3

•••

الصباح التالي-

طرقات على الباب افزعتها، رجحت انه احد الذين وضعت عندهم خبر زوجها، فنهضت بسرعة ترتدي عباءتها التي لا تملك سواها لتفتح الباب-

لا تفكر بشيء، لا بشكلها ولا بهمها، كانت تأمل ان تقابل زوجها عند الباب، او على الأقل خبر عنه.

مع الأسف، صادفت الشاب العامل في الدكان المقابل للعمارة، وقد احضر لها جريدة اليوم كما يفعل كل يوم..

انتظرت ان يناولها الجريدة، بدل ذلك التفت واعطاها ظهره، تحدث بتأتأة-

"معلمي ارسل هذه الجريدة، يقول ان بها قائمة بالمفقودين الذين تم ايجادهم- متوفين.. بعيد الشر عن السامعين. يمكن ان تساعدك يا مدام.. عن اذنك"

تعجبت من كلماته الصلبة المستقيمة رغم انه لا يدق بابها للمرة الاولى، واخذت الجريدة من يده، ليفر قفزًا عن السلم قبل ان ترد بكلمة-

ادركت انه ثوبها الذي ترتديه اسفل العباءة كان غير ساتر، بالطبع شعرت بالخجل وان اذناها تلتهب، لكن شعور انها ربما ستحصل على خبر عن زوجها فاق كل الشعور..

كانت خائفة من فتح الجريدة، ماذا لو كان ميتًا بالفعل؟ ماذا ستفعل؟ كيف ستعود الى والديها؟ وكيف ستواجه مجتمعها؟

سيتم نبذها ووصمها بدمغة المشؤومة التي جلبت فأل الموت لزوجها في يومهما الأول!

بأي حال شبح فكرة العودة الى وطنها ما يزال يحوم حولها، حتى وان لم تجد هذا الزوج الذي لم تحفظ شكله بعد، يومًا ما ستعود، فما لها شيء هنا-

لا مال ولا عمل ولا صاحب، حتى طعام ليس معها ان تشتري..

هي قطعة من الجبنة البيضاء ونصف حبة طماطم، اكلتها فوق تلك الجريدة التي لا تحتوي شيئًا يخصها-

صحيح يوجد سمعان ما، لكن لا يوجد "سمعان شكيب سمعان" هنا..

لا في الجريدة، لا في البيت، لا في الارجاء، لا في المؤسسات، ولا في قلبها حتى!

"طلع اسم على اسم"

طفح منها الكيل، احست برغبة بالصراخ، وصرخت..

صرخت ما استطاعت التعبير عنه من توتر وقلق عاشته لشهر كامل بسبب رجل ما!

بسبب كائن لا تعرفه!

بسبب انهما تزوجا لأنهم قالوا لهما تزوجا!

ثم اختفى! بأقل من يوم اختفت الحياة التي جرّتها اليها، الحياة الجديدة، الحياة البعيدة عن النقد والعيون الثاقبة في بيت ابيها!

"لمن اعطيتموني؟ لمن تركتموني؟ حتى نفسي مُنِعتُ عنها بقمعي واسكاتي بشعاراتكم التقليدية المتخلفة- ها انا، تزوجت لتتخلصوا من عبئي! فحملتموني انا العبء! هل العبء يحمل عبئًا؟ بل العبء هو من يلقي بالأعباء على الاخرين- أسفي عليكم، مثقلين بأنفسكم، بعيوبكم التي صارت قانون واعراف.."

حتى صرخاتها هذه نقمة، ليس على الحال الذي رموها به فحسب، بل على الصمت الذي طال ولم ينفجر بوقته-

والآن ينفجر بوجه الرسائل الغير مفتوحة ذات المحتوى السعيد والرغد الواسع، تعبت من قراءة سعادتهم بعد ان غادرتهم-

كأنها بحق كانت شؤم عليهم.

..

ومع انقضاء تلك الأفكار الثقيلة كانقضاء العواصف الهوجاء، تعود الى الاستسلام والبكاء، والادراك ان الواقع قاسي، لن يطبطب على جراحها ولو بكت كل العمر-

فهي وان رفضت الاعتراف بالسقوط، تضعفها إشارات الكون..

هذه الاشارات تشعل روحها، اما جسدها وعقلها، يبقيان بحالة جمود على الأرض الباردة الموحشة-

كانت تظن يومًا انها الثائرة القوية التي لا يقمعها انسان ولا يظلمها كائن، كانت تظن ان لا احد يقدر على ايقافها واجبارها-

وهذا ما كان في بيت ابيها، في حارتها وفي حدائقها..

وانقضى.

وان الأفكار المرسومة على جناح الحرية تبقى مجرد أفكار ان لم تحملها الريح وتطير.

افكارها الحرة كانت نقش على جذع شجرة أُحرقت قبل اندلاع الحرب الحقيقية، وماتت قبل ان تقوم ببطولة الشهيدة..

احست سالومي انها ماتت في ذلك الصباح.

ممددة على الأرض، منذ ان كانت الشمس في الشرق والآن هي في طرف شرفتها الغربية-

تحرق وجهها، تلسع ملح دموعها، بشيء من الخيال توقعت ان تواسيها تلك الشمس.

فحجبتها بيدها "انت شمس واحدة، تشرقين على الكون بأكمله، ان اشرقت عليه اخبريه عن جرمه، وأخبريهم هم عن مشاركتهم بهذا الجرم.. وانني لا اسامحهم بحقي"

سطعت الشمس أكثر، شمس العصر تغيظها-

"بالأساس كيف مع كل السوء في المجتمعات ما زلت تشرقين على هذه الاقوام الظالمة؟ ان كنت تعدلين، فأنا الآن بأمس حاجة للعدل، لم يُبقوا لي شيئًا وانا بالأساس لم املك أي شيء غير نفسي، وهذه سأفقدها بسببهم- هل هذه عدالة القدر والنصيب؟ ام انني فقط أُعاقَب على عصياني وتمردي على القالب النمطي الذي حاولوا سجني فيه؟"

لا جواب.. ليس وكأنها تتوقع اجابة من الشمس..

"أنا اهذي.. وأنا جائعة"

وأجابتها الشمس-

بلحظة خيالية منفصلة عن الواقع، تتبعت اشعة الشمس، انها تضيء على طقم الخزف الموجود في خزانة العرض التقليدية-

لمعت برأسها الفكرة، ماذا لو تبيعه؟

يبدو ثمينًا..

سيأتي لها بمصروف الاكل على الأقل..

وربما فستان جديد غير الاسود المهترئ..

حتمًا هذت من الجوع وبالغت في أدائها التراجيدي السابق الساخط على الكون والعائلة-

فقامت مبتسمة، ارتدت فستانها، عدلت هيئتها، شبهت نفسها بجارتها اوديت التي تحولت كالسحر من باكية يُشفَق عليها، الى نجمة متعالية تتمنى لو تصبح مثلها منذ صغرها..

سحبت صندوقًا، لفت الاطباق الخزفية والفناجين بورق الجرائد المكومة، ورتبتها داخل الصندوق..

"ان بعتها سأصمد شهرًا اضافيًا، يا الله ساعدني"

اسرعت تفتح باب البيت قبل ان تحمل الصندوق، وعادت تأخذه، ما ان وصلت الى بوابة العمارة قابلت جارتها من ليلة البارحة-

"اوديت!" قالت منفعلة

"سالومي! لم أتوقع ان تتحمسي لرؤيتي هكذا.. الى اين مامي؟"

"ليس هكذا، اعني سعيدة لرؤيتك حقًا، لكن.. انا ذاهبة بأمر ضروري وعاجل"

"تبدو ثقيلة، هل اساعدك؟"

"لا بأس، سآخذها الى دكان بيع التحف عند رأس الشارع.. اريد بيعها"

"انتيكة؟"

"شيء كهذا" ردت بإحراج فلم تشأ فضح حاجتها لغريب

"انتظري"

مشت الى السيارة الواقفة عند الرصيف، وتكلمت مع سائقها لينزل فورًا ويتوجها سويًا اليها-

"رافي، خذ الصندوق عن المدام وقم ببيعه لها.." التفتت الى سالومي تسأل "بكم تُسَعّرين؟"

"لا اعرف كم يساوي.. كم يساوي؟"

"ما علينا، رافي يتدبر الامر.." نظرت اليه تنبهه "تبيعها وتعود، اغراضي الغالية تنتظر فوق ولن تنزل وحدها مامي"

ذهب المدعو رافي بأغراض سالومي، اما اوديت فتأبطت ذراعها وصعدت معها الى منزلها-

"سالومي يا سالومي"

"قولي"

"آه اسمك جميل.. هل نتبادل؟" ضحكت ممازحة

فبادلتها الضحكة "صدقيني انا حتى اليوم لم اجد من يناديني باسمي سالومي، لأهنأ به قليلًا"

"يه! هل لك اسم أصلي مثلي انا؟"

"لي، ابي اسماني سليمانا، كان يريد صبيًا ليسميه سليمان، جئت بنتًا ولم يتخلى عن الاسم، لكن امي لطالما نادتني سالومي.. كان نذرًا عليها"

ابتسمت اوديت لها "وانا والدتي ارادت بنتًا، فجئت انا.. اودين- اوديت"

"لكنكِ اقوى مني اوديت، قمت بفرض نفسك وحددت هويتك ومصيرك، انا لم استطع، وبسبب صمتي ووقوفي في الظل انظري كيف سقطت اسفل احكامهم والى اي حال وصلت"

"ما زلتِ صغيرة سالومي، الكون ينظر لك.. هل اقرأ لك بالفنجان؟" مازحتها لتبتهج

جلستا في زاوية الصالون الواسع، وبينما اوديت تشاهد البيت حولها بإعجاب، نهضت سالومي وصبت لها كأسًا من الماء-

"بيتك عن شقتين من خرابة تلك الملعونة فوق.. مرتب وواسع"

"اعتذر، لا يوجد عندي قهوة ولا شاي"

فهمت اوديت القليل، وارادت التأكد، فاقتربت منها وامسكت بيدها-

"اسمعك، لا بأس اشعري بالحرية لمشاركتي.. اشكِ همك واعتبريني صديقتك"

تنهدت سالومي بحزن، وبلا تفكير انطلقت تحدثها عن كل ما مرت به، من نهار عرسها وحتى اليوم وبدئها ببيع أغراض المنزل لتشتري الطعام-

"أنا ومهما كابرت على نفسي وعزتها- اشعر بالخوف أوديت"

"آه مامي" تأثرت بقصتها واحست بواجب مساعدتها، فقالت تشد على يدها-

"لعل القدر لم يجمعنا صدفة، اعترفي هل صليت كثيرًا مؤخرًا؟"

"صليت" وضحكت سالومي

"انا الاستجابة اذًا"

ابتسمت بامتنان "اشكرك، حقًا"

"لم افعل شيئًا بعد، والآن اسمعي، لقد ذكرتُ لثيودورا ما اخبرتني به البارحة"

"وماذا قالت؟" سألت متلهفة

"قالت ان أقول لك بالحرف- لا تفعلي شيئًا، ولا تستمري بالسؤال والتجول حاملة هذا الموضوع، فالحقيقة اشد تعقيدًا من مجرد الكلام. خاصة وأنك غير متأكدة من وجود زوجك هناك، لن تقامري بحياتك مقابل رجل ما- حتى لو كان زوجك عزيزتي"

"ألهذا الحد؟"

"وأعمق. ثيودورا تعرف جيدًا عما سألتِ، لهذا طلبت مني تحذيرك- والا سنقول ما شأننا بالغريب وافعلي ما بدا لك.. صحيح؟"

"ربما معك حق، لكني أصر.. ماذا سأخسر؟ انظري حولك، لا املك شيئًا لأخسره او أكسبه، ووالدته لا ترد على اتصالاتي، لا استطيع عبور الحدود للعودة الى عائلتي، انا حرفيًا متروكة ومعلّقة. علي إيجاد زوجي حيًا او ميتًا- على الأقل لأفهم حالي"

"اتفهمك، واعرف جيدًا ما تقاسينه من وحدة وانعدام في الأمان"

"اوديت، لن اتوقف، وسأسأل كل من اقابله حتى اذهب الى هناك.. أقول انه مختفٍ منذ شهر، الرجل كان نائمًا الى جانبي في ليلتنا الأولى- استيقظت- غير موجود، هو لم يبدل ثيابه ولم يأخذ شيئًا من اغراضه، حتى امتعتي التي سافرت بها غير موجودة- هل هذا منطقي؟"

"ليس، مع الاسف ليس"

طُرق الباب، ودخل رافي، لتسأله اوديت فورًا-

"بعت؟"

"بعت، تفضلي" ناولها لفة أوراق نقدية واعطتها لسالومي

لم تكن كثيرة، لكنها كافية..

طلبت اوديت منه ان ينزل اغراضها الى السيارة، ثم عادت الى سالومي-

"ما رأيك لو تقابلين تيودورا بنفسك؟"

وقفت متحمسة "اقابلها، متى؟"

أخرجت من حقيبتها دفتر ملاحظات صغير، وطلبت من سالومي تدوين رقم هاتف البيت، وفعلت.

"سأتصل بك، حتى ان لم تجيبي سآتي بنفسي وآخذك"

"في أي وقت، لكن بسرعة ارجوك"

"لا عليكِ، انا من اليوم صديقتك.. ام أنك لا تريدين؟"

"كيف لا اريد" بحركة عفوية حضنتها سالومي، وكأنها تتشبث بالأمل الأخير "صديقتي وأملي اوديت"

•••

في المساء شعرت وكأن الحال ينفرج شيئًا فشيئًا-

ها هي جالسة على المائدة تأكل طعامًا حقيقيًا مطبوخًا منذ فترة طويلة وترتدي فستان جديد ونظيف. بقلبها امل كبير ان السيدة ثيودورا قادرة على مساعدتها..

وبعد العشاء جلست شابكة يديها تصلي بامتنان وشكر لله على ارسال هاتين السيدتين الى حياتها، وصلت مستغيثة لرحمته وعونه، صلت بكل خشوع-

حتى دمعت عيناها، والبسمة لم تفارقها، هذه الصلاة مسحت على قلبها المهموم وبردته..

ليلتها نامت مرتاحة، غير خائفة من الغد، بل متحمسة للنهوض في الصباح ومقابلة السيدة المسماة ثيودورا..

•••

في ساعة مظلمة، متأخرة وساكنة، سالومي التي تغفو في فراشها لم تكن بالأمان الذي تصورته قبل خلودها الى النوم-

ولم يكن الصباح المنتظر هو ما حلمت به وصلّت من اجله..

حول سريرها يقف أربعة رجال ملثمين بالسواد، وقفتهم فوق رأسها كقابضي الارواح كافية لان تقتلها رعبًا-

امرأة يافعة ونقية، تُسحب من فراشها وتُحمل لتؤخذ الى (الجبل) الذي بقيت تسأل عنه الأمة..

ها قد جاؤوا بأنفسهم اليها.

بطريقة ما حافظوا على نومها، ووضعوها في سرير آخر، في غرفة عالية، في ذلك القصر المظلم، في قلب الجبل المرصود..

من حذرها مرتين استجاب للأمر وأحضرها.. لا سمعان انقذها ولا هذا استطاع..

..

في اوج الصباح استيقظت سالومي على نور يسطع من النوافذ العالية، فتحت عيناها بصعوبة-

لا تحتاج للتفكير لتستوعب انها ليست في غرفتها، بمجرد رؤية كل هذه الظلال من الألوان الداكنة تعرف انها في مكان ما غير بيتها المشرق.

نهضت مرتبكة والخوف يجعل من جسمها يرتعش ويرتجف، انها ما تزال بالعباءة الشرقية التي نامت بها، لكن في سرير مختلف-

سرير ضخم ومرتفع، اطاره من الخشب بلون بني غامق، منجد بقماش مخملي باللون البرغندي، والفراش ابيض قطني، الغطاء من الساتان الأحمر، والوسائد منتفخة وضخمة..

حولها كل شيء مسود، الجدران، الأرضية، الأثاث المتبقي، كله مظلم وحتى نور الصباح المنبعث من النوافذ لا يضيء في الغرفة شيئًا.

ما استغربته بالأكثر عدم ملاحظتها لباب في الغرفة، فنهضت تتحسس الجدران بحثًا، الى ان وجدته خلف ستارة ثقيلة من المخمل الزمردي.

فتحت الباب المكون من محرابين-

الجيد انه غير مقفل، والسيء ما رأته خلفه-

شعرت ان قلبها يخرج من حلقها، وقامت بابتلاعه قبل ان يغشى عليها من الارتباك، فأغلقت الباب فورًا وعادت تجلس في السرير.

"هل متُّ وأُرسِلتُ الى الجحيم يا الله! هل مت؟" تساءلت وقلبها سينفجر

جلست في الفراش مرتعبة عينها تنظر للباب بترقب وتأهب..

"صباح الخير ستنا" صوت ظهر من خلفها أفزعها

فلم تتمالك نفسها وصرخت!

كتمت فمها بيدها مُحرجة من الصوت الذي خرج منها..

"رؤوف!" فُتح الباب امامها وخرج منه رجل يرتدي مثلها عباءة عربية مفتوحة الصدر براحة..

تقدم اليه ذلك الرجل الذي أفزعها صوته والمسمى رؤوف-

"المعذرة- سيدنا"

سيدنا؟ تعجبت، وكثيرًا.. سيدنا..

التفتت الى الباب المفتوح لتشاهد الاربعة شابات اللاتي كن يحملن الملاءة فوق رأس هذا الرجل في العباءة- وهن يغادرن الغرفة من باب منفصل..

وسيدة كبيرة في السن تشبه المشعوذات، من كانت تطقطق الرصاص في قدر فوق تلك الملاءة تحدق بها بنصف ابتسامة وعيون مرعبة ومرتعبة-

يبدو ان سالومي اطالت النظر، فتلك السيدة المريبة اشارت نحوها وأومأت، لم تفهم سالومي اي شيء، لكن الرجل في العباءة مدرك لكل شيء..

وسالومي من رعبها وريبتها حاولت اخذ نفس عميق لتزفره، فخرج متقطعًا، ليلتفت اليها- سيدهم-

نظرة طويلة مدققة، فشعرت سالومي ان نظرته تلمسها متفحصة كل جزء منها، ولم يعد يتسع الخوف فيها، لتصل الى حالة من الجمود والخدر-

لم يبعد عينه برهة، وكأنه يمسح بسواد تلك النظرات شعرها الفاحم الطويل، بشرتها المتوردة التي بالكاد تسترها العباءة، ويعود الى وجهها الأبيض كالبدر المتوهج بنقاء مع نور الصباح-

شفتها مجروحة بسبب قضمها من التوتر، خدها المرتفع يحمر حياءً، واصابعها الرفيعة مفرودة على عنقها المرشوش بالشامات تداري نبض قلبها المتسارع-

وقبل ان تتمادى عينه رفعت غطاء الفراش على صدرها وكتفيها وتغطت بالكامل..

لم يرى نقاءً ولا صفاءً ولا حتى براءة بهذا القدر في امرأة واحدة، وبذات الوقت تفتن نظره وتسحر عقله.

ولم يكن وحده من ينظر، فهي ايضًا انشغلت بتفحص هذا الرجل الذي استيقظت في احدى زواياه الخصوصية في وضع لا يسعها تفسيره!

وهذا الرجل الملقب- سيدنا- سيدهم- طويل القامة- طويل، لا يكلف نفسه ان يشعر بالحياء ويرد عباءته امام الغرباء، لربما يريد التفاخر بهذا الجسد المصقول كالرخام-

الرجال متفاخرين، سالومي تعرف من معاشرتها لأولاد العائلة والحي، فما ان يبلغوا سن الرجولة ينفشون جسدهم المشعر كديوك الحبش-

لكن هذا ليس ديك حبش ريشه قبيح، ولا طاووس متبجح معلم جماله الوحيد لون ريشه، بل كان اشبه بصقر جبلي، يشع فخرًا ويلمع ذهبًا مع النور المتسلل من النافذة.

لم تجرؤ على النظر في وجهه بدايةً، وحين فعلت رفع عينيه عنها وقابلها بنظرات حادة، ثم ادار وجهه فلم تلمح سوى شعره متوسط الطول وجسر انفه الحاد كالسيف حين ادار وجهه وخرج من عندها..

الرجل المسمى رؤوف، والذي عرفت لاحقًا انه ذراع السيد سيدهم، قال لها-

"لا تبرحي مكانك"

وتبع سيده..

تمتمت "كأن خيار الذهاب الى أي مكان متاح"

ثم تساءلت "والآن هل هذا هو الأمير الذي خوّفتموني منه؟ يا رب هو.." وضحكت ساخرة..

الحقيقة انه "احسن" الرجال شكلًا تراه في حياتها-

ولو علمت ماذا رأى فيها لتكبرت وانغرّت على الاعتراف بذلك، لأن سالومي لو رأته "احسن" الرجال "شكلًا"، فقد رآها هو "سيدة" كل النساء "تصورًا وصنعًا"..

اما لو علمت سبب وجودها هنا، وانه "ليس" صدفة، و"ليس" حبكة قصة خيالية رومانسية- لنحرت عنقه الفتان ونحرت عنق سمعان وذبحت نفسها في ليلة واحدة.

مجددًا، سالومي ليست صدفة..

•••

مرت لحظات صمت طويل بين رؤوف وسيده، كان يشرف على ارتداء ثيابه المنمقة ذات الخياطة العالية المفصلة تمامًا لمقاسه، فلديهم مشوار مهم الى "طاولة الرئاسة"-

اجل "سيدهم" او "الأمير" كان رجل له في السياسة وسادة المجتمع الراقي، بل على وشك ان يصبح من "الأهم" و"الأكبر"، كما سبقه والده وجده-

لكن اولًا عليه اتباع بعض الطقوس، وفك بعض الامور المعقودة فوقه والتي لا تفكها طقطقة الرصاص وخياطة الحجابات والتمائم..

واخيرًا سأل الامير، وبرغم معرفته الجواب، الا انه أراد فتح باب للحديث عنها-

"تلك هي؟"

"الزوجة التي افتتن بها الرسول وأتلفها"

"خسارة مؤلمة يا رؤوف.. حرام ما يحصل" رد بهدوء

بهدوء أي انه لم يكن بذلك الغضب الصباحي المعتاد، حاله أرَقُ مم شُهد عليه سابقًا، فشعر رؤوف بالراحة للسؤال-

"بم ان لا فائدة ترجوها منها، لم احضرتها؟"

"انها من بحث عنا" رد بابتسامة

"لكننا من احضرها"

"هل رأيتها رؤوف؟"

واقرب وصف لنبرة صوته حين سأل- هل رأيتها؟ هو انه مفتون.. وكثيرًا..

"رأيت" رد رؤوف بصوت خالٍ من المشاعر، وسأل "ماذا ستفعل حتى نعود من مشوارنا؟"

"لا شيء، اتركوها في الغرفة، لا يكلمها أحد ولا يمر عليها أحد"

"ستجن، المسكينة مذعورة، أؤكد لك ان وجهًا كهذا لم يرى الظلام في عمره.. دعنا لا نتلفها"

"انت لا تصدق الاقاويل العتيقة اعرف، لكنك تصدقني انا، واقول لك- نحن متشابهان، ولدنا بذات الطريقة، خُلقنا في الظلام.. وابتلعنا الظلام"

اخر جملة قالها بأسف، بخسارة، كمن ضيّع نجاته..

"اذًا تعرف انك لن تتركها محبوسة في الظلام"

"انت رؤوف- رؤوف"

بإمكان رؤوف قراءة الخسارة في عيون الامير رغم كل قوة وثبات يدّعيها..

وأن كل (التعويذة) لا تعنيه ولا تؤثر فيه..

•••

مضت ساعة، والوقت يشير الى السابعة والنصف صباحًا-

تم ارسال الفطور الى سالومي، ورفضت تذوق طعامهم قبل ان يفسروا فعلتهم بها، والآن هي واقفة في الشرفة، تتأمل المنظر الطبيعي الخلاب امامها والمختلف تمامًا عن المدينة..

تلال عالية واشجار غزيرة دائمة الخضرة، تحتها بيوت مبنية فوق التلال والسفوح واعلاها هذا البيت الشامخ-

ان نظرت الى اليمين تشاهد بنية البيت الكاملة، من نوافذ وشرفات مقوسة، وعلى كل شرفة زينة من الورد يفوح عطرها في الجو-

وفي يسارها تكملة قصيرة تضم الشرفة القريبة للغرفة المجاورة- حيث خرج ذلك الرجل، ومن ثم ترى قليلًا من الطرقات التي تصل بين البيوت، وعلى المدى البعيد يتزحلق دخان الضباب على سفوح التلال بسلاسة..

المنظر اشبه بالسحر، بحكاية من الخيال، بشيء جميل تفتقده، بتلال قريتها الجليلة في الوطن، عدا ان منظر تلال بيتها أكثر انبساطًا من هذا المكان الغزير المتعرج.

الهواء العليل خفف قليلًا من توترها، لكن لم يمحه، فما زالت معلقة في المجهول تنتظر ان يطل عليها أحد لتكلمه..

"هذا هو الجبل اذًا.. والله لو وصفوه لي بالحرف لما صدقت، قطعة من السماء- جنة.. تخيلت ان يكون اكثر ظلامًا وبورًا، حتى انني تخيلت بيتًا متهالكًا اسودًا يعيش بداخله شبح- او ربما غول!"

ضحكت.. غريب لها ان تضحك وسط موقف من البديهي فيه انها "مختطفة".

من بعد رحلة التأمل في الطبيعة الخلابة والجمال الإلهي، وقعت عين سالومي الى أسفل الشرفة-

شاهدت منحدرًا حادًا يدب الرعب في القلب، تمامًا بعد السياج الحجري المقام عند ممر المدخل الرئيسي، وللمدخل الرئيسي عواميد عالية، تحمل فوقها قبة من الزجاج الملون-

لونها مميز وجذاب، خصوصًا مع انعكاس الشمس عليها ونثر الألوان على الجدران وارضية الفسيفساء..

من المدخل يخرج السيد برفقة تابعه، يقف منتصب القامة يداه مشبوكة خلف ظهره، ينظر يمينًا ويسارًا بتفقد طبيعي.

ثم يجيء رجل ثالث، ينحني ويقبل يد السيد، فيربت على وجنته ويقبل وجنته-

"اكيد ابن اخته" علّقت سالومي ساخرة

ثم يغادر ثلاثتهم..

"وانت يا امير الجبل.. هم وصفوك لي، وانا سأصفك بطريقتي" تمتمت لنفسها "صبرك"

بينما تراقبهم سالومي كيف يمشون برشاقة دون خوف فوق المنحدر المسيج، رفع الأمير- نظره اليها ورآها واقفة في الشرفة..

لم تتحرك، بقيت تنظر اليه، بثقة وبتواصل جاد..

هذا الفعل استفزه، بالعادة لا تطيل النساء النظر الى وجهه، وان فعلت احداهن، فإنها تنظر بود-

أي أنها لا تعبس وتتعمق بالنظر كأنها تتوعد له.. كأنها تهدده بشيء..

وحتى مع نظر الرجلين المرافقان له باتجاهها لم ترفع عينها عن الأمير وبقيت مركزة عليه.

بل هو من انزل عينه عنها وتابع سيره..

مع اختفائهم في الطرق الملتوية، عادت الى الداخل، حاولت فتح الأبواب، كانوا قد اقفلوها-

وبما ان الامير خرج، اخذت تطرق وتنادي بحرية مستنجدة..

لم يستجب لها أحد.

فعادت الى الشرفة تنتظر مرور شخص لتومئ له ان يحدثها..

بقيت تنتظر، وتنتظر، لا احد يمر.. ضجرت وتأففت بضيق شديد-

"لو كان لحياتي عنوان سيكون الانتظار! في كل موقف اخوض به، انتظر. انتظار يليه انتظار! مللت!"

...

في الظهيرة جاء الغداء، ومن ادخله لم يحدثها، ولم يسمعها، دخل وخرج كالشبح.

ايضًا لم تأكل..

في المساء المثل، جاء العشاء، دخلوا وخرجوا كالموتى، لا يسمعون، لا يرون، لا يتكلمون..

لم تذق لقمة من طعامهم، ولا رشفة من مائهم..

بقيت تسألهم-

متى سيعود اميركم؟

هل تعرفون زوجي الطبيب سمعان؟

وما استنتجته انه كلما ذكرت اسم زوجها تتحرك تعابير وجوههم الجامدة، ثم يتركونها وحيدة في الشك والتساؤل.

هذا أعطاها إشارة ان زوجها مر من هنا، هذا ان كان ما يزال هنا..

لكنهم حتمًا يعرفون شيئًا.

"اقترب لقاءنا، اشعر بك هنا" همست لنفسها "لنصبر"

استلقت في الفراش تحلم بسيناريوهات محتملة عما ستفعله حين تلقى زوجها، كيف ستقابله وسيقابلها، ماذا ستقول، وحين يرجعان الى البيت كيف ستكون الحياة-

عادت اليها جميع الأسئلة التي راودتها ليلة عرسها..

لتغفو مكانها بعد يوم ممل وطويل، ومرعب.

•••

مرت ثلاثة أيام، والحال على ما هو، مسجونة في غرفة عالية شرفتها تطل على منحدر مميت، لا تتكلم، لا تأكل، فقط حصل وتنازلت عن كبريائها وشربت الماء-

أصابها شيء من الاحتراق النفسي، لكثرة التفكير، ولمستويات التوتر العالية التي وصلت لها بسبب هذا الحبس الغير معلوم اجله!

حتى ذلك الرجل- سيدهم- لم تسمع صوته ولا حركته في الغرفة المجاورة..

لا شيء، لا احد.. وكأنها لوحدها في وسع هذا الجبل كله.

قضت يومها في السرير ولم تتحرك، مضى الكثير من الوقت منذ ان اختفى هذا- الزوج-

أفكار ولحظات صحوة راودتها لتسأل نفسها بكل صدق ووضوح-

على ماذا سالومي؟ على ماذا تتكلين؟ بماذا تثقين؟

وأين انت الآن؟ وبسبب من؟

هل يستحق؟

تلك المرحلة الأخيرة من اليأس وضعتها في حالة من اللا-مبالاة، وحرفيًا لم تعد تطيل التفكير بالاحتمالات-

وصلت الى الحد الذي تقول فيه لا اهتم، ان عاد زوجي او لم يعد- ان اعادني هذا الأمير او قتلني حتى..

"لا تفرق معي!"

أصبحت تريد ان تمضي حياتها وما سيحصل فليحصل، سيكون ارحم من البقاء في المجهول والانتظار!

يومها لم تكن سالومي في آخر مراحلها البائسة، بل كانت مجرد بداية بسيطة لحياة ملحمية تنتظرها.

ستأتي أيام تشتاق فيها لهذا الانتظار.. وهذا الفراغ..

ستقول ليتني بقيت انتظر في هذه الغرفة ولم يأتني ما اتاني.

فلا شيء منذ البداية يحصل بالصدفة..

الفصل السابق الفهرس الفصل التالي