الفصل الأول

الفصل الأول

في أحدى البيوت المصريه، في شقة صغيرة بالدور الأرضي؛ تتكون من غرفتين نوم، و صالة، حيث توضع في هذه الغرفة أريكة كبيرة (بلدي) ، ينام عليها طفل صغير يُدعى "صقر" الذي اخذ من اسمه نصيب فقد كانت نظراته حاده مثل الصقر.
يدرس في الصف الخامس الإبتدائي، مجتهد في دراسته، تشعر للوهله الأولى بأنه غير باقي الأطفال في سنه، لا يلهو معهم، منطوي بإستمرار، ليس لدية اصدقاء.
فقد كان مستغرقًا في نومه.

وحين نلقي النظر من حولنا نجد جدران الشقة، نجد بها شقوق وشروخ متراكمه منذ سنوات، لا يمكن معالجتها، مثل قلب صاحبة هذه الشقه، التي بداخلها الكثير، فهي سيده في منتصف العقد الثالث من عمرها، تجلس ارضًا حزينة على حال أسرتها، و لظروف حالهم الضيقه، تبث شكواها لربها بداخل صدرها، و تدعوه أن يفرج كربهم، و أن يثبت أقدام زوجها في عمله، الذي تعب حتى وجده، بعد رحلة عناء بحثًا عن عمل، و إذا فجأة يدخل زوجها "صبري" من باب المنزل و على وجهه الحزن، والغضب، يزفر انفاسًا عاليه، يسب و يلعن الظروف التي جعلته تحت رحمة صاحب العمل، تعجبت بشده زوجتة "رضا" و٥نهضت و قالت:

- مالك يا ابو صقر ! رجعت بدري ليه من القهوة؟

جلس على اريكة بلدي، و تنهد بحرقه و قال :

- المعلم طردني، و مشاني من القهوة.
- يامصبتي !! عملت أية عشان يطردگ يا راجل؟

قالتها و٥هي تصگ بيدها على صدرها بشده.

- معملتش حاجة تستاهل، جرى أية يعني لما وقع مني كام كوباية و اتكسروا، الدنيا خربت.
- تاني ياصبري، أنت لسه الأسبوع اللي فات وقع منك برضو الشيشه و اتكسرت، و الراجل مخصمش تمنها منك و سامحك، تقوم تكسر الكوبيات، يا راجل حرام عليك هناكل منين دلوقتي، و نربي الواد الحيلة ده منين ؟

اولاها ظهره، و امسك بيده كوبًا من الماء تجرعه دفعه واحده، حتى يبتلع حديثها المرير، اخفضها و لوح بطول يده و٥قال بغضب:

- الله اعملكوا أية، هو أنا هلاقيها منك، و لا من المعلم الظالم والمفتري، و٥لا من العيشه كلها، بجد أنا قرفت منكوا كلكوا، دي بقت عيشة تقصر العمر، محدش حاسس بيا، كل اللي شاغلك، هات فلوس و بس.

رمقته بأسى، و حزن ليس له مثيل:

- يا راجل أتقي ربنا فيا، هو أنا بقولك على فلوس غير للضروره، الأكل و الشرب، و يوم في و عشره لأ، و صابرة و متحمله، و أنت مش عايز تشوف شغلانه تانية مع القهوة.

نظر لها بغيظ، و غضب شديد بداخله منها و من كل من حوله، ليقول لها:

- و ادي كمان القهوة و اتطردت منها، اتصرفي بقى ياختي وريني شطارتك.

- هو مفروض أنا اللي اتصرف يا صبري، مش أنت الراجل و مفروض تصرف على البيت.

تسلل إلى غرفة النوم، و أخرج منها ملابسه القليله المتهالكه، و وضعها في حقيبه صغيرة، حاول اغلاقها، فلم يتمكن من اغلقها بأحكام، فوضعها تحت أبطئه، ثم رمقها بنظرة لم تستطع نسيانها، لحظة وداع منه بكل قسوة، و هروب و قال بنبره لا تحمل أي حب أو رأفه داخل قلبه:

- من اللحظة دي اعتبري نفسك أنك أنتي اللي راجل البيت، أنا سايبلك الدنيا بحالها و ماشي، اعتبريني مُت و مليش وجود، ياريت مدوريش عليا، عشان أنا قرفت من حياتي كلها.

وقفت في حالة تيه وذهول مما رأت، و سمعت منه، لماذا كل هذا؟ لماذا ربان السفينه يتركها تغرق بدون محاوله منه لانقاذها؟ هل هانت عليه العشرة لهذه الدرجة؟ و تخليه عن مسئوليته الابويه؟ أي قلب يمتلك هذا الرجل؟ كلا فهو أشباه رجل، لا يمس للرجوله بصلة.
ظلت هكذا ترمقه و تتبع اثاره حتى اختفى، و عيناها لا تصدق هروبه بهذه الطريقه المهينه، صمتت و لم تجد ما تقول، حتى ولده الصغير لم يرق قلبه و يصافحه أو يعانقه، عناق أخير، لقد تجمدت كل مشاعره و أصبح جبل من الثلج لا ينصهر، و لا يذوب من دموعها المتساقطة؛ ليس عليه، بل على مصيرها الغير معلوم.
أنصرف من أمامها، هارباً لبلاد لا يعلمها إلا الله وحده.
و جلست أرضًا تنعي حظها الذي أوقعها في هذا الرجل اللعين، نظرت و الدموع ما زالت منهمره؛ ترى كل شريط حياتها امامها، تتذكر خذلانه لها، تراه يبتعد من أمام أعينها، و هو حاملًا حقيبته المتهالكه مثل قلبها، و راحلاً إلى أرض الله الواسعه، غير منتبه لنظراتها التي تحرق فؤادها، كان أبنها الصغير الذي كان ثمرة زواج فاشل من رجل لا يحب تحمل مسئولية، استيقظ من نومه على صوت شجارهما المرتفع الذي لا ينتهي، وضع يده ليضم بهما قدماه ليشاهد هذا العرض المسرحي المتكرر في مراقبه بنظراته الحزينة، و عند انهاءه و انصراف أباه، شعر بتمزق و غصه في قلبه، فقد كان يود أن يضمه للمره الاخيرة، لا بل للمره الأولى التي حرم طوال سنوات عمره من هذا العناق، نهض و تقدم نحو والدته الغالية، التي كانت جالسه ارضًا، عندما رأته يقترب منها بسطت ذراعيها إليه فأسرع وارتمى داخل وطنه الذي يحتمي به من قسوة الأيام
فكانت دموعه أبت أن تتساقط، و ظلت حبيسه داخل محراب عيناه، و أكتفى بالنظر لأمه، و يداه الصغيرتين تضمها بحب، يربت على ظهرها بحنان:
- متعيطيش يا ماما، أنا هشتغل و مش هخليكي محتاجة لحد.

رمقته بأبتسامة برغم القهر الذي تشعر به، لاحساسها بأنها حقًا أنجبت رجلاً صغيرًا يعتمد عليه، قبلته و قالت :

- ربنا يخليك ليا ياضنايا، بس أنت ملكش دعوة بالشغل، أنت لسه صغير يا قلب أمگ، كل اللي عايزاه منگ أنگ تذاكر و بس، نفسي أفرح باليوم اللي أشوفك فيه دكتور اد الدنيا و تعوضني عن أي تعب هشوفه.
- اوعدك يا أمي أني هفرحك و هبقى زي ما أنتي بتتمني، بس أنا في الإجازة هنزل اشتغل عشان أخفف من عليكي، عشان خاطري، هروح أكلم عم متولي صاحب القهوة يشغلني عنده أي حاجة، حتى لو اكنس المحل، أجيب طلبات للقهوه، و هو بيحبنى مش هيمانع.
- يابني بلاش، ده لسه طارد أبوك.

نهض كالصقر، و نظر لها نظره ليس على طفل صغير يمتاز بها، فيها تحدي و قوة قائلاً بأقتضاب، قبل أن يتوجه إليه :
- و أنا غير أبويا.

و تركها و انصرف، و توجهه إلى صاحب المقهى الذي كان يعمل لدية والده، و اقترب من المعلم "متولي" و قال بنبرة راجية :

- لو سمحت يامعلم أنا عايز أشتغل مكان أبويا، هو سابنا و مشي، و قال محدش يدور عليا، و أنا عايز أساعد أمي، ممكن ترضى تشغلني؟
- يابني أنت لسه صغير، و الشغل هنا ميناسبش معاك، مش هتتحمله تقيل عليك، اشغلك إيه بس في القهوة؟

- أي حاجه، أكنس القهوة، و امسحها، أشتري طلبات القهوة، اي حاجة، و الله مش هعمل حاجة تزعلك مني، و مش هكسر حاجة صدقني، جربني و لو منفعتش مشيني.

نظر له بحيرة، و رق قلبه له، فهو برغم صغر سنه، لكنه يريد تحمل المسئولية و راجل، تبسم له و قال:

- طيب يا سيدي و ريني شطارتك، روح اكنس القهوة و رش ميه كده قدامها، و بعدين اسأل عمك صبحي لو محتاج حاجة تشتريها.
- حاضر يا معلمي، فوريره.

قالها والفرحه تطير من عيناه، ركض مسرعًا ممسكًا المكنسه لتنظيف الأرضيه، ثم رش المياه أمام واجهه المحل كما أمره.
و مر الوقت على هذا الصغير، يعمل دون ملل، منفذًا كل ما يطلب منه في خضوع، رافعًا رأسه يتحدى كل الظروف، و كل من حوله يتعجبون بشده، كيف لهذا الولد أن يتصرف و يعمل هكذا، فهو شعلة من النشاط.
ركضت والدته إليه لتطمئن عليه، فوجدت أحدى الزبائن ينادي على الصبي ليلبي له طلبه، و قد تأخر عليه، فأسرع "صقر" لهذا الرجل الغاضب ممسك بيده كوب الشاي ويضعه امامه، فنظر له الرجل قائلاً:

- هي القهوة عيلت وبتشغل عيال و لا إيه؟
نظر له بعيناه محدقه بنظرة نارية يتسم بها مردداً:

- الشاي عمو معاه طلبات بيقدمها، و أنا جبتهولك عشان كنت بتزعق، اتفضل، و أنا مش عيل، أنا راجل وبشتغل، عشان أكسب من عرق جبيني.

نهض الرجل و امسكه من تلابيب ثيابه، و قال بصوت جهور اجش:

- أنت بترد عليا يا حتت مفعوص مطلعش من البيضة لسه، أنت فين يا معلم متولي تشوف العيل ده بيرد إزاي عليا؟

كان المعلم يتابع الموقف، و سمع رد الصغير عليه، و ازداد أعجابه به، و بقوة شخصيته التي تظهر أنه سيصبح رجلاً الجميع تحترمه و تخشى غضبه، فتقدم بخطوات ثابته، و نظر للرجل، و هو يضع يده على كتف الصغير قائل:

- الواد مغلطش عشان أشوف، رد عليك بكل أدب، و أنا بشغله لأنه برغم صغر سنه أنما راجل و عايز يكسب قرش من عرق جبينه، و هو مش بينزل طلبات الزباين، إنما عمل كده عشان يرضيك، ميكنش جزاءه أنك تهزقه، واجب عليك تشجعه بكلمه حلوة، روح ياصقر يابني شوف شغلك.
و أنت عايز تقعد في قهوتي بلاش ترازي في حد، أنت فهمني، بلاش تخلي ضقتك من ابوه تطلعها في إبنه الغلبان.

كانت والدته تشاهد كل هذا أمام عيناها، كانت سوف ترد عليه و تأخذ إبنها في احضانها، لولا أن سمعت رد فعل صاحب المقهى، فقد طيب خاطر صغيرها، و اطمئنت عليه، و كم شعرت بالآسي أن زوجها لم يحاول أن يكسب وده مثل ابنه، و لكن هذا هو حال الدنيا، سارت إلى شقتها تفكر كيف ستتصرف في هذه الدنيا بمفردها، لابد أن تعمل، و لكن ماذا ستعمل ؟! و هي لا تمتلك شهاده تعمل بها؟ لكنها عليها أن تحاول فهي ما زالت بصحتها تستطيع أن تعمل من أجل تربيه ابنها الوحيد.
و اثناء سيرها شاهدتها جارتها "دلال" ذات العيون الجريئة، الدلوعة التي تعمل في محل ملابس، حزينة و مكسوره فقتربت منها مردده:

- مالك ياحببتي، شايلة طاجن ستك ليه، امال فين الدلعدي جوزك؟

رمقتها بآسى و قصت ماحدث لها منذ قليل، فوجدتها لوت ثغرها و قالت بالعين والحاجب، بمكر:

- ولا تشيلي هم، أنا هكلملك صاحب المحل، أنا ليا دلال عليه و مش بيرفضلي طلب، تشتغلي في المحل، تعملي قهوة، تكنسية، و تنضفيه و كده.
- و الله يبقى عملتي فيا جميل منسهوش ليكي العمر كله يادلال ياختي.
- أنتي حببتي، أنا رايحه دلوقتي و هعدي عليكي لما أخلص، و اقولگ البشاره الحلوه، سلام ياقلبي.

تركتها ودعت ربها أن يرزقها لأجل ابنها الصغير.

و مرت الوقت على الجميع، و آتى الليل بغيومه وعتمته التي تزيد من الغموض داخل القلوب الحزينه، التي تحتاج فقط إلى وميض يضئ لها طاقة نور تخرج منها لبر الأمان، كان "صقر" جالس و على وجهه التعب، الذي يجاهد ألا يظهره لوالدته، رقد على اريكته التي تؤنس وحدته، احتضن وسادته، و كاد أن يغفى لولا انتباه لسماع طرق الباب، أوقفته الأم ليستريح ونهضت لتفتح، وجدتها جارتها "دلال" مبتسمه لها مردده:

- العوافي يا أم صقر.
- الله يعافيكي، ادخلي يادلال.
- لا معلش الوقت متأخر، أنا كلمت صاحب المحل عليكي، و قالي تجي من بكرة الصبح، تستلمي الشغل.
- بجد ياالله، يامنت كريم يارب، عالم بحالي و سؤالي، شكرا ياختي، ربنا يسترك مايفضحك ابدا.
- العفو ياقلبي إحنا اخوات، سلام بقى.
- مع الف السلامه.

أغلقت الباب و جلست بجوار ابنها و السعادة على وجهها، فقال لها متسائل :

- أنتي هتنزلي تشتغلي ياماما؟
- أيوة ياحبيبي، أنت شغلك مش مضمون، و كمان المدارس قربت تدخل، و لازم تتفرغ للمذاكره.
- أنا هشتغل بعد ما أرجع من المدرسة، هقول لعم متولي، و هو هيرضى، بس خليكي أنت مستريحه.

احتضنته بحب وربتت عليه و قالت:

- لازم نكافح ياحبيبي عشان نقدر نعيش كويس، و ربنا هيساعدنا أكيد، نام أنت و الصبح ربنا هو الرزاق العليم، هيرزقنا من حيث لا نحتسب.
- تصبحي على خير يا أمي.
- و أنت بألف خير ياضنايا.


يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي