2

..

مضت اربعة أيام، امتُحِنت سالومي بصبرها، بثبات عقلها، بمقدرتها كامرأة غريبة في مدينة غريبة على الصمود وحيدة-

خاصة بعد ان صار كل الشارع يعرف عن اختفاء هذا الزوج، فقد سألت عنه الجيران، اصحاب المتاجر، المارة المتجولين، اي مكان واي انسان مر كانت تسأل- اين زوجي؟ اين الطبيب سمعان؟

لا أحد يعلم.

وحين اتصلت والدته في ثاني يوم بعد الزفاف لم تستطع اخبارها وزيفت الاقاويل السعيدة المطمئنة، لا تعلم ما الذي اسكتها عن اخبارها لحظتها، ولم تعرف كيف تعاود الاتصال بها بعد مرور اربعة ايام على اختفائه..

•••

يمضي أسبوع- وبعد الاسبوع-

الآن؛ صفحة جديدة- عنوان جديد- في مذكراتها جملة واحدة في مركز الصفحة، تكتب بغضب:

اختفى سمعان شكيب سمعان، كما لو انه لم يكن.. لم يمسي! لم يصبح!

بقيت امرأة وحيدة، غريبة في مدينة كبيرة، تكذب بسعادة زائفة على أسرتها عبر الرسائل الكاذبة المطمئنة..

وتتلقى منهم رسائل حقيقية مطمئنة بحق، من يأسها اعترفت لنفسها قائلة-

"انا اصيب من يعاشرني بالنحس"

فوردها ان عمها- زوج ناديا التي كانت السبب الرئيسي لتعارفها بسمعان- اخيرًا حصل على حق ملكية الاراضي التي في المرج بعد صراع طويل ومنهك عليها..

وأن والدها لسالومي نفسها كسب قضية النزاع على دكاكين السوق الخاصة بإرث عائلتهم بالاضافة للنُزل العتيق في السوق، شيء كهذا صعب ونادر الحصول في ظل ظروف الانتزاع القسري لأملاك اصحاب الارض الاصليين من قبل حكم المستعمر..

كيف حصل امرين بهذه الضخامة خلال اسبوع فقط من ترك سالومي لهم؟

"انا مشؤومة" رددت والخوف يلطم وجهها الذي اظلم.

لذلك، دخلت بحال امرأة تخاف العودة الى اهلها بعد زواجها، فلا شيء تشرحه لهم، والصمت سيفسر بالعار الذي سيلحق بها، والفضيحة ستطالهم مهما كان التفسير الحقيقي.

خوفها من الناس القريبة هناك، ابقاها في مدينة الناس الغريبة، فبالتالي لن تجرحها احكام الغرباء بذات القدر، وهي بالاساس ليست بحال مستعد لمواجهة أي من الطرفين.

لعلها ستعيش وحيدة هنا بصمت، كزوجة معلقة منتظرة محتسبة صبرها عند ربها، عسى ان يعود هذا الزوج قريبًا بتفسير منطقي..

...

مضى أسبوع آخر وتليه بضعة أيام-

في هذا الصباح زارتها والدة سمعان- زوجها، واضطرت لإخبارها بكل شيء، للحق سالومي لم تتوقع رد فعل بارد كالذي رأته من ام ضاع ابنها-

فتلك الام نظرت الى الساعة المعلقة على الحائط، وقالت لعروس ولدها:

"ستنتظرين"

"منذ ثلاثة اسابيع أنا في الانتظار ولم يأتني خبر"

"وان مرت ثلاث سنوات، ستنتظرين"

"اخبريني، هل يختفي ابنك بالعادة؟"

"ماذا تقصدين؟"

"أقول هل من عادته ان يغيب فجأة بلا خبر؟"

اخذت وقتها حتى اجابت "لا"

"كيف افسر رد فعلك البارد اذًا؟"

"ان شئت لتنتظريه، والا عودي الى بلدك واسرتك عزيزتي"

"اعود" ردت سالومي بثقة

"لكن اعلمي ان لا تفسير عندي لسؤالهم لماذا رجعت ابنتهم ولم تتم شهرًا في الزواج"

"كأن زوجي قد ضاع!" بررت حالتها الغير محتاجة لتبرير اصلًا

"من سيصدقك؟ زوجي ضاع- خَوتا" قابلتها بنبرة ساخرة وضحكة مكتومة

احست سالومي بالغضب، لقد ارتفع ضغط دمها بسبب هذه الانسانة المتجمدة، ومع ذلك استحكمت وسكتت..

وإذ بحماتها تقترح:

"ضعي خبرًا في الجرائد، وانا سأجعل أبناء اخواله يبحثون في المخافر والمشافي" ابتسمت-

وكيف تبتسم ام ولدها مفقود؟

"تصرفك المرتاح وكأن الحال طبيعي يجعلني اشك أنك تعرفين اين هو"

لم تجبها، وفتحت حقيبتها لتخرج صورة من محفظتها-

"هذه صورة، خذي انشريها مع الخبر"

"بهذه البساطة؟ يا لك من ام"

"لن اتعلم منك كيف تكون الام" وقفت الست ام سمعان وعلقت حقيبتها على كتفها "كما قلت، انتظريه هنا، او عودي الى امك- هذا ان استطعت"

"والى اين ستذهبين انت؟"

"الى بيتي"

"ابنك اختفى هنا، الى اين ستعودين وتتركيني؟"

"قلت لك انتظريه هنا، والا اصعدي (الجبال) وابحثي"

"سأصعد الجبال وابحث حتى اجده، لن اجلس مثلك في بيتي براحة"

"جيد، اسألي عن طريق الجبل ولن تتوهي"

كلماتها تلك كانت بنبرة تحذيرية أكثر منها كتوصية، وبالفعل غادرت الام.

..

في اقل من ساعة نزلت سالومي لوضع اعلان في الجريدة، مع الصورة مرفقة برقم هاتف البيت-

بالحقيقة نزلت غاضبة وهي لا تعرف اين وكيف سيتم الموضوع.

امام البناية توجد عدة دكاكين، احداها تعرض صفوفًا من الجرائد اليومية والاسبوعية، فتوجهت اليها-

"ألم يرجع العريس بعد؟" هكذا استقبلها صاحب الدكان

تجاهلت نبرته الساخرة وتكلمت بود "من فضلك هل لي بطلب ثقيل بعض الشيء؟"

"ثقيل؟" وضحك "هل تنطق هذه الشفاه الرقيقة بالثقيل؟ تفضلي يا حلوة"

شعرت بعدم الراحة، وقررت التراجع-

"لا تشغل بالك، عن اذنك"

خرجت من عنده، ومشت بضع خطوات تبحث عن أي امرأة لتطلب منها براحة-

وبالفعل دخلت كل متجر فيه امرأة، هذا ما حصل-

يتم استقبالها بابتسامة وتوديعها بعبوس، فلم يكن احد يطيق سماع سؤالها-

"اين طريق الجبل؟"

بل وكثر سخروا منها واستهزأوا بها، امرأة مجنونة تقول ان زوجها ضاع وربما يكون الطريق اليه هو طريق الجبل كما تدّعي والدته- حماتها.

•••

بعد أيام من التجوال على قدميها في الارجاء وصرف غالبية ما تملكه من نقود على سيارات الأجرة لتبحث في الضواحي المجاورة، يئست سالومي من سخرية الناس منها ولم تعد بها طاقة لتسأل اكثر-

مشت في الطريق الغير مألوفة عائدة الى بيتها، بفستانها الاسود الذي جاءت به ولا تملك سواه، فكل ممتلكاتها وكل (جهازها) مفقود كما زوجها الان..

خلال مشيها المتألم تشاهد الناس، الكثير منهم يضحك في هذا النهار الربيعي المشرق-

والكثير منهم يسير كثنائيات ومجموعات مبتهجين بالجو الصافي والصحبة، بينما تتساءل عن السبب الذي اوصلها لهذا الحال الكئيب بعد ان كانت في يوم مثلهم هكذا سعيدة ولديها صحبة مبهجة!

اي عروس تُترك في صباحها الاول؟

على ماذا تُعاقب؟ وبماذا تُختَبَر؟

كانت تهذي بمأساتها، هذيان صامت بغير وعي-

القلق فاق حده، خافت كثيرًا رغم انكارها لهذا الخوف، خافت الى حد ان اصبحت نبضات قلبها ضربة واحدة صاخبة ورأسها يدور ويدور-

فتوقفت عن السير، اتكأت على الجدار بجانب الطريق، غير واعية لأي شيء- عدا الاحتمالات القاسية التي تفكر بها منذ اختفاء زوجها.

رفعت رأسها تسأل السماء عن احوالها، ولمحتها واقفة، بالصدفة او بإشارة، أي طريقة- لقد اشعرتها بالراحة-

السيدة المقدسة تنظر اليها، ترسل ايديها، من ايقونة منصوبة في جدار حجري عند بوابة منزل، حولها معلقة صور مقصوصة لناس، ونقوش لصلوات-

شموع ذائبة، رسائل ملفوفة، وأكثر من سبحة خرز متدلية-

فورًا وبلا تفكير رفعت يديها للصلاة وليست من عاداتها-

"انت المغيثة، انت المعينة، لا تتركيني وحيدة، هذا الحال اصعب مما تحتمله امرأة وحيدة- صلي لتُسامح خطاياي ومدي يدك المباركة لترأف بحالي الضعيف.. اعدك سأكون مؤمنة، لن اعصي، ولن اشكك"

لطالما تمردت سالومي وانكرت هذه الاقوال، الى ان جاء اليوم الذي تختبر فيه الوضع المعاكس وتبكي حزينة لضعفها وعدم شعورها بالأمان بسبب قلة الحيلة والضعف.

اليوم زوجها غير موجود.. أمها غير موجودة-

ان بقيت هنا في هذه المدينة ستبقى وحيدة بغير امان، وان عادت الى بلدها، ستلقب بألقاب ثقيلة وستعيش بالعار طوال العمر-

من سيصدق ان احداهن زوجها قد (ضاع) في صباحها الأول.

تمامًا كما قالت حماتها، لن يصدقوا. لا أحد واقف في صفها. ولا شيء عندها.

..

بلحظة صحو في الشارع لمعت عيناها وتفتحت على حالها، امسكت نفسها عن الوقوع بضعف في فخ الخوف من المجتمع والناس، صوت داخلي ينبهها-

"ماذا تفعلين؟ انت التي كنت تشجعين رفيقاتك على النهوض بأنفسهن، الآن تبكين لأن رجلًا قد اختفى والناس لن تصدق؟ بلا ان تصدق! المهم هو نفسك، النهوض بنفسك! عيشي عمرك كما خططتِ- سلّمي يا سالومي، وستحل"

فتوقفت عن البكاء والصلاة-

"انت لو تستطيعين مساعدتي لأنقذتني من هذا الزواج في الليلة التي توسلت لك بها، بقيت تنظرين هكذا بوجهك الزجاجي الممسوح بينما أُساق الى مشنقتي! أي ام انت وأي مغيثة؟"

اخذت نفسًا، استعادت تركيزها كي لا تتوه في الشوارع، فقد حفظت الطريق الى شقتها بحذر، حيث بقيت في غرفتها لا تخرج..

..

ومضت بضعة ايام، الى ان وردها ذلك الاتصال المقلق-

من سيدة مجهولة، قالت انها احدى النساء التي سألتهن عن زوجها وأنكرن المعرفة، اتصلت بعد ان وجدت رقم هاتفها في الجريدة، واتصلت لأنها لم تحتمل فكرة وقوع امرأة بريئة بيد تلك الجماعات..

"أي جماعات؟"

وأجابت المرأة صاحبة الاتصال المجهول "ربما يكون زوجك مخطوفًا"

"لم افهم" ترد سالومي والقشعريرة تسري في عروقها

"من يتورطون بتلك الجماعات يبلعهم الجبل"

"ارجوك ان اردتِ قول شيء فلتقوليه كاملًا والا لا تتعبي بالي وترهقي قلبي فلم اعد احتمل"

"اتصلت فقط لأحذرك ان تتوقفي عن البحث، لم اتصل لأرشدك، تبدين وكأنك ستعبرين ركضًا الى هناك لو امسكتِ الطريق"

"ومم سأخاف؟ ما الذي تتكتمون عليه بخصوص تلك المنطقة؟"

"الجبل ليس منطقة جغرافية، انه كلمة مفتاح، ولا استطيع الشرح اكثر"

"هل زوجي هناك؟"

"احتمال عدم وجود زوجك هناك يساوي احتمال وجوده، من فضلك انا اتصل لأنبهك ان تنجي بروحك وليس ان ترتمي الى هناك.. انا ربما لا اعرفك، لكن اعرف ما يحصل في مجتمع أولئك الشياطين الكفرة، لا تسألي عن الجبل ولا تصعديه"

"حدثيني عن الجبل من فضلك، اقنعيني بأن اتوقف.. تعرفين لن اسكت لمجرد اتصال من مجهول"

وجلست سالومي تلصق سماعة الهاتف بأذنها حتى لا تفوت حرفًا، وحدثتها المرأة المجهولة عن الجبل-

حديث بدى وكأنه مملّى عليها اكثر من كونه ارتجاليًا..

"للجبل سيد، يلقبونه بالأمير، انه اقرب لزعيم طائفة من امير حقيقي، يُقال انه احد الرؤساء المؤسسين لإحدى الجمعيات النخبة في مجتمع بيروت الراقي..:

صمت قصير..

"..وقليل من الناس يعرفون باطنهم الفاسد وأسسهم الشائكة وعهودهم الشيطانية، وانا احدى هؤلاء الناس لهذا احذرك يا ابنتي"

"حسنًا، من يكون هو؟ ماذا يعمل؟ كيف شكله ووصفه؟ يعني يبقى رجلًا وليس الهًا، اليس كذلك؟"

ثقة سالومي بثت التوتر في صوت المتحدثة، فسمعت شهيقها العميق وزفيرها، ثم اجابت بعد صوت خشخشة مزعج من السماعة-

"بالحقيقة لا يُعرف ماذا يعمل الرؤساء في الحقيقة وكيف يعيشون بيننا كسادة محترمين في المجتمع التقليدي ولا نفطن لهم ولتجمعاتهم السرية، لكن الجميع يعرف انهم من اصحاب الثروات المكتسبة والموروثة، وهذا الأمير احدهم- وبقيتهم من أصحاب الفنون والسياسة والشهرة الذائعة"

"كل هذا ولم افهم ما علاقة قضيتي بكل هذا ولم تخيفونني منه؟" تأهبت سالومي لسماع ما يفيدها

لم تسمع كلمة..

عادت سالومي تسأل "قلت ان لهم امير، وهو بشر في النهاية يجيد الحديث والحوار، إن سألته عن زوجي سيجيبني اما بنعم او بلا.. وإلا ما له عندي"

"لن يفعل.. انوسل اليك عودي الى بلدك، اهربي منهم"

تجاهلت سالومي التحذير، وسألت باهتمام "ما هي اطباع هذا الامير؟"

"ظالم.. ملعون.. عدواني.. دموي.. حليف للشيطان.. مسحور.. وقاتل"

رددت تلك الصفات وسالومي لم تجزع الا لوصفه بالقاتل..

"قاتل؟"

"لا تسألي وانجِ بنفسك" ...

انتهت المكالمة..

وما تزال سالومي رافعة السماعة بجانب اذنها تمامًا كما يرفع ذلك الرجل سلاحه بجانب اذن المرأة المجهولة-

هل نذكر من الذين قال عنهم سمعان- لن ادعهم يجدوكِ؟

هؤلاء هم..

وهذا من وجدها.. وهذا من أراد تحذيرها لتتراجع وترحل من هنا قبل ان يضطر على تنفيذ أوامر عُليا- أوامر الأمير.

وهو كما سمعان المسكين لم يقوى على التضحية بها.

ذلك الاتصال الذي ورد لسمعان في الليلة الاخيرة له مع عروسته كان منه ايضًا، ونبهه ان يخرج بنفسه حتى لا يُقال انه وجده في البيت-

بالتالي سيتحتم عليه احضار سالومي معه..

كما الاتفاق..

وخرج سمعان لتبقى سالومي- مختبئة-

واتصل هذا لتهرب سالومي.. من مخبئها..

•••

تم الشهر وسالومي لم تغادر منزلها-

الحر لا يطاق، خزانة المؤن ستفرغ خلال اسبوع من الآن، ومن بعد فاتورة الكهرباء والماء التي دفعتها لم تعد تستهلك أي منها، فقد قامت بفصل الثلاجة والتلفاز وسخان المياه وحتى المروحة..

والاضواء استبدلتها بالشموع، اما الماء فكانت لا تسرف به ابدًا-

لحد انها لم تستحم منذ أسبوع، بل تمسح جسدها بخرقة مبللة، وتغسل شعرها مرة كل عدة ايام بمياه تعبئها في زجاجات من عين (سبيل) في الشارع..

يوجد ماء وتوجد كهرباء، لكن لا يوجد ما تدفع به الفواتير المتراكمة-

ولو ان البيت لم يكن (ملكًا) لزوجها، لطُردت وبقيت في حال اسوأ بأضعاف مما هي عليه الآن.

•••

في ليلة من تلك الليالي الثقيلة المرة، الساعة العاشرة ليلاً-

تقوم سالومي كالعادة بإنارة البيت بالشموع المتبقية، تجلس في النافذة للانتعاش ببعض الهواء الخفيف بعد حر النهار، ومذياع الجيران يسلّيها بصوته الواصل اليها، تُبث عبره اغنية جميلة ورقيقة..

وتفكر-

الحياة حلوة وسلسة لبعض الناس، بالفعل، هذا ما يوجد تحت نافذتها، وفي الشرفات من حولها، عائلات، ازواج، أصحاب او حتى قطط وعصافير-

كلٌ يجد مؤنسه في نهاية اليوم، كلٌ لديه من يحمل عنه ثقل الكلمات والأفكار..

تخيّل الا ترى او تكلم انسانًا لمدة شهر؟

هي حتى تظن انها فقدت صوت حنجرتها، وستجن من صوت رأسها الذي لا يتوقف ان يسأل كل ليلة-

اين انت يا سمعان؟ ماذا تفعل الآن؟ بأي حال تركتني واختفيت؟

وليش انا؟

في الختام تنهيدة يأس جافة ومؤلمة..

...

ورأته واقفاً، هناك عند متجر الكتب، لم يكن الا ان انطلقت قدماها كالبرق، كما هي بتلك العباءة التي لا تملك سواها، تنزل السلالم الغير متناهية، وتعبر الشارع امام سيارة ودراجة هوائية صرخا لها ان تنتبه-

ومن ثم تقف خلفه مبتسمة، تقوم بتعديل سريع لهيئتها المبعثرة، بعدها تنادي باسمه، بكل رقة وشوق-

"آه سمعان"

يلتفت اليها رجل آخر، نعم يشبهه من بعيد، لكنه ليس هو، هذا رجل آخر.

"وأكون لك سمعان.." ضحك عليها ومد يده ليمسك كتفها

تكلم معها، لم تسمعه، تشوش عقلها وانهمرت دموعها دون سابق تهيئة-

عادت راكضة الى شقتها، اقفلت الباب وارتمت في سريرها مذعورة فاقدة الأمل.

استسلمت لإدراكها بأنها تُركت وحيدة وهذا هو الواقع..

•••

في منتصف ذات الليلة في وقت متأخر سمعت ضجة غير اعتيادية عند السلالم، فاختلست النظر من فتحة الباب-

الجيران يتشاجرون، الأغراض تُلقى من اعلى السلالم وترتطم ببابها!

صوت صراخ وشتائم فظيعة..

ثم تظهر، جارتها-

قامتها طويلة جدًا، ممتلئة كالمستطيل لا انحناءات لجسدها، تلف رأسها بعمامة رقيقة وردية، وترتدي فستان نوم اخضر زاهي تمزق وكشف عن صدرها المسطح..

التفتت فجأة ونظرت الى سالومي، وجهها عجيب، مرسوم رسم، لعله من مكياجها الملون، او رموشها الكثيفة التي تشبه أعين الدمى!

لم تعرف سالومي بأي نظرات ترد، فابتسمت لها جارتها-

"لا تؤاخذيني، فصاحبة البيت فوق شـ-.."

اه، لقد شتمت، بلفظ قبيح يخجل منه حتى رجال الشوارع..

واخذت تجمع اغراضها المبعثرة عن السلم، فساعدتها سالومي من دافع الذوق، وبصمت شديد كانت تنظر الى ملامحها بفضول.

الجارة تتكلم وتثرثر عما يحصل معها، صوتها ضخم ومبحوح-

"طردتني من شقتي التي ادفع أجرتها بانتظام، عديمة الرحمة، عدوة الانسانية.. لم تنتظر حتى الصباح.. الى اين اذهب بحالي؟"

ردت عليها الجارة الأُخرى من فوق "الى عند امثالكَ الـ- يا -.."

سالومي بقيت بصمتها، لديها من الهموم ما يكفيها، الا ان ذلك لم يمنعها من التفكير والتساؤل عن مشكلتهما-

انهما لا تتكلمان الا بالشتائم الكبيرة! ما خطبهما؟

أغلقت سالومي الحقيبة على ثياب جارتها، لوهلة لم تشأ اغلاقها، فقد جذبتها تلك الثياب البراقة الزاهية المميزة كثياب الفنانات في السينما والمسرح، جميلة للغاية.

والجارة الزاهية هادئة لم تعد ترد بكلمة زيادة فهي ايضًا تنظر الى سالومي بإعجاب، الى حين رمي الجارة السليطة لصندوق خشبي تحطم فور سقوطه-

لتثور الزاهية على السليطة!

بينما تتشاجران فوق وتشدان شعر بعضهما، تفحصت سالومي الصندوق الخشبي بحذر او ما تبقى منه..

وجدت دمية، وجهها واطرافها خزفية، بينما باقيها من القماش المحشو، ترتدي فستانًا احمرًا مزركشًا وقبعة كبيرة فوق شعرها الأسود المجعد..

مع الأسف تصدع وجه الدمية، واصيبت بالخدوش السيئة..

عادت جارتها الزاهية، كلوحة حزينة ابتلت بالمطر قبل جفاف الوانها، كحلها يسيل، فستانها مبهدل والعمامة التي على رأسها تمزقت..

وقفت سالومي محدقة بها بحزن بينما تمسك الدمية، ربما لم تكن جارتها بالفعل نجمة مسرح كما اعتقدتها-

لها شعر قصير، وليس لها هيئة امرأة تقليدية تظهر من بين قماش فستانها الممزق، ولا حتى ضمير مؤنث لتخاطبها به من تشاجرها فوق..

هكذا بقيت سالومي واقفة بلا تعبير، حتى جاءت الحزينة واخذت دميتها منها، وجلست على عتبة السلم تبكي..

"انا فنانة، مطربة صاعدة! سيدة مجتمع راقية!"

"فنان قلت ها؟ اين؟ في مجتمع المـ-.." شتيمة اكبر

تجاهلتها بينما جارتنا فوق ما زالت تشتم بها وتلعن!

حتى قالت السليطة لها في النهاية "اخرج من شقتي ولتقابلني الراقصة التي تحتمي بها!"

"اصمتي!" ترد عليها بنبرة مثقلة بالحزن الحاضنة لدميتها كالطفلة التائهة

"لن اصمت اذهب واشتكيني! وسآتي معك لأرى سجنك بنفسي يا-.." صاحت مع إضافة الفاظ قبيحة استفزت سالومي شخصيًا

استجمعت نفسها، وسألت جارتها المظلومة برفق "هل لديكِ مكان تذهبين اليه في هذا الوقت؟"

"سأتدبر أمري" مسحت انفها ودموعها لتنهض

"لا يمكن بهذه الحالة وهذا الوقت المتأخر، ما رأيك لو تدخلين الى بيتي، تغسلين وجهك، تستجمعين نفسك ثم تذهبين في طريقك براحة"

"هل تشفقين علي مامي؟"

"لا اشفق، صدقيني لست بحال يسمح لي ان اشفق على احد سوى نفسي"

"وتلك القذرة ستطردك لنصبح اثنتين في الشارع، لا اريد ان اسبب لك المشاكل"

"لا تستطيع فتح فمها، هذه الشقة ملك لي"

نظرت الجارة اليها، تمعنت في وجهها، شعرت بالراحة لتصديقها، تبدو حقيقية-

أي ما تقوله تعنيه..

دخلت سالومي لوحدها الى بيتها وابقت الباب مفتوحًا من خلفها، على امل ان تدخل جارتها ان ارادت وشعرت بذلك..

مضى القليل، ودخلت ما ان توقف بكاؤها، فرحبت بها بابتسامة ودودة، وساعدتها على ادخال حقيبتها واغراضها.

ثم اسرعت تحضر لها ابريق الماء-

"اعذريني انوار البيت لا تعمل، تفضلي هذا ماء نظيف"

اومأت شاكرة "لا بأس، اشكرك"

رفعت منديلها الى فمها وانزلت رأسها بأسى "ابقوني بحال سيء، لا استحق، انا غزالة مسالمة بريئة وجدت نفسي في قفص ضباع ترفسني من زاوية لأخرى.. كل ما اردته ان أعيش حرة في المجتمع الخارجي. بماذا اذنبت حتى يحصل كل هذا معي؟"

"صدقيني الحياة لا تهتم لذنبك، انها تعاقبك بأي حال، حتى ان كنت معصومة، تدخلك في الذنب وتعاقبك عليه"

قامت بتبليل منشفة نظيفة بالماء، ومسحت وجهها ويديها، اما سالومي فجلست بهدوء عند النافذة..

..

بعد ربع ساعة خرجت جارتها من الغرفة-

"اعذريني ازعجتك في هذا الليل، سأذهب الآن، اشكرك، حقًا اشكرك"

التفتت سالومي اليها وذهلت-

يا لثباتها الخارجي وسرعة تخطيها!

عادت وتأنقت بقوة، كل تفاصيلها المزينة بالألوان واللمعان جذابة سعيدة، تعشق سالومي هذه الأناقة المميزة، وأكثر ما لفت نظرها هو شالها من الفرو البنفسجي الطويل وشعرها الأشقر المستعار-

فابتسمت لها "ماذا تقولين، العفو"

ناولتها دميتها والتي سبق ان نظفت وجهها وحاولت بالصمغ الصاق ما انكسر..

لم تبقي سالومي كلامها في قلبها وصارحتها بابتسامة واسعة "ما أجمل طلتك.. مذهلة، ليتني بلمعانك وازدهارك"

فلمعت عيناها بسعادة، وابتسمت لها بالمقابل، حتى عانقتها بغير انذار-

سرعان ما ابتعدت، واعتذرت، ضحكت، الدنيا لم تسعها، وهذه الدمية وسعتها بالحضن..

"جمال عيونك التي ترى الجميل" ثم سألتها "ما اسمك؟ انا اوديت"

"سالومي"

"آه!" تنهدت بإعجاب وامسكت خصلة من شعرها تداعبها "سالومي، اشعر وكأني أود نطق هذا الاسم الى الأبد"

ابتسمت لها، وشكرتها على الاطراء..

"شيء أخير، سالومي"

"تفضلي اسمعك"

ترددت في الطلب بداية، فسكتت للحظات، ثم تشجعت وقالت-

"سأذهب الى العمل الآن، ولن اعود حتى الصباح، تلك الشمطاء طردتني وكل اغراضي مبعثرة وثقيلة-.."

اختصرت سالومي عليها، وامسكت يديها تجيبها-

"بإمكاني إبقاء اغراضك عندي أمانة، انا أعيش لوحدي هنا، متى ما رغبت تعالي وخذيها.. حتى بإمكانك المبيت هنا الى ان تجدي مسكنًا لائقًا"

"يا لك من انسانة، هذا كثير"

"هذا الواجب عزيزتي"

"كم انت حلوة.. لا تقلقي فقط الليلة، في الصباح انتقل عند صديقتي ثيودورا، هي من تفهمني، انها من أكثر السيدات نبلًا وروعة، لا ترد أي محتاج.. للصدق ان اخبرتها عن جارتنا الملعونة بالاسم وما فعلته بي، بإمكانها اقفال شقتها والعمارة كلها بإشارة واحدة من اصبعها، لكني لن افعل، اسامحها"

"محظوظة من لديها امرأة كهذه تحميها"

"تيودورا امرأة عظيمة"

شيء ما اضاء فكرة في رأس سالومي، بما ان سيدة كـ- تيودورا موجودة بحق على هذه الأرض، لم لا تطلب مساعدتها بقضية زوجها-

هذا ان كانت بالفعل ذات نفوذ..

وقبل ان تودع سالومي اوديت عند الباب، ارادت ان تسألها كيف بإمكانها مقابلة تيودورا تلك-

"اوديت، هل هذه السيدة قديرة بحق؟"

"هل تحتاجين لخدمة عزيزتي؟ لا مانع ان تلتقي بها، بمقدورها مساعدتك مهما بلغ همك.. آه بصراحة احسست ان لديك هم ثقيل، فمن يتألم مثلي يستطيع ادراك ألم غيره"

"فقط اسأليها عن نخبة مجتمع بيروت الراقي، وكلمة المفتاح هي الجبل، ان كانت قادرة ستساعدني"

"لحظة.. لحظة.. الجبل؟ مجتمع بيروت؟"

"الشيء، السر المحرم تقصيه كما يتداولون"

"اعرف.. اعني فهمت، لكن امرأة ناعمة مثلك ما لها في هذه الامور؟ ما لها في الجبل؟"

"لا عليك، لا اريد تأخيرك عن اعمالك.. انسي ما قلت"

عادت اوديت الى الداخل وأغلقت الباب-

"تيودورا تستطيع، يعني الحل وارد عندها، لكن لكي أخبرها عليك اخباري بدورك بالتفاصيل.. ما الموضوع؟"

"زوجي مختفٍ منذ شهر واسبوع، وحين سألت ذكروا موضوع الجبل، زوجي يعمل كطبيب مختص، اسمه سمعان شكيب سمعان.. يا ويلي اعتذر، دعيني لا اعطلك الآن، غدًا حين تعودين سأخبرك بالتفاصيل.. لا تنسيني"

انصتت اوديت لكلام سالومي دون ان تظهر لها ان ما قالته ليس جديدًا على مسمعها، انها حتى تتساءل عما ان كان ما يحصل قدر ام خطة ماـ

توجب عليها الان سؤال ثيودورا لتفهم الحكاية، ولتفهم من هذه المرأة الواقفة امامها- من سالومي؟

حتمًا سالومي ليست صدفة..

فابتسمت متفهمة "لا انساكِ سالومي"

"لا تؤاخذيني التقيت فيك للتو وطلبت منك طلبًا كبيرًا.. اشعر بالخجل، كأنني آخذ مقابل خدمتك فورًا.. آه حقًا اعتذر.. لكن، انا ابرم مثل المجنونة منذ شهر وليس بيدي اي حيلة.. اعذريني.. بم كنت افكر.."

ادارت سالومي وجهها بخجل واحراج شديد، اما جارتها الودودة فطمئنتها-

"فكري بهذا- لعلنا أٌرسلنا لبعضنا" غمزتها وودعتها "اتكلي علي"
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي