مُدخل التطهير من العار
هدوء عميق و صمتٌ مريب ، أجواء ساكنة و راكدة بطريقة مربكة و كل ما يُسمع بين كل هذا السكوت هو مجموعة الأجهزة الطبية التي تصدر اصواتاً خافتة تكاد تكون متواجدة بينما اتخذت هذه الاصوات المصدرة نغمة واحدة متناسقة و ثابتة بشكل مثير للأعصاب.
حيثُ خمسة هيئات مختلفة الأحجام و الأجناس ، بين امرأة و رجل تراوحت أعمارهم من الثلاثين و حتى الخمسين جميعهم يلتفون و يحومون حول الطاولتين المغلفتين بزجاج مغلق باحكام يحمي ما يقبع بداخل ما تماثل طاولة العمليات الجراحية.
ما اتفق عليه الخمسة اشخاص هو الثياب التي يرتدونها في نفس الشكل حيث أن مآزرهم البيضاء و الطويلة قد اتخذت دور المعطف في تغطية بذلتهم الطبية و اياديهم الحاملة لألواح الكترونية مختلفة الكتابة قد تم حمايتها بواسطة قفازات بلاستيكية زرقاء اللون كما زجاج النظارات الشفافة التي تتثبت على جسر أنف كل واحد منهم.
تحركاتهم كانت هادئة لا تحوي صوتاً و بدوا و كأنهم مجموعة آلات لا تحوي روحاً كل ما خلقوا من أجله هو العمل و مراقبة الجسدين المتصلين ببعضيهما البعض لما يشابكهما من اسلاك و كيبلات تم حشرها في كل جزء من أجزاء جسديهما العاريين.
جسدان أنثويان مختلفي الحجم ، الذي على اليمين ذو بنية جسدية طويلة و رشيقة بعضلات مشدودة دلت على التدريبات التي خضع لها صاحب الجسد و على الغرار الآخر صاحبة الجسد الثاني كانت هزيلة تكاد تُرى لضآلتها إلا أنه سواء كان جسد ضخم أو نحيل كلاهما امتدا على طاولة عمليات يتم العبث عليها بتركيبة جسديهما و كأنهما لعبة دون روح و بالفعل فالجسد الأول كان فارغاً من اي روح لا يحوي غير كماً معتبراً من الطاقة يكفي حتى يدرسه القائمون و المسؤولون عليه.
الأضواء الخافتة و المسلطة على الجسد الرياضي انعكست على بشرتها اللامعة بينما قد حجب أجفانها المغلقة لون عيونها الذي كان في وقت ما يشابه السائل التي تقبع بداخله الثانية في زرقته و شعرها حالك السواد قد تناثر من حولها و على الطاولة لشدة طوله.
كانت الوحيدة المسلط عليها الضوء فالأخرى و لسوء الحظ أو لحسنه كانت في الزاوية محشورة وسط الظلام الذي لا يميز هيئتها و كل ما يصل بينها و بين الأولى هي الاسلاك الممتدة بين الطاولتين و الأجهزة التي ترسل الحمض و الدم من الجسد الأول الى الثاني.
و كذلك معه الطاقة السحرية.
لقد ظل الأمر على ذات الحال طوال السنتين السابقتين وها هو ذا يستمر لبداية هذا العام كل ما يحدث داخل هذه الجدران الواسعة هو تبادل الأخذ دون العطاء بين الجسدين.
حتى فقد الجسد الرياضي صحته و أضحى أسود البشرة شديد الجفاف حتى و ان بقيت آثار العضلات مشدودة الا أن الروح التي غادرته كانت الشيء الوحيد الذي يملأه سابقاً.
«التقدم بطيء و لكنه يشكل فارقاً ، جسد التجربة باء يتخذ هيئة صحية أكثر من أول مرة أحضرناه فيها و هذا يعني أنه يستقبل و يمتص ما يتم منحه له من الجسد ألف فنلاحظ انعكاس الأحوال طوال الأيام التي راقبناه فيها.» أحد الأطباء المسؤولين عن التجربة قد نبس بصوت عملي رسمي خرج جامد و آلي.
«المشكلة ليست هنا ، المشكلة تكمن في كون السيد قد بدأ يفقد صبره يقول أن انشغاله بمشاريع أخرى لا يعني كونه قد نسي ورقته الرابحة التي يقوم بنسجها ، لا نعلم كم سيبقى جسد أركاديا فيليب مفيداً و هو بلا روح حتى يبدأ في التحلل.» الصوت هذه المرة كان خاصاً بامرأة و لكنه ماثل الرجل في برودته حتى و ان كانت تتحدث عن شيء يعني فقدانه فقدان حياتها معه.
«بقاؤه طول هذه المدة صامداً و نحن لم نحنطه حتى لهو معجزة يستحيل تصديقها! هل علينا أن نقول أن الرب يبارك مشاريع و هدف السيد النبيل؟»
«أو لربما هو يمهد لنهايته الشنيعة و حسب.» من تحدث كان شاباً في منتصف العشرينات بينما بصره مثبت على جسد المعنية في الكلام من خلف النظارة و التي أضحى النظر اليها مثيراً للشفقة من شدة روعه.
«أطبق فاهك فين ماذا لو سمعك أحدهم!؟» نهرته امراة تقطب حاجبيها صوبه بعدم رضاً عن ما تفوه به و لكنه تابع بكل برود و كأنه مغيب عن الواقع «كم هو مثير للشفقة و مدهش أن ترى كل يوم تدهور حالة شخص كان عظيم هذه الأرض و حاكمها ، هل تصدقون أنها هي حتى؟» رغم أن صوته خرج هادئاً لا يحوي اي شعور الا أنك من كلماته تستطيع استشعار الحسرة به.
«لا شأن لنا ان كانت أم لا كل ما يهمنا هو نقل ما بقي عالقاً بجسدها من قوة الى الوعاء بفاه مطبوق دون لغو الحديث هذا يا فين حتى لا نخسر رؤوسنا ابّان ذلك!»
صوت الأجهزة الثابت كان مؤنساً لفين و أفضل بالنسبة له من سماع نفس الاسطوانة كل يوم و قد تمنى أن يختفي جسد أركاديا فيليب الآن من أمامه بمعجزة ثم يأتي سيدهُ مُغتاظاً مُستشاطاً حتى يدفنهم في أرضهم دافعين ثمن استهتارهم الذي لا حيلة لهم فيه.
و لكنه سيتخلص من حياته و هو يرى وجه سيده غاضباً على الأقل.
هذا أكبر انتصار بالنسبة لفين و سيكون الأفضل ان حدثت معجزة و حدث حقاً ، سيصلي من أجل أن تنتقل روح أركاديا فيليب الى الجنة حتى و ان كان هذا مستحيلاً.
و لكن فين لم يدرك أنه لن يستطيع تحمل مسؤولية أمانيه في حال تحققت و لذلك تسمر في مكانه يرمش عشر مرات في الثانية و قد تملكه الرعب صاعقاً اياه ليجمده و يوقف الدم عن الضخ و الوصول الى عقله فتتوقف تروسه عن العمل و بالتالي تتوقف أفكاره في ايجاد طريقة للهرب من هذا المصير الجحيمي و الفرار بمؤخرته.
لأنه زميله في العمل قد هتف في ذعر بما رآه الخمسة جميعهم.
«جسد التجربة ألف اختفي!» هتف الطبيب آيرون بذعر و سبابته ارتفعت مشيرة على طاولة العمليات التي أضحت فارغة في ثانية رغم تواجد الغطاء الزجاجي الذي ينفي تماماً فكرة هروب ما يفترض به أن يكون جسداً ميتاً بلا روح تحركه.
طوال الثوان التي سبقت هتافه الجميع وقف متصنماً يشاهد الطريقة التي كان يختفي فيها جسد أركاديا لجزء من الثانية ثم يعود ليختفي مرة أخرى في ذات الثانية حتى توقف تماماً عن الظهور بعد أن بدأ ضباب بالتسرب من أسفل الجسد لم يلحظه اي أحد من اللذين كانوا منشغلين بالحديث في ذلك الوقت.
الضباب الأسود قد التهم الجسد و معه الطاولة التي حُجبت تماما و تم فصل الاسلاك بين الجسدين ما جعل الأجهزة الخاصة بقلب و أعضاء الجسد باء تباشر في الطنين دون توقف معربة عن الخطر الذي وصلتها اشارته يكاد يفتك بالجسد.
«ليقم أحدكم باعلام الرئيس ، فينسون تولى أمر تعديل نبضات القلب أنا ساحاول اعادة التنفس لها!» الأصوات اختلطت على فين الذي وجد ذاته يهرول الى الباب حتى يضغط على زر فتحه مراراً و تكراراً في هلع و عيونه توسعت بجحوظ و ذعر ملحوظين.
«انه لا يعمل ، حتى محلول القاريما المغمورة فيه لا يفيد في مساعدتها على التنفس!»
«انها تنزف!»
«ابحثوا عن جسد اركاديا فيليب بسرعة!»
الأصوات كانت مختلطة بينما ركض فين في الممر الطويل و البارد بأقصى سرعة امتلكها و صوت جرس الانذار الذي ضغط عليه قبل خروجه من الغرفة جعل الممر بأكمله يضيء بلون أحمر جذب انتباه كل شخص قبع في بقعة من بقاع الممر فتعالت الأصوات المتسائلة و القلقة.
«السيد! أخبروا السيد أن الجسد قد اختفى!» ما هتف به فين كان متقطعاً و غير مفهوم بالنسبة لأي من اوقفه حتى يكلمه فتركه مرة أخرى حتى يتابع ركضه الى خارج المبنى الأرضي بأكمله.
«السيد! اين السيد!؟» كان يصرخ بجنون و قلبه لا يتوقف عن الخفقان بأقصى قوة شهدها ، بؤبؤ عيونه يرتجف متحركاً في كل مكان حتى انتكس لثانية عندما لمح طيف جسد بيروس الخادم المخلص الخاص بسيده.
«بيروس! اين السيد اسرع و أخبرني!» هتف على عجالة من بعيد يلهث متمسكا بذراع بيروس عندما توقف أمامه يحاول التقاط أنفاسه بعد أن قطع مسافة طويلة حتى يخرج من مبنى المختبرات في الاسفل و يصعد الى الأعلى حيث المستشفى الذي شيده سيده بنفسه لغرض اسعاف المدنيين.
المدنيون الذين آذاهم بنفسه.
«مابالكَ أيها الطبيب؟» تحدث بيروس بهدوء شديد و رزانة بينما يحملق في حالة فين الهلعة بكل اتزان «لقد اختفى! جسد اركاديا فيليب قد اختفى فجاءة!» و ازاء ما يدعيه فين تلاشى كل ثبات بيروس و شعر بجسده يهتز منتفضاً بقوة و قد صاح في وجه فين بغيض«هل تدرك ما تقوله حتى؟ كفاك مزاحاً أيها الغر و أنت تعلم بالهلاك الذي سيحل بك!»
نفى الآخر برأسه مراراً يرد بصوت خرج عالياً دون ادراك منه«صدقني لستُ بكاذب ، انها حقيقة مفجعة!» صمت بيروس يشعر بالارتباك قد بدأ ينمل في أطرافه غير قادر على التفكير بحل لهذه المعضلة و طريقة يعلم بها من يقبع على بعد مترات منه داخل مكتبه.
«ماسبب كل هذه الضجة بيروس؟»
صاحب هذه الكلمات كان قد وفر العناء على بيروس للتفكير في طريقة تخوله للذهاب الى سيده و اعلامه فها هو ذا يقفُ خلفه و حذائه يطرق بلاط الارضية الذي يشابهه في لمعته بينما يتقدم من الاثنين و هالته المظلمة و الخانقة قد سبقته ، كانت مليئة بالوقار و الفخر ، الكثير من الحنق و انعدام الراحة التي شعر بها الاثنان عندما اقترب منهما صاحب السترة الرسمية عديمة الأكمام التي يرتديها أسفل ثيابه السوداء ، بيضاء كربطة عنقه و شعره ما جعل الاثنين يوقنان أن سيدهما يمتلك هوساً باللون الأبيض كما يمتلكه بالعلم.
عيونه كانت تغطيها طبقة شفافة من الزجاج الخاص بالنظارات الطبية التي يرتديها و يده ذات القفازات محشوة في جيب بنطاله ، قرمزيتاه كانتا تمران على الاثنين بكل هدوء تجردهما من اي ذرة ثقة قد استجمعاها قبل قليل.
«مالخطب سيد اوكومولي ، لما أنت هنا بدل مكان العمل؟» أمال رأسه بجانبية حتى يلقي نظرة أوضح على فين ذو الوجه المتعرق و الرأس المُطأطئ يعد أنفاسه و الثوان قبل أن يرمي القنبلة.
«سيدي لقد—
و لكن بيروس لم يكد ينتهي من مقدمته المستميلة حتى توسعت عيناه بصدمة و ذعر عندما لفظ فين الكلمات بسرعة شديدة مغمض العينين «لقد اختفى جسد اركاديا فيليب في منتصف التجربة يا سيدي!»
و رغم الصمت الذي حل على المكان طويلاً الا أن فين لم يجرؤ على اخراج انفاسه بعد بل ظل حابساً اياها في انتظار اجابة سيده الذي كان لا يزال واقفاً في مكانه دون اظهار أي تعبير يذكر الا أن الظل الأسود الذي خيم عليه و الهالة المظلمة التي حاوطته أكدت على أن هذا الخبر لم ينل اعجابه البتة.
«تقول أنكم فقدتم جسد صيدي الثمين اذن؟» التمتمة الباردة التي وصلت مسامع الاثنين جعلت فين يرفع رأسه لتلتقي عيونه بخاصة سيده المنكمشة اثر الابتسامة الجامدة و المظلمة التي ارتداها على شفتاه مُظيفاً؛
«لما لم تفقد نفسك معه اذاً يا سيد اوكومولي؟» رغم أن كلماته كانت عادية و نبرته كذلك لم تتغير أو تبدي كونه غاضباً بل على العكس تماماً هو قالها مع ابتسامة دبت الرعب في قلب الاثنين حتى قادت أقدامهما للارتجاف و الضعف و كأنها هلام لا يقوى على حمل ثقل جسديهما.
«المعذرة و العفو يا سيدي نحن لم ن…» الا أن طلب المغفرة الخاص بفين قطع في المنتصف من طرف سيده الذي وجه كلامه الى بيروس بكل هدوء و صرامة «قم بنقل السيد اوكومولي الى غرفة خاصة ليستريح بيروس لأنه لا يبدو بخير ، أنا سأذهب لفحص المكان.»
ثم استدار راحلاً يترك خلفه بيروس الذي انحنى باحترام يهمس بنعم سيدي ثم يفرد ذراعه ناحية الممر الذي أتى منه رئيسه و المقصود من فعلته اتباع فين له.
فين الذي وقف يراقب ظهر سيده الذي يبتعد تدريجياً و هو لايزال متصنماً في مكانه دون استيعاب للذي سمعه ، يستريح؟ ألا يجدر بسيده أن يفصل رأسه عن جسده مثلما يفعل المجانين عادة؟
و لكنه لم يرتح أبداً لما قاله سيده بل ظل في مكانه يأبى الحراك حتى بعدما نكزه بيروس في ذراعه قائلا بهدوء شديد «أرجو منكَ اتباعي لغرفة حتى تستريح فيها يا سيد اوكومولي ، السيد قد لاحظ هلعك و حالتك غير المستقرة ، تفضل من هنا.»
«هل أنت متأكد من أنك لن تقوم بقتلي هناك و حرق جثتي للتخلص منها؟» سأل فين بنوع من القلق فابتسم بيروس ابتسامة أربكت الطبيب أكثر من ما هو عليه «لا داعي للقلق فلو اراد سيدي فعل ذلك لقام به الآن و حالاً.»
هذا قد طمئن فين قليلاً بينما لم يكن له أي خيار غير اتباع بيروس حتى لو لم يثق به حيث بدى ما قاله منطقياً ، الا أنه لم يعلم أن الغاية كانت خلاف ذلك تماما لأنه لن يُقتل في مستشفى بكل تأكيد و لكن جسده سيكون وعاء تجارب مفيد و أعضاءه سيتم التبرع بها الا المدنيين المحتاجين.
و هكذا سيساهم فين في شيء على الأقل بعد فشله في مهمته الوحيدة التي وكلها له سيده.
سيده الذي هو ذاهب الآن ليطهر الباقين من عار فشلهم الحتمي في الحفاظ على جثة ميتة منذ سنتين.
حيثُ خمسة هيئات مختلفة الأحجام و الأجناس ، بين امرأة و رجل تراوحت أعمارهم من الثلاثين و حتى الخمسين جميعهم يلتفون و يحومون حول الطاولتين المغلفتين بزجاج مغلق باحكام يحمي ما يقبع بداخل ما تماثل طاولة العمليات الجراحية.
ما اتفق عليه الخمسة اشخاص هو الثياب التي يرتدونها في نفس الشكل حيث أن مآزرهم البيضاء و الطويلة قد اتخذت دور المعطف في تغطية بذلتهم الطبية و اياديهم الحاملة لألواح الكترونية مختلفة الكتابة قد تم حمايتها بواسطة قفازات بلاستيكية زرقاء اللون كما زجاج النظارات الشفافة التي تتثبت على جسر أنف كل واحد منهم.
تحركاتهم كانت هادئة لا تحوي صوتاً و بدوا و كأنهم مجموعة آلات لا تحوي روحاً كل ما خلقوا من أجله هو العمل و مراقبة الجسدين المتصلين ببعضيهما البعض لما يشابكهما من اسلاك و كيبلات تم حشرها في كل جزء من أجزاء جسديهما العاريين.
جسدان أنثويان مختلفي الحجم ، الذي على اليمين ذو بنية جسدية طويلة و رشيقة بعضلات مشدودة دلت على التدريبات التي خضع لها صاحب الجسد و على الغرار الآخر صاحبة الجسد الثاني كانت هزيلة تكاد تُرى لضآلتها إلا أنه سواء كان جسد ضخم أو نحيل كلاهما امتدا على طاولة عمليات يتم العبث عليها بتركيبة جسديهما و كأنهما لعبة دون روح و بالفعل فالجسد الأول كان فارغاً من اي روح لا يحوي غير كماً معتبراً من الطاقة يكفي حتى يدرسه القائمون و المسؤولون عليه.
الأضواء الخافتة و المسلطة على الجسد الرياضي انعكست على بشرتها اللامعة بينما قد حجب أجفانها المغلقة لون عيونها الذي كان في وقت ما يشابه السائل التي تقبع بداخله الثانية في زرقته و شعرها حالك السواد قد تناثر من حولها و على الطاولة لشدة طوله.
كانت الوحيدة المسلط عليها الضوء فالأخرى و لسوء الحظ أو لحسنه كانت في الزاوية محشورة وسط الظلام الذي لا يميز هيئتها و كل ما يصل بينها و بين الأولى هي الاسلاك الممتدة بين الطاولتين و الأجهزة التي ترسل الحمض و الدم من الجسد الأول الى الثاني.
و كذلك معه الطاقة السحرية.
لقد ظل الأمر على ذات الحال طوال السنتين السابقتين وها هو ذا يستمر لبداية هذا العام كل ما يحدث داخل هذه الجدران الواسعة هو تبادل الأخذ دون العطاء بين الجسدين.
حتى فقد الجسد الرياضي صحته و أضحى أسود البشرة شديد الجفاف حتى و ان بقيت آثار العضلات مشدودة الا أن الروح التي غادرته كانت الشيء الوحيد الذي يملأه سابقاً.
«التقدم بطيء و لكنه يشكل فارقاً ، جسد التجربة باء يتخذ هيئة صحية أكثر من أول مرة أحضرناه فيها و هذا يعني أنه يستقبل و يمتص ما يتم منحه له من الجسد ألف فنلاحظ انعكاس الأحوال طوال الأيام التي راقبناه فيها.» أحد الأطباء المسؤولين عن التجربة قد نبس بصوت عملي رسمي خرج جامد و آلي.
«المشكلة ليست هنا ، المشكلة تكمن في كون السيد قد بدأ يفقد صبره يقول أن انشغاله بمشاريع أخرى لا يعني كونه قد نسي ورقته الرابحة التي يقوم بنسجها ، لا نعلم كم سيبقى جسد أركاديا فيليب مفيداً و هو بلا روح حتى يبدأ في التحلل.» الصوت هذه المرة كان خاصاً بامرأة و لكنه ماثل الرجل في برودته حتى و ان كانت تتحدث عن شيء يعني فقدانه فقدان حياتها معه.
«بقاؤه طول هذه المدة صامداً و نحن لم نحنطه حتى لهو معجزة يستحيل تصديقها! هل علينا أن نقول أن الرب يبارك مشاريع و هدف السيد النبيل؟»
«أو لربما هو يمهد لنهايته الشنيعة و حسب.» من تحدث كان شاباً في منتصف العشرينات بينما بصره مثبت على جسد المعنية في الكلام من خلف النظارة و التي أضحى النظر اليها مثيراً للشفقة من شدة روعه.
«أطبق فاهك فين ماذا لو سمعك أحدهم!؟» نهرته امراة تقطب حاجبيها صوبه بعدم رضاً عن ما تفوه به و لكنه تابع بكل برود و كأنه مغيب عن الواقع «كم هو مثير للشفقة و مدهش أن ترى كل يوم تدهور حالة شخص كان عظيم هذه الأرض و حاكمها ، هل تصدقون أنها هي حتى؟» رغم أن صوته خرج هادئاً لا يحوي اي شعور الا أنك من كلماته تستطيع استشعار الحسرة به.
«لا شأن لنا ان كانت أم لا كل ما يهمنا هو نقل ما بقي عالقاً بجسدها من قوة الى الوعاء بفاه مطبوق دون لغو الحديث هذا يا فين حتى لا نخسر رؤوسنا ابّان ذلك!»
صوت الأجهزة الثابت كان مؤنساً لفين و أفضل بالنسبة له من سماع نفس الاسطوانة كل يوم و قد تمنى أن يختفي جسد أركاديا فيليب الآن من أمامه بمعجزة ثم يأتي سيدهُ مُغتاظاً مُستشاطاً حتى يدفنهم في أرضهم دافعين ثمن استهتارهم الذي لا حيلة لهم فيه.
و لكنه سيتخلص من حياته و هو يرى وجه سيده غاضباً على الأقل.
هذا أكبر انتصار بالنسبة لفين و سيكون الأفضل ان حدثت معجزة و حدث حقاً ، سيصلي من أجل أن تنتقل روح أركاديا فيليب الى الجنة حتى و ان كان هذا مستحيلاً.
و لكن فين لم يدرك أنه لن يستطيع تحمل مسؤولية أمانيه في حال تحققت و لذلك تسمر في مكانه يرمش عشر مرات في الثانية و قد تملكه الرعب صاعقاً اياه ليجمده و يوقف الدم عن الضخ و الوصول الى عقله فتتوقف تروسه عن العمل و بالتالي تتوقف أفكاره في ايجاد طريقة للهرب من هذا المصير الجحيمي و الفرار بمؤخرته.
لأنه زميله في العمل قد هتف في ذعر بما رآه الخمسة جميعهم.
«جسد التجربة ألف اختفي!» هتف الطبيب آيرون بذعر و سبابته ارتفعت مشيرة على طاولة العمليات التي أضحت فارغة في ثانية رغم تواجد الغطاء الزجاجي الذي ينفي تماماً فكرة هروب ما يفترض به أن يكون جسداً ميتاً بلا روح تحركه.
طوال الثوان التي سبقت هتافه الجميع وقف متصنماً يشاهد الطريقة التي كان يختفي فيها جسد أركاديا لجزء من الثانية ثم يعود ليختفي مرة أخرى في ذات الثانية حتى توقف تماماً عن الظهور بعد أن بدأ ضباب بالتسرب من أسفل الجسد لم يلحظه اي أحد من اللذين كانوا منشغلين بالحديث في ذلك الوقت.
الضباب الأسود قد التهم الجسد و معه الطاولة التي حُجبت تماما و تم فصل الاسلاك بين الجسدين ما جعل الأجهزة الخاصة بقلب و أعضاء الجسد باء تباشر في الطنين دون توقف معربة عن الخطر الذي وصلتها اشارته يكاد يفتك بالجسد.
«ليقم أحدكم باعلام الرئيس ، فينسون تولى أمر تعديل نبضات القلب أنا ساحاول اعادة التنفس لها!» الأصوات اختلطت على فين الذي وجد ذاته يهرول الى الباب حتى يضغط على زر فتحه مراراً و تكراراً في هلع و عيونه توسعت بجحوظ و ذعر ملحوظين.
«انه لا يعمل ، حتى محلول القاريما المغمورة فيه لا يفيد في مساعدتها على التنفس!»
«انها تنزف!»
«ابحثوا عن جسد اركاديا فيليب بسرعة!»
الأصوات كانت مختلطة بينما ركض فين في الممر الطويل و البارد بأقصى سرعة امتلكها و صوت جرس الانذار الذي ضغط عليه قبل خروجه من الغرفة جعل الممر بأكمله يضيء بلون أحمر جذب انتباه كل شخص قبع في بقعة من بقاع الممر فتعالت الأصوات المتسائلة و القلقة.
«السيد! أخبروا السيد أن الجسد قد اختفى!» ما هتف به فين كان متقطعاً و غير مفهوم بالنسبة لأي من اوقفه حتى يكلمه فتركه مرة أخرى حتى يتابع ركضه الى خارج المبنى الأرضي بأكمله.
«السيد! اين السيد!؟» كان يصرخ بجنون و قلبه لا يتوقف عن الخفقان بأقصى قوة شهدها ، بؤبؤ عيونه يرتجف متحركاً في كل مكان حتى انتكس لثانية عندما لمح طيف جسد بيروس الخادم المخلص الخاص بسيده.
«بيروس! اين السيد اسرع و أخبرني!» هتف على عجالة من بعيد يلهث متمسكا بذراع بيروس عندما توقف أمامه يحاول التقاط أنفاسه بعد أن قطع مسافة طويلة حتى يخرج من مبنى المختبرات في الاسفل و يصعد الى الأعلى حيث المستشفى الذي شيده سيده بنفسه لغرض اسعاف المدنيين.
المدنيون الذين آذاهم بنفسه.
«مابالكَ أيها الطبيب؟» تحدث بيروس بهدوء شديد و رزانة بينما يحملق في حالة فين الهلعة بكل اتزان «لقد اختفى! جسد اركاديا فيليب قد اختفى فجاءة!» و ازاء ما يدعيه فين تلاشى كل ثبات بيروس و شعر بجسده يهتز منتفضاً بقوة و قد صاح في وجه فين بغيض«هل تدرك ما تقوله حتى؟ كفاك مزاحاً أيها الغر و أنت تعلم بالهلاك الذي سيحل بك!»
نفى الآخر برأسه مراراً يرد بصوت خرج عالياً دون ادراك منه«صدقني لستُ بكاذب ، انها حقيقة مفجعة!» صمت بيروس يشعر بالارتباك قد بدأ ينمل في أطرافه غير قادر على التفكير بحل لهذه المعضلة و طريقة يعلم بها من يقبع على بعد مترات منه داخل مكتبه.
«ماسبب كل هذه الضجة بيروس؟»
صاحب هذه الكلمات كان قد وفر العناء على بيروس للتفكير في طريقة تخوله للذهاب الى سيده و اعلامه فها هو ذا يقفُ خلفه و حذائه يطرق بلاط الارضية الذي يشابهه في لمعته بينما يتقدم من الاثنين و هالته المظلمة و الخانقة قد سبقته ، كانت مليئة بالوقار و الفخر ، الكثير من الحنق و انعدام الراحة التي شعر بها الاثنان عندما اقترب منهما صاحب السترة الرسمية عديمة الأكمام التي يرتديها أسفل ثيابه السوداء ، بيضاء كربطة عنقه و شعره ما جعل الاثنين يوقنان أن سيدهما يمتلك هوساً باللون الأبيض كما يمتلكه بالعلم.
عيونه كانت تغطيها طبقة شفافة من الزجاج الخاص بالنظارات الطبية التي يرتديها و يده ذات القفازات محشوة في جيب بنطاله ، قرمزيتاه كانتا تمران على الاثنين بكل هدوء تجردهما من اي ذرة ثقة قد استجمعاها قبل قليل.
«مالخطب سيد اوكومولي ، لما أنت هنا بدل مكان العمل؟» أمال رأسه بجانبية حتى يلقي نظرة أوضح على فين ذو الوجه المتعرق و الرأس المُطأطئ يعد أنفاسه و الثوان قبل أن يرمي القنبلة.
«سيدي لقد—
و لكن بيروس لم يكد ينتهي من مقدمته المستميلة حتى توسعت عيناه بصدمة و ذعر عندما لفظ فين الكلمات بسرعة شديدة مغمض العينين «لقد اختفى جسد اركاديا فيليب في منتصف التجربة يا سيدي!»
و رغم الصمت الذي حل على المكان طويلاً الا أن فين لم يجرؤ على اخراج انفاسه بعد بل ظل حابساً اياها في انتظار اجابة سيده الذي كان لا يزال واقفاً في مكانه دون اظهار أي تعبير يذكر الا أن الظل الأسود الذي خيم عليه و الهالة المظلمة التي حاوطته أكدت على أن هذا الخبر لم ينل اعجابه البتة.
«تقول أنكم فقدتم جسد صيدي الثمين اذن؟» التمتمة الباردة التي وصلت مسامع الاثنين جعلت فين يرفع رأسه لتلتقي عيونه بخاصة سيده المنكمشة اثر الابتسامة الجامدة و المظلمة التي ارتداها على شفتاه مُظيفاً؛
«لما لم تفقد نفسك معه اذاً يا سيد اوكومولي؟» رغم أن كلماته كانت عادية و نبرته كذلك لم تتغير أو تبدي كونه غاضباً بل على العكس تماماً هو قالها مع ابتسامة دبت الرعب في قلب الاثنين حتى قادت أقدامهما للارتجاف و الضعف و كأنها هلام لا يقوى على حمل ثقل جسديهما.
«المعذرة و العفو يا سيدي نحن لم ن…» الا أن طلب المغفرة الخاص بفين قطع في المنتصف من طرف سيده الذي وجه كلامه الى بيروس بكل هدوء و صرامة «قم بنقل السيد اوكومولي الى غرفة خاصة ليستريح بيروس لأنه لا يبدو بخير ، أنا سأذهب لفحص المكان.»
ثم استدار راحلاً يترك خلفه بيروس الذي انحنى باحترام يهمس بنعم سيدي ثم يفرد ذراعه ناحية الممر الذي أتى منه رئيسه و المقصود من فعلته اتباع فين له.
فين الذي وقف يراقب ظهر سيده الذي يبتعد تدريجياً و هو لايزال متصنماً في مكانه دون استيعاب للذي سمعه ، يستريح؟ ألا يجدر بسيده أن يفصل رأسه عن جسده مثلما يفعل المجانين عادة؟
و لكنه لم يرتح أبداً لما قاله سيده بل ظل في مكانه يأبى الحراك حتى بعدما نكزه بيروس في ذراعه قائلا بهدوء شديد «أرجو منكَ اتباعي لغرفة حتى تستريح فيها يا سيد اوكومولي ، السيد قد لاحظ هلعك و حالتك غير المستقرة ، تفضل من هنا.»
«هل أنت متأكد من أنك لن تقوم بقتلي هناك و حرق جثتي للتخلص منها؟» سأل فين بنوع من القلق فابتسم بيروس ابتسامة أربكت الطبيب أكثر من ما هو عليه «لا داعي للقلق فلو اراد سيدي فعل ذلك لقام به الآن و حالاً.»
هذا قد طمئن فين قليلاً بينما لم يكن له أي خيار غير اتباع بيروس حتى لو لم يثق به حيث بدى ما قاله منطقياً ، الا أنه لم يعلم أن الغاية كانت خلاف ذلك تماما لأنه لن يُقتل في مستشفى بكل تأكيد و لكن جسده سيكون وعاء تجارب مفيد و أعضاءه سيتم التبرع بها الا المدنيين المحتاجين.
و هكذا سيساهم فين في شيء على الأقل بعد فشله في مهمته الوحيدة التي وكلها له سيده.
سيده الذي هو ذاهب الآن ليطهر الباقين من عار فشلهم الحتمي في الحفاظ على جثة ميتة منذ سنتين.