الفصل114

الفصل 114


الصدمة التي ظهرت على وجهها، كانت واضحة وجلية وهي تنظر له ولا تصدق ذلك الذي يظهر على وجهه، ذلك الصراع الذي يكبله بقيود لا يستطيع السيطرة عليها، ويعجز عن المحاولة في النهاية، لتخرج منه تلك السبة النابية، التي تعني الكثير وهو ينظر لها بوحشية كأنه يريد في هذه اللحظة ان يتناولها مثل وجبة طعام مفضلة، حتى يضمن بقائها داخل جسده إلى الأبد، ولكنها بددت أفكاره وهي ترد عليه:

_ ومن أنا دون فلاديمير حتى أستطيع ان أعذبك؟

الغضب الذي يتجمع بداخله كان موجها لها ولنفسه، فهو يعلم جيدا من هي؟ هي ذلك الجحيم الصغير الذي استمتع ببقائه فيه؟ هي ذلك العذاب الذي أنشأه بنفسه، حينما منحها حرية الرحيل، ولكنه وضع يده على ذراعها يضغط عليه بمخالبه، وهو يقول:

_ كفى عن التلاعب يا نيڤين، فانت تعلمين ما الذي تستطيعين ان تفعلينه جيدا! تعلمين إلى أي مدى استطيع ان اتألم من فراقك، وإلى أي مدى استطيع ان اتحمل بعدك فلا تلقي كلاما جزافا، يحمل معاني كثيرة.

_ ماذا تقول فلاديمير ما هو الجزاف في كلامي؟

ضحك بصوت مرتفع، وهو ينظر لها بغضب مستتر، ويردد كلامها بطريقتها، كأنه يعيب عليها النطق بتلك الطريقة التي يعشقها، نظرت له بصدمة، وهو يقول:

_ لن استطيع ان اكون لغيرك، وفي نفس الوقت لن استطيع ان ابقى معك! ماذا علي ان افعل؟

شعرت بالخوف ينهش قلبها، يملأ صدرها تركت لدموعها الحرية لتنساب على وجهها، لؤلؤ يتناثر على ذلك الوجه الذي يعد فتنة بأثره، ربما لهذا السبب استطاعت أن تؤثره، ربما لتلك المشاعر التي تمتلك حينما يقترب منها، ربما الاشياء كثيرة، لكنه لم يستطيعوا ان يقاوم ان يرى دموعها والخوف والضياع مرسوما بين جفنيها، كأنها مركب لا بر له، ولا شط ترسو عليه، كأنها تائهة في افكارها.

بينما تريد وما ترغبه، وما توجب عليها الظروف، لماذا خيرها ذلك الاختيار؟ الذي لا تستطيع ان تأخذ قرار فيه، لمَ وضعها في ذلك المفترق؟ وهو يتبجح الآن أنها تتلاعب به، نظرت له وهي تتمالك نفسها وهي تقول:

_ هل حقا ما تقوله؟ هل انت صادق في اتهامك اما تمزح معي، من يتلاعب بالآخر فلاديمير؟ انا ام انت؟ لقد اتيت برجالك إلى وطني ليحكوا لعبة كان ثمنها أغلى من الحياة، استطاعوا أن يأخذوني من الجنة إلى الجحيم، ثم تأتي بي من الجحيم إلى قصر لم اكن احلم بأن امر من امامه، والان تتبجح وتخبرني انني لا استطيع الاختيار…

نظر لها بدهشة وهو لا يعرف ماذا حدث لها تتكلم الروسية بطلاقة تنتقي كلمات توصف حالها، وهو يترك ذراعها عل ذلك الألم ينتهي من عينيها لكنه تضاعف وهي تكمل كلامها وهي تسأل:

_اي اختيار هذا هل علي ان اختار من بين الموت والموت؟ فكلاهما موت! ان كان بعدك موت؟ ففي قربك موت وإن كان بقائي هنا موت فذهاب كي أعيش بمفردي موت، وأن كان رحيل الى عائلتي موت، فالموت أفضل من ان أرى الذل في أعينهم، ما الذي تعنيه فلاديمير؟ منَ منْ الذي يتلاعب بالآخر؟ انا ام انت؟

وقفت امامه بعد ان تركها تبوح بما تشعر به، حركت كفها مكان قبضته على ذراعها، الذي ينبض من فرط الالم، وهي تنظر في عينيه بشراسة ووحشية، لا تعرف من من اكتسبتها، ذكرته بصورة ابنته آن، التي تتكلم بحدة وعنف وكانها وجدت منفذ لتتكلم به، اخرجه من افكاره صوت نيڤين التى تقول:

_ ان تركت الامر لي فانا اريد شئ من الدنيا بأكملها، لا أريد الألم، ان تركت الأمر لي فأنا سئمت من أن أتألم، وليس هذا فقط هناك أشياء كثيرة سئمت منها لم أسام منك انت، لم استطع ان اتحرر من شعوري الذي أكنه لك، ولكني اريد ان ابتعد عن هنا عن تلك الذكريات التي لا زالت تداعب عقلي تسكن روخي ربما وقتها أأتي إليك ابحث عن الدفء عن الحب لكن الآن أريد الرحيل لبلد لا يعرفني فيه أحد

تنفس دون صوت وهو ينظر لها دون ان يظهر على وجهه شيء، من ذلك الصراع الذي يدور بداخله، كلامها المتناقض يحمل الصدق بين الحروف، وهو لا يستطيع ان يلوم عليها انها تريد ان تحلق مثل فراشة تنطلق إلى النور، ولكن الى أي منطقة تريد الذهاب بالتحديد؟ بأي أسم تريد ان تتحرك؟ هو يستطيع ان يهبها اسم وجنسية ومال واشياء كثيرة، هو يستطيع ان يكون ذلك المنقذ لحياتها القادمة، ولكن شروطه القاسية المجحفة هل ستتغير؟

ماذا قد يحدث ان قابلها الحب يوما؟ هل يرفق بها ويتركها لتعيش حياتها؟ التي حرمت منها ام سيكون ثمن تلك المشاعر هو الموت نفسه! الا انه هز رأسه وهو يستمع لها، وهي تقول:

_كل ما أريده هو أن أنطلق، ان اشعر انني لازلت على قيد الحياة، أن أعيش في بلاد لا يعرفني فيها أحد، اتعلم وادرس كان ليس لماضي من الأساس، اريدك ان تكون ذلك الحلم الذي يداعب خيالي يوما، وانا اتذكرك واتزكر ما فعلته معي ومساعدتك لي، اريد ان اتواصل معك عن طريق الهاتف، وانا بكامل إرادتي ولست مرغمة حتى تشعر بوجودي او ترفق بي ولا تعيدني الى ذلك الجحر، أريد أن أشعر أن هناك من يهتم لكل شيء بي فلاديمير، هل انا مخطئة؟ ان كانت هذه هي افكاري

هز راسه بالنفي وابتسم لها بتشجيع حتى تكمل كلامها، فابتسمت له وهي تقول:

_وليس هذا فقط الذي أريده، أريد أن اكبر وانضج واتعلم واكون شخص آخر، اريد ان أرى عائلتي في مكان بعيد عن تلك القرية التي سوف انعت فيها بالعاهرة، لاني لم ارتكب شيء سوى انني قمت باختبار تمثيل، وتطور الأمر إلى أن أكون بالفعل كما يقولون.

_ انت لست كذلك

_ هل تكذب علي؟ ام على نفسك! انا من تعلمت في هذا البيت اشياء لم اكن افكر فيها من قبل لم يخطر على بالي ان تحدث لي أو تحدث معي، أو أن أراها حتى في اغرب الاحلام، لكني لست معترضة، انها مرحلة في حياتي هي من كونت تلك التي تقف وتتكلم أمامك الآن، ربما تظن انني ناكرة للجميل، ولكني أخبرك ما الذي اريده فهل تستطيع ان تحققه لي؟

_ لقد اخبرتك انني استطيع ان احقق المستحيل نفسه، لهذا لا تظني ان طلبك كبير، ما رأيك في إيطاليا بلدة دافئة فيها مناطق بعيدة عن الثلج؟ تستطيعين أن تعيشين وتستجمين بها، تستطيع أن تدرسي هناك في جامعة روما او ميلان او غيرها من المدن

الدهشة على وجهها جعلته يبتسم وهو يقول:

_ما رأيك في فرنسا من الممكن أن تقيم في باريس، ان تدرسي في جامعة السوربون، لكن هل تجيدين اللغة الفرنسية؟

_هل تمزح؟

_ بالطبع لا امزح، انت تطلبين المستحيل، وانا اخبرك ان لا يوجد أمامي شيء اسمه المستحيل استطيع ان اعطيك اسم جديد، وحياة جديدة وجنسية اخرى، استطيع ان اجعلك تعيشين في الاحلام نفسها، في أي حلم تفضلين ان تعيشين؟

نظرت له بدهشة وكانه فتح صندوق الدنيا امامها، تركت كل شيء وهي تقترب خطوة منه بينما هو نهض عن المائدة، وترك الطعام الذي لم يعد يشتهيه من الأساس، وهو يرى اقترابها منه، وكأنها فراشة تنطلق نحو الضوء، الذي تعرف جيدا أنه سيكون سبب في هلاكها، وهي ترفع يديها لتحاوط بها وجهه، وتقول:

_ تستطيع أن تفعل كل ذلك!

_ بالطبع استطيع انا املك في كل بلد أملاك تعادل ثروة، سوف اوفر لك منزل تسكنين فيه سيكون شيء فخم يليق بك، وحساب مفتوح بأسمك الجديد حتى تنفقين منه، وجنسية جديدة وعالم لن يعرف من أنت، و تعليم في افخر الجامعات ودروس مفتوحة، لكل ما تتمنين ان تدرسي.

_ان ما تقوله حلم

_ سأحقق لك كل الاحلام ولكن شرطي واضحا ليس قبل ان اموت

لقت بنفسها بين ذراعيه، وهي تضمه إليها تتركه لدموع العنان، دموع فرح وحرية وهي تحرك يدها على ظهره، وتقول:

_ اطال الله عمرك، ولكن تاكد من شئ حتى بعد أن ترحل بعد عمر طويل، لا اريد.

_لا تردين ماذا؟

_ لا اريد غيرك.

كان يزداد لعابه وهو يبعدها عنها ينظر في وجهها الصادق، في كل حرف تقوله، وهو يبتسم لها ويقول:

_ اذا عليك ان تبتعدي لقد اخترتي الحرية.

_ الحرية هي ان تبتعدي عني إلى الأبد

_ ليس تماما!

_ حسنا هل يحق لي ان ارجع في قرار يوما ما هل يحق لي ان اشتاق إ؟

ازدرد لعابه وهو ينظر لها، عينه تتحرك على صفحة وجهها، يرى لمعة العشق في عينيها، وكانها تحتاجه لان تقاوم روحها قبل أن تقاومه وهو يقول:

_ سوف انتظر ذلك الوقت الذي ترجعين فيه في قرارك، ولكن عجلي الامر فلم يعد في العمر المزيد.

_ اياك أن تقول ذلك أنت مازلت صغير في السن، لازلت شاب وعفي ورجل متدفق الرجولة
_هل تمدحين فحولتي؟ سوف يتطور الأمر دعي ليلة امس تكون وداعنا، حتى يحدث شئ أخر في المستقبل.

نظرت له وهي لا تعرف ماذا تقول بالتحديد؟ لكنها في لحظة شعرت بالخوف، وكأن كل ما كانت تمني نفسها به تبخر، هي لا تريد حياة كتلك التي تعيشها، ولا تريد عوة إلى حياة كانت تعيشها من قبل، تريد تجربة جديدة، أغلقت عينيها وهي تفكر هل هذا هو القرار الصائب؟

بلد غريب واسم جديد وجنسية اخرى، حياة لم اكن لأنتمي لها أو اعيشها من قبل، هل هذا ما استطيع ان احلم وأمني نفسي به، ام انه مجرد سراب سيقودني إلى تجربة أخرى، تكون الجحيم بعينه، هل علي ان اغامر؟ وان اترك هذا القصر، الى حياة جديدة في بلاد اخرى، هل علي ان اتناسى تلك الحكمة التي كانت ترددها والدتي دائما
« إن الشيطان الذي نعرفه خيراً من ذلك الذي قد نتعرف عليه» ان فلاديمير رغم كل ما فيه من أخطاء وعيوب، إلا أنها رأت صورة منه تختلف تماما عن ذلك المتوحش الذي يتعامل مع الجميع، لكنها في نفس الوقت تعرف ان الحياة قد تفتح لها ابوابها على مصراعيها، هي لا زالت فيه بداية العشرين، لم تدخلها بعد وعاشت في تلك السنتين أشياء كثيرة، تحمل العذاب والألم وفي نفس الوقت.

مزيج من من طعم النار والعشق هناك أشياء كثيرة عاشتها في هذا القصر، ولهذا تحركت الخطوة التي ابعدها عنه، وهي تلقي بنفسها بين ذراعيه، وهي تقول:

_ هل هذا مسموح لي؟

_ انه مكانك في اي وقت، والان هيا لنتحرك

_ إلى أين؟

_ سوف اخذك بالطائرة الى القصر في موسكو، من هناك سوف ادبر لك كل شيء، ام تريدين ان تبقي هنا حتى أنهي كل شئ

_ لا أعرف فلاديمير ما هو الصواب، هل سيكون هناك احد يرفض وجودي؟

_ يوجد هناك أبنتي وبعض الخدم، واعضاء المنظمة الذين يعملون تحت إمرتي، لكن ربما ابنتي تعترض لكنها لن تفعل شئ يزعجك ان لم تتشاحن معها، هي اكبر منك بضع سنوات

شعرت بالخوف مما هو قادم، هي تعلم ما الذي حدث لها؟ ولا تعرف إلى أين سوف تذهب؟ لكن هل ستتقبلها أبنته في القصر؟ هل ستكون رؤوفة معها؟ ام تكون مثل والدها، هي تعلم ان الضغط يولد الانفجار، وقد تنفجر تلك المعذبة في وجهها، فهي ترى صورة اخرى منها ومما عانتهم..

ان نيڤين ليست غبية، وتعلم جيدا ما الذي حدث في آن من تلك الخادمة التي تعمل في القصر، تعلم جيدا انها عانت كما عانت هي، ولكن من نيڤين مقارنة بالانسة آن فلاديمير، التي تربت يقصر وعاشت فيه طيلة حياتها، تملك كل شيء تحت أمرتها، طائرة خاصة تنقلها إلى أي مكان تريد، حياة فاخرة منعمة، كان ثمنها دم الاخرين الذين عانوا على يد فلاديمير وباقي أعضاء المنظمة

ولكن هل تستطيع أن تخبرها انا ضحية وأنها ليست مذنبة في هذه الحكاية، لقد سلب منها حق الاختيار، سلب منها القدرة على أن ترفض ما كتب عليها، فهل تستطيع آن أن ترحمها

أخرجها مما تفكر فيه صوت فلاديمير الآتي من مكان بعيد، وهو يقول:

_ في ماذا تفكرين نيڤين؟ ان كنت لا تريدين ان تذهبي الى القصر، استطيع ان اوفر لك مكان آخر، ولكن دعنا لا نستبق الاحداث ان كل ما في الأمر أن آن رجعت متوحشة من تلك المعاناة التي عانتها..

شعر بالخجل وهو يكمل:
_ والتي جعلتني ادرك مقدار الوحشية التي كنت أتعامل بها معك، ولهذا لا اعرف بأي جرأة استطيع ان اطلب منك ان تسامحيني.

_ لقد اخبرتك من قبل دون ان من يحب انسان يحبه بكل عيوبه واخطائه.

اقترب يقبل جبينها وهو يقول:
_ انت ملاك نيڤين، ملاك اتيت لي في هذه العتمة التي اتخبط فيها بداخلي، تحاولي اخراجي منها، ولكني لا اعرف ان كنت استطيع ان اخرج من هذه المعمعة، وهذه الحرب التي دارت بيني وبين نفسي، انهي ذلك التنظيم بكل ما فيه أم لا، وإن كانت الاجابة لا هل اكمل بطريقة أخرى سوف احاول ولكن عليك ان تسامحيني

ارتسم على وجهها بابتسامة وهي تقول:
_ سامحك

اشار لها تبدل ملابسها وتحضر تلك الحقيبة التي بها كل تلك الأشياء التي احضرها لها، ملابس وحلي ومستحضرات التجميل والعطور حملت اشياء كثيرة معها، حتى انها لا تدري ما الذي جعلها تحمل ذلك السوط، وكأنه جزء من تلك المرحلة في الماضي، نظر لها وهي تضعه في الحقيبة وهو يسأل:

_ هل تمزحين؟

_ماذا تعني؟ اليس هذا ايضا يخصني ذلك السوط بمقبض من الذهب، المرصع بالالماس

_ هل تاخذينه لانه مرتفع الثمن أم..

_ لأنها ذكرى يا فلاديمير حتى لو كانت مغموسة بالألم
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي