الفصل الثاني
الفصل الثاني
و نامت الأم ليلتها الأولى بمفردها، الوحده و الحزن و الألم ينهش أضلعها، تفكر في أخرة صبرها الذي لم يصبر معها في تحمل الحياة، تريد أن تصرخ، و تبكي بكاء مرير عليه، ليس حبًا فقد مات الحب منذ سنوات، حين انتزع القناع، و اكتشفت حقيقيه الخادعه، رجلاً متبلد، لا يمس للرجوله بصفه، تذكرت الماضي و كيف تعرفت عليه، شريط حياتها أمامها تريد أن تمحيه، لكنه مع الأسف أمامها لا يمحى مطلقاً، لكنها مع كل هذه الأوجاع، تذكرت رجولة ابنها الصغير، و شكرت ربها الذي وهب لها أياه، و دعت أن تراه كما تتمناه، أستمرت حتى غفت من شده التعب.
أشرقت شمس الكون غازله خيوط الأمل بداخل قلب "رضا" بكل رضا لقضاء الله لها، ايقظت ولدها، و أعدت له طعام بسيط، ثم توجها كل منهما إلى مبتغاه.
وصلت إلى محل الملابس، قابلت صاحبه الذي رمقها بنظرة كلها خبث، من مقدمة رأسها لاخمص قدميها، فقد كانت جميلة برغم الفقر الذي تنغمس بداخله، لكنها مازالت تنعم بوجهه جذاب، يجذب من يراه، و جسد ممشوق، تداريه العباءة السوداء الواسعه التي ترتديها، رحب بها و بلغها ما تقوم به من روتين يومي، أطاعته في انحناء، ثم تركته لتقوم بعملها، كانت نظراته تلاحقها أينما تذهب، فقد نالت أعجابه بشده، لم تهتم في بادئ الأمر لهذه النظرات، لكنها زادت مع تحرشه الدائم طوال النهار، حاولت تصده بشده، لكنه طلب منها بعض الملابس تأتيها من المخزن المجاور للمحل، و ما أن ذهبت هناگ، حتى أسرع بالتوجهه إليها و أقترب منها، ملامس بيده القذرة جسدها المرتعش، حاولت بكل قوتها أن تبعده عنها، و دموعها تتساقط خوفًا و رعبًا، لكنه كان جسده العريض، و طوله الفارع، جعلته كالجبل الذي لم تحركه الريح، فكانت مثل الريشه الضعيفه، سهل الإمساگ بها ويده تعبث كيفما تشاء، حاربته بكل ما أوتت من قوة، لعلها تهرب من هذا الفخ اللعين، أنقض عليها كالأسد الجائع ينهشها بعد أن اوقعها أرضًا بكل قوه، صراختها كانت تصل للجميع، و لا أحد يسمعها، لإغلاقه الباب بأحكام، شعرت المسكينه أنها أصبحت مثل الغزاله التي وقعت فريسه بين براثن هذا الأسد المفترس، صرخت بأعلى صوتها :
- يارب... يارب.
نظرت له بترجي أن يستر عليها و لا يفضحها بما يريد، كان لا يسمعها، كأنه مغيب، فغريزته الحيوانيه تزيد مع دموعها المتساقطه، لكن المفاجأة التي الجمته وجعلته كاللوح الثلج حين كانت تردد اسم الله بكل إيمان، فاق على طرق الباب بكل عنف من قبل الناس، خشى من افتضاح أمره، نهض مسرعاً لفتحه، نظر الناس له بكل احتقار، ركض "صقر" إلى أمه محتضنها، بحث عن وشاحها لتداري شعرها، هندمت ملابسها، و شكرت ربها، كان صوت بكاءها يمزق كل القلوب، و نظراته لها تخترقها، فما كان من أحد الواقفين بوكزه بقوة؛ اوقعته أرضاً، ليفيقه مما هو فيه حتى نزف الدماء من ثغره، أقترب المعلم"متولي" إليها ليخرجها من هذا المكان الموبوء، حدقتة بنظر أنكسار و قالت له :
- ربنا ينجدگ، زي ما نجدتني أنت و الرجاله، و يسترگ مايفضحگ ابدا يارب، بس أنت عرفت منين مكاني؟
- ابنك اللي حكالي بالصدفة أنك بتشتغلي عند الوسخ ده، اخدت الرجالة و جتلگ عشان عارفه قذر اد أية، و أنتي مش وش كده، احمدي ربنا يا أم صقر أن ربنا نجدك من تحت إيده، و لحقناكي في الوقت المناسب.
- حمداه و شاكره فضله، و مكنتش بقول غير يارب استرني و نجيني.
أمسك الصغير بيدها، و نظرات الحاده يرمقه بها، و التوعد له بالانتقام يسيطر عليه، و أقسم بداخله أن يأتي بحق أمه مهما طال الزمن.
و ساروا جميعاً إلى منزلهم، و كل منهم وصل لمراده و اثناء سيرها و جدت جارتها "أم بركات"صاحبة الخضار التي تجلس أرضًا تبتاع بعض الخضار، و ترزق منهم، لكنها كانت كبيرة في السن و مريضة، نادت عليها قائله:
- مالك يا أم صقر ! تايه ليه كده ياختي، كأنك شايله هم جبال؟
و هدومك مالها متوسخه، و العباية مقطوعه ليه كده؟
جلست بجوارها و قالت بدموع منهمره :
- أعمل اية بس يا خالتي، الدنيا قلبت عليا، و لما ابتسمت و قولت لاقيت شغل، الراجل منه لله اتهجم عليا، لولا المعلم الله يستره جه نجاني، و ابو صقر طفش مننا وهج، و الواد اللي طلعت بيه من الدنيا شغال في القهوة، و مش عارفه هعمل إيه في حياتي؟ و ليه بيحصل فيا كده عن دون البشر، الضربات ورا بعضها، و مش ملاحقه اصد اية و لا اية، و أنا بطولي.
حن قلب العجوز عليها، و اشفقت على حالها، ربتت على كتفها و ردت بتأثر:
- سبيها على ربنا، هيفرجها من وسع، بصي أنا صحتي في النازل، و يوم أقعد على الفرشه و عشرة لأ، تعالي اقعدي مكاني و رزقنا على الله.
نظرت لها و الذهول مسيطر عليها، فهي دعوة استجابت من ربنا، و وضعها أمامها ليجعلها فاتحه خير لها، عانقتها بشده و شكرتها، و وعدتها بأنها ستجلس بدلاً منها من الغد، ثم توجهت إلى شقتها تنتظر "صقرها" الذي تترجاه من حياتها.
و مرت الأيام على حالها، كل مننا يركض على أكل عيشه، تستيقظ
" أم صقر" مبكراً لتجلس ل تبتاع الخضار لأهل المنطقه، و بجانبها "أم بركات" تشد من ازرها، و "صقر" في القهوة يتحمل مشاكسات "محروس" ابن صاحبها، فبرغم سنة المتوسط إلا أنه يغار من هذا الصغير، الذي احتل مكانه كبيره في قلب والده، حاول طرده أكثر من مرة، لكنه يجد التعنيف من قبل والده، فهو شاب معتمد على والده، غير قادر على تحمل المسئولية، كما يقال عليه من (نوعيه الشباب المتدلله) ، التي ولدت بداخل فمها معلقه من ذهب.
و في صباح يوم كانت جالسه "رضا"
تبتاع الخضار للجيران، و إذا بها تتفاجأ بأن المنطقه ملئت بالرجال علمت حين اقتربوا منها يأخذون ما أمامها من خضار، و يقذفون بقية الخضار؛ بطريقتهم الهوجاء؛ بأنهم "البلديه" صراخ الجميع من حولها ينبحون من ظلم هؤلاء البشر؛ و هم يأخذون ما امامها بكل وحشية أمام الجميع، و صراخ إبنها لا يتوقف حين رآى بكاء أمه، و نواحها على ما سلب منها عنوه.
و هو يقف يشاهد كل شيء مكتوف الأيدي، غير قادر على فعل أي شيء من أجلها، فقد كانوا يتحركون و يقذفون كل من تراه أعينهم بدون رحمه أو شفقه لمسن أو لامرأه.
ركض "صقر" يمسك يد أمه الواقعه على الأرض يساعدها على النهوض، ثم احتضانها و هو يربت على ظهرها بيده الصغيره، فبرغم صغرها لكنها تعطيها حنان و قوة تحتاج إليها، بداخله يشعر بالتمزق من أجلها، يريد فعل المستحيل و يداه مكبده غير قادره على فعل اي شيء إلا أن تمتد لتجفف دموعها الحارقه، نظر لها بعينيه الصقريه، و تبسم لها ابتسامته الحنونه التي تمنحها الأمل في غد أفضل بوجوده بجوارها، و بعد وقت من الفوضى و أنصراف الحكومه، أسرع الجميع يوجهون إلى قسم الشرطه لدفع الغرامه، و استرداد ما سلب منهم، و حين ذهبوا هناك لم يجدون شيئاً سواء (الميزان) فقد هو ما تبقى لها، أما الخضار فقد دهس و قذف، و لم يتبقى منه شيء صالح، وقف "المعلم متولي" و رجال الحي بجوارها، و تم دفع المبلغ المطلوب، و عادوا إلى منزلهم و في قلبها غصة مما اصابها، و لسوء الحظ الذي لازمها، استقلوا سيارة آجرة رفعت يدها تسندها على نافذة السياره، ثم وضعت كفها على وجنتيها و دموعها تتساقط بدون تحكم منها، و ظلت طوال الطريق تفكر و تعتل، ماذا هي فاعله في أيامها المقبله؟ و أين ستذهب؟ كل الأبواب أغلقت و صدت أمامها، و لا يبقى إلا باب ربها الذي لم يغلقه أمام عباده، رفعت رأسها بكل انكسار و عيناها ناجته تطلب منه بكل أمل أن يقف بجوارها، و ييسر لها أمرها من أجل وليدها الذي لا ذنب له أن أباه رجلاً لا يتحمل مسئوليته.
كان الصمت سائد، و نظرات "المعلم متولي" تلاحقها و يشعر بما تعانيه طول الطريق، و عندما وصلا أمام المقهى أجلسها على أحد المقاعد ثم تبسم لها و قال:
- متشليت هم يا ام صقر، ربك هيحلها من عنده و هترزق بمشيئة الرحمن.
أمسحت عبراتها بكف يدها ترد عليها بعد أن زفرت أنفاسها:
- ازاي بس يامعلم، و أنا كل ما بسعى بلاقيها متقفله في وشي، ذنبها إيه الست ام بركات بضاعتها تتاخد منها، و ياريت عرفنا نلاقيها.
ثم رفعت رأسها للمولى عز وجل تقول دعوة المظلوم:
- حسبي الله و نعم الوكيل فيهم.
- ياستي اتفاءلي مالك كده مسوده الدنيا، رجاله الحته هيراضوها، و يقفوا جنبها و يعوضها البضاعه، و أن كان عليكي ممكن تبقي تيجي من بكره كل يوم تساعدي ام محروس، رجليها وجعاها وبقت مش قادره على شغل البيت.
- بجد و النبي يامعلم، ده أنا اخدمها برموش عنيا، و اللي هي تأمر بيه انفذه، الله يسترگ ما يفضحگ ابدا.
قالت حديثها بعد ما تهلل وجهها بالسرور، ثم نزلت دموعها كوابل من الأمطار دفعه واحده، بدون أن تلتقط أنفاسها، كأنها وجدت في حروفة حبلا انتشالها من الغرق، و التيه التي اصابتها، عيناها كانت تشكره و تبث له كل الامتنان، رفعت يدها تشكر ربها لاستجابته السريعه لمناجاتها له، و جعل قلوب عباده تعطف عليها.
ثم قام كل منهما و توجها لمبتغاه.
ذهبت "أم صقر" لجارتها "ام بركات" تعتذر لها، و تعطي لها "الميزان" ووجها لاسفل هاتفه:
- حقك عليا ياختي، و الله غصب عني ملحقتش حاجة من الخضار، و تمنهم دين في رقبتي ربنا يقدرني و اعوضگ.
ردت عليها العجوز التى انكمش وجهها من أثار عوامل الزمان:
- بتعتذري على إيه بس يا ام صقر، أنتي ملكيش ذنب، و أنا واخده على كده، ربنا يعوضنا جميعًا، و لما أجيب تاني خضار هبقى أقولگ.
- شكرا، توبه من دي النوبه، أنا جربت حظي، و طلع وشي فقر عليكي، المعلم متولي الله يستره قالي أروح أساعد مراته في شغل البيت، و ان شاء الله ترزق.
- ربنا يصلحك الحال حببتي.
************
في منزل "المعلم متولي" يجلس مع زوجته و ابنه المدلل من قبل والدته "محروس" لتناول وجبة الغداء، يتذكر ما وعد به "ام رضا" يوجه بصره لزوجته قائلا:
- بقولگ صحيح يا ام محروس، كلمت النهاردة ام صقر إنها تيجي من بكره عشان تساعدگ في شغل البيت.
نظرت له بأعينها، و لوت ثغرها، و رفعت احدى حاجبها، ثم قالت و هي تمسگ بإحدى الدجاجة التي كانت بيدها و تضعها له في الاناء الذي أمامه :
- و ده من أمتى يا أخويا؟ ده لساني ادلدل عشان توافق تجبلي حد يساعدني، و أنت تطنش، اشمعنى دلوقتي؟
- يا وليه يعني لا كده عاجب، و لا ده عاجب، أعمل إيه عشان ترضي؟
تنحنحت و ابتلعت لعابها، و تراجعت فيما تفوهت به و قالت:
- مش القصد و الله يا أبو محروس بس مستغرباگ مش أكتر.
ترك مابيده من طعام، و وجه بصره لها موضحاً حديثه:
- ياوليه افهمي، و بلاش مخگ التخين ده، الست البلديه جت اخدت الخضار بتاع ام بركات، اللي كانت بتبيعه و ترزق منه، و لما روحنا نجيبه مخدناش حاجة غير الميزان، قولت أكسب فيها ثواب و افتكرتگ لما كنتِ بتشتكي من وجع رجلگ، غلطان أنا عشان بساعد الكل؟
- ابدا، هو أنت بتغلط خالص، ده أنت ملاك و ناقصلگ أجنحة عشان تطير يا ابو قلب طيب زي البلسم.
- شوف الوليه اللي مش بيطمر فيها حاجة، و لا يعجبها العجب، و لا الصيام في رجب.
- معلش يا اماه اصل أبويا اليومين دول بقى حامي الحما، لأم صقر و ابنها.
"قالها" محروس" بسخرية، فرمقه أباه نظره ناريه مردد:
- اتلم يا فاشل، اللي عمري ما شوفت منگ تصرف
يشرح قلبي، و على طول كده كسفني، و مقصر رقبتي في الحي، مش عارف هتبقى راجل و تحمل مسئولية
نفسك أمتى؟ و تقف في ظهري و تشيل عني القهوة، مش كفاية مفلحتش في التعليم، و بقيت زي
البغل
بعلفگ طول ١٦ سنه اللي فاتوا.
ساب محروس الاكل من ايده وبص لابوه بعيون غاضبه قائلا:
- أنت دايماً يا أبويا كده كاسر بخاطري، كفايه عليگ
المفعوص اللي شايله من على الأرض شيل.
- عشان راجل من صغره، عمر الرجوله ما كانت بالسن ابدا، إنما ب المواقف، و الواد ده فعلا ابوه النطع
ميستهلش ظفره، ربنا يبارگ فيه و يحفظه لأمه.
تأففت "ام محروس" بضيق من كثرة حديثه عنهما، و
قالت:
- خلاص يامعلم كفاية بقى كلام عنهم، و كمل أكلگ، و أنت ياواد يا محروس اكل ياقلب امگ.
- سديتوا نفسي، كتكم الارف انتي و ابنك المدلع،
هنني ياختي فيه، و اعلفيه، يامحروس يا عين أمگ ياتوتو.
نهض من على مائدة الطعام، و ترگ المنزل متوجهاً
للمقهى، اقتربت أمه و قالت لابنها مستفهمه:
- أية الحكاية ياواد يامحروس، أنا الفار بيلعب ماتش كوره في عبي، و مش مرتاحه لكلامگ؟
- أقولگ إيه بس يا ماه، الوليه و ابنها اكلوا دماغ
أبويا، و أنتي عارفه قلب جوزگ، قلب خسايه.
- ياخرابي ! و العمل ياواد؟
- ايديگ على عمود كبير من ام ٢٠٠جنيه، و أنا أقولگ
تعملي إيه ؟
- ياهدگ أنت لحقت يا واد تصرف اللي اخدتهم
امبارح؟
- يازوزه هي في فلوس بتقعد اليومين دول، بتطير
ياحببتي.
- طب و لا يهمگ ياعين أمگ، أصرف و اتبسط، خد اللي عايزة بس احكيلي هنعمل إيه؟ أنا خايفه من
مقصوفة الرقبه تاخد أبوگ مني.
- لا متخافيش، اسمعي مني و مش هتندمي.
- قول ياحيلتها سمعني كلامگ.
***********
بعدما القى "محروس" سمه في أذان أمه التي كانت
مستمعه له بتركيز، ذهب مع أصدقاء السوء في أحدى الكافيهات و بيده الأرجيلة يزفر أنفاسه الحارقه بكل غضب، متوعدًا لهذا الطفل الذي يقارنه والده به في كل لحظة، و يفتخر بوجوده معه.
لاحظ أصدقاءه هذه النيران المتوهجه على وجهه
فقال احداهما:
- مالك يا حوس، وشگ متعفر ليه كده؟ هتحرقنا
جنبك يابرنس الليالي.
يتبع
و نامت الأم ليلتها الأولى بمفردها، الوحده و الحزن و الألم ينهش أضلعها، تفكر في أخرة صبرها الذي لم يصبر معها في تحمل الحياة، تريد أن تصرخ، و تبكي بكاء مرير عليه، ليس حبًا فقد مات الحب منذ سنوات، حين انتزع القناع، و اكتشفت حقيقيه الخادعه، رجلاً متبلد، لا يمس للرجوله بصفه، تذكرت الماضي و كيف تعرفت عليه، شريط حياتها أمامها تريد أن تمحيه، لكنه مع الأسف أمامها لا يمحى مطلقاً، لكنها مع كل هذه الأوجاع، تذكرت رجولة ابنها الصغير، و شكرت ربها الذي وهب لها أياه، و دعت أن تراه كما تتمناه، أستمرت حتى غفت من شده التعب.
أشرقت شمس الكون غازله خيوط الأمل بداخل قلب "رضا" بكل رضا لقضاء الله لها، ايقظت ولدها، و أعدت له طعام بسيط، ثم توجها كل منهما إلى مبتغاه.
وصلت إلى محل الملابس، قابلت صاحبه الذي رمقها بنظرة كلها خبث، من مقدمة رأسها لاخمص قدميها، فقد كانت جميلة برغم الفقر الذي تنغمس بداخله، لكنها مازالت تنعم بوجهه جذاب، يجذب من يراه، و جسد ممشوق، تداريه العباءة السوداء الواسعه التي ترتديها، رحب بها و بلغها ما تقوم به من روتين يومي، أطاعته في انحناء، ثم تركته لتقوم بعملها، كانت نظراته تلاحقها أينما تذهب، فقد نالت أعجابه بشده، لم تهتم في بادئ الأمر لهذه النظرات، لكنها زادت مع تحرشه الدائم طوال النهار، حاولت تصده بشده، لكنه طلب منها بعض الملابس تأتيها من المخزن المجاور للمحل، و ما أن ذهبت هناگ، حتى أسرع بالتوجهه إليها و أقترب منها، ملامس بيده القذرة جسدها المرتعش، حاولت بكل قوتها أن تبعده عنها، و دموعها تتساقط خوفًا و رعبًا، لكنه كان جسده العريض، و طوله الفارع، جعلته كالجبل الذي لم تحركه الريح، فكانت مثل الريشه الضعيفه، سهل الإمساگ بها ويده تعبث كيفما تشاء، حاربته بكل ما أوتت من قوة، لعلها تهرب من هذا الفخ اللعين، أنقض عليها كالأسد الجائع ينهشها بعد أن اوقعها أرضًا بكل قوه، صراختها كانت تصل للجميع، و لا أحد يسمعها، لإغلاقه الباب بأحكام، شعرت المسكينه أنها أصبحت مثل الغزاله التي وقعت فريسه بين براثن هذا الأسد المفترس، صرخت بأعلى صوتها :
- يارب... يارب.
نظرت له بترجي أن يستر عليها و لا يفضحها بما يريد، كان لا يسمعها، كأنه مغيب، فغريزته الحيوانيه تزيد مع دموعها المتساقطه، لكن المفاجأة التي الجمته وجعلته كاللوح الثلج حين كانت تردد اسم الله بكل إيمان، فاق على طرق الباب بكل عنف من قبل الناس، خشى من افتضاح أمره، نهض مسرعاً لفتحه، نظر الناس له بكل احتقار، ركض "صقر" إلى أمه محتضنها، بحث عن وشاحها لتداري شعرها، هندمت ملابسها، و شكرت ربها، كان صوت بكاءها يمزق كل القلوب، و نظراته لها تخترقها، فما كان من أحد الواقفين بوكزه بقوة؛ اوقعته أرضاً، ليفيقه مما هو فيه حتى نزف الدماء من ثغره، أقترب المعلم"متولي" إليها ليخرجها من هذا المكان الموبوء، حدقتة بنظر أنكسار و قالت له :
- ربنا ينجدگ، زي ما نجدتني أنت و الرجاله، و يسترگ مايفضحگ ابدا يارب، بس أنت عرفت منين مكاني؟
- ابنك اللي حكالي بالصدفة أنك بتشتغلي عند الوسخ ده، اخدت الرجالة و جتلگ عشان عارفه قذر اد أية، و أنتي مش وش كده، احمدي ربنا يا أم صقر أن ربنا نجدك من تحت إيده، و لحقناكي في الوقت المناسب.
- حمداه و شاكره فضله، و مكنتش بقول غير يارب استرني و نجيني.
أمسك الصغير بيدها، و نظرات الحاده يرمقه بها، و التوعد له بالانتقام يسيطر عليه، و أقسم بداخله أن يأتي بحق أمه مهما طال الزمن.
و ساروا جميعاً إلى منزلهم، و كل منهم وصل لمراده و اثناء سيرها و جدت جارتها "أم بركات"صاحبة الخضار التي تجلس أرضًا تبتاع بعض الخضار، و ترزق منهم، لكنها كانت كبيرة في السن و مريضة، نادت عليها قائله:
- مالك يا أم صقر ! تايه ليه كده ياختي، كأنك شايله هم جبال؟
و هدومك مالها متوسخه، و العباية مقطوعه ليه كده؟
جلست بجوارها و قالت بدموع منهمره :
- أعمل اية بس يا خالتي، الدنيا قلبت عليا، و لما ابتسمت و قولت لاقيت شغل، الراجل منه لله اتهجم عليا، لولا المعلم الله يستره جه نجاني، و ابو صقر طفش مننا وهج، و الواد اللي طلعت بيه من الدنيا شغال في القهوة، و مش عارفه هعمل إيه في حياتي؟ و ليه بيحصل فيا كده عن دون البشر، الضربات ورا بعضها، و مش ملاحقه اصد اية و لا اية، و أنا بطولي.
حن قلب العجوز عليها، و اشفقت على حالها، ربتت على كتفها و ردت بتأثر:
- سبيها على ربنا، هيفرجها من وسع، بصي أنا صحتي في النازل، و يوم أقعد على الفرشه و عشرة لأ، تعالي اقعدي مكاني و رزقنا على الله.
نظرت لها و الذهول مسيطر عليها، فهي دعوة استجابت من ربنا، و وضعها أمامها ليجعلها فاتحه خير لها، عانقتها بشده و شكرتها، و وعدتها بأنها ستجلس بدلاً منها من الغد، ثم توجهت إلى شقتها تنتظر "صقرها" الذي تترجاه من حياتها.
و مرت الأيام على حالها، كل مننا يركض على أكل عيشه، تستيقظ
" أم صقر" مبكراً لتجلس ل تبتاع الخضار لأهل المنطقه، و بجانبها "أم بركات" تشد من ازرها، و "صقر" في القهوة يتحمل مشاكسات "محروس" ابن صاحبها، فبرغم سنة المتوسط إلا أنه يغار من هذا الصغير، الذي احتل مكانه كبيره في قلب والده، حاول طرده أكثر من مرة، لكنه يجد التعنيف من قبل والده، فهو شاب معتمد على والده، غير قادر على تحمل المسئولية، كما يقال عليه من (نوعيه الشباب المتدلله) ، التي ولدت بداخل فمها معلقه من ذهب.
و في صباح يوم كانت جالسه "رضا"
تبتاع الخضار للجيران، و إذا بها تتفاجأ بأن المنطقه ملئت بالرجال علمت حين اقتربوا منها يأخذون ما أمامها من خضار، و يقذفون بقية الخضار؛ بطريقتهم الهوجاء؛ بأنهم "البلديه" صراخ الجميع من حولها ينبحون من ظلم هؤلاء البشر؛ و هم يأخذون ما امامها بكل وحشية أمام الجميع، و صراخ إبنها لا يتوقف حين رآى بكاء أمه، و نواحها على ما سلب منها عنوه.
و هو يقف يشاهد كل شيء مكتوف الأيدي، غير قادر على فعل أي شيء من أجلها، فقد كانوا يتحركون و يقذفون كل من تراه أعينهم بدون رحمه أو شفقه لمسن أو لامرأه.
ركض "صقر" يمسك يد أمه الواقعه على الأرض يساعدها على النهوض، ثم احتضانها و هو يربت على ظهرها بيده الصغيره، فبرغم صغرها لكنها تعطيها حنان و قوة تحتاج إليها، بداخله يشعر بالتمزق من أجلها، يريد فعل المستحيل و يداه مكبده غير قادره على فعل اي شيء إلا أن تمتد لتجفف دموعها الحارقه، نظر لها بعينيه الصقريه، و تبسم لها ابتسامته الحنونه التي تمنحها الأمل في غد أفضل بوجوده بجوارها، و بعد وقت من الفوضى و أنصراف الحكومه، أسرع الجميع يوجهون إلى قسم الشرطه لدفع الغرامه، و استرداد ما سلب منهم، و حين ذهبوا هناك لم يجدون شيئاً سواء (الميزان) فقد هو ما تبقى لها، أما الخضار فقد دهس و قذف، و لم يتبقى منه شيء صالح، وقف "المعلم متولي" و رجال الحي بجوارها، و تم دفع المبلغ المطلوب، و عادوا إلى منزلهم و في قلبها غصة مما اصابها، و لسوء الحظ الذي لازمها، استقلوا سيارة آجرة رفعت يدها تسندها على نافذة السياره، ثم وضعت كفها على وجنتيها و دموعها تتساقط بدون تحكم منها، و ظلت طوال الطريق تفكر و تعتل، ماذا هي فاعله في أيامها المقبله؟ و أين ستذهب؟ كل الأبواب أغلقت و صدت أمامها، و لا يبقى إلا باب ربها الذي لم يغلقه أمام عباده، رفعت رأسها بكل انكسار و عيناها ناجته تطلب منه بكل أمل أن يقف بجوارها، و ييسر لها أمرها من أجل وليدها الذي لا ذنب له أن أباه رجلاً لا يتحمل مسئوليته.
كان الصمت سائد، و نظرات "المعلم متولي" تلاحقها و يشعر بما تعانيه طول الطريق، و عندما وصلا أمام المقهى أجلسها على أحد المقاعد ثم تبسم لها و قال:
- متشليت هم يا ام صقر، ربك هيحلها من عنده و هترزق بمشيئة الرحمن.
أمسحت عبراتها بكف يدها ترد عليها بعد أن زفرت أنفاسها:
- ازاي بس يامعلم، و أنا كل ما بسعى بلاقيها متقفله في وشي، ذنبها إيه الست ام بركات بضاعتها تتاخد منها، و ياريت عرفنا نلاقيها.
ثم رفعت رأسها للمولى عز وجل تقول دعوة المظلوم:
- حسبي الله و نعم الوكيل فيهم.
- ياستي اتفاءلي مالك كده مسوده الدنيا، رجاله الحته هيراضوها، و يقفوا جنبها و يعوضها البضاعه، و أن كان عليكي ممكن تبقي تيجي من بكره كل يوم تساعدي ام محروس، رجليها وجعاها وبقت مش قادره على شغل البيت.
- بجد و النبي يامعلم، ده أنا اخدمها برموش عنيا، و اللي هي تأمر بيه انفذه، الله يسترگ ما يفضحگ ابدا.
قالت حديثها بعد ما تهلل وجهها بالسرور، ثم نزلت دموعها كوابل من الأمطار دفعه واحده، بدون أن تلتقط أنفاسها، كأنها وجدت في حروفة حبلا انتشالها من الغرق، و التيه التي اصابتها، عيناها كانت تشكره و تبث له كل الامتنان، رفعت يدها تشكر ربها لاستجابته السريعه لمناجاتها له، و جعل قلوب عباده تعطف عليها.
ثم قام كل منهما و توجها لمبتغاه.
ذهبت "أم صقر" لجارتها "ام بركات" تعتذر لها، و تعطي لها "الميزان" ووجها لاسفل هاتفه:
- حقك عليا ياختي، و الله غصب عني ملحقتش حاجة من الخضار، و تمنهم دين في رقبتي ربنا يقدرني و اعوضگ.
ردت عليها العجوز التى انكمش وجهها من أثار عوامل الزمان:
- بتعتذري على إيه بس يا ام صقر، أنتي ملكيش ذنب، و أنا واخده على كده، ربنا يعوضنا جميعًا، و لما أجيب تاني خضار هبقى أقولگ.
- شكرا، توبه من دي النوبه، أنا جربت حظي، و طلع وشي فقر عليكي، المعلم متولي الله يستره قالي أروح أساعد مراته في شغل البيت، و ان شاء الله ترزق.
- ربنا يصلحك الحال حببتي.
************
في منزل "المعلم متولي" يجلس مع زوجته و ابنه المدلل من قبل والدته "محروس" لتناول وجبة الغداء، يتذكر ما وعد به "ام رضا" يوجه بصره لزوجته قائلا:
- بقولگ صحيح يا ام محروس، كلمت النهاردة ام صقر إنها تيجي من بكره عشان تساعدگ في شغل البيت.
نظرت له بأعينها، و لوت ثغرها، و رفعت احدى حاجبها، ثم قالت و هي تمسگ بإحدى الدجاجة التي كانت بيدها و تضعها له في الاناء الذي أمامه :
- و ده من أمتى يا أخويا؟ ده لساني ادلدل عشان توافق تجبلي حد يساعدني، و أنت تطنش، اشمعنى دلوقتي؟
- يا وليه يعني لا كده عاجب، و لا ده عاجب، أعمل إيه عشان ترضي؟
تنحنحت و ابتلعت لعابها، و تراجعت فيما تفوهت به و قالت:
- مش القصد و الله يا أبو محروس بس مستغرباگ مش أكتر.
ترك مابيده من طعام، و وجه بصره لها موضحاً حديثه:
- ياوليه افهمي، و بلاش مخگ التخين ده، الست البلديه جت اخدت الخضار بتاع ام بركات، اللي كانت بتبيعه و ترزق منه، و لما روحنا نجيبه مخدناش حاجة غير الميزان، قولت أكسب فيها ثواب و افتكرتگ لما كنتِ بتشتكي من وجع رجلگ، غلطان أنا عشان بساعد الكل؟
- ابدا، هو أنت بتغلط خالص، ده أنت ملاك و ناقصلگ أجنحة عشان تطير يا ابو قلب طيب زي البلسم.
- شوف الوليه اللي مش بيطمر فيها حاجة، و لا يعجبها العجب، و لا الصيام في رجب.
- معلش يا اماه اصل أبويا اليومين دول بقى حامي الحما، لأم صقر و ابنها.
"قالها" محروس" بسخرية، فرمقه أباه نظره ناريه مردد:
- اتلم يا فاشل، اللي عمري ما شوفت منگ تصرف
يشرح قلبي، و على طول كده كسفني، و مقصر رقبتي في الحي، مش عارف هتبقى راجل و تحمل مسئولية
نفسك أمتى؟ و تقف في ظهري و تشيل عني القهوة، مش كفاية مفلحتش في التعليم، و بقيت زي
البغل
بعلفگ طول ١٦ سنه اللي فاتوا.
ساب محروس الاكل من ايده وبص لابوه بعيون غاضبه قائلا:
- أنت دايماً يا أبويا كده كاسر بخاطري، كفايه عليگ
المفعوص اللي شايله من على الأرض شيل.
- عشان راجل من صغره، عمر الرجوله ما كانت بالسن ابدا، إنما ب المواقف، و الواد ده فعلا ابوه النطع
ميستهلش ظفره، ربنا يبارگ فيه و يحفظه لأمه.
تأففت "ام محروس" بضيق من كثرة حديثه عنهما، و
قالت:
- خلاص يامعلم كفاية بقى كلام عنهم، و كمل أكلگ، و أنت ياواد يا محروس اكل ياقلب امگ.
- سديتوا نفسي، كتكم الارف انتي و ابنك المدلع،
هنني ياختي فيه، و اعلفيه، يامحروس يا عين أمگ ياتوتو.
نهض من على مائدة الطعام، و ترگ المنزل متوجهاً
للمقهى، اقتربت أمه و قالت لابنها مستفهمه:
- أية الحكاية ياواد يامحروس، أنا الفار بيلعب ماتش كوره في عبي، و مش مرتاحه لكلامگ؟
- أقولگ إيه بس يا ماه، الوليه و ابنها اكلوا دماغ
أبويا، و أنتي عارفه قلب جوزگ، قلب خسايه.
- ياخرابي ! و العمل ياواد؟
- ايديگ على عمود كبير من ام ٢٠٠جنيه، و أنا أقولگ
تعملي إيه ؟
- ياهدگ أنت لحقت يا واد تصرف اللي اخدتهم
امبارح؟
- يازوزه هي في فلوس بتقعد اليومين دول، بتطير
ياحببتي.
- طب و لا يهمگ ياعين أمگ، أصرف و اتبسط، خد اللي عايزة بس احكيلي هنعمل إيه؟ أنا خايفه من
مقصوفة الرقبه تاخد أبوگ مني.
- لا متخافيش، اسمعي مني و مش هتندمي.
- قول ياحيلتها سمعني كلامگ.
***********
بعدما القى "محروس" سمه في أذان أمه التي كانت
مستمعه له بتركيز، ذهب مع أصدقاء السوء في أحدى الكافيهات و بيده الأرجيلة يزفر أنفاسه الحارقه بكل غضب، متوعدًا لهذا الطفل الذي يقارنه والده به في كل لحظة، و يفتخر بوجوده معه.
لاحظ أصدقاءه هذه النيران المتوهجه على وجهه
فقال احداهما:
- مالك يا حوس، وشگ متعفر ليه كده؟ هتحرقنا
جنبك يابرنس الليالي.
يتبع