Salóme || الهانم والشيوخ

نورما`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2025-04-29ضع على الرف
  • 14.9K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

4

..

الرابعة صباحًا، وعودة الأمير من رحلة طويلة، صاخبة ومشحونة..

طوال الرحلة لم يستطع عدم التفكير بآخر ما شاهده قبل الخروج- نظرات سالومي-

والتي اشعرته بتهديد حقيقي، شعور يستقبله لأول مرة من امرأة ويعترف به مستسلمًا مُسلّمًا لها..

ها هو واقف عند الباب ذو المحرابين الفاصل بين غرفتيهما، امام السرير الضخم حيث يتوارى جسدها الضئيل بين اغطية الفراش المنتفخة.

يقف ويراقبها، يفكر كيف ظن انه بسهولة سيتم ما فُرض عليه اتمامه ليعبر فوق العالم-

لتفك التعويذة التي وُلد بها وأرهقت عيشته..

ربما هو على خلافها عالم بما حصل لتلده أمه، تمامًا ما حصل مع والدة سالومي لتلدها، بتعويذة سوداء-

سالومي لم تؤذها التعويذة، لكن الأمير عمره كله متوقف على فك هذا السحر- ولمن لم يدرك بعد، سالومي والأمير ابناء امهاتهم وليسوا ابناء اي رجل آدمي.. هكذا.. يُقال..

مثلما لقبتها نساء مدينتها (بنت الشيطان)، كان الامير ابنًا لكيان مظلم ما، الطريقة الاخيرة لتنجبه امه ذكرًا قويًا حاكمًا وزعيمًا لعشيرة كبيرة-

ولا احد يعرف سوى عرّافة واحدة، وهي من كانت فوق رأسه تطقطق الرصاص كتعويذة مضادة مؤقتة-

اما حل عقدته الكبيرة هو اعطاء (الأب) الاعظم، ما أعطاه لأمهاتهم.. طفل..

ها قد احضرها (له) سمعان، العروس الجميلة الغريبة عن الوطن، المعصومة البريئة، روحها حمامة بيضاء، ووجهها انعكاس منير لملائكة هجرت هذا المكان المظلم-

حرفيًا- القربان الذي كان سيقدم للنار..

هكذا قالت "العرافة".. هكذا "وجدوها".. هكذا احضروها- ولهذا "احضروها"، البنت الموازية للأمير، العذراء التي كان عليه الزواج بها ولم يستطع جلبها بنفسه من بلدها القاسي القريب من العين والبعيد عن اليد-

هي حرفيًا زوجته هو، وسمعان الموكل بإحضارها بحكم انه على عكس الامير (من ثوبها)، أي انه قريب لها، وابن طائفتها والاهم انه يستطيع العبور بوجهه الى مدينتها ولا يلتفت اليه احد..

وسمعان هذا افسد الميثاق والعهد.. بسببها. والأمير خسر أمل النجاة بعمره.. بسببها.

بسبب انها اغوته.. وانها فتنته..

والآن واقف امام فراشها قلبه دافئ وعقله ساكن، لا يشعر بغيظ ولا غضب..

فكيف لانَ حتى هانت عليه خساراته؟ هل تعني له حتى ينشغل بها؟ هل من عادته اصلًا التفكير بشاعرية مرهفة؟

ربما اول ما فكر به عقله المظلم "العرافة جلبت لي البلاء وليس الدواء" ككل امرأة عرّفته عليها وحاول النجاة بها، ولم يحصل الامر..

لكن..

لا حاجة لسبب او منطق حتى تراوده مثل هذه الأفكار النقية كنقاء ماء الثلج المنصهر في الأنهار في عز ابريل-

ونعم تلك الأفكار تعتبر نقية عنده- أن يصبح القربان الذي من المفترض ان يذهب فداءً له- هو ما سيفدي ذاته من اجله.

هل لا يريد اذيتها؟ يريد اذيتها. كان لتكون منجيته.. وتلفت.

اذًا، هل يستطيع اذيتها؟

بما انه لم يعد يستطيع تقديمها كقربان "للنجاة"، فالبنت التي من المفترض انها عروسته، صارت امرأة رجل ما..

وليشهظ ان كان قادر على الانتقام منها وممن خرّب كل الوصفة، تقدم، جلس الى جانبها حيث تنام، ظهرت ساقها المكشوفة من بين اللحاف وعباءتها-

برؤوس أصابعه جرّب لمسها، فتحركت واخفتها..

ليس بكيفها..

قام برفع كل اللحاف يكشف عن جسدها واضحًا، وخصلات شعرها النائمة على كتفها ازاحها لتظهر بالكامل-

في صمت الغرفة سمع نبض قلبه يرتفع، ذلك النبض الذي لا يرتفع الا بحالة السكر الشديد او التأهب..

سئم من النظر الى شاماتها المعلقة كالنجوم على كتفيها وعنقها، كما سئم من نظراتها التي لاحقته طوال الايام الماضية، فمد يدها يفردها فوق عباءتها الشرقية-

وزحلقها فوق بشرة انعم من الرخام العاجي، الى ان استقرت عند ميلان خصرها..

فجأة أمسكت سالومي معصم يده عنها ونهضت عينها في عينه-

ضربت يده بعيدًا عن جسدها، وفورًا قبض عنقها الرفيعة بيده الأخرى وثبتها بإطار السرير المنجد خلفها-

ما زالت تنظر اليه بتحدٍ، ولا تعبير واضح يصله من وجهها الثابت رغم ثورانه وعبوسه..

حتى سألته-

"ماذا فعل لك زوجي لترد بكل هذا؟"

شد قبضته، لدرجة انها شعرت بالاختناق وتوقفت عن الكلام برغبتها-

قال "ليس- بزوجك"

فأغمضت عينيها وارخت جسمها..

تركها ونهض..

لتقف فورًا امامه تمنعه من الانتقال الى غرفته، رفعت رأسها ووقفت على رؤوس اصابعها لتتساوى مع مدى بصره، والقت ما عندها-

"اكتفيت من البقاء معلقة القدر، واكتفيت من ربط حياتي بمصير الرجال، ان كان ابي وان كان زوجي وان كان مزاجك انت أيها الأمير المزيف، افعل ما شئت فلم اعد اهتم سوى بنفسي.. اما إن كانت حتى هذه النفس لا تريدني ولا تساندني لتمكيني في حياة مستقلة آمنة- فأنا ايضًا سئمت من التشبث بها.. هيا ان كنت ستفعل شيئًا افعله الآن ولا تطل.. لست خائفة منكم!"

تخطاها ودخل غرفته من الباب الفاصل بينهما، دون الابداء بأي رد فعل او جواب، تماسك محافظًا على وجه خالٍ من التعابير وانفاس منتظمة..

صمد حتى اقفل الباب وصار وحده في الغرفة، لتنحل عقدة حاجبيه وتظهر ابتسامته كرد ساخر من كلماتها وشجاعتها.

ثم تنمحي ابتسامته لملاحظة تلك الرجفة الخفيفة بيده التي امسكت عنقها، فكورها بقبضة ليتحكم برجفتها فارتجفت اكثر مم اقلقه وجعله يعيد التفكير بكل حرف من تلك القضية.

هل هي؟ انها هي..

انها مخلّصته.. وانهم اتلفوها..

فازداد جزعًا وازداد ارهاقًا وحقدًا..

فجأة ضربت سالومي الباب ضربة قوية جعلته يجفل وينهض من مكانه ليفتح الباب بينهما-

قالت له "سأكون لك مثل البلاء ان لم-.."

اغلق الباب واقفله قبل ان تكمل جملتها، لا حاجة لتكمل، هو فاهم انها- بلاء، وليست "مثل".

فمن يعرف اكثر من اللازم، يتعب.

•••

صباح اليوم التالي لم يأتها الفطور، ولا ماء الشرب، بل لاحظت انهم قد احضروا لها ثيابًا لائقة، وقاموا بتسخين الماء في حوض الاستحمام-

السيدة التي استيقظت عليها واقفة فوق رأسها، اخذتها لتستحم وترتدي ثوبًا ساترًا، وبقيت معها حتى وهي تغتسل عارية.

سالومي مزاجها معكر، أصبحت غاضبة، حاقدة على كل ما يسمى ذكرًا في هذا العالم..

غاضبة ومنغمسة في التفكير حتى لم تلاحظ انها تكلمت بصوت مسموع-

"الأفضل لك ان اجدك ميتًا يا سمعان، والا اقتلك بنفسي"

"لا تلفظي هذا الاسم الملعون هنا، احذرك"

"من جهة ملعون، هو ملعون، لكن رجاءً أخبروني ما اللعنة التي فعلها؟"

تلفتت السيدة حولها، وقامت بفرد المنشفة لتنهض سالومي وتلف جسدها بها، همست لها-

"ان كان سيوقفك عن التساؤل، سأعطيك لمحة- ما فعله امر كبير، كالخيانة. والآن اصمتي"

"خيانة ماذا؟" اعادت السؤال بإصرار

"العهد"

"أي عهد؟"

فتركتها وخرجت تنتظرها لتلبسها ثيابها وتأخذها الى موعدها المنتظر..

•••

مشت السيدة معها في أروقة القصر الذي تشاهده لأول مرة بعد ان دخلت اليه نائمة وحبست فيه لأربعة أيام في غرفة موصدة-

نزولًا عبر درج طويل، الأمير ينتظر، ارسل لها يده يساعدها ان تخطو اخر درجة بأمان لارتفاعها، لم تأخذ بيده، فأخذها رغمًا عنها وأحاط خصرها بذراعه..

"من تظن نفسك؟" سألته "من اين لك كل هذه الثقة؟"

يمشي باستقامة كأنه امير حقيقي، احدى يديه خلف ظهره، والثانية تحمل إجابة سؤالها حول خصرها-

بيده خنجر يخفيه في كمه، يوجهه اليها، وحدثها بينما يسيران عبر بوابة تقود الى الخارج-

"هل تثقين بمجرم؟" سأل

"بك؟" ردت متحدية غير خائفة منه ومن خنجره

رد ببرود "بمن أضعته"

"زوجي؟" هنا تزعزعت اعتقاداتها ورفعت رأسها تنظر مباشرة في عينيه، تحت الضوء الواضح في النهار بهذه الثياب الرسمية المرتبة وذقنه المرتفعة، الوضع جاد وله إحساس عجيب يستفزها-

استفزاز كأنها ليست غير خائفة منه فحسب، بل انها متلهفة للمشاهد القادمة، للحوارات، وللقصة بأكملها، شيء غريب يوسوس لها لتترقب للقادم وكأنها في مسرحية وليس في مشهد حياة جاد.

تلك هي سالومي المعتادة..

تابع الأمير سيره وكلامه-

"بإمكاني اخبارك مفصلًا ما اقترفه ذلك ال-.. شيء" امسك لسانه عن اللفظ القبيح بحضورها، وتابع قائلًا-

"ولا اظن أن شيئًا مثله يستحق تفكيرك فيه وانتظارك عودته كل هذه المدة في منزلك وحيدة ومغلوبة- انت لو تعلمين ما الذي كان يضمره لك لشكرتني على سحبه من حياتك"

"وكأنك نور حياتي" تمتمت ساخرة

فاستفزته، نظر اليها "انا كذلك"

ضحكت، مم ازعجه ليرد عليها "لا تتعالي فهذه التعابير المبتهجة ستنمحي حين تسمعين الحكاية"

"ماذا تنتظر اذًا، أخبرني، انا بالأساس هنا لأسمع"

"هل تصدقين الخرافات؟"

"انا بالاساس مولودة في خرافة"

نظر اليها، صمت قصير، تبدلت ملامحه وراقت، ليس بارتياح، بل بأسف، ومن بعد الصمت أومأ "هو كذلك"

"تكلم مثل الناس بوضوح وأبعد هذا الخنجر عن ظهري، اطمئن فأنا هنا برغبتي الكاملة- هذا ان كنت تظن أنك اختطفتني بقوتك أيها الـ-.. أمير- انت فقط وفرت علي عناء ايجادك، فشكرًا على التوصيلة السريعة والامنة. بالمناسبة لي شغل معك الى جانب سمعان- قف وانتظر دورك"

تعجبه شجاعتها، وتعجبه ثقتها، من جهة ثانية يبغض بشدة هذا الاعجاب وهذا اللين في قلبه تجاهها، كما كره انغماس عقله بصورتها النقية منذ أيام دون مبرر.

فقال "نحن الآن متجهان حيث- هو"

"سأقابل زوجي اخيرًا؟!" تساءلت بلهفة واضحة

عبس واستاء من لهفتها البريئة. شد بمشيته حتى كادت تتعثر من ملاحقة خطواته..

..

في آخر البستان مكان يشبه المغارة، له بوابة من حديد، وعليها حراس-

قام الموجودين بالوقوف منتصبين حين طل عليهم (سيدهم)، وسالومي تنقلت بنظرها بينهم جميعًا مذهولة مم تراه..

"ويلاه في أي زمن نحن؟" تمتمت متسائلة

فُتحت البوابة، ومشيا عبرها، فبدأ المكان يظلم كلما تعمقا، الجو بارد رطب، وصدى الأصوات المترددة فيه غير مريح، فرفعت يدها تضعها على قلبها المرتجف-

ليسرق الأمير نظرة الى ذلك- القلب.

اما سالومي فلن تنظر بنظراته وتفكر كم هو جذاب (شكلًا) كما يفعل هو الآن، فلديها ما يشغلها ويحرق تفكيرها-

ستقابل زوجها المختفي، ستقابله في مكان لم يكن ليخطر على بالها ولو انتظرته مئة سنة!

المكان هنا اشبه بسجن مرعب قديم، ومنظر السجناء الذين يقتربون من القضبان لمشاهدتها جعلها تشهق من الخوف وترتعش-

فقام الأمير بإغلاق عينيها بيده، وضمها يسير بها بأمان..

لم تقاوم ولم تنفعل، فقد نفعها ذلك وساعدها..

..

في آخر السجن الذي يشبه المغارة، تقع زنزانة منفصلة، يجلس فيها رجل، كان يُقال عنه رجلًا، الآن هو ليس الا جسد مثقل بالجراح والندم، لا ملامح واضحة في وجهه-

ولا حال له لينهض على صوتها حين نادته بذلك النطق الصريح الذي تزوجته عليه-

"عبد الله- سمعان شكيب سمعان"

رفع رأسه، وتحركت لتقترب منه، فأمسكها الأمير عنه، هنا فهمت لماذا يضع خنجرًا في ظهرها..

سأله الأمير "هل أخبرت (أمة الله) لم هي موجودة هنا؟"

تمتم سمعان بصوتٍ يصفر بسبب الجروح والضربات في عنقه ورئتيه "حصلت عليها بعد فوات الأوان، ماذا ستستفيد؟"

"انت ماذا فعلت بطمعك وقلة شرفك؟ وعدتك بعمر وسحقت لي عمري!"

آخر جملة افلتت منه صارخًا بكل غضب وحقد..

سالومي نقزت من صوته وفهمت شيئًا فشيئًا دوافع حقده..

"هل كان يستحق؟" سأله الأمير-

وأومأ سمعان "فوق ما تتصور"

بعد شهر من التعذيب القاسي، هل ستفرق مع هذا الرجل ان صرخ في وجهه او حتى قتله؟

لم يعد ينفع..

لكن ينفعه رؤية وجه سالومي الناعم، هذا الوجه الذي استمر بالتفكير فيه وترديد صفاته حتى لا ينساه، الوجه الذي منحه الصبر في أصعب الليالي وأكثرها قسوة-

فاقترب من القضبان، ورفع جسده ليمد يده محاولًا امساكها، والأمير يرفض تحركها، يحبسها بين ذراعه وخنجره..

هسهس سمعان بتهكم "لا يفرق من ذهب، كان على احدهم ان يذهب- وانتَ قضيت عليها بيدك.. ما شأني انا وانت من كتب العهود بالدم؟ كنتُ مجرد ساعي بريد احضر لك طردك، والآن فِ بوعدك تجاهي"

سالومي مشوشة وضائعة بين كلامهما لا تفهم شيئًا يُقال..

والأمير تركها ليسحب سمعان اليه من بين قضبان الزنزانة، ليهمس متألمًا ونادمًا "شأنك انك نقضت العهد ومددت عينك الفاجرة على ما لا ينتمي اليك!"

ضحك سمعان، وأشار الى سالومي "الرب شهد علينا في حضرته بينما كنت انت تختم بدمك على عهود الشيطان.. فبعهد من ستكون ولمن؟"

وسالومي فقط تنظر اليه وتعذره على حاله المهشم، لم تكن تفهم ان تعابيره دقيقة وليست مجازية..

الامير لم يحمل حقده وغضبه الثائر المعتاد، انه حزين ومتألم، يتساءل عن ذنبه وعن الخيانة التي طعنه بها من وثق به-

"كل شيء مدبر، كل شيء مخطط له، وكل شيء سار بثبات، نلتم ما وُعدتم به ولم انقض وعودي، ماذا فعلت انت؟ اغتصبت بغير حق ما وُعدت به انا"

"انها لا تُقاوم" ابتسم سمعان يرد على الامير "انها لا تُقاوم، آه لو رأيتها، آه لو لمستها وشممتها وسمعت تنهيداتها العذبة.. كنت ستبيع أمك وليس روحك فقط"

"سمعان!" تعجبت من كلامه القذر عنها واحست بحزن عميق يذيب ما بقي من قلبها

"ماذا؟ انتِ" وأنكر اسمها

عبرت عن نفسها بسذاجة غير مصدقة "انا سالومي، زوجتك، كيف تتكلم عني بشناعة؟"

"زوجتي؟"

أومأت "زوجتك"

نفى ذلك "زوجته هو"

"من؟ هل تسخر مني؟ هل اصبت برأسك واصبحت تهذي؟"

توجه للامير "اخبرها انك قرينها حسب روايتك السخيفة عن تعويذة وُلدتما بها"

سالومي تعرف عن نفسها، وتعرف انها لم تخبر احدًا عن تلك القضية التي لاحقت امها، سمعان من اين يعرف؟

التفتت الى الامير الواقف بثبات "من وُلِد بتعويذة؟"

اجابها سمعان "كلاكما"

"سمعان" عيونها تفسر كل الألم والخيبة التي لا تقوى على نطقها، مع ذلك لم يتأثر ولم يتحرك

حاول سمعان فتح البوابة "هل انتهينا؟ ها هي لكم"

"ألن تطلب منها السماح على الأقل؟" سأله الأمير

"لا تخصني"

تجاهلتهما سالومي واقتربت من قضبان البوابة "انا انتظرك منذ شهر وابحث عنك مثل المجنونة، ثم لا اعرف كيف وصلت الى هنا ونُقِعت في غرفة عالية ببيت هذا الرجل الغريب لأيام فقط من اجلك! والآن تقول لا تخصني؟"

"هل من اجلي؟" رد واحست بسخرية من نبرته

أومأت "من اجلك"

"بل من اجله هو!" وأشار على الأمير

فأكد الأمير ولم تتحرك منه شعرة "من اجلي"

أومأ سمعان "معه حق، انت زوجته هو وانا وكيله"

"زوجتي" نطقها بذات النبرة المستفزة الثابتة

التفتت سالومي اليه مصدومة، فغرز رأس الخنجر في ظهرها، وانحنى اليها، قام بتقبيل وجنتها ولم تستطع ردعه-

ذلك الخنجر غُرِز في قلبها وليس في ظهرها.

والأمير مال عن خطته وانجرف خلف هواه ليقوم بتقبيلها بحق وصدق، غير آبه ان كان سيهين روحها بفعلته هذه.

من بعد تلك الثواني القصيرة له المخطوفة من سور الجنة، القى بيدها مفتاح بوابة الحبس-

ثم خرج وتركها امام الزنزانة..

فعلته هذه ستكلفه عمرًا..

علّق سمعان بسخرية مهينة "والدك يعرف، عمك يعرف ايضًا.. هل فهمت لم احنى عنقك خوفًا من الا توافقي؟ هذا الامير وعدهم بالكثير، وعدهم بالتخلص من شؤمك، على الارجح وصلك صدى هناءهم وسعدهم.. باعوك يا سالومي، من ائتمنتهم على روحك باعوها.. وانا.. انا اردت حفظها.. احببتك، تمنيت لو اقدر على حمايتك، قلت لك اذهبي اهربي.. لكن انظري، من يقف في وجه ابن الشيطان بحد ذاته؟ بنته! الاقوى منه!"

عيناها تدمع ووجهها محمر، صدرها يرتفع ويهبط مرددًا انفاسًا تاهت بين الخوف والجزع والإهانة، كل ما سمعته، كل ما رأته والآن شعرت به-

زوجها ليس زوجها، الأمير ليس امير الحكاية، أُتلِفت روحها بسبب من ائتمنتهم على روحها- يوجد قربان، يوجد بيع، توجد عهود، سجن، تعاويذ، فوضى..

فوضى كبيرة لا تستوعب منها شيئًا..

"حقيقي؟" سألت سالومي- زوجها- سمعان

"حقيقي. انه رغم استحالة تصديقه، حقيقي"

"كيف بعتوني للغريب وقد ائتمنتكم؟"

تحس بروحها تتمزق لتخرج من جسدها المنهك، وهو جامد بارد لا تثيره عواطفها وانهياراتها- غير مهتم- ليس بسبب انه عديم الاحساس، هو فقط يعلم انه خاسر لا محالة..

"انا غريب عليك، وانت غريبة، ما بيننا كان شخبطة على ورقة، ولا اعتقد انها ستجعلنا اقرباء.."

قاطعت كلامه المسم "كان ميثاقًا امام الرب وشهوده، لم يكن شخبطة"

"والرب غريب، انه في مكان ما في السماء او لا ادري. انا مسجون وروحي عُلّقت في هذه المغارة، انت حرة وروحك رفرفت في أروقة قصره العالي- اسعدي، ما بك؟"

"ذابت ركبتاي من الصلاة لإيجادك، وتقول ان الرب غريب ونحن غرباء"

"ركعت لتصلي؟" واضحة في نبرته السخرية "انت؟"

"صليت لأجدك" اعادت عليه "دموعي تشهد صلواتي سمعان"

بالنسبة له، ولِمَ يعرفه- فإن امرأة مثلها بهذا الجمال وبهذا الوجه النقي والصحة الجيدة- لا تبدو وكأنها كانت تبكي، لا تبدو مرهقة، ولا شاحبة- انها مشرقة وحية!

امرأة لم يستطع ابقاءها بعيدة عنهم.. لقد وجدوها..

كما وجدوه بعدما خالف قواعدهم.. والآن يقدمها قربانًا للنجاة..

هو ينكر سالومي، وسالومي تنكر انكاره وتظن انه خائف فقط..

بينما هو مستسلم لخساراته وهمه الوحيد انقاذ روحه من حفرة الشيطان التي أوقع نفسه فيها.

اقتربت سالومي منه، فابتعد، ادار وجهه عنها..

ازداد بكاؤها حتى لم تعد تشعر بالدموع، وقالت بكل أسى-

"لا افهمك سمعان!.. والله لو تعلم كم ليلة وكم نهارًا انتظرت عودتك، صليت وصليت، تجولت في الشوارع مثل المجنونة بحثًا عنك وتفقدت الصحف كل صباح على امل ان القاكَ.. لم اتخلى عنك ولم أيأس، بالرغم من انهم لم يتوقفوا عن ردعي واقناعي بأن انساك- قالوا كيف تسعين وراء رجل عشت معه ليوم واحد فقط ثم اختفى! اذهبي وعودي الى عائلتك! لكن خشيتي من العار واملي بلقائك ابقاني هنا.. الآن بلحظة تقول ان كل شيء كذبة؟؟"

"كذبة!" صاح في وجهها "كذبة ونشوة قصيرة دفعت ثمنها روحي!"

لم يكتفي وزاد "انت امرأة كالبلاء، مثل للسم تميتين من يتجرأ على الاقتراب منك مفتونًا بحسنك"

"انا.."

لم يدعها تكمل وردد لتستوعب ما يقوله "انت بحق زوجة ذاك الامير الذي سيقبض روحي فقط لانني انجرفت بفتنتك ولم اسلمه عروسه العذراء لينال منها ترياق سمه الذي يفتك بعقله.. انت مجرد قربان للنجاة سالومي، وانا اتلفت الامر.."

"تكذب، فقط لابتعد واعود"

"يا بنت، هذه ليست حبكة من حكاياتك الخيالية في مشغل الخياطة، انها ما حصل"

كأن رأسها هُرس اسفل القطار، لم تستوعب الحادثة ولم تستوعب موتها، وكل ما استطاعت نطقه- "هل بعتوني حرفيًا؟"

أومأ لها، ابتسم وجلس في الزاوية، الآن فهمت حاله المجنون، وفهمت أكثر حين قال-

"من فضلك افتحي البوابة واذهبي الى فصلك الموعود"

ليس عندها ما تقوله ولا ما تضيفه، ضاعت منها الكلمات متخيلة الرعب الذي يصيب انسانًا تم وضعه في موقف كهذا، ولو انها من خسر ولو انه من ضحى بها، ما تزال تلتمس له الاعذار وتحاول التبرير..

قُهرت ظُلمت، وشعرت بالعجز، فوقفت امامه تسأله "هل كان مخططًا له منذ البداية؟"

أومأ مؤكدًا، فقالت "تزوجتك امامهم زيفًا لأجيء معك الى هنا وتؤدي الامانة، ولم يهمك حقًا من أكون ومن لا أكون"

"يهمه هو"

"هو من؟ الأمير؟"

أومأ، فسألت "لماذا انا؟ ولماذا بنت بعيدة وغريبة عنكم؟ ماذا فعلت لكم؟"

"اسأليهم هم، نخبة المجتمع الراقي"

لم يبقى لها قلب حتى تشعر بالألم، فألقت بمفتاح البوابة اليه دون فتحها، وخرجت..

•••

استنشقت هواءً نظيفًا ولم يكفيها ليعيدها الى وعيها، فمشت عدة خطوات-

لمحت الأمير واقفًا عند مصطبة عالية في البستان، فتوجهت اليه..

ما ان رآها مقبلة طلب من رؤوف المغادرة، وادار وجهه متحفظًا على تعابير وجهه المستاءة من فعلته تجاهها-

استاء انه انجرف وقبلها، انه اظهر الود، ولم يستأ من مخططاته وغاياته..

وصلت سالومي اليه، امسكت بكلتا يديه وجثت على ركبتيها تتوسل ان يغيّر رأيه ويتركها تذهب، الا يجبرها والا يؤذيها بكرامتها وسمعتها. فيكفيها ما اقترفه سمعان بحقها..

توسلت وتوسلت، بكت وترجت.. وهو واقف متحجر كتمثال الغرغول القبيح!

لم تحصل على رد منه، واحست ان كبريائها سال على الأرض كفاية، نهضت وتركته..

فسألها بصوت ثابت خالٍ من المشاعر-

"الى اين ستذهبين ان تركتك تذهبين؟"

عادت اليه وصاحت في وجهه بكل جسارة-

"الى جهنم ولا ابقى تحت حكمك!"

"كانت جهنم ستنطفئ لو لم يتلفها ذاك ال.."

قطعت كلامه "لست دميتكما، انت وهو على قاع جزمتي"

قبض ذراعها بعنف يقربها اليه "نلتِ حدكِ من احترامي لك كامرأة، لا تتمادي"

"عن اي تعويذة تتحدثون؟ واي عهد مختوم بالدم هذا؟"

"لست مضطرًا لأبرر لك!" رد عليها بذات النبرة الغاضبة

انخفض صوتها من شدة ارهاقها وقالت آخرًا-

"انا ماذا فعلت لكم؟ من اين ظهرتم في حياتي؟"

نظرت اليه في قلب عينيه، تلك النظرات توتره، تخيفه بعض الشيء، نظرات لا مهرب منها-

سألته "ماذا ستفعل بي؟"

برأسها الف احتمال مؤلم ومهين، وبرأسه هو خدر يجعله لا يجرؤ على اذيتها او اسكاتها.. هو الخائف.

للصدق لو مر فرد من العائلة ورأى هذه المرأة الأجنبية تصيح في وجه- سيدهم- وهو واقف حاله حال شجرة الرمان اليابسة لصارت هيبته مداسًا..

هم مجتمع من هذا النوع، مجتمع منكفئ على ذاته، همه هو الأعراف القبلية المنقوشة على جلودهم منذ اول جد لهم، وهمه هو الحفاظ على منصبه امام الشيوخ ليبقى اميرًا يستحق مكانته.. ولو كانت شرفية- يبقى امير.

ومن اجل كل هذا فضّل الأمير الصمت واوقف الحوار معها.

كرهت كلاهما، سمعان والأمير مجهول الاسم، فقالت تنهي هي الحوار معه-

"عسى ان يخرج ذلك الملعون من جحره جثة بعدما ينفجر قلبه ويهلكه سمّه كما اهلك قلبي.. ولتبتلعه الأرض مقبورًا، وليبلعك جبلك حيًا- فلا سم يفتك بظالم مثلك! سيدور ويدور في رأسك حتى تتمنى الموت كرحمة لحالك.. انت حاول ايذائي فقط وسترى مني أشر الشرور أيها الأمير"

لم يرد بحرف، نجح بصعوبة الا يبين الرعب على وجهه، وسالومي فهمت ان لا رجاء لها عنده، وانه لن يطلق سراحها، انسحبت ونزلت عن المصطبة، مشت خطوتين-

قبل ان تذهب ولو ان لا مكان تذهب اليه، قال "لو كنتِ قادرة على ما تهددين به ستصيبين اولًا من اذاك وباع روحك لينجو بنفسه"

ردت "لا تستعجل أجلك"

ظن انه سيغلبها بسخريته، لكنها غلبته وارعبته بتوعدها.. شيء ما يخبره انها لا تتكلم عبثًا، وسيُؤذى لو اذاها-

"اقل ما يستحقه الموت على جرمه" قال يتقصد سمعان

اخذت سالومي نفسًا وردت عليه "وانت ماذا تستحق؟"

سكت..

ثم أجاب "ان.."

قاطعته "لن تغيّر قدرك ان قتلته او حتى قتلتني انا، ما سيحصل هو انك ستخلق لنفسك دمارًا فوق دمارك.. من سينجيك؟"

ضاق من كلماتها المبهمة وتهديداتها المريبة، فمد يده ليمسك ذراعها وتستدير اليه-

"ان كنت ستدخلين معي رأسًا برأس سأدخل معك رأسًا برأس حتى اكسر غرورك وعنادك"

"وماذا ستفعل اكثر من هذا؟"

"اكثر من كوني زوجك الحقيقي؟"

فهمت ما يرمي اليه، وخافت، اي امرأة سترتعب ان هددها رجل غريب او حتى قريب بالاعتداء عليها- لا يهم تحت اي مسمى او وصف او غاية-

ما سمعته منه انه لن يتراجع..

"قم بلمس شعرة مني وستتمنى يومًا ان يُقطع رأسك المسكون أيها الأمير، سيمتلئ رأسك بأصوات الهلاك المسموم، وستسمع أزيز النار تحرق ملكك، وصوت انين الرجال ونواح السيدات وهم يحترقون امامك ولا حيلة بيدك.. لن يُغفر لك ولن تُرحم أيها الظالم الخسيس- ستعيش كفاية حتى ينساك الموت ويتركك متلوٍ بآثامك تحت قدماي تتوسل لو انجيك! انا سالومي ولست امرأة احد!"

سالومي..

لعنة سالومي حطت عليه..

ربطت لسانه، قيدت روحه، هشمت قلبه، وأرهقت تفكيره..

ولسالومي لعنة حقيقية هي نفسها لم تدركها قبل الساعة.

مثل كابوس طويل مع كل هذه الاحداث، الدنيا تدور ورأسها يدور، تشعر بأطرافها مخدرة، وبقدميها تفقد القدرة على الثبات-

بلحظة سقطت مغمىً عليها بين ذراعيه..

•••

"لم تمت" نطق الأمير وصرف الجميع من الغرفة حيث ترقد نائمة

جلس الى جانبها، وتأمل في وجهها-

"والله انا من سيموت ان بقيتِ تحرقين روحي بنظراتك السوداء"

ثم قام برد عبائتها التي فتحتها الممرضة لتفحصها بعد ان خلصوها من فستانها الذي كان ضيقًا جدًا من عند الخصر، والذي ربما بسببه فقدت الوعي-

ابقى يده فوق العباءة، تمامًا حيث يستشعر نبض قلبها الضعيف.. انه ضعيف حتى تكاد تظن ان لا قلب لها..

هل تخاف عليها أيها الأمير؟ يسأل عقله..

فيجيب قلبه- أخاف منها.

تبعث له روحه- لنبقى..

لنرقد الى جانبها.. بسلام..

عقله المسؤول عن الدفاع عنه، وافق- لنرقد بقربها، احرقتنا بخوفك..

ليرد قلبه المتلهف- انا مستسلم.. ونعسان..

مال الامير لقربها، متردد ومتأهب للفرار بحال استيقظت، هو بالاساس لا يصدق انها نائمة بالفعل، فقرّب يده من وجهها-

لم تعطي ردًا معاكسًا.. لمس وجهها، بقيت ساكنة..

تمنى لو تبقى يده معلقة على خدها ورأسه على طرف مخدتها. لكن ما التمني وهو بالحق والفعل رجل غريب عليها تسبب بمأساة صعبة لها..

انا زوجها- ينطق ضمير المذكر الشرقي فيه كتبرير مسلح عما يجنيه بحقها-

يرد قلبه المائل نحوها- انت خاطفها، طالما هي لا توافق عليك، انها ليست لأحد..

هبط رأسه فوق الوسادة وقد انهكه التفكير واحرقه ظلم القدر له.. كان سينجو بروحه.. كان سيقف على قمة العالم.. كان سيتحرر ويعبر الى الفردوس الموعود-

عبرها..

العبور هو سالومي..

وسمعان اتلفها..

لم يكن يعرف انها امرأة بهذا القدر من التأثير وهذا القدر من الجمال والذكاء.. والأدهى- انها ألعن منه-

لو عرف انها كذلك، لعبر من أجلها السبع قارات وليس الحدود الجنوبية فقط!

بلحظة ادراك مُرة لاحظ انه يبكي، دموعه تسقط على كتفها بينما يتأمل في وجهها الأبيض آسفًا، فنهض قبل ان تفطن له ودخل غرفته يوصد الابواب بينهما..

اصابته لعنتها.. لقد عشق الامير..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي