الفصل الثالث والعشرون

- يبدوا ان اهلكِ لم يحسنوا تربيتك يا امرأة، هيا اذهبي لبيتك.
هتف جلال موجهًا حديثه لغيد وهو يتقدم ليبعد ليلى عنها وقد اخذت تصرخ بوجعٍ وليلى تُمسكُ بشعرها ليتجمع ركبٌ من الفضوليين وهم يروا الزوجتين تتشاجران على مسمعٍ من الجميع.
- أيا ابنة الشوارع، أُقسِمُ بالله سأُربيكِ يا فاجرة يا قذرة اللسان.

عادت لتجذبها تشبعها ضربًا غير قادرة على تصديق مدى وقاحتها وهي تتبجّح ببساطة بأمرٍ سيلوّث شرفها قبل كل شيء، ألهذه الدرجة وصل غيظها من سعادة ابنتها؟! ألهذه الدرجة تملكُ روحًا سوداء ترغب بتشويه كل ما حولها؟
- توقفي يا ليلى! ستموت بين يديكِ.

هتف جلال بحدّة وهو يسحبها بعنف لتبعد وتنظر حولها لتجد مجموعة من النسوة وبعض الرجال إلتفوا من حولها، دفعت يد جلال وعادت لتقترب من غيد التي تورم وجهها ونزف انفها من شدة الضرب، اقتربت وهي تدفع النسوة اللاتي يمسكن بغيد لتهمس لها بخفوت:
- هذه فقط لأنّكِ حاولتِ الاقتراب من حياة ابنتي، إن كنتِ مستعدة للإستغناء عن روحكِ اعيدي هذا الحديث من جديد.

ابتعدت عنها وهي تلهثُ بشدّة، ترمق من حولها بنظراتٍ ناريّة قبل ان تُصفّق بيداها ذات الأياور الرنانه وتهتفُ بصوتٍ آمِر:
- هيا تفرّقوا من هنا، لا اريد ظلّ احدٍ منكم، حقراء لا تجيدون سوى القذف بالشائعات.. هيا من هنا.
تفرقت النسوة بجزع بينما انسحب الرِجالُ بخجل وقد اخافتهم حدتها ليقترب منها جلال ويقول بهدوء:
- يجب ان تعودي الى بيتكِ يا غالية، لا تهتمي لحديثها.


نظرت اليه ولا زالت عيناها تحتبسُ دموعًا رفضت ان تُطلقها، قلبها يجيشُ بحُرقةٍ مُؤلمة، لا تدري ما تفعل، لا ترغب بأن تدمّر حياة ابنتها وبذات الوقت لا تستطيعُ مسامحة عزيز، ليته فقط اخبرها من البداية، لم تكُن لترفضه زوجًا لفلك ولكنها الآن باتت غير مُتأكدة من نواياه، خائفة من ان يكسر قلب صغيرتها التي لن تتحمل هذا العذاب، قطعًا ستموت من الحسرة إن عرِفت بهذا الأمر.

نظرت اليه بضياع لتزداد عيناه رأفةً وهو يقول بثبات:
- انا سمِعتُ كلماتها المسمومة، هي ترغب فقط بأن تغتال فرحتكِ، لا تدعي لها الفُرصة لتدمير حياة ابنتكِ.
يا إلهي!  إنها تسقُطُ في بئرٍ عميق، متى اصبح جلال يعرف عنها كل شيء؟! متى تغلغل الى حياتها بهذه الصورة التي تمنحه الإذن بالوقوف بجانبها في أحلكِ مواقف حياتها.
- يجب ان اذهب لعزيز، سأواجهه بأقوال تلك الحقيرة، وإن كانت صادقة لن يكفيني حينها قطع رأسه.

همست ونبرتها المُجهدة المكللة بالدموع تأمره ان يأخذها بين ذراعيه ليخبرها انها ليست وحيدة، ليس عليها ان تلعب دور الرجُل الصلب بوجوده، يكفي فقط ان تمنحه يدها ليجعلها سيدة النساء.
نحّى افكاره جانبًا وهو يسير بجوارها بعنجهيةٍ لا تليقُ بسواه، تتضائلُ بجانبه كاُنثى برفقة رجُل، يتقدمها لتتبعه بخطىً واهنة غير واعية الى اين تسير، هي فقط لا تشعر بالخطر منه وهذا اكثر تعبير قد يصِفُ مكانته في حياتها، مجرد شخص تشعر نحوه بالأمان، ولا شيء قد تحتاجه المرأة في حياتها اكثر من هذا الشعور.

امام مكتب عزيز جلس جلال وليلى في مواجته، ترتعد اطرافه بندم، يمسحُ عن وجهه حبيبات العرق التي تدل على خوفه، نعم انه خائف، بل قلبه على وشك التوقف... لا يرغب بأن يفقد فلك، ليس بعد ان امتلكت روحه وانتزعت تلك القشرة الصلبة المُحيطة بقلبه. 
إنها ليست مُجرد فتاة عرِفها منذ الطفولة، ليست ابنة الجيران التي شاركها مقالب المراهقة، ليست امرأةً سيبني معها حياته... انها مرساته، التي سيضيع من دونها.

- أُقسِمُ لكم، انا لم اقترب من غيد، انا لستُ بهذه الدناءة، لقد ابتعدت تمامًا عندما علمت بأنها تزوجت ولكن...
ابتلع غصّةً كادت ان تُزهِق روحه واعترف بذنبه:
- كنتُ مشوشًا عندما عُدتُ لمُقابلة فلك من جديد، حتى انني فكرت انها قد تكون...
- وسيلة سهلة لإنتقامك.

اكملت ليلى تنتحب بأسى ليهمس عزيز بعنف وعيناه تمتلئ بالدموع:
- أُقسِمُ باللهِ انني لم استطيع، لقد غسلت قلبي من كل سموم الافكار المتهورة، لقد احبّتني وحينها لم استطع فعل شيءٍ سوى ان اضمها لحياتي، لأكتشف انني لم أُحبّ سواها بحياتي، كل ما حدث منذ مراهقتنا... حبنا الطائش وعودتنا.. لقد كانت فلك ملكة حياتي في كل تلك المراحل ولكنني كنتُ غبيّ، انا من منحت غيد فُرصةً لتدمير حياتنا، ليتني لم ألتفِت اليها، ليتني لم انخدِع بحزنها المُثير للعطف، انا السبب... انا السبب بكل شيء ولكنني احب فلك.. ولا احب سواها.

شعر بطعم دموعه مُرًّا كعلقم وهو يبوح بثِقل ذنبه، يعترف بخطأه ولكنه يتحصن بحبها، ذلك الحب الذي كان بلسمًا في حياته الصعبة، لن يسمح لأي كان ان ياخذها من حياته ولو كان الثمن موته.
- انتَ لم تخذلها وحدها، لقد كسرت ثقتكَ بنا جميعًا، انا اعتبرتك الأبن الذي لم أُنجبه، كنتُ سعيدةً بوجودك بعائلتي، اردتُكَ اخًا لحلا وحور ولكنك...
وضعت يداها على وجهها تمسح دموعها وتُضيف بضياع:
- ماذا افعل يا الله؟ كيف سأُخبرها بما قلته الآن؟ بل كيف ستتحمل ما فعلته بها؟!

- انتِ لن تُخبريها بأي شيء، سيظلُّ هذا السرّ طي الكِتمان وكأنه لم يكُن.
قال جلال بهدوء لتنظر اليه بدهشة وقد نست للحظة وجوده، ليكمل وهو ينظر لعزيز بتفكير:
- انظر يا بُني، انتَ تُحبّ فلك بحق ام انّك ستتركها بعد ايامٍ انتقامًا مما فعله والدها؟!
اجاب عزيز بصدق:
- بالطبع لن اتركها لأي سبب، انها زوجتي وانا احبها للغاية، ولكنها لن تسامحني، إن عرفت بالأمر لن تنظر بوجهي.

- لا يجب ان تعرف.
همست ليلى بإصرار وهي تحثُّ عقلها على العمل ليومئ كل من عزيز وجلال لتكمل بهدوء:
- في كل الأحوال ستتدمر حياتها، لذا سأتمسّكُ بالقليل من الثقة التي منحتني إياها، سأُعطيكَ فُرصة لتكون زوجًا صالحًا لإبنتي ولكن إن حدث واحزنتها، حينها لن يكفيني قتلك  يا عزيز.
اقترب عزيز وقد خفّ حِملًا ثقيلًا عن قلبه، اقترب ليجثو امامها ممسكًا بيدها ويهمس بكل حب:
- عهدًا عليّ ان لا أُحزنها ابدًا، لن اسمح لأي شيءٍ في الدُنيا ان يؤلمها، انا آسِفٌ يا خالتي، آسفٌ لأنني كذبت ولم اعترف، لقد خفتُ ان ترفضوا زواجنا، أرجوكِ سامحيني.
   

- فليسامحك الله يا عزيز، فقط ادعِ ان لا تعلم فلك بالأمر لكي لا تذُق طعم الوجع الحقيقي.
كانت كلماتا تزيد من حزنه ولكنه يحمِد الله انّه لم يستسلم للشيطان ويحاول إيذاء فلك، ففي تلك الفترة لم يكن يتوقف عن تخيُّل منظر آدم وهو يعرف بحقيقة علاقته بفلك، ولكن نظراتها المليئة بالأمان التي ترمقه بها تجعله يعود ليكره نفسه اكثر، هو لم يرِد ان يؤذيها، ولن يستطع ان يفعلها لأنه احبّها، حُبًّا روّض طباعه الحادّة وجعل منه رجلًا آخر، رجُلًا ضعيفًا امام امرأةٍ لم يكُن يحسبها حبيبةً بالماضي.


- يجب ان اذهب، وكما اتفقنا لن يعرف مخلوق بهذا الحديث.
نظرت الى جلال الذي همس بهدوء:
- لا داعي للقلق، من الأفضل ان تعودي للبنات لكي لا يقلقن.
اومأت بصمت وقبل ان تغادر تعالى رنين هاتف عزيز الموضوع على المكتب فإلتفتت ليلى وشعورًا غريبًا يساورها وكأنما عرِفت هوية المُتصل لتقترب وتلتقط الهاتف وترى رقم غيد كما توقعت، فلم تتردد وهي تفتح المكالمة وتضغط على زرّ التسجيل وهي تبتسم بظفر وتبتسمُ بداخلها:
- لقد جنيتِ على نفسكِ يا عزيزتي.


بعد دقائق تمّ الأمر كما تمنّت وخرجت برفقة جلال الذي طلب لها عربة اجرة لتقلها لبيتها، وقبل ان تغادر وجدته يهمس بصوته ذو اللكنة المميزة:
- يا غالية.
التفتت اليه تبتسم بلُطف، يعجبها احترامه لها بالرغم من ان نظراته تخيفها، تشعل بداخلها مشاعرًا اقسمت ان تقتلها، تضمّ يداها على صدرها بتوتُّر ليقول ببساطة:
- هل تقبلين بأن تكوني برفقتي لما تبقى من عمري؟!

تخشّبت ملامحها وارتدت قِناعًا يُخفي كُلّ تعابيرها فلم يستطع رؤية اي لمحة ايجابية في نظراتها ولكنه بالمقابل لم يلمح رفضها، ابتسم فجأةً، ابتسامةً واسعة هادئة ينعكس من خلالها اعجابه بثباتها، تومض عيناه وهو يراقبها تسبِلُ رمشيها بحركةٍ لا ارادية ولكنها بدت ساحرة في تلك اللحظة التي لم تدُم طويلا وهي تقفز في السيارة وتهرب منه بعيدًا، ولكنها ستعود، على الأقل لتستعيد شيئًا قد تركته خلفها، قلبها الذي ظنّتهُ قد مات فتركته بين ذراعيه لينعشه فيعود للحياة.

.
.

وصلت غيد الى شقتها، تجُرّ قدميها جرًّا تحملُ طفلها بصعوبة، تشعر بالمهانة الّا ان اكبر ما يغمرها كان ذلك السواد الذي لوّث قلبها، لقد باتت النار تشتعل بقلبها ولن يطفيها سوى دموع ليلى، تلك الضربات التي تلقّتها ستحرصُ على ان تعيدها لها اكثر وجعًا، لن يهمها آدم وما سيفعله بها، فقد باتت زاهدة لهذه الحياة التي تبدوا كمقبرة، فتاةً بمُقتبل شبابها وكهلًا لا يملكُ سوى المال، لم يحبها ولن يفعل، فليلى تسكن قلبه، تراها في كل لحظةٍ بينهما، تسمع اسمها التي يفلِتُ عنه سهوًا في اوّج لحظاتهما قُربًا، تراها في كل مرّةٍ يحاولُ فيها جعلها ليلى أُخرى، يجلب لها ثيابًا شبيهةً بها، يغرقها بعطرها، يعاملها كما كان يعامل ليلى ولكنه ينسى انها غيد، وغيد لن تكُن ليلى ابدًا.

وضعت صغيرها على فراشه وقد نام بعد بكاءٍ إثر خوفه من ذلك الشِجار، تراقبه يغفو بسلامٍ لتمسح دموعها بقهر، تذهب لتستلقي بمغطسٍ دافئ علّه يخفف اوجاع جسدها، ليزداد بكائها وهي تتذكر كيف ضربتها ليلى واهانتها ولم يستطع احدٌ منعها، وربما إن صحّ القول لم يرِد احدٌ الدفاع عن الفاجرة التي خطفت الرجُل من زوجته وبناته، ولكنها ليست كذلك.
- لا يهم يا غيد، لن يُصدقكِ احد، لن يرى ايّ احد ما تعانيه من ألمٍ وانت تُجبرين نفسك على قُرب ذلك الحقير.

اخرست صوتها بكفيها وقلبها ينتحِبُ بأسى:
- بلى، إنه احقر رجُلٍ قابلتهُ في حياتها، كان حقيرًا وهو يتطلّعُ الى جسدها كسِلعة، يقيمها قبل ان يدفع ثمنها، يقربها متى ما يشاء ويضربها إن رفضته، يسيرها كدُميةٍ ممسكًا بخيوط حياتها ويجبرها على حمل قِطعةً منه، ذلك الطفل الذي لم يحظ به من حبيبة القلب وحده ما جعلها تستطيع التنفُّس قليلًا وهي تظُنّ بأنها ارتقت الى مرتبة زوجة بدلًا عن عشيقة الّا انها لم تفعل، ظلّت هي ذاتها البضاعة التي اتت بثمارها وستأتي باُخرى عندما يأمر من جديد.


خرجت من المياه لتذهب لتهاتف عزيز فوحده من تبقى لها في هذه الحياة، هذا إن اقتنع بأنها لم تتركه برضاها، تحدثت اليه لفترةٍ من الزمن قبل ان يغلق الهاتف بوجهها لتلتفت الى صغيرها وتنتحب بحُزن، تعانقه وتبكِ كما لم تبكِ من قبل، تعتذر اليه وهي تهذي اثناء بكائها:
- انا لستُ كذلك، لستُ خائنة.. انا لستُ خائنة.
وكانت بداخلها تدرك العكس، ما فعلته ليس مجرد خيانة بل فِعلًا حقيرًا ستدفع ثمنه غاليًا، إنها ستتجرع مرارة هذه اللحظات الى ان تموت.

.
.

- انتبه للطريق يا بحر.
تمتمت ووجنتاها تتخضبان بلونٍ قانٍ ونظراته تأبى ان تُبارحها ليجيبها وابتسامةً حزينةً تعلو شفتيه:
- لا زلتُ غير مُتأكدٌ بأنني وجدتُكِ اخيرًا، لا أرغبُ بأن اغفل عنكِ للحظةٍ لتختفي كما حدث بالمرّة الآخيرة.
وضعت يدها على كتفه بتردُد وهمست برقّة:
- لن أختفي، اعِدُكَ... سأواجه كل شيء في سبيل ان نكون سويًّا.
- لن تواجهي اي شيء، عليكِ فقط ان تمنحيني ثقتكِ وحُبّكِ وسيكون كل شيءٍ على ما يُرام.

ارتسمت ابتسامةً صغيرةً على شفتيها وقلبها يخفقُ بجنون، إنها على إستعدادٍ تام ان تسير خلفه مُغمضة العينين لأنها تحبّهُ... بل تعشقُ حياتها بسببه.
- إذن، كنتِ تعملين بذلك المكان، مُغنية؟!
همس بتساؤلٍ تشرّب بالغيرة لتجيبه بتردُد:
- كان الشيء الوحيد الذي اجيده مع الطبخ، وكنتُ مُضطرة لأن اعتمد على نفسي واستأجرُ مكانًا لأبقى فيه، فسجى بالرغم من استقبالها لي الّا انّ لديها زوجها وطفلها، لم أكُن لأُثقِل على كاهلها.

ابتسم بغبطة، تعجبه قوة تحمُّلها وتماشيها مع اي وضعٍ صعب، إنها تملِكُ روحًا فولاذية لا تتعب ابدًا بالرغم من ان هذا لا يظهر على ملامحها.
- انا فخورٌ بكِ للغاية.
همس فجأةً لتلتقط كلماته بدهشةٍ ليُردِف بحُب:
- انتِ اجمل واقوى وألطف امرأةٍ عرفتها في حياتي، ومنذ هذه اللحظة لن تضطرين لمحاربة اي شيء، انا سأكون درعًا يقيكِ كل احزان الحياة، ستستعيدُ روحكِ ألقها ولن تتألم بعد اليوم.

كانت كلماتها دواءً لكل جروحها، تنسابُ الى قلبها مباشرةً فتنثر البهجة هناك، يقفزُ قلبها فرحًا ويرغب بالبوح بشدّة، يريد قول الكثير الّا ان خجلها المُفرِط يمنعها فتجود عليه بنظرةٍ تحملُ كل ما عجزت عن قوله، تضطربُ يداه حول المقود، يحيدُ عن الطريق ليوقف السيارة فجأة، يتشرب لذّة النظر الى عينيها الآسرتين، يكبح نفسه بصعوبةٍ عنها، لا يُثنيه الّا حقيقة انها ستكون له عن قريب، وحينها فقط سيلتقطُ الكلمات من شفتيها البريئتين، سيغرقُ بين طيات شعرها الزغبي الطويل، سينهل من رائحتها الى ان تمتلئ روحه بها، سيفتح لها باب قلبه ويسكنها بداخله الى الأبد.

- من الأفضل ان تنامي ليكي نصل بسلامٍ دون اي حوادث.
نبرته المشاكسة دفعتها للهمس بحياء:
- حسنًا، سأنام.
وبالفعل التفتت الى النافذة وهي تغمض عينيها بشدّةً وقلبها يأبى ان ينام مؤلمًا إياها بضرباته العنيفة.

عندما وصلا الى مدينتهما اخيرًا كانت الشمس توشك على الغروب، اوقف بحر سيارته امام احد الفنادق الفخمة وطلب منها النزول، لتتبعه بصمت معطيةً إياه كل الحق بتسيير حياتها، لتجده يحجز لها غرفة مُطِلّة على البحر كما اخبرها مسبقًا ويصطحبها اليها حاملًا حقيبتها متوسطة الحجم، بداخل تلك الغرفة اوقفها امامه وهو ينحني نحوها كمن يداعب طفلةً صغيرة:
- الآن ستتناولين الطعام الذي طلبت منهم ان يجلبوه لكِ، وستُتبعيه بأدويتكِ وبعدها تنامين على الفور ليستريح جسدك من عناء السفر، وبالغد سيكون لنا حديثٌ طويل، حسنٌ؟

اومأت بالإيجاب وهي تشعر بالفعل بأنها تحت حمايته، يلتقطُ يدها يقبها بتوقٍ لتبتعد عنه بدلال، تراقب عيناه المشاغبة تبتسم اليها فتخفض بصرها بخجل، ترمق تردده وهو يودعها لتهمس بحُب:
- سأنتظرُك في الصباح الباكر، لا تتأخر عليّ.
حينها فقط راقبت ابتسامته تضيءُ وجهه بطفولية ويعود ليعانقها قبل ان يغادر لتظل تنظر الى إثره مُبتسمةً بسعادة وقد هدأ قلبها اخيرًا ما ان وجد محبوبه.

وبالفعل فعلت كل ما امرها به وغفت براحةٍ الى ان حلّ الصباح ليوقظها صوت الهاتف المُلحق بالغرفة لتجيب بنعاس:
- نعم، من معي.
ليأتيها صوته المنتعش يهتفُ بسعادة:
- صباح الخير حبيبتي، هيا استيقظي بسرعة فسأكون بإنتظاركِ بعد نصف ساعةٍ بالأسفل، سآخذك لأجمل مطعم اسماكِ بالمنطقة، لنتناول افطارنا سويًّا.
ابتسمت بسعادةٍ وهي تستعد للقائه، تقفُ حائرةً امام حقيبها لا تدري اي ثوبٍ تنتقي لأوّل موعد لهما.

لتستقر اخيرًا على فستانًا باللون الأبيض مزينًا بورود حمراء صغيرة لترتدي فوق اكمامه القصيرة سترةً حمراء ناعمة، ووضعت طوقًا سلكيًّا ناعمًا على شعرها المنساب دون تهذيب، نظرت في المرآة الى وجهها الشاحب بتعب لتضع عليه بعضًا من الزينة التي تستخدمها قبل ذهابها للعمل خاصة اثناء غنائها الذي يتوجب عليها فيه ان تكون ذات مظهر جميل، رسمت عيناها بخطّ أسود خفيف ابرز اخضرار حدقتيها، مررت الفرشاة ذات المسحوق الزهري على وجنتيها لتصبح اكثر حيوية، القليل من احمر الشفاه وستعجبه اكثر.

عاد قلبها ليخفق بعُنفٍ وتلك الابتسامة الحمقاء لا زالت ترتسمُ على شفتيها.
- إنه اوّل لقاءٍ لنا عقِب خطبتنا.
همست لنفسها وهي تتأمل الخاتم الجميل الذي يزيد اصبعها، لقد غدت خطيبته بالفعل، وحفلهما الخاص كان بتلك القبلة الجريئة، لم تعُد بحاجة لتُذيع خبر ارتباطهما، فهو ظاهرٌ لمن يفهم بأمور الغرام، اسم حبيبها مرسومًا على جبينها، يراه كل من ينظر اليها.
عادت من غيمة احلامها على صوت الهاتف مجددا لتخرج اليه مسرعةً يركض قلبها قبلها ليستقبله بشوق.

وكان لقياها اجمل ما يبتدئ به صباحه بعد الليلة المليئة بالنقاشات مع ليلى، بدى شروده واضحًا لها وهما يتناولان الإفطار على تلك الطاولة المُجاورة لنسيم البحر، فتسائلت بقلق:
- ما الأمر يا بحر؟ تبدوا مُنشغِل البال.
نفى الأمر وهو يقول بلُطف:
- لا شيء مُطلقًا، لا تقلقي.
لم تقتنع بجوابه لتهمس بتردُد:
- هل الأمرُ يخُصّ ارتباطنا؟!
- إطلاقًا حبيبتي، الأمر فقط ان ليلى تمرُّ ببعض المشاكل وترفضُ ان تخبرني بأي شيء.

قال مُلقيًا همومه على عاتقها لتواسيه بحنان:
- لا تقلق سيكون كل شيء على ما يرام، بالتأكيد هي متوترة لأجل زواج فلك، من الصعب ان تتأقلمُ الأُمّ مع ابتعاد ابنتها حتى لو كان ابتعادها لأجل ان تبني حياتها الخاصّة.
- هل تشتاقين لأُمّك؟!
فاجأها سؤاله الّا انّ اجابتها ما اثارت دهشته:
- اموت شوقًا لها بالرغم من كل ما حدث.
- ولكنها تخلّت عنك.

قالها بحدّة لتومئ بلا مُبالاة وتردف:
- لم تصدقني، ثمّة شيءٌ بداخلها دفعها لتكذيب ما قُلت، ربما ظنّت انني قتلتهُ انتقامًا من تعنيفه لنا بالماضي، ارادت ان تكون الجلاد بدلًا ان تكون المُذنب.
- تحبينها الى الآن؟!
تسائل بحيرة لتومئ بالرفض:
- بل اكرهها بشدّة ولكنني إن رأيتها الآن ساضمها، واغرق برائحتها، سأنجذبُ اليها كما يعرفُ الصغير امّه من بين آلاف النِساء فقط لأن هذا الأمر الوحيد الذي لا يمكنني تغييره.

بدت عيناها تلمعُ ليقول موبخًا نفسه:
- هل حقًّا سأُفسِدُ لقائنا بأسئلتي السخيفة؟!
التقط بيده قطعةً من السمكة ليقربها من فمها هامسًا بشقاوة:
- هيا افتحي فمكِ يا حلوة.
التقطتها بخجل ليبتسم بحنان ويعود ليطعمها، نتظر الي هيئته الغريبة عليها وهو يرفع اكمام قميصه ليتناول قطع السمك بيديه كما يجب ان تؤكل، يحدثها عن كل شيء، ابيه، بلال، وحور، يخبرها بآخر مقلب فعلته حلا به وتستمع اليه وعيناها تشعُّ بالحُب، لم تنتبه انها ضعت يدها على خدها وتأملته بأبتسامةٍ ورديةٍ الّا عندما همس مبتسمًا بمكر:
- ادفع نِصف عُمري لمعرفة الى اين وصلت افكاركِ وانتِ تنظرين اليّ بهذه الطريقة؟ هل رأيتِ اطفالنا ام لا زِلت بحفل الزفاف.

ضحكت وقالت بإستهزاء:
- لم يهرب خيالي للبعيد الى حدّ تخيل انني ارتدي زفافًا.
اشتدّت نبرته وهو يهمس:
- ليس خيالًا، سوف نتزوج بحفلٍ كبير، وسترتدين اجمل ثوب من اي مكانٍ ترغبين به.
لم تستطع منع نفسها من القول بحزن:
- من سيحضر زفافنا؟! ليلى التي طردتني يومًا من بيتها ام صديقاتها؟!

اقترن حاجبيه بضيقٍ الّا أنّهُ آثر ان يهدأ لأجلها، لأنه لن يتحمّل رؤيتها بهذا الحُزن ولكنه لاحظ إنطفاء شعلة البهجة التي كانت تحيط بها، بالفعل ستحزن، هل ظنّ ان حياتها المُرّة ستتحوّل فجأةً الى ساحة ورودٍ لأنه معها؟! بالطبع لا.. إن طريقه معها طويلًا للغاية، سيسلكه مزيحًا كل كآبتها ومخاوفها وسيستمتع بلذّة نجاحه عندما يراها كما ارادت في الماضي، ستعود لتُكمل دراستها، وتحقق كل احلامها التي ظنتها مُستحيلة، سيجبرها على ان تنسى العشر سنوات الأخيرة من حياتها لتستمر عقب استيقاظها من مجرد كابوسٍ مُزعج.

- سأذهب لأغسل يدي.
غادرت بعد وقتٍ قصير ليتبعها بعينيه وقد تحولت ابتسامته المتكلفة لعبوسٍ كئيب بينما بالداخل كانت ميرال تغسل وجهها ونوبةً غريبة من البكاء تجتاحها وتجعل من ذلك الكحل الرخيص يسيلُ على وجهها كخطوطٍ سوداء بشِعة، سارعت بغسله بشدّة الى ان اختفى تمامًا تاركًا من عيناها لوحةً مُلطخة بخيوط حمراء صغيرة، عادت شاحبةً من جديد كما كانت طوال السنوات الماضية وللحظة عادت لتبكي من جديد، لماذا هي بهذه الصورة البائسة، لماذا ليست جميلةً كفلك او ليلى؟! إنها بالفعل مُثيرةً للشفقة، من يراها بهذه الهيئة سيظنها متسولة.

ضحكت ودموعها تأبى ان تمنحها الراحة، لتقول بأسى:
- انتِ بالفعل متسولة، لا تنسي ذلك، تتسولين الحُب الذي لم تحصلي عليه بشبابكِ، تتسولين دفء العائلة، صداقة اي احد، انتِ لستِ سوى امرأةً فقيرة الروح والقلب والجسد.
حاولت جاهدةً ان تتماسك الى ان تعود الى بيتها لتبكي كما تشاء لتتذكر انها لا تمتلكُ بيت، بل ليست سوى زائرةً في حياة كل من حولها، حتى بحر لم يُعيدها الى بيته كما توقعت بل القى بها في ذلك المكان لتبقى تحت اوامره كما يطلب قلبها المُدله بعشقه.

عندما خرجت وجدته امامها، يطالعها بقلقٍ وقد خاف من ان تكون قد فقدت وعيها بالداخل، امسك وجهها بين يده وهمس بوجل:
- ما الأمرُ حبيبتي؟ وجهكِ شاحِبٌ للغاية! هل نذهب الى المشفى؟!
- لا اريد.
همست بتعبٍ ليسحبها للخارج مُحتضنًا إياها ولم يغفل عن ممانعتها وهي تقول بفتور:
- يمكنك الذهاب لعملك، انا ساعود لأستريح بغرفتي.
كان المطعم بجوار المكان الذي تسكن فيه ولكنه اصرّ على ان يوصلها واخبرها بأنه سيسعود مساءً ليطمئن عليها لتصعد غرفتها بتثاقُل لتكمل بكائها وقد برعت في إفساد اوّل موعدٍ لهما.

.
.

تم الزواج بالفعل، وها هي فلك تتقدم بفستانها الأبيض، تضع يدها بيد زوجها، تغمرها سعادةً تكادُ ترفعها الى السماء، تشعرُ بأنها الأميرة التي حظت بفارسها اخيرًا، لم يكُن الزواجُ بدايةً لحياتها بل نهاية لكل ما قبله.
تخنقها غصّةُ حُزنٍ وهي ترى حور بفستانها الوردي وشعرها الذي بالكاد بدء بالإنبات، ترى ابتسامتها المرحة وهي تودعها بسعادة، تحتضنُ حلا التي بكت بتأثُّرٍ وهي تفطن لحقيقة ان فلك لن تعُد لتبقى برفقتهما كما كانت طوال حياتها، فتواسيها بمحبةٍ الى ان تبتسم بلُطف.

تقترب لتقبل وجنتي ابيها، تشعر بغرابة شعورها نحوه وكأنه غدى غريبًا، الّا انها لا تريد ان تفكر في هذه اللحظة بأي شعورٍ قد يحزنها، تبتسم لبحر وميرال وترى بعينيهما عشقًا منحها المزيد من السرور.
لم تكُن فلك تشعر بأن والدتها بخير، منذ بضعة ايام وهي ترى شرودها الغريب ودموعها التي تسقُطُ سهوًا عن عينيها كما الحال الآن، تقِفُ امامها لتلمِس جروحها بنظرةٍ حنونة، تواسيها عن حُزنٍ لا تعرفُ سببه، ويزدادُ ذلك النبض الغريب الذي يهدد بهجتها.

- فليمنحكِ اللهُ سعادةً لا تزول.
همست والدتها وهي تحتضنها، لتغرق برائحتها المُحببة، تستنشقها بتوقٍ طفولي لتهبِط دمعةً يتيمةً على وجنتها، شعورها بالغبطة يكلله خوفٌ غريزي من حمل مسؤولية الزواج، لن تنحصر لحظاتها مع عزيز على تلك اللقاءات المسروقة من زحمة الأيام بل سيُصبِح كُلّ حياتها، ستحمِلُ معهُ عبء الحياة وهمومها وستكون موطِن امانه، ولكن هل يا تُرى ستستطيع؟!
- لا تخافي.

همست ليلى وكأنما تقرأُ افكارها لتُطمئنها بهمسٍ حنون:
- انتِ غالية وزوجكِ سيضعكِ على رأسه، لأنكِ تستحقين الأفضل دائما.
- اتركي الفتاة تغادر برفقة زوجها، سيحل الصباح وانتُنّ تودِعن بعضكن وكأنها لن تعود مُجددًا، كلها فترة قصيرة وستستقر ببيتها.
همس آدم وهو يبعد فلك عن والدتها لتنظر اليه ليلى نظرةً غريبة لم يستطع تفسيرها قبل ان تبتعد عنه لتأخذ عزيز تحت نظرات الجميع وتبتعد به لقول له بخفوت:
- كما وعدتني، ستنسى تمامًا كل ما حدث، وإن حاولت تلك السافلة فعل اي شيء فقط انكر الأمر وانا سأتولى الباقي.

اومأ بهدوء وعيناه مُجهدة من التفكير طوال الليلتين السابقتين، و هي لا تقِلُّ حالّا عنه فقد استطاعت غيد ان تُفسِد فرحتهما.
- ابتسم قليلًا لكي لا تثير تساؤلاتها، وارجوك يا عزيز كُن صادِقًا بوعدك، لا تكسر قلب ابنتي.
- سأموت قبل ان افعلها.
همس وهو يعني كل كلمةً تخرجُ من بين شفتيه، لن يستطيع الحياة إن آلمها ولو للحظة.
- هيا إذن، في رعاية الله.
همست وهي تعود برفقته ولم تستطع ان ترفض عناقه لها، فبالرغم من كل ما حدث لن تستطيع ان تراه سوى إبنًا لها.

لم تستطع ليلى كبح دموعها وهي تودع ابنتها ورفيقة دربها، تُعيذها من حزن الحياة ووجعها، يزدادُ ألم قلبها وهي تراقبها تغادر، لقد نجحت غيد وكسرتها مرّةً أُخرى وهي تقتُل سعادتها بأوّل فرحةٍ لها، لم يكفيها انها دمرت أُسرة كاملة بل لا زالت تلاحقها بسمومها الّا انّها لن تتوانى في محاربتها، سابقًا كان حبها لآدم يكبلها ولكنها اليومُ حُرّةً من اي قيدٍ قد يمنعها عن نهشها بأسنانها، سترى منها وجهًا لم يره احدًا من قبل، وجه الأُم التي لا تتوانى عن الدفاع عن اطفالها ولو كان الثمن ان تدوس على كل من حولها، ستنقذ فلك، ولأجلها ستفعل شيئًا لم تكُن لتفعله بحياتها.

.
.

بعد بضعة ايام، انهت فلك تجهيز طاولة الإفطار ليتقدم عزيز عاري الصدر يضعُ منشفةً على كتفه وشعره يقطُرُ ماءً، اقتربت منه لتجفف شعره هامسةً برقّة:
- ستصاب بالزكام.
اغمض عينيه وظهره يستنِدُ على المِقعد بينما تقِفُ هي خلفه تجفف شعره، تصِلهُ نفحات باردة مُختلطة بعطرها تعانقُ قلبه الجائع، يعُضّ شفتيه ورغباتٍ مجنونة تُسيطرُ على عقله فيكبحها بصعوبة، يُدركُ انّهُ يحبها بشدّة ولكن ثمّة شيءٌ وحشيٌ بداخله يأبى الترويض الّا عندما يقربها، وهذا ما شعر به بأوّل ليلةٍ لهُما، كان احتياجه لها اكبر من مُجرد رغبةٍ غريزية، إنها حاجةً لتهدئة روحه الثائرة، وغضبه المكبوت، فما فعلته غيد مؤخرًا اخرج شياطينه الّا انّهُ للأسف لا يستطيع القصاص منها، ليس خوفًا من آدم ولكن حينها ستعرف فلك بكُلّ شيء وستتركه وهذا ما لن يستطع تحمُّله، والّا تمزيقها بيديه لن يشفِ غليله.

شعر بها تبتعد يسمع صوت خطواتها، تنحسِرُ رائحتها لتعود مُجددًا، اقوى وهي تلمسُ كتفيه وتضعُ امامه قميصه ليرتديه بصمت، تحت نظراتها اللطيفة المُشاغبة، يرمقها اخيرًا بإحدى نظراته الدافئة، إنها متوهجةٌ اليوم، كشمسٍ بمنتصف الظهيرة، وجنتاها تشعان بإحمرارٍ مُماثِلٍ لثوبها الحريري الملتصق بقامتها الممشوقة مُظهِرًا مفاتنا دون حرج، ابتسمت وهي تجلس جواره تتناول طعامها بصمت، تطاردها نظراته فتخفِض بصرها الى صحنها بتوتُّر، تعبثُ بسلسةٍ مُتدليةٌ من عنقها، يغمرها خجلٌ طبيعي ولكن ثمة شيءٌ يخيفها بنظرات عزيز، إنه يحبها بصدق ولكل افعاله تخبرها بذلك ولكن عينيه التي لا تفارقها ابدًا مليئة بالحُزنِ والألم الذي لا تعرف سببًا له.


انهى إفطاره الذي لم يذقُ له طعم وحمل الصحون لتتبعه قائلة:
- اتركها، سأضعها في غسالة الصحون.
- لا بأس، انا سأغسلها، إذهبي وانهي طعامكِ.
قالها وهو يشرع بغسل يديه لتكمل من خلفه بقنوط:
- لقد شبِعت، سأجلب بقية الأطباق.
عندما جلبتها وظلّت واقفة تراقبه بعيناها الساذجتين وجدته يهمس ببرود:
- اجلسي بالخارج.
عارضته بدلال:
- لا اريد تفويت فُرصةٍ لتأمُّلك.

شعر حينها برغبة ضرب رأسه بالحائط ليستريح من هذا الألم الذي تُسببه له، ولم ينتبه لأنُّ حطم الكأس بين يديه الّا عندما سمِع صرختها الملتاعة وهي تقترب منه، تمسك بيده التي تنزِفُ دمًا وندمًا.
- يا إلهي! إنه جرحٌ كبير، يجب ان نذهب الى المشفى! هيا ضعها اسفل الماء ريثما أُحضر لك بعض القطن.
قالت وهي تقرب يدها من يده ليهتف بغضب:
- ابتعدي عنّي يا فلك، فقط ابتعدي، لا أُريدُ منكِ شيئًا.


لم يدُرك مدى تأثير تلك الجُملة التي قذفها بها الّا عندما راقب يداها تبتعد عن بإرتجافٍ لتضم جسدها وكأنها تشعُر بالبرد، عيناها تزدادُ إلتماعًا الى ان ثقلت عليها الدموع لتنسكِب على وجنتيها، فمها مفغورٌ بصدمةٍ غير قادرة على تصديق انه صرخ بوجهها، ركضت مبتعدةً عنه لتسمع صوت صرخته المتوحشة وهو يحطم المزيد من الأشياء الّا انها لا تهتم، تصعد لغرفتها لتسقط على الفراش وتنتحب بأسى، إنه لا يريدها بحياته وهي تتمسك به بغبائها المعهود، لقد قالها بوضوح، ابتعدي عنّي، وهي بالفعل ستبتعد، ليست هي من تسترجي عطف احدٍ وإن كانت روحها مُعلّقةً به.

كادت ان تنهض لتجمع ثيابها وتغادر ولكن دموعها جعلتها تختنق فظلّت تنتحب بحزنٍ الى ان سكتت تمامًا، وظلّت تخبئُ وجهها المتورّم من البكاء في وسادته، تستنشقُ عبيره ليزداد الحزنُ بقلبها، ويتضخم السؤال كغصةٍ تسدُّ مجرى انفاسها، ماذا فعلت ليعاملها بتلك الصورة؟! هل بدر منها شيئًا جعله يكرهها؟! هل اخطأت بأي شيء؟! ولكن حتى لو ارتكبت خطأً بحقه عليه ان يواجهها لا ان يصرخ بها.

بالخارج كان يتنفس بصوتٍ لاهث وهو يجلس على الأرض وقد نالت يداه تحطيم كل ما امامه، ولو كان بإستطاعه اقتلاع روحه لفعل ليثأر لها من نفسه.
اخذت الأفكار تتلاعب برأسه، وقد شعر بأنها قد غادرت اثناء فقدانه لشعوره فركض بخطواتٍ ثقيلة ترجُّ الأرض رجًّا وهو يهتفُ بإسمها وجلًا، الى ان دلف للغرفة ليجدها فتهدأ روحه قليلًا الّا ان صوت شهقاتها التي لم تستطع كتمها خرجت كنصلٍ غزا روحه ليذيقه المًا اكبر.

لم يستطع منه نفسه فجذبها لتتلوّى بين ذراعيه برفض وهي تهمسُ ببكاء:
- لا تقترب مني، انا سأذهب من هنا ولن تراني مُطلقًا، سأبتعد الى الأبد، اتركني.
ابتلع كلماتها المُسننة بقُبلةٍ عاصفة التهمت كل مقاومتها، قُبلة رفضٍ لكل ما سمعه من تراهات، ويده التي لم تجف منها الدماءُ بعد تغزو شعرها بتملُّك، يقربها منه اكثر، يحملها بين ذراعيه، يرفضُ ترك فمها لكي لا تتفوه بالمزيد من الكلمات التي قد تدفع ثمنها لاحقًا، يداها الصغيرة تثيره بلكماتها البريئة على صدره ليهمس بصوتٍ ضائع بين وجهها وعنقها:
- لا تبتعدي، انا غبي لا تستمعي لما اهذي به، انتِ حبيبتي، انتِ فقط حبيبتي.

ازدادت دموعها وقلبها يصدقه ببلاهة ليُثبت لها انها غبية لا تملكُ كرامةً ليزداد نحيبها فيتوقف فجأةً لينظر اليها، يتأملُ دموعها التي تُغرقُ وجهها، يزداد تنفسه قسوةً وهو يرى علامةً أُخرى على عنقها، إحمرارًا داميًا سيتحول فيما بعد الى علامة كتلك التي خبأتها عنه بسذاجه صباح اول ليلةٍ بينهما وعندما رآها لم يُصدق انه من فعلها، بحياته لم يتمنى ان تكون علاقته بها بتلك القسوة، اراد ان يهديها الأمان لا الخوف.
- انا آسفٌ يا حبيبتي.

قالها وهو يمرر يده على عنقها ليكمل بحزن:
- انا اخافُ عليكِ من نفسي، لا ارغبُ بأن إكون سببًا في تعاستكِ لذلك قلتُ ذلك الحديث الغبي.
سكتت فجأةً وهمست من بين شهقاتها:
- انا لا اشعُر بالتعاسة.
- لقد آذيتُكِ.
فهِمت مقصده لتهمس بحُزنٍ مُماثل:
- لم تحزنني الّا اليوم وانت تصرخ بأن ابتعد عنك...
- سامحيني ارجوكِ.

سقطت دمعةً من عينيه فسارعت بمسحها وعيناها تأبى ان تراه بهذا الضعف، ولم تجد حينها بُدًّا من ان تُلقي بنفسها بين ذراعيه وهي تهمسُ بعِتاب:
- لا اُحبّ ان يصرخ اي احدٍ بوجهي، لا تفعلها مُجددًا.
- لن افعلها.
احتضنها بشدّة لتُكمل:
- بُعدك هو الذي يؤذيني.
- لن ابتعد عنكِ ما حييت.

وبالفعل نفّذ قوله، لم يبتعد عنها، ولن يفعل، فطوال ذلك اليوم كان يؤكد على حديثه، يخبرها بأنه لن يسمح لغضبه بأن يفرقهما، وستكون دموعها التي ذرفتها اليوم آخر عهدٍ لها بالحُزن، يُفهِمها بأنه يُحبها ولكن بطريقةٍ اكثر عُمقًا من أي اميرٍ بأحلامها الورديه، إنه يحبها بهمجيةٍ لن تكون يومًا ضدها، وقسوةً وغيرةً حمقاء سيحرص على ان لا تؤذيها، يحب ان يشعر بوجودها، لا يقبلها، بل يلتهمها، لا يحتضنها.. إنما يزرعها بصدره، لا يحبها.. إنه مولعٌ بها وشتّان ما بين رقّتها وجنونه.

.
.

الجوّ غائم، السماءُ مُثقلةً بالمطر، ارتدت ليلى معطفًا فوق ثوبها القصير وترجلت الى الأسفل لتجِد الجميع على المائدة، ابتسمت بلُطف وهي ترى حور تعود للحياة من جديد بالرغم من ان المرض ترك آثاره على قامتها الهزيلة وشعرها الّا انها تقاوم ببسالة، وستذهب اليوم لتري الطبيب بخصوصها، فقد اجرت فحصًا اخيرًا عقب توقفها عن العلاج الكيميائي.

- تناولي هذا الحليب وضعتُ لكِ فيه بعض القرنفل يا عزيزتي.
همس العم جمال وهو يضع الكوب امام حور التي اخذت ترتشفه بتذمُّر بينما حلا منشغلة مع بلال في حديثٍ يخص فريقهما الرياضي المفضل وبحر يجلس شاردًا وكأنما يحمِلُ جبلًا من الهموم.

- حور، لا تكوني كالأطفال، لا ارغب بأن يخبرني جدّكِ بأنكِ خرجتي في المطر، كوني هادئة ريثما اعود، وانتما ايضا.
اشارت لبلال وحلا اللذان لم ينتبها لها من الاساس بينما تمتمت حور وهي تقلد صوت الأطفال:
- حسنًا ماما، اجلبي لي معكِ حلوى.
- الحلوى لا تأكل حلوى.
همست وهي تعود لتقبل وجنتيها تستمدُّ منها القوّة وتتمنّى ان تكون نتائج الطبيب مُبشرة بالخير.

خرجت برفقة بحر الذي سيوصلها الى المشفى وسيذهب لعمله، فبدى بالفعل صامتًا بطريقةٍ مُقلِقة فتسائلت بحيرة:
- هل انتَ وميرال متخاصمين؟!
- يجب ان اخبرها بأمر بلال قبل ان نتزوج.
اجابها بحزن لتهمس بهدوء:
- لا تفعل، صدقني ربما ستغضب منك كثيرًا خاصة وانك اخبرتني بمكانته بقلبها، إخبر الصبيّ اولًا وبعدها سنرى ما يمكننا فعله.

إن كان إخبار ميرال يؤلمه فهو قطعا لن يستطيع فتح الأمر مع بلال، فبالرغم من إدراك بلال بأنه ليس اخيه بالدم إلّا انه سيُصدم عندما يعرف انّ لديه احدًا يهتمُّ لأمره.
- لا اعلم، انا اشعُر بالتشوش، وميرال حزينة وانا غاضبٌ من بُعدِها.
- لا تقلق حبيبي، انا سأحلّ الأمر، فقط لنلتقي مساءً وسأخبرك من اين تبدأ لإصلاح الأمر.

دلف معها للمشفى ليقابلان الطبيب ولسوء حظها تواجد احدٌ قبلهما في مقعد الإنتظار، نهض فور قدومهما ليهمس بشوقٍ افلت رُغمًا عنه:
- كيف حالكم.
- بخير.
اجاب بحر بإقتضاب وهو يسحب ليلى من يدها ليجلسا مبتعدين عنه وعندما جاء دورهم دلف ثلاثتهم لمقابلة الطبيب الذي قال لهم:
- حمدًا لله، دمها نقيٌّ تمامًا من اي مرض.


ابتسمت بفرحةٍ وعانقت اخيها ودموع سعادتها تنسابُ سخيةً وهي تشكر الطبيب بحرارة بينما استراح آدم للغاية وهو يستيقظ من كابوس مرض صغيرته، يتمنى لو كانت معهم الّا ان حديث ليلى صحيح فلم يكن من الصائب ان يشغلا افكارها، سيكتفيان بإخبارها بسلامتها وجهًا لوجه.
عندما خرجت ليلى من المشفى اخبرت عزيز بأنها ستمُرّ بالسوق لتبتاع بعض الزينة احتفالًا بسلامة حور وتركته لتغادر تحت نظرات آدم الذي لم تلتفت اليه ولو للحظة، وحتى عندما حاول تهنئتها بنجاة ابنتهما وجدها تبتعد عنه بجفاء، لحقها بغية ان يتحدث اليها، لا يرغب بأن يمتلئ قلبها نحوه بالكره ولم يدري انه سيسمع بعد قليلٍ امرًا سيهزّ حياته الى الأبد.

سارت ليلى بشارع بيته، يتبعهت خفيةً الى ان صعدت بالفعل فإزداد فضوله، لم يعرف سبب حضورها وانتبه لأنها تعدت الطابق لذي كانت تسكنه لتصعد لشقة غيد، ابطأ من سيره ودلف بمفتاحه الخاص وهو يفتح الباب ببُطءٍ شديد واول ما سمعه كان صوت غيد، يأتي واضِحًا متوسًّلًا وهي تهمس ببكاء:
- ارجوك يا عزيز، تزوجني انا ولا تقترب من فلك، انا سأهرب معك بعيدًا عن كل شيء، ارجوك دعني اثبت لك كم أُحبّك...

وانقطع صوت التسجيل كما انقطعت انفاس غيد وهي تراه يقف خلف ليلى، لتدرك بأنها النهاية...

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

فصل جديد

ماذا تتوقعون ردة فعل آدم على ما سمع؟!

الفصل القدم سيكون الأخير وربما اتبعه بخاتمه بها بعد المشاهد لما بعد النهاية.

ماذا تتوقعون للنهاية؟!

اعتذر للغاية لتأخر الفصل بالتنزيل فقد ابتدأ عامي الدراسي بالأسبوع الفائت وانشغلت عنكم.

على العموم اعدكم بنهاية طويلة وجميلة تليق ببيوت الرمل  ❤❤❤❤

مع حبي ❤❤❤

فايا
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي