحدث قائلا:
_ لقد أصبت باللعنات، ولن تتحرر منها يا مختار.

و وجدت النيران تندلع من حولي مجددا وتلفني وعندما بطئت حركتها اتضح لي ثلاث كرات من اللهب تحيطني وحرارتها تلفح جلدي فتؤلمني..

جلست علي الفراش منتفضا وأنا أشهق بقوة، ربت سامح علي ذراعي وقال مسرعا:
_ أنا آسف أنني أيقظتك، ولكن أنت من طلبت مني ذلك.

تطلعت حولي وأنا أبحث عن المنصة والكراسي وكرات النار وريم أيضا؛ فلم أجد شيئا وتداركت الأمر أنه مجرد حلم.

استعذت بالله في داخلي، ووقفت مسرعا وأنا أنفض عن نفسي وعن عقلي كل ما رأيته منذ قليل، وسرت مع سامح إلى الخارج وجدت أبي يجلس ويمسك مسبحته ويحصي حباتها وهو يذكر الله، كنت جائع على للغاية فسرت أولا ناحية الطاولة وجلست عليها وتناولت عشائي من الفطير..

والذي كنت أفتقد طعمه لسنوات طويلة، أنهيت طعامي وجلست مع سامح الذي أوصل آلة التصوير بحاسوبه المحمول، وأخذنا نتصفح الصور بإمعان، توقفت عند صور المقبرة وأنا أضيق عيناي ملتقط ظلا غريبا بها..

رأيت رجلا طويلا يرتدي حلة غريبة وكأنه خرج من مسلسل تركي عن الزمن العثماني ، ويضع فوقها عباءة باللون الأحمر، وعلى رأسه عمامة بلون العباءة على الازرق، أخذت أضغط زر تتابع الصور فوجدته يسير ويسير ووقف أمام حائط أمامه وأخرج منه ورقة كانت مختفيه بداخل الحائط..

ورفع تلك الورقة أمام عدسة الكاميرا يريني إياها، ثم أعادها مرة أخرى إلى مكانها، ثم أشار ناحيتها ليخبرني أن أتي إلى ذلك المكان وأخرج تلك الورقة، ثم عاد بظهره قليلا وجلس على شيء ما لا أراه، كأن في هذا المكان أريكة أو مقعد، كنت أضغط زر تتابع الصور التي تظهره لي كأنه فيديو مسجل، ثم ضرب الأرض بقدمه..

تحرك حائط موازيا لجلسته بجوار ذراعه الأيسر، لا أعرف ما السبب أو كيف تحرك هذا الحائط عندما ضرب الأرض بقدمه، عندما عدت لأشاهد تلك الصور من البداية، لم أجد بها كل ما رأيته ولم أجد الرجل ولا الورقة التي في الحائط..

لا الأرض ضربها بقدمه ولا الحائط الذي انفتح بجواره، كل شيء قد اختفى تماما، لاحظ سامح ارتباكِ فسألني بقلق:
_ هل رأيت شيئا ما بالصور؟!

وقفت وأنا ألملم هاتفي ومفاتيحي وأقول له بإصرار :
_ يجب أن أذهب إلى المقابر الآن.

وقف سامح ببطء شديد وهو يقول بصدمة ويطالع ساعة معصمه:
_ نعم؟! إلى أين لم أسمع ما قلته جيدا؟ تقصد المقابر يا رامي وبذلك الوقت، ألم ترى نفسك عندما كنا وقت غروب الشمس، كنت تنتفض من رعبك، وأنا من لاحظت ذلك وأسرعت بجذبك للخروج من هناك، وتريدنا الآن أن نعود إلى هناك بإرادتك؟!

قلت له بتأكيد هادئ وأنا أطالعه بقوة:
_ نعم، أنا أريد أن أعود إلى هناك بإرادتي، وأن أعود إلى ذلك الضريح وأدخله حال.

وقف أبي أمامي وقال بتعقل:
_ رامي سامح معه حق، فلتنتظر للصباح على الأقل، حتى تساعدنا أشعة الشمس كي نرى، أنت تريد أن تدخل إلى مكان متهالك الجدران؛ لكي تبحث عن شيء ما في هذا الظلام! أنا أقول أن ننتظر للصباح.

مررت كفي علي وجهي فاقدا صبري وقلت بضيق:
_ وكيف لي أن أصبر إلى الصباح؟ أنا أريد أن أذهب الآن.

ربت أبي على كتفي وقال بنبرة حازمة:
_ سننتظر، كما يقولون يا ابني الصباح رباح، فلتنتظر وسنأخذك إلى هناك وابحث عن ما شئت حتى تكتفي، وتقول أريد أن أنصرف اتفقنا.

أومأت برأسي منصاعا وقلت علي مضض:
_ حسنا اتفقنا.

بقيت مستيقظ طوال الليل، حتى اشتدت شمس الصباح واستيقظ الجميع، وجدت الشيخ بلال يطرق على باب البيت، فتحت له الباب وقلت بفقدان صبر:

_ لماذا تأخرت؟ أنا لم أعد أمتلك الطاقة الانتظار أكثر، من فضلك أريد أن أذهب إلى هناك، وأريدك أن تأتي معي.

أومأ الشيخ بلال برأسه وقال بحماس:
_ سآتي معك لا تقلق.

ثم تطلع داخل البيت وصاح قائلا:
_ هل سيأتي معنا أحد؟

أسرع سامح وهو يحمل حقيبته وقال:
_ نعم أنا سآتي معكما.

بقي والدي في البيت وذهبنا ثلاثتنا إلى هناك، وقفت أطالع الضريح وأنا أبحث عن ذلك المكان الذي التقط منه سامح الصور، حتى وجدته أخيرا، صعدت فوق صخرتين وتطلعت إلى الأسفل، وجدتني دون |أن أشعر أقفز إلى داخل الضريح.

صرخ بي سامح قائلا:
_ رامي هل جننت؟! عد إلي هنا فورا.

رفعت رأسي ناحيته وقلت لطمأنته:
_ لا تقلق أنا بخير.

سرت وأنا منحني قليلا وبدأت أتحسس ذلك الحائط، لم يكن حائط بل كان عبارة عن صخور بلون بني يبدو أنها من الطين، متراصة بجوار بعضها البعض، لم أكن أعرف من أين أبدأ بحثي، أو ما الذي أبحث عنه..

ولكنني كنت أتحسس الحائط بيدي حتى انغمس إصبعي داخل الحائط في تجويف غير مرئي، أزلت بعض الأتربة والحصوات التي سدت ذلك المكان، حتى وجدت التجويف قد اتسع بعض الشيء، وبإمكان إصبعين من يدي المرور به..

دسست أصابعي داخل الحائط، حتى لامست شيئا يشبه في ملمسها الورق، وضعته بين إصبعي وسحبته إلى الخارج، كانت ورقة غريبة تشبه أوراق الشيخ بلال القديمة..

وأنا أتعجب كيف لم تبلى مع الوقت والسنون والأمطار، وأشعة الشمس، وبقيت في داخل هذا الحائط كل تلك الفترة، لم أفتحها ولكنني دسستها بجيبي، كي لا أبقى في هذا المكان كثيرا..

تطلعت حولي فوجدت باب يقع إلى يساري، وأعتقد أن هذا الباب هو ما كان يقع على يسار سيدى مهدي حين رأيته يجلس على شيء ما، ذهبت إلى طرف الحائط وتصنعت الجلوس على مقعد وهمي..

شعرت بأنني أضغط على شيء تحته هواء، رفعت ساقي وهويت بها مجددا، فتأكد حدثي أسرعت وأنا أنحني على الأرض، وأخذت أنبش بيدي في الأتربة متعمقا لبعض السنتميترات، حتى ظهر لي بعض الأرواح الخشبية المتراصة بجوار بعضها، ومثبتة في قائم يصل بالحائط..

ضغطت على أول لوح لم يحدث شيء، ضغطت على الثاني ولم يحدث شيء، ضغطت على الثالث نفس الشيء، ضغطت على الرابع فشعرت باهتزاز إلى جواري وكأن الجدران تهتز، وسقط علي غبار كثيف من سقيفة الضريح فوق رأسي، وقفت وأنا أشعر بالذعر فوجدت الأتربة تندفع إلي عيني..

صرخ سامح من خلفي وهو يقول:
_ ماذا تفعل يا رامي بالأسفل لم أعد أراك؟! يبدو أن الضريح سينهار أسرع.

حاولت أن أنظف عيني مما علق بها، وصدى صوت غريب مازال يتردد، ركزت سمعي ففهمت أن الصوت يأتي من وراء الباب المؤدي للفتحة، وصوت يُشبه الاحتكاك المعدني لمعدات ميكانيكية يتصاعد..

فتحتها وأنا أتحسس الحائط ورؤيتي أصبحت مشوشة، فوجدته انفرج بعض الشيء عن بعضه، حاولت إزاحته أو زيادة مساحة تلك الفتحة ولكن لا جديد..

مددت ذراعي إلى داخلها، كانت غرفة صغيرة عرضها وطولها بعض السنتيمترات، أخذت أبحث عن شيء بداخلها ولم أجد، جثيت على ركبتي ملامسا الأرضية، فوجدت بعض الكتب، سحبت الأول وجدت الغلاف الخارجي له من جلود الحيوانات، سحبت الكتاب الثاني وجدته بنفس الهيئة ولكن بلون جلد مختلف..

لم أفتحهما بل تحركت ورفعت يدي بهم وناولتهم إلى سامح الذي ناولهم إلى الشيخ بلال، ومد ذراعه ناحيتي وهو يقول:
_ تمسك بي يا رامي وأنا سأسحبك للأعلى.

تعلقت به فعلا فجذبني وأنا أقف على الصخور الموجودة بالحائط كي تساعدني على الصعود للأعلى، وبالفعل وجدت نفسي اشرأب برأسي خارجا، حتى استندت على طرف الحائط بذراعي ورفعت جسدي إلى الخارج..

جلست أتنفس بصعوبة وأنا أفرك عيني بألم من الأتربة، طالعني الشيخ بلال وقال وكأنه لا يراني ويرى معاناتي:
_ هيا بنا لنعد إلى البيت، يقتلني الفضول لمعرفة ماذا يوجد في تلك الكتب؟!

أخرج سامح من حقيبته زجاجة ماء وسكب بعضا منها علي يده ومررها علي وجهي قائلا:
_ ما رأيك أن نأخذك لأقرب مشفي لنطمئن علي عينيك يا رامي.

أجبته وأنا أسحب الزجاجة من يده وأسكبها علي وجهي مادد رقبتي أمامي بعض الشيء:
_ لا سأغسل وجهي وعيني بالماء وهذا كافي.

بعدما شعرت بالراحة غادرنا من فورنا وعدنا لبيت الشيخ بلال، وضعنا الكتاب الأول علي الطاولة والتففنا حوله بفضول شديد، وأبي يلتمسه ويمسح يده بصدره، رفعت عيني بملل وقلت له:
_ ماذا تفعل يا أبي؟!

أجابني بثقة عمياء:
_ ذلك الكتاب لسيدي مهيب، أخذ البركة منه، لقد تواصل معك وأخبرك بمكانه بعد موته، رأيت الكرامات بعينك كي تصدقني.

هززت رأسي بيأس وفتحت أول صفحاته والشيخ بلال وسامح وأبي وعمي عبد الفتاح يحملقون به بتركيز شديد، توقفنا جميعا عند العنوان، "علم الأوفاق"..

مسح الشيخ بلال علي ذقنه وقال بشرود:
_" علم الأوفاق" لقد سمعت هذا الاسم من قبل.

قلبت الصفحة التي تليها فوجدت كتابة بخط غير واضح وبحبر أسود، قرأت بصوت عال:
_ " لطالما سحر الإنسان بالأرقام وبمعانيها ودلالاتها خصوصاً عندما يتأمل ذلك الكون الفسيح ومدى دقة انتظامه، فكل شيء يتحرك في إطار نظام مدروس يمكن أن يكون جزءاً من معادلة حسابية شديدة التعقيد وممثلة بأرقام..

حيث يمكن تمثيل المكان بثلاثة أرقام (العرض والطول والارتفاع) تدعى الأبعاد الثلاثة ويمكن تمثيل الزمان بأرقام اليوم والشهر والسنة والوقت هو (البعد الرابع)".

أومأ الشيخ بلال برأسه وهمهم بابتسامة هادئة:
_ نعم فهمت قصده، فأخطر أنواع السحر هو سحر الأرقام والحروف.

سأله عبد الفتاح بفضول:
_ وما قصد سيدى مهيب من كتابته لتلك الكتب؟!

أجبته أنا ببديهية:
_ من المؤكد أحب أن يخلد ما توصل له من علم.

عدت وأكملت قراءة والجميع ينصت لي:
_ ولما كان الإنسان قلقاً دائماً على مستقبله؛ حاول أن يستنبط طرقاً حسابية لتحويل اسمه إلى أرقام، ومن ثم يدخل الرقم الذي يمثل اسمه في حسابات مع أسماء أخرى يقدسها كأسماء الآلهة والعياذ بالله والملائكة وملوك الجن أو حتى مع آية أو سورة معينة من الكتاب المقدس الذي يؤمن به.

قطع أبي حالة الصمت قائلا:
_ لقد فهمت، كانوا يستخدمون هذا العلم لمعرفة المستقبل كقراءة الكف والفنجان.

أسرع الشيخ بلال قائلا:
_ ليس ذلك فقط، بل بإمكانك عن طريق مربعات "الأوفاق" أن تربط أي شخص بنوع سحر معين و بجن خادم لذلك السحر، وتلك المعادلة هي الأبشع علي الإطلاق.

ابتلع سامح ريقه وقال بتوتر:
_ حفظنا الله.

عدت وتابعت قراءة وأنا أفر بين الصفحات:
_ كانت المربعات السحرية "الأوفاق" معروفة لعلماء الرياضيات منذ القرن السابع الميلادي، عندما احتك العرب مع الحضارات الأخرى أثناء نشرهم للإسلام، خصوصاً مع الهنود والفرس أو ثقافات جنوب آسيا؛ فتعلموا علوم الرياضيات والفلك من الهنود فيما تشير مصادر أخرى أن تلك الأفكار أتت من الصين..

وبدأت "الأوفاق" ذات النمط الخماسي والسداسي تظهر في موسوعة في بغداد في 883 بعد الميلاد، كما احتوى كتاب رسائل إخوان الصفا على مربعات سحرية بسيطة كانت معروفة آنذاك وتعود إلى ابتكارات علماء الرياضيات العرب.

وجدنا بالصفحة التي تليها طريقة تحويل الكلمات والحروف إلي أرقام وكيفية ربطها بأسماء جن والتحكم به وبمن ذكر اسمه، كان سامح سيأخذ صورة لتلك الصفحة؛ فأسرعت ووضعت يدى علي عدسة آلة التصوير وأنا أقول بحزم:

_ لا، لا تصور تلك الصفحات وإلا ستنتشر ويستخدمها الجهلاء وأصحاب النفوس المريضة في إيذاء غيرهم.

إنصاع سامح لما قلته وقال بتفهم:
_ معك حق، أكمل قراءة تلك الطلاسم، لا أعرف كيف تستطيع قراءتها من الأساس؟!

أجابه الشيخ بلال بابتسامة ماكر:
_ لأنه المختار، وه الوحيد القادر علي قراءة تلك الصحف.

لم أعلق علي ما قيل، ولكنني تابعت القراءة بفضول:
_ يتم إحاطة تلك المربعات بكتابات مقدسة (آيات من القرآن) أو أسماء لها قدسية أو قوة خارقة حسب اعتقاد الساحر فقد تكون أسماء ملائكة أو ملوك جن أو حتى أسماء شياطين يتعامل معهم الساحر، وعلى سبيل المثال يتم إحاطة أركان بعض "الأوفاق" بأربع أسماء من أسماء الملائكة حيث تترابط نهايات أحرفها عند الزوايا..

تترافق أيضا مع طقوس معينة كاستخدام بخور معين يعتقد أنه مفضل لدى الموكل بتنفيذ الأمنية أو السحر الذي يتمناه الساحر، والموكل هنا هو الجن أو الأرواح..

يتم استخدام حبر معين في كتابتها كماء الورد، تكتب أو ترسم على ورق طاهر أو جلد حيوان كالغزال (للخير) أو الثعلب (للشر)..

وأيضا نطق تعاويذ معينة تطلب المساعدة من مخلوقات وأرواح يعتقد أن لها القدرة على تنفيذ السحر كملوك الجن والشياطين، وهنا يتم مناداة أسماء معينة فإن لم يستجيبوا يصطلح على تذكيرهم بقسم يسمى قسم "البرهتية" سيأتي ذكره في الكتاب الثاني.

ابتسم أبي بسخرية وقال:
_ وهل فهمنا الجزء الأول كي نفهم الثاني؟!

ابتسمت بخفوت وأنا أتابع:
_ تنفذ تلك الطقوس في يوم معين من أيام الأسبوع أو حتى في وقت معين من اليوم وقد ترتبط بظاهرة فكلية معينة كأن يكون القمر بدراً أو خلال كسوف الشمس أو خسوفه وغيره من الأحداث الفلكية..

وعندها تكتمل عناصر العمل لتشكل تلك الأرقام طلسماً قوياً يزعم أنه يحصن ضد الشر (حجاب) أو يحقق له أمنية شرير أو خيرة يطلبها من مخلوقات يعتقد بقدرتها على تحقيقها أو أن يربطها بشخصيته ومستقبله..

فتحويل أحرف أي اسم إلى أرقام ومزجها في معادلة حسابية مع أرقام أخرى لها قيمة كبرى في معتقداته التي يؤمن بها، مثل أسماء الأبراج والكواكب والملائكة وحتى أنه مزجها مع أرقام السور في الكتب المقدسة ليكون منها طلسماً تفيده في السحر.

سألني عبد الفتاح بتلهف:
_ وهل ما يقوله ذلك الكتاب باستطاعته إعادة ريم ابنتي لي؟!

حركت كتفي بعجز وقلت له بتعقل:
_ أمامي بعض الوقت كي أجلس مع ريم مرة أخرى كي تخبرني بما حدث بعد ذلك معها، لأنه بتكملتها سأجد حلا لما أصابها، ومهما كانت النتيجة لن أخذلها.

تنهد عبد الفتاح براحة ورفع رأسه للأعلى وقال باستجداء:
_ كن بعوننا يا الله فنحن ليس لنا غيرك.

رفعت الكتاب أمام عيني وأنا أطالع آخر صفحة به..
" هذا الكتاب لا يرمي إلى التحريض على فعل السحر، لأنه وكما تعلم للدين رأي واضح في ذلك، ما ورد في الكتاب فقط من باب العلم في الشيء والتفكير بأهمية الأرقام في حياة الشعوب ومعتقداتهم، ولا أتحمل أية مسؤولية عن أية عواقب تنتج من استخدام "الأوفاق" المذكورة..

الله وحده من نلجأ ونتوكل عليه وهذا هو روح الإسلام.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي