1 عروس من الجليل
•••
الجزء الأول: عروس من الجليل
..
جليل فلسطين، ربيع عام 1967:
اغنية من التراث تغنيها نساء الحارة في الليوان- للعروس الجالسة برهبتها في الداخل بغرفتها..
عروس ذات وجه حزين، مثل ايقونة منحوتة من الشمع ومزينة بالقماش المطرز والساتان الناعم، مع دمعة مرسومة باللؤلؤ عالقة لا تنزل عن الخد المتورد-
بأسى تقبض قلبها، تلك اليد المرتجفة المحناة والمغسولة بماء الورد. من في عز دار الفرح وسط الزغاريد والرقصات سيقول ان هذه دموع الجزع والخوف؟
جميل ان تبكي العروس وان تصمت من الحياء- هكذا قالت العمات والجارات-
لكن سيء، سيء جدًا ان تبكي (سالومي) على نفيها من جنة جليلة الى مدينة بعيدة تراها صفحة من ورق في كتاب رحلات وحكايا-
ما هي تلك البلاد؟ ماذا تشبه؟ هل بيوتها مسكن؟ وهل ناسها اهل؟
كلها أسئلة تسألها لتجاهل السؤال الوحيد الذي لا تسأله حتى لنفسها-
ليش انا؟
ثم تأتي ابنة عمها (رِفقة) تناولها منديل لتمسح دموعها، وتهمس لها ان (العريس) يُزف في الخارج-
"قومي والبسي فستان عُرسك"
فتنظر اليها العروس ويأتي السؤال- لماذا لم يأخذوك انت يا رفقة؟ لماذا انا؟
"سأبقى بالأسود.. لن أنزع الأسود، فهذا مأتمي وليس عُرسي"
"لا تجني، سيغضب عمي سلّوم"
وقفت عند النافذة تبحث عن والدها بين ضيوف العرس، هو واقف مع عدد من الضباط والجنود-
"من قام بدعوة اولئك الضباع الى بيتنا؟"
"سيرافقوكِ الى الحدود.. انهم اصحاب والدك"
وسؤال طرحته من اول مرة تعرفت بها على (عريسها)، كيف عبر من بلده لبنان الينا في ظل هذه الأوضاع المعقدة؟
قالوا ان جوازه فرنسي وانه عاش كل عمره في فرنسا.. وسكتوا.. فسكتت.. رغم انها لم تفهم ما العلاقة وما الفرق.
دمعت عينها وابتسمت بحرقة "لم يتبقى ما يُباع على هذه الأرض فبدأتم بالمتاجرة ببناتها.. هنيئًا لكم- ولكنكم لن تنجوا ولن تهنئوا"
صفعت النافذة وخرجت من غرفتها، مباشرة جلست في (اللوج)-
سكتت الاغاني..
العروس ترتدي الاسود..
تكلموا معها.. اقنعوها.. فهّموها..
لا يجوز ان ترتدي العروس الأسود!
لا احد هنا..
نادوا والدها..
والدها يقول- (طلعوها بالأسود)
ويدير ظهره..
عماتها قالوا (بومة) والبنات همسوا (بنت الشيطان.. صدقوا)..
من بعدها ومن بين كل الاشباح الراقصة والهاتفة تشعر بذلك الكيان الحقيقي الواحد يعانقها-
"يَمّا" همست العروس لأمها
فضمتها الأُم بإحكام وقبلتها..
"لا اود الذهاب مع الأغراب ماما" همست مجددًا "اتوسل اليك نجيني!"
لتمسك الام يد العروس ذات المنديل المغطس بالدموع، وترفعها للنهوض عن المقعد-
ابتسمت ظنًا منها ان أمها سمعتها وستنقذها، لكن عمها دخل ينهي المشهد قبل بدايته، وامسك بذراعها ليزفها الى العريس المنتظر-
الى الغريب.. كما تصف هي.
لم تنهض بيد عمها، بقيت جالسة متمسكة بمقعدها، وحتى لا تتسبب بفضيحة كما المتوقع منها، رفعتها والدتها عن اللوج بكلمتين ونظرة، كما رفعتها من المهد طفلة انجبتها بتعويذة حرفية-
سالومي وُلِدت بتعويذة..
وتلك التعويذة انقلبت على امها فصارت حياتها عذاب وندم-
فلم تكن الام قادرة على انجاب أي طفل لزوجها، كانت كل الأجنة تسقط ولا يتم الحمل-
حتى لجأت لامرأة قيل عنها معالجة، وكانت قد دلتها عليها سلفتها- أي زوجة شقيق زوجها، وتلك المعالجة بعد زعمها ان الام منظورة او مسحورة، نصحتها بشرب خليط من الأعشاب حضرته لها-
لكن هل الامر سهل ويحل بعشبة؟ قطعًا لا، فطلبت منها اغرب الطلبات وتلك تستجيب وتنفذ، واسوأها ان تبيت عارية في الوادي اسفل جلباب مطرز ايضًا احضرته لها-
كان طعم شراب الأعشاب مثل المعادن الأقرب لطعم الدم البشري، ذلك الطعم الذي يصيب لسانك مجبرًا من جرح في الفم، اما رائحة ذلك الجلباب فكانت كرائحة الفاكهة المجففة المسكرة مثل الزبيب والعنيبة، رائحة نفاذة ممتزجة بالعرق والرطوبة والتراب- سيئة ولا تحتمل.
هذه الوصفة اخافت ام عروستنا، ولم تنفذها الى ان نفذ صبرها وانفطر قلبها وضعف جسدها من اسقاط كل جنين تحمل به، فنفذت أوامر "المعالجة"، وباتت في الوادي الليل بطوله اسفل شجرة "عرعر" شائكة.
المخيف ان المعجزة حصلت بعد تنفيذها لذلك الطلب المهين، اكتمل الحمل، وحفظت الام سر تلك الليلة ولم تروه لاحد..
وانجبت.. بنت..
الامل تحول الى خيبة وغضب بالنسبة الى الاب- من جهة انجابها لبنت، ومن جهة معرفته طريقة انجابها لتلك البنت، ويقال انه حتى يوم عرس هذه البنت لم يكلم زوجة أخيه التي اخذت زوجته الى تلك المعالجة.
وبسبب هذا الغضب على زوجة اخيه قامت بفضح ما قامتا به بالتفصيل للناس، لتصير الحكاية سيرة كل لسان في تلك المدينة حتى اللحظة-
صارت ام عروستنا منبوذة، كما ابنتها التي لقبت ببنت الشيطان، والتي ولدت بتعويذة، الطفلة منحوسة ومشؤومة-
برغم جمالها وذكائها، قالوا عنها- فتنة الشيطان- الجمال والعصيان-
الجمال معلوم، والعصيان كان مرادف الذكاء-
فالبنت التي تفكر وتناقش بأمور الكون والوجود والغاية من الوجود- هي عاصية.. كافرة- أمور كهذه مفهومة ضمنًا ولا تُناقش.
واليوم، العرس، ابو عروستنا واقف في الساحة عند شجرة البلوط الكبيرة، يحرمها من نظراته، وينظر بكرم الى ضيوفه، عابس متجهم الوجه، متمثل بالسرور المغطس بالخجل من ابدائه-
فوالد العروس وامها لا يجب ان يبينوا سعادتهم لزفاف ابنتهم، ولا حتى ان يحزنوا لفراقها- مستسلمين لعزة أنفسهم والتقاليد القاسية- متجمدين كالدمى.
اما لو كان العرس عرس ابنٍ- لربما اختلف الامر.. لربما هتفوا، ورقصوا وصلوا لله ان يعمر الفرح بيته-
بيتهُ، وليس بيتـ-ـها، بيت سالومي الذي لم يره ولن يراه احد، بيت خارج الحدود الشائكة، طريق طويل عبر النار الى اقصى الشمال البعيد..
الى بيروت.
هل لم تتسع في بلادها حتى طُردت خارج الحدود؟ أهذا قدرها الآن؟ لم لا يبقى كلٌ في ارضه بسلام؟ من الذي يقوم بإعادة توزيع البشر في الأرض؟
يأتيها الجواب من نفسها التي تسألها-
لماذا لم تقبلي برجل من ارضك وقبلت بهذا الغريب؟ بم كنت تفكرين؟
اجابت نفسها- هم لم يقبلوا ببنت مثلي ووصفوها بالبرية وبنت الشيطان، وهذا الغريب قبِل ولم يسألني.
..
وفي بيت جدها، في قاعة الضيوف الكبيرة، بحضور الرجل الموكل بإعلان الزواج-
لا رجل دين حاضر ولا معبد يُقام فيه الزواج، لتسمع المزيد من الاقاويل- لا يُدخلوها بيت الرب..
..
تم الزواج، في هذا الصباح الذي يشبه صباح الغفلة، تزوجت ابنتنا سالومي بنت الجليل، برجل ابن مدينة أخرى بعيدة جدًا عنها- ابن بلد آخر-
اسم عبد الله- سمعان شكيب سمعان، واسم أَمة الله- سالومي-..
"يا سيدنا قل (سليمانا) ليبارك لنا الله" جملة مقاطعة انطلقت من فم العمة الكبيرة
الاسم الذي اختاروا هم مناداتها به، وليس اسم الولادة سالومي من اختيار امها الحنونة "سلمى"- الاسم الذي راودها في المنام وقطعت عهدًا ان تسميه لطفلتها ان تم الحمل- وحصل.
والعروس تنظر الى الام متمنية لو تمسك بيدها وتهربان سويًا، فالأم اكثر من تعلم بحالها، وسالومي تعلمت معها وشهدت ان لا أحد يحب (الغريبة)-
امها تزوجت (غريبة)، هي من حلب، سوريّة، عانت وصمتت، الآن ابنتها تعيد مشهد غربتها، منصرفة الى لبنان- والمتوقع ان تصمت وتصمد بدورها في غربتها- فهذا قدر ونصيب. هكذا قالوا.
"لبنان حلوة، لبنان جنة- مثل السينما التي تحبين" حاولت قريباتها تعزيز نفسيتها قبل الزفاف بيوم، الا ان سالومي تفهم انها تسخر منها-
علمًا ان سالومي تضحي بروحها من اجل السينما فهي تعشق كل ما يتعلق بالسينما والاغاني والاستعراضات، وبتلك اللحظة المرة شديدة الواقعية سخّفت عشقها واحلامها لترد مستاءة-
"ودارنا حلوة! في سينما ببلدنا!"
لم يأخذ احد بكلامها، ولم يهتم احد بكلامها اصلًا، جميعهم مؤمنين بالقدر وبالنصيب-
غدًا ستحبين سمعان، بعد الزواج ستحبين زوجك..
..
"سليمانا بنت سلّوم سليمان" يكرر عمها بصوت اعلى واخشن "أبو سليمان"
"سالومي والا لن يتم الامر" همست بنفسها للرجل الموكل مما دفع العريس للنظر اليها مذهولًا، اضافت على قولها-
"احلف بربكم انني سأخرج من هنا واتسبب بفضيحة"
نبرتها سيئة، حاقدة، ومتكبرة لا تخرج من فم امرأة مؤمنة ومهذبة، فتلفت العريس الى الحضور ليتأكد ان لا أحد سمع.. واطمأن، لم يسمعها أحد-
يكفي انها ترتدي الأسود..
"سليمانا" احدهم ردد مصرًا
الاسم، هوية الشخص، وما زال اسم سالومي لم ينل استقلاليته، حتى حين سلخوه عنهم ليضاف لاسم جديد لرجل غريب- فلا هو حر ولا هو مستقل.
اخذت تتمتم مستهزئة بهم "ها امة الله سالومي؟ لا، قل سليمانا لنتبارك! وكأنك لا تعرف من سالومي ومن سليمانا ومن سمانة!"
عريسها نظر حيث تنظر، الى الأيقونة المعلقة فوق الباب، تكلمه ليس وكأنه صاحبها من الحي، مع ذلك بقي متمسكًا بثباته ولم ينفعل، تمتم هو الآخر-
"سأبقى ثابتًا، ستتم، انا مجرد رسول"
لم تسمعه العروس، كانت ملتفتة الى امها، فأومأت أمها لها كتنبيه ان تداري الكلمات ولا تتسبب بما يُخجل والدهاـ
هنا فهمت العروس ان الام الصامتة لن تنقذها بل هي ترغمها على الصمت بصمتها ذاك، فتنهدت بخيبة ونظرت في موضع يديها المتشابكة-
"والآن قل يا أيها الموكل من اعداء الرب، قل اسم الذكر الذي تم تأنيثه لتلوين خيبة الحصول على مولود ذكر بشيء من الامل، ربما سيولد الذكر بعدها- والله أمر ان لا سليمان سيولد من هذه الشجرة المرة، فقط "سالومي" لا اخ ولا اخت من بعدها."
لذلك-
اسم امة الله- (سليمانا بنت سلّوم أبو سليمان) كما شاءوا-
ثم سُئلت عن موافقتها بهذا الزواج بعد موافقة العريس على اتخاذها زوجة له، فصمتت..
ليُعاد السؤال، صمتت مطولًا-
اعيد السؤال- تشبثت بصمتها-
ولا تعلم لم عمها مَن شعر بالإحراج دونًا عن سواه، وكيف نهض من مقعده وامسكها من عنقها يحني رأسها امام رجل الدين (الليس برجل دين) وقرّب وجهه منها يهمس-
"خلصينا بلا كبرانية راسك اسا!"
فأومأت ليفلتها.. وقامت بالتوقيع فوق تلك الاوراق دون قراءتها..
ثم تركها ليقف منتصبًا، ويبشر الحضور-
"تقول انها موافقة، ابنتنا خجولة وصوتها منخفض"
كان أغرب زواج يمر على العائلة جميعًا- عروس ترتدي الاسود وتوقع عقدًا امام الشهود وضباط يرافقونها حتى الحدود..
.كُلّلا، كزوج وزوجة-
امام الله، امام رجل الدين الموكل، وامام الشهود والحضور، في القاعة المكتظة المختنقة برائحة البخور والعطور والعرق..
انتابها احساس وهي تسير في الممشى المزين بالقرنفل واكاليل الغار واغصان الزيتون، ان الكون يسخر منها، فتوقفت ورفعت بصرها المحترق بالدموع تحدق الى دموع الايقونة المعلقة-
"انتظرتك لتنجني، لم تتحرك ساكنًا وشاهدت بصمت نحري كقربان فوق ذلك المذبح.. لن تسلموا ولن تروا السلام، هذا وعد"
سمعان (العريس) وحده من سمعها، ولسبب ما شعر بالخوف-
فهو يعلم ما لا تعلمه..
•••
سالومي شابة في بداية العشرينات- كبيرة- كما تقول عماتها-
وزوجها امام الناس، كان بعمر الثلاثين، جاء، عرض نفسه لخطبتها، وخطبها.
زعموا انه قد عرفها من صورة عرضت عليه، اما هي فلا تعرفه من شيء-
فقط انه من طرف خالته- نادية، والتي تكون زوجة عم سالومي- هكذا قالوا ايضًا..
اجل، نادية التي ساقت والدة سالومي الى "المعالجة" لتنجب ابنتها بتلك التعويذة.
وحين علمت نادية تلك ان اختها فادية أُم- سمعان- تبحث عن عروس ناضجة عاقلة وجميلة لابنها الطبيب- خريج البعثة العائدة من بلاد الافرنج بكل فخر وتطبيل- اتى ذِكر سالومي-
وكما فهمت سالومي ان العريس وافق فقط ليُسكت عائلته وليس لرغبته الحقيقية بالزواج- لهذا أراد زوجة (ناضجة) من عمر واعٍ وليست (شابة) صبيانية-
وذلك اغضبها جدًا حتى حقدت عليه وبدأت تفكر بإتلاف هذا التعارف المعتل، سالومي من نوع البنات التي تود من الكل ان يقع في حبها- حرفيًا الكل-
وليس من اجل تعبئة فراغ او مشاعر ناقصة، بل فقط من اجل غرورها وليزداد جمالها. انها فتاة تقع بغرامها لكن ما ان تقترب حتى تشهد شرورها وتفر هربًا-
هروب شبان عائلتها ومحيطها منها ولّد فيها هذا الغرور المعتل.
ومع ان "العريس" مصر على ابنة الشيء والعشرين بقيت عمتها وزوجة خالها تحثانها على تزييف عمرها، على الأقل لتقل في السابعة عشر، فشكلها بالأساس يوحي بعمر اصغر من عمرها-
فتتزوج هذه المرة بالفعل والتمام، بعد رفضها واتلافها وحتى تخويفها لكثير من الخطاب والزوار..
سالومي ليست بالبنت الراكدة او كما تصف هي البنات (المروَّضة)-
فكانت تقضي اوقاتها في خربة القرى المجاورة وتتجول كثيرًا في ازقة المدينة، تسير ولا تكلم الناس، فقط تمشي مع خيالها تتمتم اغانٍ حفظتها من الراديو او تدندن الحانًا الفت لها-
حتى قيل عنها ممسوسة تكلم نفسها كدعم لصيت بنت الشيطان الذي يرافقها منذ ولادتها-
والحقيقة ابسط من ذلك، هي فقط ليست بالشخص الاجتماعي بإفراط، أي انها تفضل ان تصاحب كتابًا او قطة، وتستمع لقنوات الإذاعة على الراديو بشغف لأغانيه فتدون الاغنية وتغنيها بإتقان-
بدلًا من الجلوس طوال فترة العصر في مجلس النسوة الكبار اللاتي لا يسكتن عن سيرة الزواج.
بشخصيتها البرية المستقلة الغير قابلة للترويض، أصبح امر ايجاد زوج من قريتها والجوار مستحيلاً، لبنت بهذا العمر وهذه الطباع التي ترفض الكل، حقًا رفضت الكل حتى أشيع عنها انها معقدة من الزواج والذكور.
وإشاعة أخرى قالت انها منظورة من روح شريرة يجعلها تكره الزواج ببشري- اجل، هكذا قالوا.
بالاساس هي لم يعجبها أي رجل حتى الان، بل ووصفتهم بالحيوانات في عز موسم التكاثر، متفاخرين ومنتفخين، يبتغون الزواج فقط لإضاءة شهواتهم من عتمة العيب المخيم على المجتمع وجعلها (عبادة واجبة).
فمن يتزوج او تتزوج فهو عفيف ومؤمن، من لا يتزوج او تتزوج- فيه علة ومعرض للغواية الشيطانية.
..
سالومي تكلم من يعجبها ولا تعتبر من لا يعجبها موجودًا، تقرأ أفكار المثقفين الكبار، تتعلم منها وتكتب افكارها الكبيرة. تتجرأ على الحلم وسرد احلامها بفخر لصديقاتها وقريباتها-
هؤلاء اللاتي لم تتوقف عماتها عن مقارنتها بهن وانهن بعمرها واصغر صاحبات البيوت العمرانة والثلاثة أطفال على اقل تقدير، بينما هي تجلس في مجلسها المصطنع تحدثهن عن الاحلام والحكايات الخيالية.
فذكرت سالومي امام الخاطبين عمرها الحقيقي، لم تخجل..
اثنان وعشرون.
واضافت انها درست في البيت مستعيرة كتب ابن عمها الذكر الوحيد في العائلة والمسموح له بالسفر لاكتساب التعليم العالي، بما ان البنات لا يدرسن اكثر من الاساس في المدرسة البلدية او الدير-
كأنها تقول للخاطبين: ليس ابنكم وحده المتعلم والمثقف.
فقالت عمتها "ما تعنيه انها قرأت بعض الكتب العامة وهكذا، لكنها كتب جيدة وموثوقة"
فأصرت سالومي امام الخاطبين انها دارسة ومتعلمة حتى من دون شهادة رسمية، وانها ايضًا تعلمت من ابن عمها وزملائه اللغة الإنجليزية والفرنسية-
"هل علمك الشباب الفرنسية؟" تسألها احداهن
أومأت، ابتسمت "واشياء اخرى.. بالفرنسية"
هنا صدمتهم جميعًا..
لتتدخل زوجة عمها تداري الوضع "لو كنا نعرف لأرسلناك الى الدير لتهبي حياتك للعلم والدين، ماذا نفعل هنا؟"
"لا اريد حياة الدير خالتو ناديا، لست بهذا الزهد والتفاني، طموحي وحلمي يفوق ذلك"
"وماذا تريد المرأة السوية المؤمنة ست سليمانا؟" تسخر زوجة عمها بابتسامة مستفزة
وسالومي ثابتة وتجيب "ان تشعر بقيمتها وقدرها كأنثى، ان تشارك علمها وجمالها مع المجتمع الذي تختاره، مجتمع يليق بها، وأن تدرك غاية وجودها وجمال عظمة تكوينها"
"ولم انت موجودة على الأرض ست سليمانا؟"
اعطتها سالومي إجابة غير متوقعة، إجابة بسيطة، دنيوية وغير فلسفية-
"لأدلل نفسي واتدلل"
وابتسمت سالومي، ابتسامة مغوية ونظرات ساطعة خلفها داهية مظلمة-
ابتسامة حتى والدتها تعجبتها واستشعرت منها فتنة وسحر..
ساعتها توقعت سالومي ان تُفسخ الخطوبة بعدما اعطوها نظرات الحيرى الممزوجة بالتخوف والشكوك، وكأنها قالت كفرًا..
ثم سمعت همساً من احداهن "متأكدين البنت عذراء؟"
لم تفهم ما الداع وما سبب هذا التحقير العلني..
ثم استوعبت ان قصدها عقل البنت وليس جسدها، تظن ان الفتيات حين يتنورن بالعلم والثقافة التي تنادي بالتحرر يفقدن عذرية- عقلهن.
لكن العريس الذي تعرض بشكل غير مباشر للإغواء البري منها ابتسم وصفن بها مستسلمًا لتلك الابتسامة مصرًا على عدم نزعها منها-
كانت تلك اول مرة تنظر اليه سالومي وتلتقي اعينهما..
كانت اول مرة تنظر فيها الى رجل بهذا الوضوح والقرب وترى منه تلك الرغبة المشعة، وتسمع ذلك النداء من عينيه.
ولا نعرف كيف- خُطبت سالومي لسمعان بإصرار منه، قال-
"هذه- هي- سالومي"
وقد لفظ اسمها الحقيقي، احدهم رأى سالومي اخيرًا.
•••
الخطبة دامت مدة أسبوعين فقط، حقًا لم تلحق حتى ان تتعرف عليه، لطالما بيّنت انها جافة العواطف، وغير مرحبة بحضوره، وفي ابسط الامور كانت تقلب وجهها وتنقز- كإمساكه ليدها-
وحين يناولها هدية من هداياه تنتظر امها لتومئ لها ان تقبلها منه، من بعدها يسمع سمعان كلمة واحدة-
"سلمت" فقط لا غير.. بلا ابتسامة، بلا نظرة او ايماءة..
وكانت تلك الكلمة لحنًا كافيًا ليطرب اذنه، فهو متأكد ومرتاح بأن هذه الشابة التي لا تشبه ولا انثى قابلها ستكون تذكرته للعبور الى الفردوس الموعود- فلا داعٍ لفقدان الصبر.
والفردوس الموعود لم يكن يعني ولا بأي شكل الحياة الزوجية السعيدة..
هو يعرف ان سالومي ليست بالبساطة البادية عليها..
..
اما ان أراد فتح حديث معها تزعل ولا تحاور، كسؤاله لها-
"لماذا اسمك سالومي؟ هل تعرفين من تكون سالومي؟ لا اظن انك ان عرفت ستبقين معجبة وفخورة بهذا الاسم"
لربما اعتبر سمعان خجلها عاديًا ككل البنات، ولعله تأمل ان بعد التقرب منها سيعرفها اكثر-
لم يكن يعرف ان سالومي تنفر من عيونه السوداء الواسعة، ومن صوته الصاخب وأحاديثه المتفاخرة عن اسفاره وأصدقائه بتلك اللكنة العجيبة-
لم يكن الخجل ما يصدها، بل كان تهربًا ليسأم منها ويتركها!
ففي المرة الثانية التي سألها فيها عن اسمها مغيرًا صيغة السؤال-
"لم أعطوا ملاكًا مثلك اسم تلك المرأة العاصية الغانية؟ حقًا هل تعرفينها؟"
اجابت بكل ثقة وبابتسامتها التي اغوته في المرة الاولى-
"اعرف سالومي، هل تعرف انت ما فعلته سالومي بالرجل الذي اهانها؟"
ابتسم، ضحك "قطعت رأسه قربانًا لها"
ابتسمت "سأقتص عنقك سمعان ان اهنتني مجددًا"
"اروح قربانًا لك"
"روح عني!"
"لم يطلقون عليك لقب بنت الشيطان؟ والدك رجل شهم وذو مقام"
تصنعت ابتسامة، وادعت لترعبه "لا تخف، مع الايام ستشهد بنفسك على الاجابات"
لأول مرة يشهد جانبها العنيف، فمد يده الى وجهها يداعبها، لتقز من مكانها وتدخل مجلس النساء متهربة منه.
بقيت غاضبة طوال الليل، فقد مضى أسبوعين من محاولات جعله يتراجع عن زواجه بها- فشلت، بل وزاد تعلقه بها واصراره على الزواج منها ومستعجلًا..
وجاء صباح الغفلة كما أسمته، لم يتبقى أي هرب وتزوجت به.
•••
وبعد مراسم الزفاف، ودّعت الكل بنظرة وامها بعناق طويل وبكاء..
وبنات عمها وقفن امامها شامتات "ذهبت كل الاحلام والحكايات التي صرعتنا بها مع الريح، في النهاية تزوجتِ مثلنا ايتها البنت البرية"
آخرهن قالت لها ما احزنها حقًا واشعرها بالهزيمة-
"ستصبحين ما حلمت به ايتها الفنانة، وجمهورك الوحيد سيكون زوجك- من الغد سترقصين وستغنين لزوجك فقط سالومي"
شيء ما اسكتها ولم ترد عليهن.. انها يائسة ومتعبة.
..
لم تبت ليلة، وفوراً سافرت مع زوجها الى بلاد أخرى، لم تعرف كيف تسأله لم سنذهب عبر البلاد بهذه السرعة كأنه هروب من الموت؟
فقط انطلقت بهدوء، بأمتعة كثيرة وصناديق ضخمة، فيها كل ما قامت أمها بخياطته، وما اشترته برفقة قريباتها، وكل الهدايا المقدمة من الاهل والضيوف.
اما صندوق واحد شغلها وأغضبها، فيه تلك الثياب الحريرية، والاخرى المخرمة بأشكال الورود وتلك الشفافة الكاشفة، ارادت حرفيًا اشعال الصندوق بما فيه ولا يأتي معها الى بيت رجل ليس بحبيبها.
لطالما أحبت في السر هذا النوع من الثياب الانثوية، وكم مرة تسللت مع بنات العائلة العازبات الى مشغل الخياطة الخاص بأمهاتهن، لتجربة تلك الثياب سرًا فكانت حكرًا على المتزوجات فقط.
ففي تلك الجلسات الانثوية الخفية، حيث تترجم سالومي قصة رومانسية من كتاب أجنبي، وترويها للبنات المتكئات بأثواب ملونة مزركشة وأخرى فاضحة ومفرودة-
فعلمتهن عن طريق التمثيل والرقص والاستعراض عشق أنفسهن بخيال ظاهر، وبشهوانية باطنة ترف القلب بسعادة ونشوة- الرقص والغناء والملذات الحسية، فائضة تعبق بجو صالون البنات السري..
وفي النهاية تختم السهرة بوعد انها ستصبح شيء ما في عالم الفن والاستعراض-
هي موهوبة وجميلة جدًا، لكن أحلام مثل هذه في بيئة قاسية يحكمها رجال محاربين هي مجرد أحلام..
والبنات اللاتي استمتعن بحكاياتها ورقصاتها ينهضن في آخر الليل ساخرات منها، ويعدن الى منازلهن وامانيهن الواقعية بأن يتزوجن برجال حقيقيين وليس بظل وخيال- لتبقى سالومي وحدها في احلامها بين الظل والخيال.
واليوم سالومي تزوجت، أي صار لها شريك ليس من خيالها، فهل سيشاركها خيالها الظاهر؟ وهل لديه تلك الرغبة المشعة كما في رجال الافلام والروايات تجاه حبيباتهم؟
في الطريق تكلم سمعان بجملة واحدة، أخبرها انهم سيعيشون في شقة في بيروت، بينما كانت تفكر، ماذا ستفعل حين-
(يحصل الامر.. ذلك الأمر)
بل لا تستطيع التفكير، يعود ويستلمها التوتر، هي لم تكن تريد الزواج به ولا شيء شدها اليه طوال فترة الخطوبة، فلماذا تفكر الآن بأمر كهذا وكأن لا مفر؟
اضطربت افكارها، واختارت في عقلها البقاء بهذا الفستان الاسود- لحداد قلبها الذي لم يجد الحب الحقيقي كما في القصص.
وسمعان زوجها.. ليس حبها.
..
ما زال الطريق طويلًا-
ألقت سالومي نظرات خاطفة على سمعان- زوجها-
رجل بمعالم شرقية خالصة، شكله مقبول لكن ليس كجاذبية نجوم السينما والحكايات الخيالية، حافظ لدينه كما مدحت خالته، حاله المادي جيد جداً، لديه بيت مُلك ووظيفة ثابتة.
هكذا كانت تفكر به بسطحية حين كانا مخطوبين- لم تشأ ان تفكر بعمق طالما لا مشاعر صارخة تجاهه منها، لم تكن تريد اقناع نفسها بالتلذذ برجل فُرض عليها فسيكون هذا بمثابة استسلام!
اما الآن، بهذه اللحظة، لا تعرف كيف نظرت اليه بطريقة مغايرة، برغبة للاكتشاف، بمشاعر شجاعة- أشجع بمراحل من أيام الخطوبة..
بماذا كانت تفكر؟ طبعًا بليلتهما الاولى معاً- واضحة وحقيقية-
ثم يعود القلق والاضطراب، ماذا لو لم يكن الحال يشبه ذلك المشهد في الفيلم الأخير الذي شاهدته في السينما؟
ماذا لو لم يكن مثل البطل؟ ماذا لو لم تكن هي مثل البطلة؟
ماذا لو.. ماذا لو.. ولو..
•••
انتهى مشوار الطريق الطويل في احدى ساعات المساء، ثم-
انه البيت، بيت الزوجية، فاتحة الحياة الجديدة-
في الواقع خاب ظنها تجاه البيت، فقد تخيلته مستقلاً، كما بيت ابنة عمتها العروس التي سبقتها، بحديقة وشرفة، ممر زهور ربما، وشجرة تين ولوز وبرتقالة وزيتونة..
بيته كان شقة، في عمارة مرتفعة، بشارع مرصوف ناعم، والكثير الكثير من الدكاكين والشقق السكنية الاخرى.
الشارع ساكن، معتم، لا نَفَس فيه، هما وحدهما تمامًا، كأنها هبطت الى عالم آخر لا بشر فيه..
رجحت انه بسبب حلول المساء، الدكاكين مقفلة والناس تتناول عشاءها في بيوتها، فلا حاجة للمبالغة بالقلق، وأن الحياة ليست بهذا السوء، ستعتاد، ربما ستجد شيئًا يغنيها وستعتاد..
..
أقفل العريس الباب خلفهما، نظر الى العروس، وهي ابتسمت، المشهد حقيقي، هما وحدهما.
أسرع يسدل الستائر على النوافذ الواسعة، واقترب منها، وقف دون بعد يُذكر-
امسك وجهها "آه سالومي" نطق اسمها ورن في اذنها
بقيت صامتة.. لكنها مبتهجة لأنه قال- سالومي.
ثم قالت "ماذا نفعل هنا؟ لم لسنا في بيتك حيث عائلتك؟"
وذلك لانه قال في الخطوبة انه يعيش بالقرب من عائلته، وحسب ما رأته حتى الآن.. لا شيء، فقط هما منذ ان ودعت اهلها عند الحدود.
لم يجبها وتقرب منها جسديًا اكثر..
همس "لن يرانا هنا"
همست "انه موجود في كل مكان"
هي تعني الرب، وهو يعني (رب) شيء آخر..
دعكم..
بالكاد تذكُر ما اوصتها اياه النساء المتزوجات، لا تعرف بماذا ترد وماذا تفعل..
بالأساس لم تحتاج، فعل هو-
ولم تعلم ان كان الرجال يختبرون هذا كثيراً ويتعلمون حتى يتقنوا الفعل، ام انهم يثقون بأنفسهم الى الحد الذي ينمحي به توترهم.. لا فكرة لديها.
فالروايات العاطفية لم تثقفها، ولا حتى كتب العلوم والتشريح. الفعل والنظر لا يشبه أي ما يذكر بالكتب ككلمات ولا ما يرسم بالخيال كمشاعر محكومة!
المطمئن لها انه لطيف، رقيق ومتحفظ- أي لا يجبرها على شيء- وهذا وحده راحة ولو انها متوترة الى حد الاغماء!
إحساس داخلي معاكس في البداية، قبلاته الناعمة تداعب عنقها، تسير نحو قلبها، القلب الذي كان في الصباح بحالة حداد على الحب الحقيقي والآن هو محتار-
بم علي ان اشعر؟
جذب ياقتها الى الأسفل، كانت تريده لو يعلم انها احضرت معها ثياباً لائقة فيؤجل الامر، وان ليس عليه الاستعجال، كما انها ترغب بالاستحمام والتعطر-
السفر في الصيف ليس مريحاً، خاصة مع هذا التوتر الفظيع والحرارة التي بداخلها، شعرت انها متسخة وغير مرتاحة.
لكن اين ثيابها واغراضها؟ لا شيء مم احضرته موجود هنا!
زوجها، يمسك كتفها من تحت ثيابها المرخية، واصابعه الشجاعة تستكشف ما يختبئ تحت طبقة اضافية من قماش فستانها.
ما زالت تتساءل وتفكر- هل يحق لي ان اظهر استمتاعي بهذا او ربما عدم راحتي؟
ام كما قالت الجارات انه سيرميها بوصف قبيح يصف سيئات السمعة وبائعات الهوى؟
فضلت البقاء بصمتها، حتى انها لم تبادِر بأي فعل.
بقيت كالدمية الخزفية بين ذراعيه، يكتشف بها ما يتوقه، وهي لا تمسك دورها من هذا..
حقًا وقتها نسيت كل شيء. حتى قصصها التي الفتها بنفسها عن العشق والأحاسيس- نسيتها.
نظرت الى السقف، بلحظة ادراك اين هنا وما الذي يحصل-
الى أن غلبها إحساس آخر فجائي.. فقمع توترها وزاح افكارها.
..
يده التي كانت مرتاحة على كتفها تسلقت عنقها المتعرق، وفمه الذي بقي صامتاً طوال اليوم- أصبح ملتحماً بشفتيها المطبقة..
القبلة الاولى، دعت الا تخفق بها.
لهذا ارادت التقاط نفس يمدها بالقوة، وما ان فرقت شفاهها حتى اخترقها-
لم تعد تفكر كثيرًا- اصبحت تشعر، بلهيب قاسٍ يخز كل طرف من جسدها، وتسمع، صوت تردد أنفاسه بها، وتشعر بشيء من التخلي عن ذاتها يعنف بالها وحالها..
يده الاخرى المتجولة فوق ثوبها المتدلي عن خصرها قد وجدت جلدها، الذي لم تلمسه سوى ايادي الشمس خلسة وعباءات الحرير في المجالس الانثوية الزخمة..
ساعدته الآن، ارخت حزام فستانها، وحررت ذراعيها بالكامل من اكمامه النصف منسدلة..
قبلة أخرى على شفتيها، تلتها قبلة بمنتصف عنقها الرقيق، وبدأ ينزل بروي، حتى حدود ثوبها النسائي-
حمل خيوطه الرفيعة عن كتفيها، بأطراف اصابعه، ونظر لها-
فأمسكت معصميه، بقيت تنظر في عينيه، للصدق نظراتها ارعبته، الى ان اغمضتها وانزلت يديه المتعلقة بثوبها لينساب فورًا مع الجاذبية.
ثم حضنته قبل ان يستوعب مفاتنها وانوثتها الفائضة..
داعب وجهها، خمنت انه يستأذن، فأغمضت عيناها وأومأت..
استنشق رائحة جلدها بتلذذ، للحق لامت نفسها، وانه عليها الاغتسال والتعطر على الأقل بشكل طبيعي-
ففاجأها انه اعترف بشهوانية الروائح الطبيعة للمرأة، وأنها تُشعر الرجل بالأُلفة، كميزة خاصة لا شبيه لها.
قرأت هذاـ لكن في كتاب الاحياء عن المخلوقات البرية، لم تكن تعرف انه ينتمي لبعض الذكور من نسل الانسان كذلك.
فكتمت ضحكتها..
وهذا الرجل المتلذذ بحلاوتها راكع امامها، اشعرها انها واقفة بشموخ كتمثال سيدة..
لم تعد الدمية الخزفية.
وما زالت لا تعرف شيئاً عن جسد هذا الرجل وعادت تجول بذهنها وخيالها..
أعطت نفسها حق التخيل كمقابل غير عادل لما يناله هو واقعًا، لطالما اعتبرت الخيال لعبتها المفضلة-
بلحظة غير متوقعة ضحكت بعفوية على تخيلاتها الدخيلة المبالغة-
فضحك لها كذلك، وخلع قميصه ليبقى عاري الصدر..
"كأنه تحمس؟" قالت لنفسها مستغربة ضحكته فضحكت أكثر
وتحررت من باقي ثيابها، وبقيت بأقصى القليل امامه، متحفظة على شعورها بالإثارة ولا تعترف.
اما هو، فيعترف ويفعل..
فجأة-
اتصال واحد، رنين متواصل من جرس الهاتف افقده الحماس، فودعها وخرج من البيت-
لم تفهم كيف يخرج رجل قد تزوج للتو من بيته بعد منتصف الليل، ثم قالت انه طبيب، ربما استدعاء طارئ وضروري..
واستغلت الفرصة في غيابه ان تغتسل، ولم تجد اي قطعة ثياب سوى عباءة شرقية معلقة، الوضع مريب صدقًا-
لكن ماذا تقول وهي واقفة امام المرآة بفخر بجمالها وسحرها الانثوي الحقيقي الذي لطالما خبأته وحبسته في المرايا البالية والقصص الخيالية..
"الليلة سنحرره سالومي" خاطبت انعكاسها المشرق في المرآة "تذكري انك لست الفتاة المطيعة التي يتخيلها.. استمتعي بأنوثتك وافرضيها"
جلست فوق الفراش، ابقت ساقها مكشوفة من العباءة، وشعرها الأسود الطويل جدًا منسدل بحرية على ظهرها واكتافها، وتبقى منه طولًا حتى يفرد على الوسادة تحتها..
الباقي تركته عفوي- لم تبتذل- فانعكاسها بالمرآة في زاوية الغرفة أوحى لها بجمالية لا تصدق، هي بذاتها لم تكن تدرك مسبقًا انها مصورة بهذا الجمال..
عاد زوجها، بعد نصف ساعة تقريبًا، فابتسمت له فورًا رغم ضجرها-
جلس الى جانبها، وانحنى يبتدئ بقبلة فوق ركبتها، مجدداً يرسل يده بعمق لتستكشف قبل حواسه الباقية-
لاحظت احمرار جفنيه، والرجفة في يديه، كأنه خرج بحال وعاد بحال مغاير تمامًا، ايضًا لم تلقي بالًا ولم تبالغ بالتفكير، وبقيت بصمتها.
"سأخبرك بشيء" قال
أومأت تنصت، ومالت لتستلقي، عيناها نعسانة، أنفاسها ساكنة وصوتها مكتوم بين شفتيها واسنانها خشية اي انتقاد سيطالها..
قال ما سيقوله لها-
"هذا لم يخلق عبثًا، فأنت امرأة لا شبيهة لها ولا نظيرة في الشرق"
جملة إضافية من جمله المتفاخرة، لم تكن تحسب انه سيأتي يوم تتحول فيه هذه الجملة الى محور وجودها..
"سالومي انت لا تقدّرين جمالك.. فلو ولدتِ في هذا المجتمع هنا لانحنى امامك الكون- انهم جائعون لمثلك.. لن يجدوك.. حرام ان يجدوك"
لا تفهم عليه، لا تعرف عن أي مجتمع يتحدث، ولا تعرف لم قد يقول زوج لزوجته الجديدة- سينحني الكون لك لو تعرف عليك! ثم من الذين لن يجدوها؟
زاد على كلامه ما كان من المفترض ان يرعبها لولا مداعباته التي تعمقت بقسوة تاركة اللطف الاولي بالكامل-
"لتفنى روحه وليفنى سلطانه ولتبقي انت لي سالومي.. وإن لم أبقى فاختبئي ولا تظهري للأسياد.. هنا أمان لك"
الهاء في روحه وفي سلطانه لمن تعود؟ ليس لزوجها حتمًا، وليس لأبيها.. لمن؟ وممن عليها ان تختبئ ولا تظهر؟
شعرت بصاعقة تسري في جوفها، فانطلق صوت تنهيدتها بعد شهقة عميقة من دون قصد، لتجد وجهه قد قابلها، يحاول سماع صوتها بوضوح..
"سالومي.." همس عند اذنها، واعترف لها بشيء "شاهدتك مرة خلسة.. في الغرفة مع البنات- رأيت ما فعلته- رأيتك وسمعتك.. لا تزيفي خجلك.. حرريه سالومي.. لن احكم عليك- انا بحاجة طاقتك الآن للتغلب عليه.. انت اعظم منهم واكثر قوة"
سالومي لم تنكر تعجبها واندهاشها من هذا التصرف، ايضاً لا تنكر حماسها وسط هذا الجنون الفوضوي-
لهذا حصل ولم تكتم أنفاسها ورغباتها اكثر، فحررت نفسها للانتشاء بتلك اللذة الانثوية المباركة- كما وصفتها، بدل ان تتشنج بكتمها حياءًا..
اختبرتها لأول مرة بشكل واقعي مشترك، وبنعمة إحساس يختلف عما دار بينها وبين نفسها او صديقاتها من خيال رطب ومداعبات سطحية..
اما زوجها فقال لها قبل خروجه من الغرفة:
"انت فتنة كما وصفوك لنا.. انت مباركة بالجمال والنعم كما وُعِدنا"
النا هنا لمن تعود؟
عاد قلقها وضاق بها التفكير بكلام زوجها بعد فتور تلك النشوة اللحظية..
قليل وتمكن منها النوم بعد أطول وأقسى يوم مر عليها.
••••
الصباح التالي، بدأت سالومي تعي شيئًا مم قيل لها الليلة الماضية-
فتستيقظ مع نور الشروق الوردي المتسلسل من النافذة، لقد نامت بهدوء لدرجة انها لم تشعر بوجود حركة حولها طوال الليل-
وبقي الامر عاديًا حتى مرت بضع دقائق مدركةً انها وحيدة في الغرفة، بل انها وحدها من نامت في السرير النصف مرتب..
نهضت على عجل، تجولت في الشقة، تفتح بابًا بهدوء وتغلقه، الباب الذي يليه، والباب المقابل، بحثت في كل مكان-
لم يكن (زوجها) في البيت.
انتابها القلق لبعض الوقت، ثم عزمت ان تهدأ والا تخاف او تبالغ-
وضعت احتمال ان يكون قد خرج لقضاء غرض وانه سيعود، فانتظرت.
..
ومضى الصباح-
انتظرت حتى منتصف الظهيرة، لا جرس باب قُرِع، ولا سلالم طُرِقت..
بقيت تتنقل، من نافذة الى اخرى، يمر من هذا الشارع كل الناس، ما عداه هو.
فجأة أصابها الوسواس-
فركضت كالمجنونة تتفقد اغراضه.
هل هجرها؟
كلا، اغراضه لم ينقص منها شيء، كله على ما كان عليه.
ربما ترك ملاحظة-
لا، لم يزد شيء من الاغراض.
الرجل غائب منذ الصباح، وسالومي وحدها في مدينة غريبة، لا تعرف كيف تتصرف، او من تسأل؟
قالت ان تصبر، سيظهر في المساء.
وجاء المساء من دونه..
ازدادت رعبًا وارتفع صوت وسواسها-
وبلا فائدة تحاول تهدئة عقلها-
لا تبالغي سيدخل من ذلك الباب، الى اين سيذهب؟
صباح اليوم التالي، لم يدخل زوجها من الباب.
مساء اليوم التالي، لم يرجع.
مضى يومان-
ثلاثة..
أين اختفى سمعان؟
••
الجزء الأول: عروس من الجليل
..
جليل فلسطين، ربيع عام 1967:
اغنية من التراث تغنيها نساء الحارة في الليوان- للعروس الجالسة برهبتها في الداخل بغرفتها..
عروس ذات وجه حزين، مثل ايقونة منحوتة من الشمع ومزينة بالقماش المطرز والساتان الناعم، مع دمعة مرسومة باللؤلؤ عالقة لا تنزل عن الخد المتورد-
بأسى تقبض قلبها، تلك اليد المرتجفة المحناة والمغسولة بماء الورد. من في عز دار الفرح وسط الزغاريد والرقصات سيقول ان هذه دموع الجزع والخوف؟
جميل ان تبكي العروس وان تصمت من الحياء- هكذا قالت العمات والجارات-
لكن سيء، سيء جدًا ان تبكي (سالومي) على نفيها من جنة جليلة الى مدينة بعيدة تراها صفحة من ورق في كتاب رحلات وحكايا-
ما هي تلك البلاد؟ ماذا تشبه؟ هل بيوتها مسكن؟ وهل ناسها اهل؟
كلها أسئلة تسألها لتجاهل السؤال الوحيد الذي لا تسأله حتى لنفسها-
ليش انا؟
ثم تأتي ابنة عمها (رِفقة) تناولها منديل لتمسح دموعها، وتهمس لها ان (العريس) يُزف في الخارج-
"قومي والبسي فستان عُرسك"
فتنظر اليها العروس ويأتي السؤال- لماذا لم يأخذوك انت يا رفقة؟ لماذا انا؟
"سأبقى بالأسود.. لن أنزع الأسود، فهذا مأتمي وليس عُرسي"
"لا تجني، سيغضب عمي سلّوم"
وقفت عند النافذة تبحث عن والدها بين ضيوف العرس، هو واقف مع عدد من الضباط والجنود-
"من قام بدعوة اولئك الضباع الى بيتنا؟"
"سيرافقوكِ الى الحدود.. انهم اصحاب والدك"
وسؤال طرحته من اول مرة تعرفت بها على (عريسها)، كيف عبر من بلده لبنان الينا في ظل هذه الأوضاع المعقدة؟
قالوا ان جوازه فرنسي وانه عاش كل عمره في فرنسا.. وسكتوا.. فسكتت.. رغم انها لم تفهم ما العلاقة وما الفرق.
دمعت عينها وابتسمت بحرقة "لم يتبقى ما يُباع على هذه الأرض فبدأتم بالمتاجرة ببناتها.. هنيئًا لكم- ولكنكم لن تنجوا ولن تهنئوا"
صفعت النافذة وخرجت من غرفتها، مباشرة جلست في (اللوج)-
سكتت الاغاني..
العروس ترتدي الاسود..
تكلموا معها.. اقنعوها.. فهّموها..
لا يجوز ان ترتدي العروس الأسود!
لا احد هنا..
نادوا والدها..
والدها يقول- (طلعوها بالأسود)
ويدير ظهره..
عماتها قالوا (بومة) والبنات همسوا (بنت الشيطان.. صدقوا)..
من بعدها ومن بين كل الاشباح الراقصة والهاتفة تشعر بذلك الكيان الحقيقي الواحد يعانقها-
"يَمّا" همست العروس لأمها
فضمتها الأُم بإحكام وقبلتها..
"لا اود الذهاب مع الأغراب ماما" همست مجددًا "اتوسل اليك نجيني!"
لتمسك الام يد العروس ذات المنديل المغطس بالدموع، وترفعها للنهوض عن المقعد-
ابتسمت ظنًا منها ان أمها سمعتها وستنقذها، لكن عمها دخل ينهي المشهد قبل بدايته، وامسك بذراعها ليزفها الى العريس المنتظر-
الى الغريب.. كما تصف هي.
لم تنهض بيد عمها، بقيت جالسة متمسكة بمقعدها، وحتى لا تتسبب بفضيحة كما المتوقع منها، رفعتها والدتها عن اللوج بكلمتين ونظرة، كما رفعتها من المهد طفلة انجبتها بتعويذة حرفية-
سالومي وُلِدت بتعويذة..
وتلك التعويذة انقلبت على امها فصارت حياتها عذاب وندم-
فلم تكن الام قادرة على انجاب أي طفل لزوجها، كانت كل الأجنة تسقط ولا يتم الحمل-
حتى لجأت لامرأة قيل عنها معالجة، وكانت قد دلتها عليها سلفتها- أي زوجة شقيق زوجها، وتلك المعالجة بعد زعمها ان الام منظورة او مسحورة، نصحتها بشرب خليط من الأعشاب حضرته لها-
لكن هل الامر سهل ويحل بعشبة؟ قطعًا لا، فطلبت منها اغرب الطلبات وتلك تستجيب وتنفذ، واسوأها ان تبيت عارية في الوادي اسفل جلباب مطرز ايضًا احضرته لها-
كان طعم شراب الأعشاب مثل المعادن الأقرب لطعم الدم البشري، ذلك الطعم الذي يصيب لسانك مجبرًا من جرح في الفم، اما رائحة ذلك الجلباب فكانت كرائحة الفاكهة المجففة المسكرة مثل الزبيب والعنيبة، رائحة نفاذة ممتزجة بالعرق والرطوبة والتراب- سيئة ولا تحتمل.
هذه الوصفة اخافت ام عروستنا، ولم تنفذها الى ان نفذ صبرها وانفطر قلبها وضعف جسدها من اسقاط كل جنين تحمل به، فنفذت أوامر "المعالجة"، وباتت في الوادي الليل بطوله اسفل شجرة "عرعر" شائكة.
المخيف ان المعجزة حصلت بعد تنفيذها لذلك الطلب المهين، اكتمل الحمل، وحفظت الام سر تلك الليلة ولم تروه لاحد..
وانجبت.. بنت..
الامل تحول الى خيبة وغضب بالنسبة الى الاب- من جهة انجابها لبنت، ومن جهة معرفته طريقة انجابها لتلك البنت، ويقال انه حتى يوم عرس هذه البنت لم يكلم زوجة أخيه التي اخذت زوجته الى تلك المعالجة.
وبسبب هذا الغضب على زوجة اخيه قامت بفضح ما قامتا به بالتفصيل للناس، لتصير الحكاية سيرة كل لسان في تلك المدينة حتى اللحظة-
صارت ام عروستنا منبوذة، كما ابنتها التي لقبت ببنت الشيطان، والتي ولدت بتعويذة، الطفلة منحوسة ومشؤومة-
برغم جمالها وذكائها، قالوا عنها- فتنة الشيطان- الجمال والعصيان-
الجمال معلوم، والعصيان كان مرادف الذكاء-
فالبنت التي تفكر وتناقش بأمور الكون والوجود والغاية من الوجود- هي عاصية.. كافرة- أمور كهذه مفهومة ضمنًا ولا تُناقش.
واليوم، العرس، ابو عروستنا واقف في الساحة عند شجرة البلوط الكبيرة، يحرمها من نظراته، وينظر بكرم الى ضيوفه، عابس متجهم الوجه، متمثل بالسرور المغطس بالخجل من ابدائه-
فوالد العروس وامها لا يجب ان يبينوا سعادتهم لزفاف ابنتهم، ولا حتى ان يحزنوا لفراقها- مستسلمين لعزة أنفسهم والتقاليد القاسية- متجمدين كالدمى.
اما لو كان العرس عرس ابنٍ- لربما اختلف الامر.. لربما هتفوا، ورقصوا وصلوا لله ان يعمر الفرح بيته-
بيتهُ، وليس بيتـ-ـها، بيت سالومي الذي لم يره ولن يراه احد، بيت خارج الحدود الشائكة، طريق طويل عبر النار الى اقصى الشمال البعيد..
الى بيروت.
هل لم تتسع في بلادها حتى طُردت خارج الحدود؟ أهذا قدرها الآن؟ لم لا يبقى كلٌ في ارضه بسلام؟ من الذي يقوم بإعادة توزيع البشر في الأرض؟
يأتيها الجواب من نفسها التي تسألها-
لماذا لم تقبلي برجل من ارضك وقبلت بهذا الغريب؟ بم كنت تفكرين؟
اجابت نفسها- هم لم يقبلوا ببنت مثلي ووصفوها بالبرية وبنت الشيطان، وهذا الغريب قبِل ولم يسألني.
..
وفي بيت جدها، في قاعة الضيوف الكبيرة، بحضور الرجل الموكل بإعلان الزواج-
لا رجل دين حاضر ولا معبد يُقام فيه الزواج، لتسمع المزيد من الاقاويل- لا يُدخلوها بيت الرب..
..
تم الزواج، في هذا الصباح الذي يشبه صباح الغفلة، تزوجت ابنتنا سالومي بنت الجليل، برجل ابن مدينة أخرى بعيدة جدًا عنها- ابن بلد آخر-
اسم عبد الله- سمعان شكيب سمعان، واسم أَمة الله- سالومي-..
"يا سيدنا قل (سليمانا) ليبارك لنا الله" جملة مقاطعة انطلقت من فم العمة الكبيرة
الاسم الذي اختاروا هم مناداتها به، وليس اسم الولادة سالومي من اختيار امها الحنونة "سلمى"- الاسم الذي راودها في المنام وقطعت عهدًا ان تسميه لطفلتها ان تم الحمل- وحصل.
والعروس تنظر الى الام متمنية لو تمسك بيدها وتهربان سويًا، فالأم اكثر من تعلم بحالها، وسالومي تعلمت معها وشهدت ان لا أحد يحب (الغريبة)-
امها تزوجت (غريبة)، هي من حلب، سوريّة، عانت وصمتت، الآن ابنتها تعيد مشهد غربتها، منصرفة الى لبنان- والمتوقع ان تصمت وتصمد بدورها في غربتها- فهذا قدر ونصيب. هكذا قالوا.
"لبنان حلوة، لبنان جنة- مثل السينما التي تحبين" حاولت قريباتها تعزيز نفسيتها قبل الزفاف بيوم، الا ان سالومي تفهم انها تسخر منها-
علمًا ان سالومي تضحي بروحها من اجل السينما فهي تعشق كل ما يتعلق بالسينما والاغاني والاستعراضات، وبتلك اللحظة المرة شديدة الواقعية سخّفت عشقها واحلامها لترد مستاءة-
"ودارنا حلوة! في سينما ببلدنا!"
لم يأخذ احد بكلامها، ولم يهتم احد بكلامها اصلًا، جميعهم مؤمنين بالقدر وبالنصيب-
غدًا ستحبين سمعان، بعد الزواج ستحبين زوجك..
..
"سليمانا بنت سلّوم سليمان" يكرر عمها بصوت اعلى واخشن "أبو سليمان"
"سالومي والا لن يتم الامر" همست بنفسها للرجل الموكل مما دفع العريس للنظر اليها مذهولًا، اضافت على قولها-
"احلف بربكم انني سأخرج من هنا واتسبب بفضيحة"
نبرتها سيئة، حاقدة، ومتكبرة لا تخرج من فم امرأة مؤمنة ومهذبة، فتلفت العريس الى الحضور ليتأكد ان لا أحد سمع.. واطمأن، لم يسمعها أحد-
يكفي انها ترتدي الأسود..
"سليمانا" احدهم ردد مصرًا
الاسم، هوية الشخص، وما زال اسم سالومي لم ينل استقلاليته، حتى حين سلخوه عنهم ليضاف لاسم جديد لرجل غريب- فلا هو حر ولا هو مستقل.
اخذت تتمتم مستهزئة بهم "ها امة الله سالومي؟ لا، قل سليمانا لنتبارك! وكأنك لا تعرف من سالومي ومن سليمانا ومن سمانة!"
عريسها نظر حيث تنظر، الى الأيقونة المعلقة فوق الباب، تكلمه ليس وكأنه صاحبها من الحي، مع ذلك بقي متمسكًا بثباته ولم ينفعل، تمتم هو الآخر-
"سأبقى ثابتًا، ستتم، انا مجرد رسول"
لم تسمعه العروس، كانت ملتفتة الى امها، فأومأت أمها لها كتنبيه ان تداري الكلمات ولا تتسبب بما يُخجل والدهاـ
هنا فهمت العروس ان الام الصامتة لن تنقذها بل هي ترغمها على الصمت بصمتها ذاك، فتنهدت بخيبة ونظرت في موضع يديها المتشابكة-
"والآن قل يا أيها الموكل من اعداء الرب، قل اسم الذكر الذي تم تأنيثه لتلوين خيبة الحصول على مولود ذكر بشيء من الامل، ربما سيولد الذكر بعدها- والله أمر ان لا سليمان سيولد من هذه الشجرة المرة، فقط "سالومي" لا اخ ولا اخت من بعدها."
لذلك-
اسم امة الله- (سليمانا بنت سلّوم أبو سليمان) كما شاءوا-
ثم سُئلت عن موافقتها بهذا الزواج بعد موافقة العريس على اتخاذها زوجة له، فصمتت..
ليُعاد السؤال، صمتت مطولًا-
اعيد السؤال- تشبثت بصمتها-
ولا تعلم لم عمها مَن شعر بالإحراج دونًا عن سواه، وكيف نهض من مقعده وامسكها من عنقها يحني رأسها امام رجل الدين (الليس برجل دين) وقرّب وجهه منها يهمس-
"خلصينا بلا كبرانية راسك اسا!"
فأومأت ليفلتها.. وقامت بالتوقيع فوق تلك الاوراق دون قراءتها..
ثم تركها ليقف منتصبًا، ويبشر الحضور-
"تقول انها موافقة، ابنتنا خجولة وصوتها منخفض"
كان أغرب زواج يمر على العائلة جميعًا- عروس ترتدي الاسود وتوقع عقدًا امام الشهود وضباط يرافقونها حتى الحدود..
.كُلّلا، كزوج وزوجة-
امام الله، امام رجل الدين الموكل، وامام الشهود والحضور، في القاعة المكتظة المختنقة برائحة البخور والعطور والعرق..
انتابها احساس وهي تسير في الممشى المزين بالقرنفل واكاليل الغار واغصان الزيتون، ان الكون يسخر منها، فتوقفت ورفعت بصرها المحترق بالدموع تحدق الى دموع الايقونة المعلقة-
"انتظرتك لتنجني، لم تتحرك ساكنًا وشاهدت بصمت نحري كقربان فوق ذلك المذبح.. لن تسلموا ولن تروا السلام، هذا وعد"
سمعان (العريس) وحده من سمعها، ولسبب ما شعر بالخوف-
فهو يعلم ما لا تعلمه..
•••
سالومي شابة في بداية العشرينات- كبيرة- كما تقول عماتها-
وزوجها امام الناس، كان بعمر الثلاثين، جاء، عرض نفسه لخطبتها، وخطبها.
زعموا انه قد عرفها من صورة عرضت عليه، اما هي فلا تعرفه من شيء-
فقط انه من طرف خالته- نادية، والتي تكون زوجة عم سالومي- هكذا قالوا ايضًا..
اجل، نادية التي ساقت والدة سالومي الى "المعالجة" لتنجب ابنتها بتلك التعويذة.
وحين علمت نادية تلك ان اختها فادية أُم- سمعان- تبحث عن عروس ناضجة عاقلة وجميلة لابنها الطبيب- خريج البعثة العائدة من بلاد الافرنج بكل فخر وتطبيل- اتى ذِكر سالومي-
وكما فهمت سالومي ان العريس وافق فقط ليُسكت عائلته وليس لرغبته الحقيقية بالزواج- لهذا أراد زوجة (ناضجة) من عمر واعٍ وليست (شابة) صبيانية-
وذلك اغضبها جدًا حتى حقدت عليه وبدأت تفكر بإتلاف هذا التعارف المعتل، سالومي من نوع البنات التي تود من الكل ان يقع في حبها- حرفيًا الكل-
وليس من اجل تعبئة فراغ او مشاعر ناقصة، بل فقط من اجل غرورها وليزداد جمالها. انها فتاة تقع بغرامها لكن ما ان تقترب حتى تشهد شرورها وتفر هربًا-
هروب شبان عائلتها ومحيطها منها ولّد فيها هذا الغرور المعتل.
ومع ان "العريس" مصر على ابنة الشيء والعشرين بقيت عمتها وزوجة خالها تحثانها على تزييف عمرها، على الأقل لتقل في السابعة عشر، فشكلها بالأساس يوحي بعمر اصغر من عمرها-
فتتزوج هذه المرة بالفعل والتمام، بعد رفضها واتلافها وحتى تخويفها لكثير من الخطاب والزوار..
سالومي ليست بالبنت الراكدة او كما تصف هي البنات (المروَّضة)-
فكانت تقضي اوقاتها في خربة القرى المجاورة وتتجول كثيرًا في ازقة المدينة، تسير ولا تكلم الناس، فقط تمشي مع خيالها تتمتم اغانٍ حفظتها من الراديو او تدندن الحانًا الفت لها-
حتى قيل عنها ممسوسة تكلم نفسها كدعم لصيت بنت الشيطان الذي يرافقها منذ ولادتها-
والحقيقة ابسط من ذلك، هي فقط ليست بالشخص الاجتماعي بإفراط، أي انها تفضل ان تصاحب كتابًا او قطة، وتستمع لقنوات الإذاعة على الراديو بشغف لأغانيه فتدون الاغنية وتغنيها بإتقان-
بدلًا من الجلوس طوال فترة العصر في مجلس النسوة الكبار اللاتي لا يسكتن عن سيرة الزواج.
بشخصيتها البرية المستقلة الغير قابلة للترويض، أصبح امر ايجاد زوج من قريتها والجوار مستحيلاً، لبنت بهذا العمر وهذه الطباع التي ترفض الكل، حقًا رفضت الكل حتى أشيع عنها انها معقدة من الزواج والذكور.
وإشاعة أخرى قالت انها منظورة من روح شريرة يجعلها تكره الزواج ببشري- اجل، هكذا قالوا.
بالاساس هي لم يعجبها أي رجل حتى الان، بل ووصفتهم بالحيوانات في عز موسم التكاثر، متفاخرين ومنتفخين، يبتغون الزواج فقط لإضاءة شهواتهم من عتمة العيب المخيم على المجتمع وجعلها (عبادة واجبة).
فمن يتزوج او تتزوج فهو عفيف ومؤمن، من لا يتزوج او تتزوج- فيه علة ومعرض للغواية الشيطانية.
..
سالومي تكلم من يعجبها ولا تعتبر من لا يعجبها موجودًا، تقرأ أفكار المثقفين الكبار، تتعلم منها وتكتب افكارها الكبيرة. تتجرأ على الحلم وسرد احلامها بفخر لصديقاتها وقريباتها-
هؤلاء اللاتي لم تتوقف عماتها عن مقارنتها بهن وانهن بعمرها واصغر صاحبات البيوت العمرانة والثلاثة أطفال على اقل تقدير، بينما هي تجلس في مجلسها المصطنع تحدثهن عن الاحلام والحكايات الخيالية.
فذكرت سالومي امام الخاطبين عمرها الحقيقي، لم تخجل..
اثنان وعشرون.
واضافت انها درست في البيت مستعيرة كتب ابن عمها الذكر الوحيد في العائلة والمسموح له بالسفر لاكتساب التعليم العالي، بما ان البنات لا يدرسن اكثر من الاساس في المدرسة البلدية او الدير-
كأنها تقول للخاطبين: ليس ابنكم وحده المتعلم والمثقف.
فقالت عمتها "ما تعنيه انها قرأت بعض الكتب العامة وهكذا، لكنها كتب جيدة وموثوقة"
فأصرت سالومي امام الخاطبين انها دارسة ومتعلمة حتى من دون شهادة رسمية، وانها ايضًا تعلمت من ابن عمها وزملائه اللغة الإنجليزية والفرنسية-
"هل علمك الشباب الفرنسية؟" تسألها احداهن
أومأت، ابتسمت "واشياء اخرى.. بالفرنسية"
هنا صدمتهم جميعًا..
لتتدخل زوجة عمها تداري الوضع "لو كنا نعرف لأرسلناك الى الدير لتهبي حياتك للعلم والدين، ماذا نفعل هنا؟"
"لا اريد حياة الدير خالتو ناديا، لست بهذا الزهد والتفاني، طموحي وحلمي يفوق ذلك"
"وماذا تريد المرأة السوية المؤمنة ست سليمانا؟" تسخر زوجة عمها بابتسامة مستفزة
وسالومي ثابتة وتجيب "ان تشعر بقيمتها وقدرها كأنثى، ان تشارك علمها وجمالها مع المجتمع الذي تختاره، مجتمع يليق بها، وأن تدرك غاية وجودها وجمال عظمة تكوينها"
"ولم انت موجودة على الأرض ست سليمانا؟"
اعطتها سالومي إجابة غير متوقعة، إجابة بسيطة، دنيوية وغير فلسفية-
"لأدلل نفسي واتدلل"
وابتسمت سالومي، ابتسامة مغوية ونظرات ساطعة خلفها داهية مظلمة-
ابتسامة حتى والدتها تعجبتها واستشعرت منها فتنة وسحر..
ساعتها توقعت سالومي ان تُفسخ الخطوبة بعدما اعطوها نظرات الحيرى الممزوجة بالتخوف والشكوك، وكأنها قالت كفرًا..
ثم سمعت همساً من احداهن "متأكدين البنت عذراء؟"
لم تفهم ما الداع وما سبب هذا التحقير العلني..
ثم استوعبت ان قصدها عقل البنت وليس جسدها، تظن ان الفتيات حين يتنورن بالعلم والثقافة التي تنادي بالتحرر يفقدن عذرية- عقلهن.
لكن العريس الذي تعرض بشكل غير مباشر للإغواء البري منها ابتسم وصفن بها مستسلمًا لتلك الابتسامة مصرًا على عدم نزعها منها-
كانت تلك اول مرة تنظر اليه سالومي وتلتقي اعينهما..
كانت اول مرة تنظر فيها الى رجل بهذا الوضوح والقرب وترى منه تلك الرغبة المشعة، وتسمع ذلك النداء من عينيه.
ولا نعرف كيف- خُطبت سالومي لسمعان بإصرار منه، قال-
"هذه- هي- سالومي"
وقد لفظ اسمها الحقيقي، احدهم رأى سالومي اخيرًا.
•••
الخطبة دامت مدة أسبوعين فقط، حقًا لم تلحق حتى ان تتعرف عليه، لطالما بيّنت انها جافة العواطف، وغير مرحبة بحضوره، وفي ابسط الامور كانت تقلب وجهها وتنقز- كإمساكه ليدها-
وحين يناولها هدية من هداياه تنتظر امها لتومئ لها ان تقبلها منه، من بعدها يسمع سمعان كلمة واحدة-
"سلمت" فقط لا غير.. بلا ابتسامة، بلا نظرة او ايماءة..
وكانت تلك الكلمة لحنًا كافيًا ليطرب اذنه، فهو متأكد ومرتاح بأن هذه الشابة التي لا تشبه ولا انثى قابلها ستكون تذكرته للعبور الى الفردوس الموعود- فلا داعٍ لفقدان الصبر.
والفردوس الموعود لم يكن يعني ولا بأي شكل الحياة الزوجية السعيدة..
هو يعرف ان سالومي ليست بالبساطة البادية عليها..
..
اما ان أراد فتح حديث معها تزعل ولا تحاور، كسؤاله لها-
"لماذا اسمك سالومي؟ هل تعرفين من تكون سالومي؟ لا اظن انك ان عرفت ستبقين معجبة وفخورة بهذا الاسم"
لربما اعتبر سمعان خجلها عاديًا ككل البنات، ولعله تأمل ان بعد التقرب منها سيعرفها اكثر-
لم يكن يعرف ان سالومي تنفر من عيونه السوداء الواسعة، ومن صوته الصاخب وأحاديثه المتفاخرة عن اسفاره وأصدقائه بتلك اللكنة العجيبة-
لم يكن الخجل ما يصدها، بل كان تهربًا ليسأم منها ويتركها!
ففي المرة الثانية التي سألها فيها عن اسمها مغيرًا صيغة السؤال-
"لم أعطوا ملاكًا مثلك اسم تلك المرأة العاصية الغانية؟ حقًا هل تعرفينها؟"
اجابت بكل ثقة وبابتسامتها التي اغوته في المرة الاولى-
"اعرف سالومي، هل تعرف انت ما فعلته سالومي بالرجل الذي اهانها؟"
ابتسم، ضحك "قطعت رأسه قربانًا لها"
ابتسمت "سأقتص عنقك سمعان ان اهنتني مجددًا"
"اروح قربانًا لك"
"روح عني!"
"لم يطلقون عليك لقب بنت الشيطان؟ والدك رجل شهم وذو مقام"
تصنعت ابتسامة، وادعت لترعبه "لا تخف، مع الايام ستشهد بنفسك على الاجابات"
لأول مرة يشهد جانبها العنيف، فمد يده الى وجهها يداعبها، لتقز من مكانها وتدخل مجلس النساء متهربة منه.
بقيت غاضبة طوال الليل، فقد مضى أسبوعين من محاولات جعله يتراجع عن زواجه بها- فشلت، بل وزاد تعلقه بها واصراره على الزواج منها ومستعجلًا..
وجاء صباح الغفلة كما أسمته، لم يتبقى أي هرب وتزوجت به.
•••
وبعد مراسم الزفاف، ودّعت الكل بنظرة وامها بعناق طويل وبكاء..
وبنات عمها وقفن امامها شامتات "ذهبت كل الاحلام والحكايات التي صرعتنا بها مع الريح، في النهاية تزوجتِ مثلنا ايتها البنت البرية"
آخرهن قالت لها ما احزنها حقًا واشعرها بالهزيمة-
"ستصبحين ما حلمت به ايتها الفنانة، وجمهورك الوحيد سيكون زوجك- من الغد سترقصين وستغنين لزوجك فقط سالومي"
شيء ما اسكتها ولم ترد عليهن.. انها يائسة ومتعبة.
..
لم تبت ليلة، وفوراً سافرت مع زوجها الى بلاد أخرى، لم تعرف كيف تسأله لم سنذهب عبر البلاد بهذه السرعة كأنه هروب من الموت؟
فقط انطلقت بهدوء، بأمتعة كثيرة وصناديق ضخمة، فيها كل ما قامت أمها بخياطته، وما اشترته برفقة قريباتها، وكل الهدايا المقدمة من الاهل والضيوف.
اما صندوق واحد شغلها وأغضبها، فيه تلك الثياب الحريرية، والاخرى المخرمة بأشكال الورود وتلك الشفافة الكاشفة، ارادت حرفيًا اشعال الصندوق بما فيه ولا يأتي معها الى بيت رجل ليس بحبيبها.
لطالما أحبت في السر هذا النوع من الثياب الانثوية، وكم مرة تسللت مع بنات العائلة العازبات الى مشغل الخياطة الخاص بأمهاتهن، لتجربة تلك الثياب سرًا فكانت حكرًا على المتزوجات فقط.
ففي تلك الجلسات الانثوية الخفية، حيث تترجم سالومي قصة رومانسية من كتاب أجنبي، وترويها للبنات المتكئات بأثواب ملونة مزركشة وأخرى فاضحة ومفرودة-
فعلمتهن عن طريق التمثيل والرقص والاستعراض عشق أنفسهن بخيال ظاهر، وبشهوانية باطنة ترف القلب بسعادة ونشوة- الرقص والغناء والملذات الحسية، فائضة تعبق بجو صالون البنات السري..
وفي النهاية تختم السهرة بوعد انها ستصبح شيء ما في عالم الفن والاستعراض-
هي موهوبة وجميلة جدًا، لكن أحلام مثل هذه في بيئة قاسية يحكمها رجال محاربين هي مجرد أحلام..
والبنات اللاتي استمتعن بحكاياتها ورقصاتها ينهضن في آخر الليل ساخرات منها، ويعدن الى منازلهن وامانيهن الواقعية بأن يتزوجن برجال حقيقيين وليس بظل وخيال- لتبقى سالومي وحدها في احلامها بين الظل والخيال.
واليوم سالومي تزوجت، أي صار لها شريك ليس من خيالها، فهل سيشاركها خيالها الظاهر؟ وهل لديه تلك الرغبة المشعة كما في رجال الافلام والروايات تجاه حبيباتهم؟
في الطريق تكلم سمعان بجملة واحدة، أخبرها انهم سيعيشون في شقة في بيروت، بينما كانت تفكر، ماذا ستفعل حين-
(يحصل الامر.. ذلك الأمر)
بل لا تستطيع التفكير، يعود ويستلمها التوتر، هي لم تكن تريد الزواج به ولا شيء شدها اليه طوال فترة الخطوبة، فلماذا تفكر الآن بأمر كهذا وكأن لا مفر؟
اضطربت افكارها، واختارت في عقلها البقاء بهذا الفستان الاسود- لحداد قلبها الذي لم يجد الحب الحقيقي كما في القصص.
وسمعان زوجها.. ليس حبها.
..
ما زال الطريق طويلًا-
ألقت سالومي نظرات خاطفة على سمعان- زوجها-
رجل بمعالم شرقية خالصة، شكله مقبول لكن ليس كجاذبية نجوم السينما والحكايات الخيالية، حافظ لدينه كما مدحت خالته، حاله المادي جيد جداً، لديه بيت مُلك ووظيفة ثابتة.
هكذا كانت تفكر به بسطحية حين كانا مخطوبين- لم تشأ ان تفكر بعمق طالما لا مشاعر صارخة تجاهه منها، لم تكن تريد اقناع نفسها بالتلذذ برجل فُرض عليها فسيكون هذا بمثابة استسلام!
اما الآن، بهذه اللحظة، لا تعرف كيف نظرت اليه بطريقة مغايرة، برغبة للاكتشاف، بمشاعر شجاعة- أشجع بمراحل من أيام الخطوبة..
بماذا كانت تفكر؟ طبعًا بليلتهما الاولى معاً- واضحة وحقيقية-
ثم يعود القلق والاضطراب، ماذا لو لم يكن الحال يشبه ذلك المشهد في الفيلم الأخير الذي شاهدته في السينما؟
ماذا لو لم يكن مثل البطل؟ ماذا لو لم تكن هي مثل البطلة؟
ماذا لو.. ماذا لو.. ولو..
•••
انتهى مشوار الطريق الطويل في احدى ساعات المساء، ثم-
انه البيت، بيت الزوجية، فاتحة الحياة الجديدة-
في الواقع خاب ظنها تجاه البيت، فقد تخيلته مستقلاً، كما بيت ابنة عمتها العروس التي سبقتها، بحديقة وشرفة، ممر زهور ربما، وشجرة تين ولوز وبرتقالة وزيتونة..
بيته كان شقة، في عمارة مرتفعة، بشارع مرصوف ناعم، والكثير الكثير من الدكاكين والشقق السكنية الاخرى.
الشارع ساكن، معتم، لا نَفَس فيه، هما وحدهما تمامًا، كأنها هبطت الى عالم آخر لا بشر فيه..
رجحت انه بسبب حلول المساء، الدكاكين مقفلة والناس تتناول عشاءها في بيوتها، فلا حاجة للمبالغة بالقلق، وأن الحياة ليست بهذا السوء، ستعتاد، ربما ستجد شيئًا يغنيها وستعتاد..
..
أقفل العريس الباب خلفهما، نظر الى العروس، وهي ابتسمت، المشهد حقيقي، هما وحدهما.
أسرع يسدل الستائر على النوافذ الواسعة، واقترب منها، وقف دون بعد يُذكر-
امسك وجهها "آه سالومي" نطق اسمها ورن في اذنها
بقيت صامتة.. لكنها مبتهجة لأنه قال- سالومي.
ثم قالت "ماذا نفعل هنا؟ لم لسنا في بيتك حيث عائلتك؟"
وذلك لانه قال في الخطوبة انه يعيش بالقرب من عائلته، وحسب ما رأته حتى الآن.. لا شيء، فقط هما منذ ان ودعت اهلها عند الحدود.
لم يجبها وتقرب منها جسديًا اكثر..
همس "لن يرانا هنا"
همست "انه موجود في كل مكان"
هي تعني الرب، وهو يعني (رب) شيء آخر..
دعكم..
بالكاد تذكُر ما اوصتها اياه النساء المتزوجات، لا تعرف بماذا ترد وماذا تفعل..
بالأساس لم تحتاج، فعل هو-
ولم تعلم ان كان الرجال يختبرون هذا كثيراً ويتعلمون حتى يتقنوا الفعل، ام انهم يثقون بأنفسهم الى الحد الذي ينمحي به توترهم.. لا فكرة لديها.
فالروايات العاطفية لم تثقفها، ولا حتى كتب العلوم والتشريح. الفعل والنظر لا يشبه أي ما يذكر بالكتب ككلمات ولا ما يرسم بالخيال كمشاعر محكومة!
المطمئن لها انه لطيف، رقيق ومتحفظ- أي لا يجبرها على شيء- وهذا وحده راحة ولو انها متوترة الى حد الاغماء!
إحساس داخلي معاكس في البداية، قبلاته الناعمة تداعب عنقها، تسير نحو قلبها، القلب الذي كان في الصباح بحالة حداد على الحب الحقيقي والآن هو محتار-
بم علي ان اشعر؟
جذب ياقتها الى الأسفل، كانت تريده لو يعلم انها احضرت معها ثياباً لائقة فيؤجل الامر، وان ليس عليه الاستعجال، كما انها ترغب بالاستحمام والتعطر-
السفر في الصيف ليس مريحاً، خاصة مع هذا التوتر الفظيع والحرارة التي بداخلها، شعرت انها متسخة وغير مرتاحة.
لكن اين ثيابها واغراضها؟ لا شيء مم احضرته موجود هنا!
زوجها، يمسك كتفها من تحت ثيابها المرخية، واصابعه الشجاعة تستكشف ما يختبئ تحت طبقة اضافية من قماش فستانها.
ما زالت تتساءل وتفكر- هل يحق لي ان اظهر استمتاعي بهذا او ربما عدم راحتي؟
ام كما قالت الجارات انه سيرميها بوصف قبيح يصف سيئات السمعة وبائعات الهوى؟
فضلت البقاء بصمتها، حتى انها لم تبادِر بأي فعل.
بقيت كالدمية الخزفية بين ذراعيه، يكتشف بها ما يتوقه، وهي لا تمسك دورها من هذا..
حقًا وقتها نسيت كل شيء. حتى قصصها التي الفتها بنفسها عن العشق والأحاسيس- نسيتها.
نظرت الى السقف، بلحظة ادراك اين هنا وما الذي يحصل-
الى أن غلبها إحساس آخر فجائي.. فقمع توترها وزاح افكارها.
..
يده التي كانت مرتاحة على كتفها تسلقت عنقها المتعرق، وفمه الذي بقي صامتاً طوال اليوم- أصبح ملتحماً بشفتيها المطبقة..
القبلة الاولى، دعت الا تخفق بها.
لهذا ارادت التقاط نفس يمدها بالقوة، وما ان فرقت شفاهها حتى اخترقها-
لم تعد تفكر كثيرًا- اصبحت تشعر، بلهيب قاسٍ يخز كل طرف من جسدها، وتسمع، صوت تردد أنفاسه بها، وتشعر بشيء من التخلي عن ذاتها يعنف بالها وحالها..
يده الاخرى المتجولة فوق ثوبها المتدلي عن خصرها قد وجدت جلدها، الذي لم تلمسه سوى ايادي الشمس خلسة وعباءات الحرير في المجالس الانثوية الزخمة..
ساعدته الآن، ارخت حزام فستانها، وحررت ذراعيها بالكامل من اكمامه النصف منسدلة..
قبلة أخرى على شفتيها، تلتها قبلة بمنتصف عنقها الرقيق، وبدأ ينزل بروي، حتى حدود ثوبها النسائي-
حمل خيوطه الرفيعة عن كتفيها، بأطراف اصابعه، ونظر لها-
فأمسكت معصميه، بقيت تنظر في عينيه، للصدق نظراتها ارعبته، الى ان اغمضتها وانزلت يديه المتعلقة بثوبها لينساب فورًا مع الجاذبية.
ثم حضنته قبل ان يستوعب مفاتنها وانوثتها الفائضة..
داعب وجهها، خمنت انه يستأذن، فأغمضت عيناها وأومأت..
استنشق رائحة جلدها بتلذذ، للحق لامت نفسها، وانه عليها الاغتسال والتعطر على الأقل بشكل طبيعي-
ففاجأها انه اعترف بشهوانية الروائح الطبيعة للمرأة، وأنها تُشعر الرجل بالأُلفة، كميزة خاصة لا شبيه لها.
قرأت هذاـ لكن في كتاب الاحياء عن المخلوقات البرية، لم تكن تعرف انه ينتمي لبعض الذكور من نسل الانسان كذلك.
فكتمت ضحكتها..
وهذا الرجل المتلذذ بحلاوتها راكع امامها، اشعرها انها واقفة بشموخ كتمثال سيدة..
لم تعد الدمية الخزفية.
وما زالت لا تعرف شيئاً عن جسد هذا الرجل وعادت تجول بذهنها وخيالها..
أعطت نفسها حق التخيل كمقابل غير عادل لما يناله هو واقعًا، لطالما اعتبرت الخيال لعبتها المفضلة-
بلحظة غير متوقعة ضحكت بعفوية على تخيلاتها الدخيلة المبالغة-
فضحك لها كذلك، وخلع قميصه ليبقى عاري الصدر..
"كأنه تحمس؟" قالت لنفسها مستغربة ضحكته فضحكت أكثر
وتحررت من باقي ثيابها، وبقيت بأقصى القليل امامه، متحفظة على شعورها بالإثارة ولا تعترف.
اما هو، فيعترف ويفعل..
فجأة-
اتصال واحد، رنين متواصل من جرس الهاتف افقده الحماس، فودعها وخرج من البيت-
لم تفهم كيف يخرج رجل قد تزوج للتو من بيته بعد منتصف الليل، ثم قالت انه طبيب، ربما استدعاء طارئ وضروري..
واستغلت الفرصة في غيابه ان تغتسل، ولم تجد اي قطعة ثياب سوى عباءة شرقية معلقة، الوضع مريب صدقًا-
لكن ماذا تقول وهي واقفة امام المرآة بفخر بجمالها وسحرها الانثوي الحقيقي الذي لطالما خبأته وحبسته في المرايا البالية والقصص الخيالية..
"الليلة سنحرره سالومي" خاطبت انعكاسها المشرق في المرآة "تذكري انك لست الفتاة المطيعة التي يتخيلها.. استمتعي بأنوثتك وافرضيها"
جلست فوق الفراش، ابقت ساقها مكشوفة من العباءة، وشعرها الأسود الطويل جدًا منسدل بحرية على ظهرها واكتافها، وتبقى منه طولًا حتى يفرد على الوسادة تحتها..
الباقي تركته عفوي- لم تبتذل- فانعكاسها بالمرآة في زاوية الغرفة أوحى لها بجمالية لا تصدق، هي بذاتها لم تكن تدرك مسبقًا انها مصورة بهذا الجمال..
عاد زوجها، بعد نصف ساعة تقريبًا، فابتسمت له فورًا رغم ضجرها-
جلس الى جانبها، وانحنى يبتدئ بقبلة فوق ركبتها، مجدداً يرسل يده بعمق لتستكشف قبل حواسه الباقية-
لاحظت احمرار جفنيه، والرجفة في يديه، كأنه خرج بحال وعاد بحال مغاير تمامًا، ايضًا لم تلقي بالًا ولم تبالغ بالتفكير، وبقيت بصمتها.
"سأخبرك بشيء" قال
أومأت تنصت، ومالت لتستلقي، عيناها نعسانة، أنفاسها ساكنة وصوتها مكتوم بين شفتيها واسنانها خشية اي انتقاد سيطالها..
قال ما سيقوله لها-
"هذا لم يخلق عبثًا، فأنت امرأة لا شبيهة لها ولا نظيرة في الشرق"
جملة إضافية من جمله المتفاخرة، لم تكن تحسب انه سيأتي يوم تتحول فيه هذه الجملة الى محور وجودها..
"سالومي انت لا تقدّرين جمالك.. فلو ولدتِ في هذا المجتمع هنا لانحنى امامك الكون- انهم جائعون لمثلك.. لن يجدوك.. حرام ان يجدوك"
لا تفهم عليه، لا تعرف عن أي مجتمع يتحدث، ولا تعرف لم قد يقول زوج لزوجته الجديدة- سينحني الكون لك لو تعرف عليك! ثم من الذين لن يجدوها؟
زاد على كلامه ما كان من المفترض ان يرعبها لولا مداعباته التي تعمقت بقسوة تاركة اللطف الاولي بالكامل-
"لتفنى روحه وليفنى سلطانه ولتبقي انت لي سالومي.. وإن لم أبقى فاختبئي ولا تظهري للأسياد.. هنا أمان لك"
الهاء في روحه وفي سلطانه لمن تعود؟ ليس لزوجها حتمًا، وليس لأبيها.. لمن؟ وممن عليها ان تختبئ ولا تظهر؟
شعرت بصاعقة تسري في جوفها، فانطلق صوت تنهيدتها بعد شهقة عميقة من دون قصد، لتجد وجهه قد قابلها، يحاول سماع صوتها بوضوح..
"سالومي.." همس عند اذنها، واعترف لها بشيء "شاهدتك مرة خلسة.. في الغرفة مع البنات- رأيت ما فعلته- رأيتك وسمعتك.. لا تزيفي خجلك.. حرريه سالومي.. لن احكم عليك- انا بحاجة طاقتك الآن للتغلب عليه.. انت اعظم منهم واكثر قوة"
سالومي لم تنكر تعجبها واندهاشها من هذا التصرف، ايضاً لا تنكر حماسها وسط هذا الجنون الفوضوي-
لهذا حصل ولم تكتم أنفاسها ورغباتها اكثر، فحررت نفسها للانتشاء بتلك اللذة الانثوية المباركة- كما وصفتها، بدل ان تتشنج بكتمها حياءًا..
اختبرتها لأول مرة بشكل واقعي مشترك، وبنعمة إحساس يختلف عما دار بينها وبين نفسها او صديقاتها من خيال رطب ومداعبات سطحية..
اما زوجها فقال لها قبل خروجه من الغرفة:
"انت فتنة كما وصفوك لنا.. انت مباركة بالجمال والنعم كما وُعِدنا"
النا هنا لمن تعود؟
عاد قلقها وضاق بها التفكير بكلام زوجها بعد فتور تلك النشوة اللحظية..
قليل وتمكن منها النوم بعد أطول وأقسى يوم مر عليها.
••••
الصباح التالي، بدأت سالومي تعي شيئًا مم قيل لها الليلة الماضية-
فتستيقظ مع نور الشروق الوردي المتسلسل من النافذة، لقد نامت بهدوء لدرجة انها لم تشعر بوجود حركة حولها طوال الليل-
وبقي الامر عاديًا حتى مرت بضع دقائق مدركةً انها وحيدة في الغرفة، بل انها وحدها من نامت في السرير النصف مرتب..
نهضت على عجل، تجولت في الشقة، تفتح بابًا بهدوء وتغلقه، الباب الذي يليه، والباب المقابل، بحثت في كل مكان-
لم يكن (زوجها) في البيت.
انتابها القلق لبعض الوقت، ثم عزمت ان تهدأ والا تخاف او تبالغ-
وضعت احتمال ان يكون قد خرج لقضاء غرض وانه سيعود، فانتظرت.
..
ومضى الصباح-
انتظرت حتى منتصف الظهيرة، لا جرس باب قُرِع، ولا سلالم طُرِقت..
بقيت تتنقل، من نافذة الى اخرى، يمر من هذا الشارع كل الناس، ما عداه هو.
فجأة أصابها الوسواس-
فركضت كالمجنونة تتفقد اغراضه.
هل هجرها؟
كلا، اغراضه لم ينقص منها شيء، كله على ما كان عليه.
ربما ترك ملاحظة-
لا، لم يزد شيء من الاغراض.
الرجل غائب منذ الصباح، وسالومي وحدها في مدينة غريبة، لا تعرف كيف تتصرف، او من تسأل؟
قالت ان تصبر، سيظهر في المساء.
وجاء المساء من دونه..
ازدادت رعبًا وارتفع صوت وسواسها-
وبلا فائدة تحاول تهدئة عقلها-
لا تبالغي سيدخل من ذلك الباب، الى اين سيذهب؟
صباح اليوم التالي، لم يدخل زوجها من الباب.
مساء اليوم التالي، لم يرجع.
مضى يومان-
ثلاثة..
أين اختفى سمعان؟
••