الفصل الثالث
الفصل الثالث
- و حيات أبوگ مش نقصاگ، بلا برنس بلا نيله، أنا متخانق مع ابويا و مش مستحمل.
- و اية الجديد، ما أنت على طول متخانق معاه، و البركه في الست الوالده بطيب خاطرگ على طول.
- بقولگ أية مش طالبه، أنا دماغي مولعه، هقوم عايز ابقى لوحدي.
- أهدى بس يامحروس، أنا كنت عايز افرفشك، و اخرجگ من مودگ، دي البنت دلال زمانها جاية، و القعده هتحلو.
- مادام فيها دلال نقعد، شكل الليلة دي مش هتعدي كده بلوشي، اطلبلنا حاجة نشربها.
***************
و مر الوقت سريعًا، و جاء الليل و سكونه يعشش بداخله الطيور، في أمان و سكينه، و غفت الحزينه راجيه بأن يصبح يومها القادم افضل من ذي قبل.
و ازاحت الشمس ستار الليل الكالح الحزين، و ظهر شعاع الضوء في السماء معلنًا شروق شمس جديده مليئة بالأمل والتفاءل، استيقظت "رضا" بنشاط و همه تعد الفطور لابنها و تقيظه ليذهب إلى عمله، و تتوجهه هي لمنزل "المعلم متولي" داعيه الله ان يقف بجانبها، و يحن قلب صاحبة المنزل عليها.
استيقظ "المعلم متولي" من نومه على صوت زوجته مناديه عليه حتى يأكل قبل ذهابه إلى المقهى، توجه ليتسبح، ثم جلس يأكل في صمت، ثم ارتدى جلبابه و عباءته حول أكتافه، و امسك بعصاه و رمقها بنظرة تحذيريه قائلا:
- إياگِ ياوليه تعاملي الست ام صقر وحش، و لمي لسانگ عنها، هي جاية تساعدگ و تاخد اللي فيه النصيب، اتعاملي معاها بلطف؛ عشان ربنا يجازيكي خير.
- في أية يامعلم؟ هو أنت ليه شايفني همسگ في رقبتها، هو في حد في طيبة قلبي، ياكش بس أنت اللي مش عارف قيمتي كويس.
- أنتي هتقوليلي، قلبگ ده قلب خساية خضرة، ربنا يهديكي.
- آمين و اياگ، روح شوف شغلگ أنت و ملكش دعوة.
انصرف لمبتغاه، و قلبه متوجس منها، فهو أكثر الأشخاص يقرأها بدون ان تتحدث، قلبه استشعر إنها تدبر لشيء مجهول لها.
و أثناء وصوله للمقهى كانت تسير "ام صقر" و ولدها نحوه، ولج الطفل ب الداخل، و القت عليه الصباح، و ذهبت إلى منزله المجاور للمقهى، ابتسمت لها "ام محروس" و بادلتها العناق، و الترحيب قائلة:
- شوفي ياحببتي، أنتي كل يوم هتروقي البيت و تكنسيه، و تدخلي تحضري الأكل، و يوم الجمعه من صباحية ربنا تشيلي السجاد و تطلعيه فوق السطح، تنفضيه النتفيضة اللي هي، و تمسحي الشقه كلها وتلمعيها.
- بس كده من عيوني يا ام محروس، اللي تأمريني بيه هعمله.
- طيب يالا بقى شدي حيلگ و شيلي السجاد و امسحي الشقه، عايزاها بتبرق كده، عقبال ما أفكر هنطبخ أية؟
- حاضر.
نهضت في نشاط، لتنفيذ ما أمرت به، كأنها مثل الآله التي تعمل دون كلل أو ملل، تحمل من الهموم فوق أكتافها دون أن تتفوه بآه واحده، متذكره كل ما مرت به من آلام و حزن، و مر الوقت حتى انتهت من كل شيء، نظرت لها أم محروس و قالت:
- اخيراً خلصتي، كده غرقتي هدومگ ميه !! الواد محروس صحي حضري له الفطار و بعدين ادخلي نفضي اوضته و هويها، و امسحيها.
نظرت لها بأنكسار، و اومأت برأسها بنعم، و ذهبت لتنفذ ما قالت، بعد اعدادها لطعام الافطار، ذهبت إلى غرفة "محروس" و إذا بها تفاجأت حين أمسكت وسادته لتغير الشرشف، بوجود سجائر بها "مخدرات حشيش"
امسكتها و كادت أن ترمي بها في صندوق القمامه إلا ان يده امسكتها بعنف، ناظرًا داخل بؤبؤ عيناها محذرها بطريقه حاده قائل:
- حذاري تمسكي حاجة متخصكيش، هقطعلگ ايديگ دي.
- أنت زي أخويا الصغير، حرام عليگ الحاجات المضره اللي بتهلگ صحتگ.
- ملكيش فيه، كلي عيش احسنلگ، و انجزي اللي بتعمليه، و اطقي شري يا ام صقر.
حاولت تسحب سداها التي المتها من قبضته عليه، و حين لمحت الشر داخل مقلتيه، خشت على نفسها و قالت بتوتر:
- حاضر، حقگ عليا يا أخويا، أنا محقوقالگ.
- شاطرة، هتسمعي كلامي؛ تاكلي عنب و لوز، هتتغابي هتشوفي أسود أيام في حياتگ.
و تركها وهي تجفف دموعها مما وصلت إليه، و استمر الحال طوال اليوم تعمل بدون راحه، و حين تنتهي مما طلب منها، تفكر ربة المنزل في أمر آخر، حتى جاء الليل و هي تعمل تحت رحمة هذه السيده التي لا ينمو داخل قلبها أي شفقه أو رحمه، جاء "المعلم متولي" متعجبًا لتواجدها في هذا الوقت، فنظر حوله؛ وجد المنزل يلمع من نظافته و رائحته العطره، فقال لها:
- معقول يا ام صقر، أنتي لسه موجوده لحد دلوقتي؟!
- مستنيه الست تقولي اروح.
وجه بصره لزوجته و قال بحده:
- حرام عليكي يامفتريه، أنتي اشترتيها، أنا قولتلگ تساعدك مش تفحتيها شغل لحد وقت متأخر كده، روحي يا ام صقر زمان الواد روح، وخدي معاكي اكل، أكيد معملتيش حسابگ في اكل لصقر.
- كتر خيرك يا معلم، هتصرف و ناكل اي حاجة شكراً ليگ.
- و ربنا مايحصل، قومي يا وليه اتحركي، بدل ما أنتي كده زي البرطه، حطي ليها أكل، تاكل هي و ابنها، و اتوصي.
نهضت على مضدد، ترمقها بغضب، لتجهز لها طبق طعام، اما هو اقترب منها و اعطى لها مبلغًا من المال نظير مجهودها الذي بذلته اليوم، شكرته لعطفه عليها، و جاءت زوجته تعطيها الطعام، ثم انصرفت متوجهه لابنها الذي كان ينتظرها، و حين دخلت عليه، قرأ على وجهها مدى ما تعانيه، عانقها بحب و اجلسها بجواره مردد:
- شكلك تعبان أوي يا ماما ليه كده؟
- و لا تعبانه ولا حاجة، كله يهون لما أشوفگ بخير قدامي يا صقر، يالا تعالى ناكل سوا يا ضنايا.
تناولا الطعام في صمت، لكنه كان يختلس النظرات عليها، دون أن تتحدث او تشكي ما بها، رق قلب الصغير، و تمنى أن يكبر و يأتي اليوم الذي تنعم فيه وتجلس كالملكه المتوجه تأمر و الجميع ينفذ ما تقول، و لكن كيف يحدث هذا و هو مازال صغيراً، يجب عليه أن يعمل، و يجتهد في دراسته؛ لأنها هي التي ستصل به إلى تحقيق ما يتمناه.
**************
جاء "محروس" من سهرته في وقت متأخر، و كانت والدته في انتظاره، و حين لمحها جلس بجوارها متسائل:
- احكيلي يازوزه عملتي اية معاها ؟
سردت كل ما حدث، حتى مجئ والده و اعطاء المال لها، و توبيخها بسببها، كان يستمع لها وغضبه يزيد من والده أكثر، حتى تفوه قائل بنبره بها غل:
- بصي يا ستي بقى بكره هتعملي اللي هقولگ عليه، و خليكي حنينه عشان ابويا ميشكش فيكي خصوصاً قدامه، إحنا هنشتغلها في الجن الأزرق.
- قول يا واد، انت دماغگ سم زي أمگ.
- تربيتك يافوز.
و ضحكا الاثنان سوياً، و هما يدبران للمسكينه، غافلين بأن الله يعلم و يرى كل شيء (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار)
***********
جاء يوم جديد من رحلة المعاناه التي تحيا بداخلها "رضا" ذهبت لمنزل المعلم "متولي" و بداخلها مسائلة ماذا سترهقها "ام محروس" اليوم؟
طرقت على بابها، نهضت تفتح لها و على وجهها ابتسامه مزيفه، دخلت لتبدل ملابسها التي تعمل بها، ثم توجهت للمطبخ تنظف أواني الفطور، و تجهز لطعام الغذاء، طلبت منها ان تعد لها فنجان من (الحلبه المغات) بالسمن البلدي، اومأت لها وجهزتها و تقدمت بها لها و وضعتها على المنضده التي امامها و انصرفت، و ما ان وصلت إلى المطبخ حتى سمعت صوت صراخها، فأتت إليها راكضه فوجئت مما رأت عيناها، جعلتها واقفه صامته لا تتكلم، فاقت على صوتها قائله بنبره غاضبه:
- اتحركي بدل ما أنتي واقفه زي الصنم كده، شيليها عشان تغسليها بدل الحلبه ماتبوظ السجاده و تبقع، ده أنا كان نفسي اشربها ملحقتش اخد شفطه منها، اظاهر حد باصصلي فيها.
ابصرتها بنظرات يائسه، منكسره لا تستطيع فعل أي شيء أمامها، غير أنها تبدي فروض الطاعه، و الانحناء لها، أسرعت تجلب أدوات النظافه من مسحوق و غيره، و دلو الماء، و همت بغسيل السجاده، و كانت ادمعها هي من تقوم بتنظيفها، و استمرت على هذا الحال حتى أنتهت و قامت بنشرها على سطوح المنزل في الهواء، و ما ان نزلت حتى طلبت منها أن تقوم بشراء متطلبات المنزل من خزين وخضار.
كانت تود أن تصرخ بأعلى صوت و تطلب منها الرحمه، و لكنها ايقنت ان الذي بداخلها ينبض ليس قلب بل حجر صنوان متحجر.
************
في المقهى يعمل "صقر" بكل جدية و نشاط، لكن ذهنه مشغول بـ والدته، و حالها التي كانت عليه ليله بارحه، كان يريد أن يطلب من المعلم ان يذهب ليطمئن عليها، لكن خشى بأن يرفض، فظل يعمل كما هو، دقائق و لمح طيفها امامه تسير بخطى بطيئة، محنية الظهر، ركض مناديًا عليها متسائل:
- رايحه فين يا أمي ؟
- اشتري طلبات لأم محروس ياحبيبى .
- طيب ارتاحي و أنا هشتريهم، انتي شكلك تعبان اوي.
- مينفعش يا ابني، دي أمانه، و أنا باخد أجر على شغلي ده، يبقى لازم اتقي ربنا فيه، روح شوف شغلگ ياضنايا.
تركته و ذهبت لشراء كل متطلباتها، و بعد مضي وقت طويل، عاودت إليها تقدم لها ما تم شراءه و معها المتبقي من أموال، نظرت لهم ثم امرتها بتغير ملاءة فراشها و تضع الغسيل المتسخ في الغساله، ثم تنشره على المنشر، توجهت لغرفتها، و احضرت شرشف نظيف، و إذا بها تلمح شيء ما تحت وسادتها، نظرت له وامسكته بيدها، كادت ان تنادي عليها، لكنها فوجئت بها تصرخ في وجهها.
نظرت "رضا" على ما وجدته موضوع أسفل الوساده، ثم امسكته بيدها، كادت ان تنادي على ربة المنزل، لكنها وضعته في جيبها، حتى تعطيها لها، لكنها فوجئت بها أمامها تصرخ في وجهها بصوت مرتفع سمعه من في الشارع:
- اه ياحرامية، جيتي تدحلبي عشان تسرقيني، طلعي الخاتم من جيبگ يا ام اربعه و اربعين.
- و الله ابدا ما حصل، أنا حطيته في جيبي عشان اجيلگ ادهولگ، ايدي مكنتش فاضيه خوفت يقع مني.
قالت حروفها بتلعثم، و صدمه الجمتها في مكانها.
- حوش حوش و أنا مفروض أصدق بقى الكلام ده يا دلعدي؟
- و الله العظيم ما كنت أقصد حاجة وحشة، لو كنت عايزة امشي في الطريق ده؛ مكنتش ابقى شغاله في بيتك زي الطور المربوط في ساقيه، و مش بقول غير حاضر.
أثناء حديثهن المرتفع، وصل لمسمع "صبحي" العامل بـ المقهى، اسرع إلى "المعلم متولي" قائلا:
- الحق يامعلمي، صوت الست ام محروس، عالي و شكلها بتتخانق مع حد.
- ياخبر أمتى حصل ده؟
- من شويه سمعتها بتتخانق و تزعق مع حد بتقوله ياحرامي.
نهض و توجهه إليها، وجد زوجته تتعارك مع "ام صقر" و تجذبها من خصلات شعرها، تكاد ان تقتلعها من جذورها، بـ كل قوة و غل ليس له مثيل، كأنها قتلت لها عزيز، اقترب لفگ النزاع و تخليص هذه البائسه من براثن هذه النمره المفترسه المتوحشة، و بعد تلقيه عدة لكمات منها قال بـ صوت جهور:
- يمين ثلاثه لو مسكتيش و اتلميتي يا فوزية، لتكوني طالق مني.
- أنت بتقول أية ياراجل، تطلقني أنا !!
قالتها و على وجهها الصدمه تغزوه.
- أيوة ما دام مش عاملالي حساب، و نازله طحن في الست الغلبانه دي.
- غلبانه دي تعبانه و بتلف كده عشان تلدع لدعتها من غير ماحد يحس بيها.
كانت تسمع "رضا" قذيفة هذه الاتهامات الشنيعه، و هي تتلقاها بـ صمت، غير قادره على الدفاع عن روحها المسلوبه منها بدون اراده، قافت على صوته قائل بحده:
- فهميني إيه اللي حصل بشويش.
سردت له ماحدث، و المظلومه مطأطأه الرأس لاسفل بدون ان تتفوه بحرف، لكنها فوجئت بقولة:
- أنتي اتجننتي اظاهر عليكي يا وليه، و مسامير عقلك فوتت، ازاي تسيئ الظن في الست اللي شقيانه على اكل عيشها و تقولي عليها حراميه، اياكي و سوء الظن، هتروحي من ربنا فين؟
حرام عليكي "ام صقر" عمرها ما تمد اديها ابدا.
- كدابه أنا يامعلم، و هي عينتگ المحامي و حامي الحما ليها، مش كده؟
- ابدا عشان أنا عندي عقل، و بوزن الأمور بشكل سليم؛ مش متسرع زيگ.
روحي يا ام صقر بيتگ، و متتعبيش نفسگ و تيجي تساعدي حد ميستهلش تاني.
نظرت له بحزن، ثم تحركت خطوات بطيئة بها خذلان و ألم متوجهه نحو منزلها، تسير بلا هدف، تشعر بأن الدنيا كشرت أنيابها مرة اخرى و ستسقيها أشد مرار من جديد، و كل لحظة تقذفها بسهام غادره في قلبها، مرت أمام ولدها الذي تعجب سيرها بهذه الطريقة، قبض قلب الصغير، و ترگ عمله ومشى بجوارها، عيناه تتسائل آلاف الأسئلة، و لا يجد أجابه منها، وصلا و جلسا بـ جوارها قائلا:
- يا أمي ريحي قلبي و قوليلي مالگ، ايه اللي حصل مخليكي حزينه و بتعيطي كده؟
كان الصمت سيد الموقف، غير قادرة على التفوه بما حدث، اكتفت انها ارتمت على فراشها تبكي بـحرقة من ظلم الأيام لها، اما هو كان مثل الثور الهائج الذي لا يهدأ ثورانه لحظه، تركها و توجه نحو المقهى يبحث عن "المعلم متولي" لـ يستفهم منه عما حدث، بحث بعيناه كالصقر الذي يبحث عن فريسته لينقض عليها، وجده جالسًا فتقدم نحوه قائل بصوت حاد:
- أنا عايز أعرف ايه اللي حصل يا معلم متولي، خلى أمي منهاره كده؟
- أقعد يا صقر يا بني، سوء تفاهم حصل و خلص خلاص.
- لا اقعد و لا استنى فيها لحظة، أنا أمي دموعها عندي غاليه أوي، و اللي يدوس على طرفها مليش كلام معاه.
- ما تمشي و لا تغور في ستين داهية، أنت و أمگ الحراميه.
قالها" محروس" بـ صوتٍ مرتفع، فـ رمقه صقر نظره رهب من حدتها، فاق على صياح والده مردد:
- اخرس يا محروس، كفاية اللي امگ عملته في الغلبانه.
- أنا أمي مش غلطانه يا أبا، و كانت بتدافع عن دهبها.
- حسبي الله ونعم الوكيل فيكوا، امشي غور من وشي، و أنت ادخل شوف شغلگ يا صقر يا بني.
- معلش يا معلم، خلاص عيشي انتهى عند اهانة أمي.
و تركه وهو يحمل بداخله عزة نفس ليس على طفل في سنه، لكنه لا ينكر كم الألم و الغضب الذي يعتلية على ظلم البشر لوالدته البسيطة المكافحه. لماذا يظلمونها و هي لا تفعل لهم اي شيء، و كل الذي يعنيها ان تربح من عرق جبينها و تربيه دون ان تمد يديها لبشر؟ اراد عند هذه اللحظة لو بــ استطاعته ان يلقنهما درسًا قاسيًا، و يأخذها و يضمها تحت جناحه الصغير و يعيشان سويًا بعيدًا عن كل البشر.
**********
بينما سار "محروس" لمنزله وجد والدته جالسه على الاريكه، و وجها يبدو عليه العبوس و الضيق، قبض بين حاجبه و تعجب بشده، لحالها مما اثار تسائله قائلا:
- مالگ يافوز شايله طاجن ستگ ليه كده، كأن ماتلگ ميت؟
رفعت بصرها ترمقه، و تنهدت بحرقه قائله:
يتبع
- و حيات أبوگ مش نقصاگ، بلا برنس بلا نيله، أنا متخانق مع ابويا و مش مستحمل.
- و اية الجديد، ما أنت على طول متخانق معاه، و البركه في الست الوالده بطيب خاطرگ على طول.
- بقولگ أية مش طالبه، أنا دماغي مولعه، هقوم عايز ابقى لوحدي.
- أهدى بس يامحروس، أنا كنت عايز افرفشك، و اخرجگ من مودگ، دي البنت دلال زمانها جاية، و القعده هتحلو.
- مادام فيها دلال نقعد، شكل الليلة دي مش هتعدي كده بلوشي، اطلبلنا حاجة نشربها.
***************
و مر الوقت سريعًا، و جاء الليل و سكونه يعشش بداخله الطيور، في أمان و سكينه، و غفت الحزينه راجيه بأن يصبح يومها القادم افضل من ذي قبل.
و ازاحت الشمس ستار الليل الكالح الحزين، و ظهر شعاع الضوء في السماء معلنًا شروق شمس جديده مليئة بالأمل والتفاءل، استيقظت "رضا" بنشاط و همه تعد الفطور لابنها و تقيظه ليذهب إلى عمله، و تتوجهه هي لمنزل "المعلم متولي" داعيه الله ان يقف بجانبها، و يحن قلب صاحبة المنزل عليها.
استيقظ "المعلم متولي" من نومه على صوت زوجته مناديه عليه حتى يأكل قبل ذهابه إلى المقهى، توجه ليتسبح، ثم جلس يأكل في صمت، ثم ارتدى جلبابه و عباءته حول أكتافه، و امسك بعصاه و رمقها بنظرة تحذيريه قائلا:
- إياگِ ياوليه تعاملي الست ام صقر وحش، و لمي لسانگ عنها، هي جاية تساعدگ و تاخد اللي فيه النصيب، اتعاملي معاها بلطف؛ عشان ربنا يجازيكي خير.
- في أية يامعلم؟ هو أنت ليه شايفني همسگ في رقبتها، هو في حد في طيبة قلبي، ياكش بس أنت اللي مش عارف قيمتي كويس.
- أنتي هتقوليلي، قلبگ ده قلب خساية خضرة، ربنا يهديكي.
- آمين و اياگ، روح شوف شغلگ أنت و ملكش دعوة.
انصرف لمبتغاه، و قلبه متوجس منها، فهو أكثر الأشخاص يقرأها بدون ان تتحدث، قلبه استشعر إنها تدبر لشيء مجهول لها.
و أثناء وصوله للمقهى كانت تسير "ام صقر" و ولدها نحوه، ولج الطفل ب الداخل، و القت عليه الصباح، و ذهبت إلى منزله المجاور للمقهى، ابتسمت لها "ام محروس" و بادلتها العناق، و الترحيب قائلة:
- شوفي ياحببتي، أنتي كل يوم هتروقي البيت و تكنسيه، و تدخلي تحضري الأكل، و يوم الجمعه من صباحية ربنا تشيلي السجاد و تطلعيه فوق السطح، تنفضيه النتفيضة اللي هي، و تمسحي الشقه كلها وتلمعيها.
- بس كده من عيوني يا ام محروس، اللي تأمريني بيه هعمله.
- طيب يالا بقى شدي حيلگ و شيلي السجاد و امسحي الشقه، عايزاها بتبرق كده، عقبال ما أفكر هنطبخ أية؟
- حاضر.
نهضت في نشاط، لتنفيذ ما أمرت به، كأنها مثل الآله التي تعمل دون كلل أو ملل، تحمل من الهموم فوق أكتافها دون أن تتفوه بآه واحده، متذكره كل ما مرت به من آلام و حزن، و مر الوقت حتى انتهت من كل شيء، نظرت لها أم محروس و قالت:
- اخيراً خلصتي، كده غرقتي هدومگ ميه !! الواد محروس صحي حضري له الفطار و بعدين ادخلي نفضي اوضته و هويها، و امسحيها.
نظرت لها بأنكسار، و اومأت برأسها بنعم، و ذهبت لتنفذ ما قالت، بعد اعدادها لطعام الافطار، ذهبت إلى غرفة "محروس" و إذا بها تفاجأت حين أمسكت وسادته لتغير الشرشف، بوجود سجائر بها "مخدرات حشيش"
امسكتها و كادت أن ترمي بها في صندوق القمامه إلا ان يده امسكتها بعنف، ناظرًا داخل بؤبؤ عيناها محذرها بطريقه حاده قائل:
- حذاري تمسكي حاجة متخصكيش، هقطعلگ ايديگ دي.
- أنت زي أخويا الصغير، حرام عليگ الحاجات المضره اللي بتهلگ صحتگ.
- ملكيش فيه، كلي عيش احسنلگ، و انجزي اللي بتعمليه، و اطقي شري يا ام صقر.
حاولت تسحب سداها التي المتها من قبضته عليه، و حين لمحت الشر داخل مقلتيه، خشت على نفسها و قالت بتوتر:
- حاضر، حقگ عليا يا أخويا، أنا محقوقالگ.
- شاطرة، هتسمعي كلامي؛ تاكلي عنب و لوز، هتتغابي هتشوفي أسود أيام في حياتگ.
و تركها وهي تجفف دموعها مما وصلت إليه، و استمر الحال طوال اليوم تعمل بدون راحه، و حين تنتهي مما طلب منها، تفكر ربة المنزل في أمر آخر، حتى جاء الليل و هي تعمل تحت رحمة هذه السيده التي لا ينمو داخل قلبها أي شفقه أو رحمه، جاء "المعلم متولي" متعجبًا لتواجدها في هذا الوقت، فنظر حوله؛ وجد المنزل يلمع من نظافته و رائحته العطره، فقال لها:
- معقول يا ام صقر، أنتي لسه موجوده لحد دلوقتي؟!
- مستنيه الست تقولي اروح.
وجه بصره لزوجته و قال بحده:
- حرام عليكي يامفتريه، أنتي اشترتيها، أنا قولتلگ تساعدك مش تفحتيها شغل لحد وقت متأخر كده، روحي يا ام صقر زمان الواد روح، وخدي معاكي اكل، أكيد معملتيش حسابگ في اكل لصقر.
- كتر خيرك يا معلم، هتصرف و ناكل اي حاجة شكراً ليگ.
- و ربنا مايحصل، قومي يا وليه اتحركي، بدل ما أنتي كده زي البرطه، حطي ليها أكل، تاكل هي و ابنها، و اتوصي.
نهضت على مضدد، ترمقها بغضب، لتجهز لها طبق طعام، اما هو اقترب منها و اعطى لها مبلغًا من المال نظير مجهودها الذي بذلته اليوم، شكرته لعطفه عليها، و جاءت زوجته تعطيها الطعام، ثم انصرفت متوجهه لابنها الذي كان ينتظرها، و حين دخلت عليه، قرأ على وجهها مدى ما تعانيه، عانقها بحب و اجلسها بجواره مردد:
- شكلك تعبان أوي يا ماما ليه كده؟
- و لا تعبانه ولا حاجة، كله يهون لما أشوفگ بخير قدامي يا صقر، يالا تعالى ناكل سوا يا ضنايا.
تناولا الطعام في صمت، لكنه كان يختلس النظرات عليها، دون أن تتحدث او تشكي ما بها، رق قلب الصغير، و تمنى أن يكبر و يأتي اليوم الذي تنعم فيه وتجلس كالملكه المتوجه تأمر و الجميع ينفذ ما تقول، و لكن كيف يحدث هذا و هو مازال صغيراً، يجب عليه أن يعمل، و يجتهد في دراسته؛ لأنها هي التي ستصل به إلى تحقيق ما يتمناه.
**************
جاء "محروس" من سهرته في وقت متأخر، و كانت والدته في انتظاره، و حين لمحها جلس بجوارها متسائل:
- احكيلي يازوزه عملتي اية معاها ؟
سردت كل ما حدث، حتى مجئ والده و اعطاء المال لها، و توبيخها بسببها، كان يستمع لها وغضبه يزيد من والده أكثر، حتى تفوه قائل بنبره بها غل:
- بصي يا ستي بقى بكره هتعملي اللي هقولگ عليه، و خليكي حنينه عشان ابويا ميشكش فيكي خصوصاً قدامه، إحنا هنشتغلها في الجن الأزرق.
- قول يا واد، انت دماغگ سم زي أمگ.
- تربيتك يافوز.
و ضحكا الاثنان سوياً، و هما يدبران للمسكينه، غافلين بأن الله يعلم و يرى كل شيء (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار)
***********
جاء يوم جديد من رحلة المعاناه التي تحيا بداخلها "رضا" ذهبت لمنزل المعلم "متولي" و بداخلها مسائلة ماذا سترهقها "ام محروس" اليوم؟
طرقت على بابها، نهضت تفتح لها و على وجهها ابتسامه مزيفه، دخلت لتبدل ملابسها التي تعمل بها، ثم توجهت للمطبخ تنظف أواني الفطور، و تجهز لطعام الغذاء، طلبت منها ان تعد لها فنجان من (الحلبه المغات) بالسمن البلدي، اومأت لها وجهزتها و تقدمت بها لها و وضعتها على المنضده التي امامها و انصرفت، و ما ان وصلت إلى المطبخ حتى سمعت صوت صراخها، فأتت إليها راكضه فوجئت مما رأت عيناها، جعلتها واقفه صامته لا تتكلم، فاقت على صوتها قائله بنبره غاضبه:
- اتحركي بدل ما أنتي واقفه زي الصنم كده، شيليها عشان تغسليها بدل الحلبه ماتبوظ السجاده و تبقع، ده أنا كان نفسي اشربها ملحقتش اخد شفطه منها، اظاهر حد باصصلي فيها.
ابصرتها بنظرات يائسه، منكسره لا تستطيع فعل أي شيء أمامها، غير أنها تبدي فروض الطاعه، و الانحناء لها، أسرعت تجلب أدوات النظافه من مسحوق و غيره، و دلو الماء، و همت بغسيل السجاده، و كانت ادمعها هي من تقوم بتنظيفها، و استمرت على هذا الحال حتى أنتهت و قامت بنشرها على سطوح المنزل في الهواء، و ما ان نزلت حتى طلبت منها أن تقوم بشراء متطلبات المنزل من خزين وخضار.
كانت تود أن تصرخ بأعلى صوت و تطلب منها الرحمه، و لكنها ايقنت ان الذي بداخلها ينبض ليس قلب بل حجر صنوان متحجر.
************
في المقهى يعمل "صقر" بكل جدية و نشاط، لكن ذهنه مشغول بـ والدته، و حالها التي كانت عليه ليله بارحه، كان يريد أن يطلب من المعلم ان يذهب ليطمئن عليها، لكن خشى بأن يرفض، فظل يعمل كما هو، دقائق و لمح طيفها امامه تسير بخطى بطيئة، محنية الظهر، ركض مناديًا عليها متسائل:
- رايحه فين يا أمي ؟
- اشتري طلبات لأم محروس ياحبيبى .
- طيب ارتاحي و أنا هشتريهم، انتي شكلك تعبان اوي.
- مينفعش يا ابني، دي أمانه، و أنا باخد أجر على شغلي ده، يبقى لازم اتقي ربنا فيه، روح شوف شغلگ ياضنايا.
تركته و ذهبت لشراء كل متطلباتها، و بعد مضي وقت طويل، عاودت إليها تقدم لها ما تم شراءه و معها المتبقي من أموال، نظرت لهم ثم امرتها بتغير ملاءة فراشها و تضع الغسيل المتسخ في الغساله، ثم تنشره على المنشر، توجهت لغرفتها، و احضرت شرشف نظيف، و إذا بها تلمح شيء ما تحت وسادتها، نظرت له وامسكته بيدها، كادت ان تنادي عليها، لكنها فوجئت بها تصرخ في وجهها.
نظرت "رضا" على ما وجدته موضوع أسفل الوساده، ثم امسكته بيدها، كادت ان تنادي على ربة المنزل، لكنها وضعته في جيبها، حتى تعطيها لها، لكنها فوجئت بها أمامها تصرخ في وجهها بصوت مرتفع سمعه من في الشارع:
- اه ياحرامية، جيتي تدحلبي عشان تسرقيني، طلعي الخاتم من جيبگ يا ام اربعه و اربعين.
- و الله ابدا ما حصل، أنا حطيته في جيبي عشان اجيلگ ادهولگ، ايدي مكنتش فاضيه خوفت يقع مني.
قالت حروفها بتلعثم، و صدمه الجمتها في مكانها.
- حوش حوش و أنا مفروض أصدق بقى الكلام ده يا دلعدي؟
- و الله العظيم ما كنت أقصد حاجة وحشة، لو كنت عايزة امشي في الطريق ده؛ مكنتش ابقى شغاله في بيتك زي الطور المربوط في ساقيه، و مش بقول غير حاضر.
أثناء حديثهن المرتفع، وصل لمسمع "صبحي" العامل بـ المقهى، اسرع إلى "المعلم متولي" قائلا:
- الحق يامعلمي، صوت الست ام محروس، عالي و شكلها بتتخانق مع حد.
- ياخبر أمتى حصل ده؟
- من شويه سمعتها بتتخانق و تزعق مع حد بتقوله ياحرامي.
نهض و توجهه إليها، وجد زوجته تتعارك مع "ام صقر" و تجذبها من خصلات شعرها، تكاد ان تقتلعها من جذورها، بـ كل قوة و غل ليس له مثيل، كأنها قتلت لها عزيز، اقترب لفگ النزاع و تخليص هذه البائسه من براثن هذه النمره المفترسه المتوحشة، و بعد تلقيه عدة لكمات منها قال بـ صوت جهور:
- يمين ثلاثه لو مسكتيش و اتلميتي يا فوزية، لتكوني طالق مني.
- أنت بتقول أية ياراجل، تطلقني أنا !!
قالتها و على وجهها الصدمه تغزوه.
- أيوة ما دام مش عاملالي حساب، و نازله طحن في الست الغلبانه دي.
- غلبانه دي تعبانه و بتلف كده عشان تلدع لدعتها من غير ماحد يحس بيها.
كانت تسمع "رضا" قذيفة هذه الاتهامات الشنيعه، و هي تتلقاها بـ صمت، غير قادره على الدفاع عن روحها المسلوبه منها بدون اراده، قافت على صوته قائل بحده:
- فهميني إيه اللي حصل بشويش.
سردت له ماحدث، و المظلومه مطأطأه الرأس لاسفل بدون ان تتفوه بحرف، لكنها فوجئت بقولة:
- أنتي اتجننتي اظاهر عليكي يا وليه، و مسامير عقلك فوتت، ازاي تسيئ الظن في الست اللي شقيانه على اكل عيشها و تقولي عليها حراميه، اياكي و سوء الظن، هتروحي من ربنا فين؟
حرام عليكي "ام صقر" عمرها ما تمد اديها ابدا.
- كدابه أنا يامعلم، و هي عينتگ المحامي و حامي الحما ليها، مش كده؟
- ابدا عشان أنا عندي عقل، و بوزن الأمور بشكل سليم؛ مش متسرع زيگ.
روحي يا ام صقر بيتگ، و متتعبيش نفسگ و تيجي تساعدي حد ميستهلش تاني.
نظرت له بحزن، ثم تحركت خطوات بطيئة بها خذلان و ألم متوجهه نحو منزلها، تسير بلا هدف، تشعر بأن الدنيا كشرت أنيابها مرة اخرى و ستسقيها أشد مرار من جديد، و كل لحظة تقذفها بسهام غادره في قلبها، مرت أمام ولدها الذي تعجب سيرها بهذه الطريقة، قبض قلب الصغير، و ترگ عمله ومشى بجوارها، عيناه تتسائل آلاف الأسئلة، و لا يجد أجابه منها، وصلا و جلسا بـ جوارها قائلا:
- يا أمي ريحي قلبي و قوليلي مالگ، ايه اللي حصل مخليكي حزينه و بتعيطي كده؟
كان الصمت سيد الموقف، غير قادرة على التفوه بما حدث، اكتفت انها ارتمت على فراشها تبكي بـحرقة من ظلم الأيام لها، اما هو كان مثل الثور الهائج الذي لا يهدأ ثورانه لحظه، تركها و توجه نحو المقهى يبحث عن "المعلم متولي" لـ يستفهم منه عما حدث، بحث بعيناه كالصقر الذي يبحث عن فريسته لينقض عليها، وجده جالسًا فتقدم نحوه قائل بصوت حاد:
- أنا عايز أعرف ايه اللي حصل يا معلم متولي، خلى أمي منهاره كده؟
- أقعد يا صقر يا بني، سوء تفاهم حصل و خلص خلاص.
- لا اقعد و لا استنى فيها لحظة، أنا أمي دموعها عندي غاليه أوي، و اللي يدوس على طرفها مليش كلام معاه.
- ما تمشي و لا تغور في ستين داهية، أنت و أمگ الحراميه.
قالها" محروس" بـ صوتٍ مرتفع، فـ رمقه صقر نظره رهب من حدتها، فاق على صياح والده مردد:
- اخرس يا محروس، كفاية اللي امگ عملته في الغلبانه.
- أنا أمي مش غلطانه يا أبا، و كانت بتدافع عن دهبها.
- حسبي الله ونعم الوكيل فيكوا، امشي غور من وشي، و أنت ادخل شوف شغلگ يا صقر يا بني.
- معلش يا معلم، خلاص عيشي انتهى عند اهانة أمي.
و تركه وهو يحمل بداخله عزة نفس ليس على طفل في سنه، لكنه لا ينكر كم الألم و الغضب الذي يعتلية على ظلم البشر لوالدته البسيطة المكافحه. لماذا يظلمونها و هي لا تفعل لهم اي شيء، و كل الذي يعنيها ان تربح من عرق جبينها و تربيه دون ان تمد يديها لبشر؟ اراد عند هذه اللحظة لو بــ استطاعته ان يلقنهما درسًا قاسيًا، و يأخذها و يضمها تحت جناحه الصغير و يعيشان سويًا بعيدًا عن كل البشر.
**********
بينما سار "محروس" لمنزله وجد والدته جالسه على الاريكه، و وجها يبدو عليه العبوس و الضيق، قبض بين حاجبه و تعجب بشده، لحالها مما اثار تسائله قائلا:
- مالگ يافوز شايله طاجن ستگ ليه كده، كأن ماتلگ ميت؟
رفعت بصرها ترمقه، و تنهدت بحرقه قائله:
يتبع