الإسرائيلي

الفصل الثاني
لازال منكباً على الأوراق التي أمامه يعبث بها، ارتدى نظارةً طبية قد زادت من وسامته، وربما تكون حدت من غضب عيناه الناعسة وأسرته حولها، أراح ظهره للخلف وهو يطلق أنفاسه الثائرة، أخذ يُطلق بالقلم على مكتبه وكأنها صيحات متذمرة تطلب منه أن يرفأ بها ولكنه لم يعبأ، فقد شعر بالملل قليلاً، نهض عن مقعده حلف مكتبه، فاستقام بطوله الفارع وأدخذ يجول ويصول داخل مكتبه حتى استقر أمام الطاولة العريضة التي توجد بحجرة مكتبه، ذهب وجلس أمامها وبدأ يُكمل عمله المرهق، وعاد ذهنه إليه من جديد حتى قام بمراجعة الأوراق للمرة الأخيرة، وبالفعل كان قد نجح في فعل ذلك، حيث عندما دقت الثانية عشر مساءً وصدح صوت آذان الظهر كان قد انتهى من مراجعته، أغلق الملفات أمامه، وحاسوبه الشخصي، واتجه صوب المرحاض الواسع بحجرة مكتبه وشرع في الوضوء، واتجه صوب سجادة صلاته يحملها بين يديه حتى استقام بانحناءة ظهرٍ بين يدي الله عز وجل، بدأ صلاته وانهاها حتى شعر بأن جزء ولو صغير من حزنه كان قد سقطا من على عاتقه الكبير، طوى سجادة الصلاة ووضعها في موضعها ومن ثم بدأ يعد أوراق الصفقة الخاصة به، ويطلع عليها قبل أن يتوجه إلى غرفة الاجتماعات، دقائق مرت عليه حتى دلفت حياة السكرتيرة الخاصة بمكتبه تحمل بين يديها كوباً من القهوة، وضعته أمامه، كادت أن ترحل ولكنه أوقفها حين منحها الأوراق وأمرها أن تضعها في غرفة الاجتماعات وتعدها خصوصاً بعدما علم أنهم أتوا بالفعل إلى الشركة، مر وقت قصير حتى دقت الثانية عشر ونصف، علم أن موعد اجتماعه قد حان، نفض عن نفسه الأرق الذي صابه بخمولٍ قليل، وارتدى جاكيت بذلته من جديد ونفض عن نفسه أي تعبٍ قد يلاحقه، وبالفعل لملم من نفسه وحاجته واتجه بكل خيلاءٍ تجاه غرفة الاجتماعات، فتح الباب ودلف بعد أن ألقى عليهم التحية باللغة الألمانية التي يتقنها، وجد أن حياة قد أتمت إعداد كل شيءٍ، توجه صوب طاولة الاجتماعات يرأسها، فكان على يمينه سيف وعلى يساره ويوسف وجوارهما الوفد، فتح زر بذلته وأراح ظهره للخلف، نهض قائد الوفد واتجه صوب عارض الشاشة، فتح حاسوبها وقد بدأ يعرض مشروعه الذي يعلمه آدم جيداً، ويطرح دراسة الجدوى التي أعدها مثلما أعد آدم واحدةٍ هو الآخر، أراح ظهره على المقعد يراقب كل ما يحدث ويستمع إلى حديث الذي يقف بإنصاتٍ شديدٍ، ظل مستمعاً إليه حتى فرغ جاك من حديثه، وذهب جالساً في موضعه، شرع في مراقبة ملامح آدم التي كانت مبهمةً بالنسبة له، ظل هذا الصمت سائداً لفترة وجيزة حتى وقف آدم في مكانه وأخذ في طرح دراسة الجدوى الصحيحة التي أعدها هو، اقترب من عارض الشاشة وقد طرح مشروع المجمع الإلكتروني الذي اجتمع كل هؤلاء من أجله، أخذ يقدم ميزانية المشروع، المكسب المتوقع، الخسائر لا قدر الله الذي رددها سراً، والمكان الذي سُنفذ فيه المشروع وكل شيء بالحساب المضبوط، ومن ثُم أغلق العارض وتوجه للجلوس في مقعده من جديد، أخذ يراقب في وجوه الثلاثة الذين فغروا أفواههم مما فعل هو، ولكن ليسوا جميعهم كانوا يفرغونها دهشة، بل كانت أحدهم تجلس وإمارات الإعجاب قد استحوذت على ملامح وجهها الأبيض، أخذت تزيح شعرها الذهبي الذي تدلى على وجهها، وبسمة إعجاب راغبة بالحصول على ذلك الفهد وامتلاكه كانت قد استحوذت عليه، كانت تود الحصول عليه، تهكمت في نفسها أنها تقع في غرام شرقي لا يبالي كما أطلقت عليه حين رأت نظراته الجامدة الصلبة كالحجارة، أراحت ظهرها للخلف تود أن تعرف إلى أي مستوى سينتقل الحوار ولمن ستكون الغلبة، لذلك قررت الجلوس صامتة، في حين أن المجاور لها لم يرغب بالصمت، بل أخذ يردد بصوتٍ غاضبٍ قائلا:
_ما هذا الذي تقوله سيد آدم، بالتأكيد لا يمكن أن يحدث ذلك، أنت تمزح، وأيضاً أنت تُعرض شركتنا إلى خسارة كبيرة في الوقت الذي أمنت نفسك من الخسارة، هذا غير عادلٍ سيد آدم.
ابتسم آدم بتهكم على حديثه، ومازال على حالة البرود التي كان عليها من أول اللقاء، فأخذ يُردد:
_ لا سيد جاك، إن كان هناك شيء غير عادل سيُقام هنا؛ فأنتم من ستفعلون ذلك، أنتم قد وضعتم شروط تعجيز، لا مكس لنا، ونحن من نتحمل الخسارة، ولكن أنا لم أفعل ذلك، بل وضعت نسب للمكس والخسارة سنتحملها معاً هذا هو العدل جاك، إنما ما كنت تقوله ليس إلا مجرد استغلال تفرضه علينا، الآن الصفقة بين يديك أما القبول بشروطنا أو لا، الخيار لكم.
أنهى حديثه وهو يعود بظهره للخلف وهو يحمل فنجان قهوته يرتشف منه، يراقب قسمات الغضب التي دُونت على ملامحهم، ثواني مرت حتى انتفض من مكانه وتوجه صوب الخارج دون أن يُبالي بالاستئذان، ابتسم آدم بخفوتٍ على ضحكته، بينما هي مازالت تجلس في موضعها، تراقبه بإعجابٍ أكبر يزداد يوماً بعد يوم، ظلت جالسة في مكانها تُطالعهن أدرك سيف ويوسف تلك النظرات فنهضا من مجلسهما الصامت واتجها صوب الخارج، نهضت من مجلسها واتجهت صوبه حتى جلست جواره، وتحدثت بصوتٍ شغوف فضح ما بنفسها:
_آدم لا أستطيع إلا أن أقول هنيئاً لك على ذكائك يا عزيزي، فأنت ما قلته كان حقاً فعلاً، إن أردت يمكن لهذه الصفقة أن تكون لك فقط.
تهكم صوته وهو يقول:
_وما المقابل يا ترى؟
تنهدت بصوتٍ قوين وبدا حزن طفيف على ملامحها وهي تقر:
_لا أريد سوى قلبك آدم، فقط قلبك، قبل أن تبدأ الحديث لا تسألني متي لأني بكل تأكيد لا أعلم، لقد وقع ذلك الأبله في الحب دون أن أدري، ولا تسألني ما السبب لأني أحببتك دون شرط.
_هل حبي مقابل تلك الصفقة آنا؟
أجابته بتأكيد:
_لا يا آدم، تلك الصفقة في كل الأحوال أعلم أنها لك ولن تكون لغيرك، كل ما أريده هو سعادة قلبك، ولن أسوم عليك أبدا.
أخرج حاراً من بين شفتيه وأخذ يُردد بصوتٍ بدا عذابه لها:
_لن أستطيع أن أمنحك قلبي آنا، فقط لأني لا أملكه، إن قلبي أسير منذ أعوام، هو ملكها فقط للأبد، لذا لا تطلبين ما لا أملك، فلن أقدر أن أقدم لك هذا، بل كل ما يمكنني فعله هو أنني أتمنى لكِ السعادة الأبدية.
هزت رأسها بحزنٍ وقالت:
ولكن لم يسمع أحد بأنك تحب أو أي شيء من هذا.
أجابها بحزن:
_لن يقدروا على الحديث آني، فهي مخفية في مكان ما في هذا العالم وأتمنى الوصول إليها.
نكست رأسها بحزنٍ وقالت:
_أتمنى لك السعادة.
رحلت من أمامه بعدما تركته يفكر في ذلك الذي دار بينهما، أدرك كم أن الحب صعب مُعذب يُصيب حامله بلعنةٍ أبدية تُسمى بالألم الذي يتمنى لو أنه يقدر عليه حتى يبديه، تحرك من غرفة الاجتماعات واتجه صوب غرفة مكتبه، دلف وجد سيف ويوسف يجلسا متقابلين ينتظرانه، سار بهدوءٍ حتى جلس على كرسيه، نظر لهما حتى سأله سيف:
_ماذا هناك صديقي.
-لا سيء سيف، لا شيء.
أدركا كلاهما أنه لا يتحدث بكلمةٍ واحدة إضافية، فلما يجد أمامهما طريقاً إلا الخروج من هنا حتى يتركاه بحاله بعدما فظنا ما يمكن أن يكون السبب الذي وضح بعينه التي تمكن الحزن منها من جديد، وجه بصره صوب الأوراق من جديد كي ينهي أعماله سريعاً، فهو يود أن يذهب إلى مكانه الذي دوما ما يجد فيه راحته وسكنه، يبوح فيه بما تعتريه نفسه، أخذ من الأوراق التي أمامه سبيلٍ يهرب إليه من جديد، ولكن رُغم ذلك كان خاطره مشغول بالتي كُسرت منذ قليلٍ ولكن ليس بيده أن يفعل سوى هذا، فألم بسيط اليوم خيرٍ من جُرحٍ غائر غداً.
***************************

على الجانب الآخر من ذلك الذي عجز عن طمر حزنه بعيداً، هناك آخر يمرح، يهزأ ويسخر من الجميع، ولكن قلبه كان مُغلق بأصفاد قد مر عليها أعوامٍ عجاف، توجه إلى مكتبه القابع بعيداً، فتح أحد أدراج مكتبه وأخرج منه صورة شرع في تأملها، ورُغمٍ عنه ذرفت عيناه دمعةً حزينة لم يقدر على أسرها لفترة طويلة داخل مقلتيهن إنها حبه الصامت، إنها المُستحيل بالنسبة له، إنها حلا، حلاه هو الذي لم يقدر على البوح به، حاول أن يُزيح الدمعة التي هبطت من أسرها الذي انفك غصباً عنه، أراح ظهره على ظهر مقعده، وعانق الصورة وكأنه يَم صاحبتها، أخذ يُحادثها:
_يا حلمي الضائع، يا قلبي الزائغ، يا درة القلب، وقرة العين، ألن ترحمي هذا القلب الصغير الذي أٍرك بداخله ولا يُريد أن يفك أسرك، حبيبتي، معذبتي، ألمي، أليس لي فعلاً واحد يكون لي بمثابة شفاعةً عندك عزيزتي، أتعلمين كم يؤلمني أن أكون بالنسبة لكِ مجرد أخ بشع لا ترينه من الأساس، وذلك القلب الابله لم ير سواكِ، بحق الله قولي ماذا أفعل حتى تشعرين وترحمين ذلك القلب الضعيف.
أخرج الصورة من عانقه المزيف، رفع تجاه عيناه الحزينة وقال:
_ألم تحزني من كونك مخفية في ذلك الدرج اللعين، أود يا عزيزتي أن أخبر العالم أجمع بكم أحبك، أنا أنتظرك، حتى يمل الانتظار مني.
*****************************
في الجامعة كانت قد تقدمت بعد أن انتظرتها وتأخرت على القدوم ووجدت هاتفها مغلق، وها هي تسير في جامعتها بلا هوادةٍ، لا تدري ماذا يمكن أن تفعل، أخرجت هاتفها وحاولت أن تتحدث معها، وبالفعل قد أصبح الهاتف متاحاً، ابتسمت أخيرا، وقد طلبتها على الخط، وها هي منتظرة الرد، وبالفعل لم تمر دقائق حتى سمعت صوتها قائلة:
_قبل أن تفتحي فمكِ أنا أعتذر منكِ على التأخير، ولكن سيارتي قد عطلت مني في منتصف الطريق وها أنا أضعها في التصليح وسآتي في سيارة أجرة لكِ.
صرخت الأخرى في وجهها وقالت:
_أيتها البلهاء لما لم تقولي وكنت أتيت لكِ؟
ضحكت على الطرف المُجاور وقالت:
_أعتذر فهاتف فصل وفتحته في ورشة التصليح.
صرخت في وجهها وقالت:
_تباً لكِ.
ثم قامت بإغلاق الهاتف في وجهها، وسارت تلعن صديقتها سراً وعلانية وقد ذهبت إلى محاضرتها.
******************
بعد وقتٍ طويل كانت قد وصلت الأخرى إلى الجامعة ، ولكنها كانت قد اصطدمت بأحدهم وهي تسير منكسة الرأس تعبث بما فيها، صرخت في وجهه وقالت:
_أيها الابله ألا ترى.
رفع حاجبه وقال:
_أنا، أعتذر فليس أنا من كان يسير مطأطئ الرأس بعبث في أشيائه.
صرخت في وجهه:
_أنا وجه الغراب ومن ضرب بي.
همس بقرب أذهنها قائلاً:
_لو لم تكوني فتاة كنت فعلت شيء عكس الهدوء، وقد رحل من أمامها وتركها تغلي من الغضب.
***********************
ف شركة رفعت كان قد وصل إليها، سار في ممرات شركته بكل عنجهية وخيال، يضع نظارة شمسية تُخفي ملامحه ويسير بكل برودٍ حتى دخل إلي مكتبه، ودخلت خلفه سكرتيرته الخاصة بغنج واضح قائلة:
_ صباح الخير يا رفعت بيه
رد عليها:
_ صباح النور، ما بكِ حزينة هكذا؟
سمر بحزن مصطنع قالت:
_وهل فعلت شيئاً يجعلني حزينة يا سيدي؟
ضحك بملأ شدقيه، وتمعن في ملامحها وقال:
_أعتذر منكِ سمر، فأنا لم أقدر على القدوم لكِ أمس، فقد أصر الأولاد على أن أجلس معهم، وأنتِ تعلمين لا أقدر على رفض طلباً لهمن ولكني أعدكِ أن أعوضك، بالنهاية أنتِ زوجتي، تبعها بنظرةٍ ماكرة.
*****************************
في المقابر
يقف ويضع يديه داخل جيبه يقف هو أمام هذا القبر الصغير التي يحتضن جسدها تمني لو كان مكان ذلك القبر لتدفن داخله تتلألأ الدموع ف عينيه ولكنها متحجرة لا تسقط ليس رغبة ف أن تبكي عيناه ولكنه أقسم ع أن يذرف الدموع حتي ينتقم لها ثلاثة عشر عاما مروا هجر فيها البلاد من وفاتها أو قل مقتلها ترك البلاد خلفها ولكنه لم يترك ذكراها ابدا فيأتي ليحتفل بمولدها ويتألم قلبه، أنه يأتي إلى هنا كي يستريح قلبه وهو يحفر ذكراها بداخله، يتمنى لو يجد الراحة له، رغم أن ذلك المكان يمنحه بعضها إلا أنها مؤقتة، فهذا المكان قد جمع من الأحبة أكثرهم.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي