الفصل الخامس والعشرون اا الاستيقاظ من الغيبوبة

"يا للفتاة المسكينة، كتب عليها الحزن منذ ولادتها!"

قال جاد، "لا تقولي ذلك! رغم ثقل السر الذي نحمله على صدورنا إلا إننا لم نقصر معها مطلقاً"

كانت شهقات جولي تجعل كلامها غير واضح، "في النهاية تتزوج زوج لا يهتم لأمرها ويعاملها بهذه الطريقة"

اعتصر قلب رائف ثم أخذ خطوات إلى الخلف وابتعد. عاد إلى الحديقة وجلس بصمت، لأول مرة يفقد السيطرة على الأمور، لأول مرة يشعر إنه مقيد.
وضع يديه فوق رأسه لا يعلم كيف سيواجه جده وجدته اللذان في طريق عودتهما من رحلتهما، لا يزال يذكر كلام الطبيب إن جده لا يجب أن يتعرض لأي أخبار سيئة أو صدمات!

كان الليل قد بدأ يسدل ستاره عندما صعد رائف في المصعد الكهربائي متجه نحو الجناح الذي تشغله لولا حاليا.
جاء صوت ريان القلق من خلفه فور أن خرج من المصعد وسار بضع خطوات، "رائف! أين كنت يا رجل لقد كنت أبحث عنك، لما هاتفك مقفل؟"
تجاهل رائف حديث ريان وتابع سيره نحو جناح لولا، فقال ريان بتردد بينما يسير بجانبه يجاري سرعة خطواته، "ميكائيل وسيلا قاربا على الوصول، سيصلان بعد نصف ساعة، أأأ.. لقد أخبرتهم إن لولا تعاني من بعض المضاعفات ولكن ما أن يصلا إلى المستشفى سيعلمان الحقيقة، وأنت…."

صمت ريان وهو محتار كيف ينتقي كلماته، ولكنه أكمل على كل حال، "أنصحك بأن تسافر هذه الفترة، اذهب إلى الفيلا خاصتنا في الريف، أو في اليونان… على الأقل حتى تهدأ الأمور قليلا.. وتستيقظ زوجتك!"

"لا"
أجاب رائف بكلمة واحدة يعتزم بها إنهاء هذا الجدال.

تنهد ريان ووقف قليلا وهو يفكر في طريقة يستطيع بها اقناع ابن عمه العنيد.
ثم أسرع في خطواته ولحق به، "أنا أعلم وجهة نظرك فأنت…"

قاطعه رائف بعد أن توقف عن المشي واستدار نحوه، "لا، أنت لا تعرف أي شيء، لا يمكن لأي أحد أن يعرف أي شيء! سأبقى، وسأواجه نتيجة ما ارتكبت يداي، ولن أتخلى عنها حتى إن لم تعد تريدني، ستجدني بجانبها عندما تستيقظ، حتى وإن طردتني لن أتخلى عنها، هل تفهم؟ لذا توقف عن المحاولة"

وقف ريان فارغ فمه في دهشة، كان كل حرف نطق به رائف مليئ بالمشاعر التي لم يعتد ريان أن يراها فيه، الحزن في نبرة صوته توضح حجم الألم الذي يسكن داخله. من المؤكد إن لولا لن تستطيع تجاوز ما حدث، ولكن رائف، الطرف الظالم في الموضوع، هل سيتطيع تخطي خطيئته؟ هل سيسامح نفسه؟ أيقن ريان إنه لن يفعل!

شاهد ابن عمه وهو يفتح باب جناح زوجته، كان يبدو عليه الإرهاق والحزن حتى في نظرة عيونه التي فقدت بريقها.
كأنه فقد بعض الوزن أم إن ذقنه النامي هو الذي يعطي الانطباع بذلك.

استدار ريان وذهب ناحية مكتب الاستقبال لينتظر وصول جديه اللذان قاربا على الوصول.

جلس رائف بجانب سرير لولا كالعادة وأمسك يدها، شاهد باقة الأزهار الموضوعة على طاولة السرير قرب رأسها، فكر إنه لابد وإن جولي قد أحضرتها، ثم فكر في كلمات جولي وجاد، ما السر الذي يتحدثان عنه؟

ثم نظر لوجه لولا ومسد على شعرها بعد أن طبع قبلة خفيفة على أعلى رأسها وقال، "ما السر الذي يتحدث عنه والداك؟ كم من الأحزان التي عشتيها؟ وأنا أكون أحد هذه الأحزان وأصعبها؟ هذا مؤلم للغاية!"
"متى ستفتحين عينيك؟ لقد اشتقت لكي، اشتقت لنظرات التحدي في عينيك!"
"هل سيأتي يوم وتسامحينني؟ أنا أتعذب يا لولا"
نزلت دمعة هاربة تعبر عن كمية الحزن التي يشعر بها رائف وهو يرى ما فعلت يداه بحبيبته.
الحبيبة التي لم يحصل على الفرصة بأن يخبرها بحبه لها، بعمق مشاعره نحوها، بإدمانه لها.

رغم إنه لا يحب أن يفكر في تلك اللحظات التي حدث فيها ما حدث، ولكنه يدرك إن حجم غضبه كان انعكاسا لحجم حبه وعشقه لها.
فقد قلبه المنطق عندما شاهد الفيديو، توقف عقله عن العمل وكأنه يقول لقلبه خذ أنت مركز التحكم وافعل ما تشاء فأنا أيضا قد فقدت المنطق!

تحدث رائف بكل مشاعره وكل ما يشعر به كما يفعل كل ليلة منذ دخلت لولا في غيبوبتها، حتى مر الوقت ولم يشعر به.
ضغط على يدها وقال، "هل ستصدقينني إن أخبرتك لاحقا إنني أحبكِ، هل ستكون لي الجرأة لأخبركِ بذلك؟"
شعر بإحدى أصابعها التي في قبضة يده تتحرك، اتسعت عينياه ولو يصدق نفسه!!

فتح فمه وهو ينظر لوجهها متفاجئ، "لولا؟ هل تسمعينني؟"

انفتح الباب في هذه اللحظة ودخل ميكائيل وخلفه ريان وسيلا.
كان الشرر يتطاير من عيني ميكائيل وهو يسير نحو رائف، وقف رائف وقال، "جدي!"
ولكن ما أجاب عليه هو صفعة قوية من يد جده الذي كان يرتعش من رأسه لأخمص قدمه، صفعة جعلت وجه رائف يستدير إلى الجانب الآخر.

خرجت صرخة من فم سيلا وأسرع ريان نحو جده وهو يقول، "جدي!"

رفع ميكائيل يده عاليا ليتوقف ريان في مكانه، قال ميكائيل والغضب يتملكه، "لم أعتقد يوما إني كنت أربي وحشا طوال الوقت! فقط ادعو الله ألا يكون هناك مضاعفات"

"جدي أرجوك لا تنفعل هكذا، هذا ليس جيد لصحتك" قال ريان وهو يحاول تهدئة جده. بينما سيلا لا تتوقف عن البكاء.

شخر ميكائيل باستهزاء وقال، "هي، هي" وهو يشير نحو لولا، "أهم منكما أنتما الإثنان عندي"



قال ميكائيل ذلك وخرج من الجناح بينما تسنده سيلا التي كانت تكتم شهقاتها بجهد كبير.

بمجرد خروجهما علا صوت صفير عالي جدا من جهاز الإنذار الذي بقرب سرير لولا، نظر كل من رائف وريان إلى بعضهما البعض والاستغراب على وجوههما.
ثم فجأة دخل الطبيب المناوب يركض وخلفه اثنان من الممرضات.

دفعت إحدى الممرضتان رائف نحو الخارج بعد أن طلبت منه أن يخرج ولكنه لم يستجب بل كان يقف جامدا ينظر بخوف نحو لولا.
"سيدي أرجوك! دعنا نقوم بعملنا"

هذا ما سمعه رائف عندما لاحظ إن الممرضة تدفعه نحو الخارج، وقف خلف الباب وقلبه يضرب بجنون داخل صدره.

ربت ريان على كتفه وهو يقول، "لا تقلق، سأذهب لأرافق ميكائيل وسيلا إلى المنزل، وسأعود بسرعة، لن أتأخر"

وقف رائف أمام غرفة لولا وهو ينتظر أن يخرج الطبيب أو أحد الممرضتين.
طال انتظاره قليلا ثم وأخيرا فتح باب الغرفة وخرج الطبيب الذي كان على وجهه تعبير قلق قليلا، أسرع رائف بالسؤال، "أخبرني، ما الذي حدث؟"

أجاب الطبيب ببساطة، "لقد أفاقت، ولكن أعطيانا منوم فحالتها النفسية غير مستقرة وربما تحتاج هذه الفترة إلى العديد من المهدئات"

كان ما حدث بين رائف ولولا قد بقي مع الطبيبة الأولى التي عالجت حالتها، أما الأطباء الآخرون فلا يعلمون حقيقة ما حدث، وهذا بفضل جهود ريان ومحاولته أن يقتصر الموضوع بين العائلة.

جلس رائف على كرسي الانتظار وهو يفكر، كيف سيواججها، يشعر بأن هذه أكبر مشكلة قد مرت عليه طوال حياته، ولا يجد أي حل!
مرت تلك الليلة ورائف نائم على كرسي الانتظار أمام غرفة لولا، حتى أيقظته إحدى الممرضات وهي تطلب منه أن يدخل إلى إحدى الغرف الخالية من المرضى لكي ينام قليلا فزوجته لن تستيقظ الآن!

وفي منزل عائلة جاد كانت جولي مستلقية على سريرها وهي تشعر بأنها لا تستطيع النوم، فقد هجرها النوم منذ تلك الليلة المشئومة. قالت بصوت خافت، "جاد، جاد! هل أنت مستيقظ"

أجابها زوجها فورا وهو يقول، "ألا تستطيعين النوم أنت أيضا؟"

"أنا أخشى أن يخبر العجوز ميكائيل لولا بأي شيء حول الموضوع"
"لا لا، لا أعتقد إنه سيفعل أمر كهذا، ولكني أخشى أن يخبر رائف"

تنهدت جولي والتفتت ناحية زوجها، "ولكن هو حين طلب أن يتزوج كل من رائف ولولا طلب أن يبقى أمر عائلتها الحقيقية سرا، على الأقل حتى ينجبا الطفل الأول!"

لم يجبها جاد فهو بدأ يشعر بأن كل الأمور قد أصبحت معقدة، طال الصمت قليلا ثم قطعته جولي وهي تتسائل، "كيف تتوقع أن تكون ردة فعل ميكائيل؟ هل سيطلب من رائف تطليق لولا؟ فبعد الذي حدث……"

"إِِِِشششش، لا داعي لاستباق الأمور، سنرى ما سيحدث فلابد من إن ميكائيل وسيلا قد عادا"

أما في منزل عائلة رائف كان ميكائيل قد ارتفع عليه ضغط الدم بعدما انفعل بشكل كبير.
"أرجوك يا جدي، لا تفعل هذا بنفسك وبنا، ما حدث قد حدث والآن علينا التفكير في إيجاد حل!"

شخر ميكائيل باستهزاء، "أي حل؟ عن أي حل تتحدث؟ أخبرني هااا؟ الحل الوحيد الذي لدي إن رائف لن يدخل هذا البيت مجددا طوال ما أنا على قيد الحياة"

قال ميكائيل ذلك واتجه نحو جناح نومه.
التفت ريان نحو سيلا وقال بغضب، "ليس من العدل أن يفعل ذلك، لما يحكم عليه دون أن يستمع له، لقد تم الإيقاع برائف، صحيح إنه مخطئ ولكن يجب على جدي أن يتصرف كجد على الأقل ويساعد حفيده في هذه المشكلة، لا أن يدير ظهره له!"

قالت سيلا بحزن وهي تمسح دموعها التي أبت أن تتوقف منذ أن دخلوا إلى المستشفى وأخبرتهم الطبيبة عن وضع لولا وكل ما حدث، كانت بالفعل صدمة كبيرة جدا لها ولزوجها، صدمة أكبر من أن يتخيلها أي شخص آخر سواهما.
"إن الأمر معقد أكثر مما تتصور!"

بعد أن نطقت سيلا كلماتها الغامضة أدارت ظهرها واتجهت نحو جناحها تلحق زوجها، أو تهرب من الحديث أكثر عن الموضوع، من يدري؟

مرت تلك الليلة طويلة على الجميع، أول ما ظهرت خيوط الصباح الباكر وبعد أن دخل رائف إلى الغرفة التي اقتادته الممرضة نحوها، دخلت جولي مسرعة بين ممرات المستشفى بعدما أبلغتها المستشفى أن لولا قد استيقظت البارحة، أوصلت ابنها زين لجارتها واسرعت ألى المستشفى.

دخلت إلى حجرة لولا ويكاد قلبها يتوقف عن التنفس من المشي بسرعة والقلق.
عندما فتحت الباب وجدت الممرضة تقوم بوضع بعض المحاليل في عبوة التغذية المتصلة بيد لولا.
ابتسمت الممرضة أول ما شاهدتها وقالت، "صباح الخير، ستستيقظ ابنتك بعد عدة دقائق حسب موعد المنوم، لقد وضعت لها دواء مهدئ حتى لا يحدث ما حدث سابقاً"

اتجهت جولي ومن خلفها جاد نحو سرير لولا، جلست قرب ابنتها وجلس جاد في الجانب الآخر من السرير وهو يمسك بيد ابنته.
"يا إلهي، أنا متوترة كثيرا" قالت جولي وهي تأخذ نفس عميق تحاول تهدئة نفسها.

ابتسم لها جاد يحاول طمئنتها ولكن ابتسامته لم تصل حتى خديه، فهو بدوره متوتر كثيراً.

"هذه الأزهار جميلة للغاية، إنها من شخص يدعى مالك"
قالت الممرضة وهي تضع الأزهار البيضاء في المزهرية.

فتحت لولا عينيها ببطئ فتوقفت انفاس كل من جولي وجاد في ترقب. التقت عينيها بعيني والدتها فابتسمت ببطئ ثم سمعت صوت والدها يقول، "لولا عزيزتي!"

التفتت نحو والدها والتقت عيونهما فأدمعت فورا، معتقدة إن والدها قد خذل منها بسبب ما حدث.
كما إنها تشعر إنها بحاجته بشكل كبير.

مدت يديها واحدة اتجاه والدها وواحدة اتجاه والدتها، أمسك كل من جاد وجولي يدي لولا بحنان وحب.
انهمرت الدموع الصامتة من عيون لولا وجولي، بينما جاهد جاد لكي لا تنزل دموعه هو الآخر.

في هذه الأثناء استيقظ رائف ونظر مباشرة إلى ساعة يده، وجد إنها الساعة السادسة تماما، لعن إنه نام طوال هذا الوقت، عندما فتح باب الغرفة متجها نحو جناح لولا، التقى بالممرضة أمامه والتي اتسعت ابتسامتها عندما شاهدته وقال، "سيد رائف، إن زوجتك قد استيقظت منذ قليل!

تسارعت دقات قلب رائف وأسرع مباشرة دون أي تفكير نحو غرفة لولا، فتح الباب مباشرة لتلتفت نحوه ثلاث أزواج من العيون.
التقت عينيه بعيني لولا وشعر إن الزمن توقف، لم يعد يشعر بكل ما حوله، ها هي حبيبته قد استيقظت وأخيرا.. ولكن!!

يشعر بالهوة الشاسعة التي بينهما رغم إنه لا يفصلهما سوى أمتار قليلة.
شعر بتغير نظرات لولا نحوه بعدها استعبت إنه يقف أمامها بالفعل.
شعر بالتردد شعر، شعر بالخوف، ولكنه اقترب منها بخطوات بطيئة في النهاية.

ولكن قبل أن يخطو خطوتين صرخت لولا بشكل هستيري وهي تمسك في حضن أبيها بقوة، "أبعدوه من هنا، أخرجوه من هنا! أرجوك أبي لا تدعه يقترب!"

كانت كل كلمة تخرجها لولا من فمها يشعرها رائف كسكاكين حادة تضرب جسده، حرفياً كأنها سكاكين تغرس في جلده العاري.
دخلت لولا في حالة هستيرية من الصراخ رغم محاولة طمئنة والدها لها.
أسرعت جولي وضربت الجرس الذي بجانب السرير، لحظات قليلة وأسرع الطبيب ومعه الممرضات نحو الغرفة، قال الطبيب مباشرة، "إبرة مهدئ بسرعة! فاليخرج الجميع!"

جهزت إحدى الممرضتين الإبرة بينما بدأت الأخرة في إخراج الجميع من الغرفة.
خرج رائف من تلقاء نفسه قبل أن تطلب منه الممرضة ذلك، وفور أن خرج وجد جديه وريان أمام الباب.

كانت نظرات ميكائيل لا تزال غاضبة، خرجت جولي ومعها جاد من الغرفة وهي تقول، "لما دخلت إلى الغرفة؟ ليس لك أي حق في أن تراها مجددا، لقد شاهدت ما حدث الآن فلا تعد. لا تعد هنا أبدا"

لم ينتظر رائف أكثر وخرج من المكان، لا يعلم إلى أين سيذهب، ولا إلى من سيلجأ. يشعر بالوحدة وبالعجز. يشعر بأن العالم أصبح ضيق، ضيق جدا جدا.
قاد سيارته نحو البحيرة التي لطالما أحب الوقوف عندها عندما يشعر بالحزن.
ولكن حتى هذه البحيرة وهدوئها لم يعد يشعره بالراحة!

كانت نظرات لولا المرعوبة منه تلاحقه كأنها كابوس يتكرر ولا يستطيع أن يستيقظ منه.
صرخ بأعلى صوته وهو يمسك بحافة السور الذي يحيط البحيرة الكبيرة، صرخ يحاول إخراج الغصة التي في قلبه.

نظر له بعض المارين من المكان، بعضهم بشفقة والبعض الآخر بسخرية.

بعد أن هدأ قليلا جلس على الكرسي وأخرج سيجارته وبدأ يدخن.

وقفت امرأة أمامه وهي بكافة أناقتها وهي تبتسم بلطف وتقول، "مرحبا رائف!"

كانت هذه جينا.

فما الذي تريده زوجته السابقة الآن؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي