الفصل الرابع

الفصل الرابع


رفعت بصرها ترمقه، و تنهدت بحرقه قائله:

- و الله ماعارفه ياواد يامحروس ايه اللي جرى ليا من ساعة ما شوفت نظرة الانكسار في عين المزغوده اللي طلعتلي في البخت ام صقر، و أنا بأنب نفسي أني سمعت كلامگ، الوليه حرام مظلومه و أنا جيت عليها اوي بزياده.

- جيتي اية؟ ! و النبي اسكتي يا اماه، تيجي عليها احسن و لا هي اللي تيجي عليكي و تاخد أبويا في عبها هي و ابنها المفعوص، و ياسلام لو تجبله حتت عيل صغير ياخد اللي حيلته.
قال جملته بعد ما شعر قلب امه سيلين عليها، فـ أطلق سهامه فأصاب هدفة بقوة قناص ماهر يعرف كيف يحدد الهدف فـ يصبيه في مقتل، فـ ردت وهي تصگ بيدها على صدرها مندفعه بغضب مهلك:

- ياخرابي لا يمكن ابدا يحصل، ده أنا اقطعها بسناني، و ارقشها و ارميها لكلاب الحارة تتسلى عليها.

- خلاص يبقى افردي وشگ كده، عشان أبويا لما يجي مينكدش عليكي، هو أنا برضو اللي هنصحگ يا اماه، عيب عليكي.

ابتسمت له بخبث قالت:

- اااه منگ أنت يابن بطني، ميه من تحت تبن، مش سهل ابدا، قوم خدلگ دش كده عقبال ما احضرلگ الأكل يابن امگ.

- هو ده الكلام، مش تقوليلي ام صقر و زعلانه عليها، فكگ يا فوز و شوفي مصلحتگ فين و اجري وراها.

تركها ليبدل ملابسه، و كلامه يتردد في اذنيها، فهي حقًا تخشى فقدان زوجها، بأن يتزوج هذه المرأه التي لا تعلم أنها مازالت على عصمة زوجها الذي رحل دون ان يطلقها، فلما كل هذا الرعب؟
كان "محروس" جالسًا على فراشه و وجهه عليه ابتسامة نصر شيطانية على ما حققه من انتصار في ابعاد هذه السيدة و ابنها عن طريق والده، ظنًا أنه من الممكن اي يحتل هذه المساحه الشاغرة عند والده، و يشعر بوجوده، لكن هيات فهو طبعه مدلل، و لا يعرف كيف يتحمل المسئولية، من شدة تدليل والدته له، و عدم محاسبته عن السهر و من يرافقونه من اصدقاء، كل هذا بنى عنده اللامبالاة و الاستهتار في المواقف،كل هذا جعل والده يعنفه كلما يراه امامه، مما أثار الغضب و الغيره في اي شخص يشكر فيه امامه.
************
ذهب "صقر" لوالدته مرة أخرى وجدها كما هي على حالها، تبكي و تنوح حالها، ربت على ظهرها وقال:

- أهدي يا أمي ارجوكي بطلي عياط، دموعگ دي بتحرقني، أنا روحت للمعلم و قولته مش هشتغل عندگ تاني، اللي يهينگ ملوش كلام معايا، ارجوكي بطلي بقى عشان خاطري.

كانت تسمعه و بداخلها تحمد ربها أن رزقها به، فهو حقًا نعمه العوض من ربها، تبسمت بين جمرات عبراتها، فـ جفف لها هذه العبرات، فقالت له:

- خلاص يا ضنايا مش هعيطت تاني، طول ما أنت معايا و في حضني تهون الدنيا و كفاية عليا حنيتگ ياغالي.
امسكها لتنهض معه حتى تغسل وجهها، و تبدل ملابسها، لتعد له الطعام، محاوله أن تنسى ما مرت به من احداث مألمه.
و اثناء اعدادها للطعام جلس و تذكر ما فعله منذ قليل...
حين انهى عمله في المقهى و تركه، كانت صورة ذلگ الرجل الذي تجرئ و تحرش بوالدته من قبل لن تفارق عيناه، و بداخله مازال تتوهج الحمم و الغضب من تعديه و انتهاگ حرمة والدته، حاول كبت شيطانه الصغير على الانتقام منه حتى فاض به الكيل من كل شيء يحدث لهم، اصبح لا يستطيع الصبر و لا يهدأ قلبه أكثر من ذلك، و كأن موقف الذي حدث اليوم هو كان بـ شرارة التي اشعلت النيران وتفجرت بداخله، قام بأخذ عبوة بها بنزين، وانتظر ان يسود الليل عتمته، و نظر يمينًا و يسارًا يتأكد من عدم وجود احدًا مارًا في الطريق، و من حسن حظه انه كان في مكان بعيد، و امسگ زجاجة مياة غازية لمحها بجانب الطريق، و وضع بداخلها البنزين، و قطع قطعة قماش و وضعها بداخلها، فعل ذلگ المشهد مثلما شاهده في تلفاز المقهى، و كان هذا المشهد هو الذي اهداه به شيطانه الصغير، حيث كان في حيرة و غضب، يريد أن يفعل شيء ليثلج قلبه و عندما شاهده لمعت امام عيناه توهج النيران، التي كانت تعلو و تزداد اشتعالها مثل قلبه، و قرر أن ينفذه و يفعل مافعله البطل دون تفكير، و قذفها على المخزن و برغم كل ما يحمله من غضب و قهر على ماشعرت به امه، لكنه كان حريص في قذفها بالا تحرق يداه، فهو لاول مره يفعل ذلگ، لكن لابد من انه يدفع ثمن جرمته على ما فعله هذا الذئب البشري بوالدته غاليًا بـ قدر غلاوتها لديه؛ و حين اشتعلت النار بـ الملابس و ابتلعت كل شيء لتحوله لرماد، تبخر رماد غضبه و أثلج توهج نيران قلبه عندما اخذ بثأره لأمه.
افاق من ذكرياته وهو مبتسم عند وضعت امه الطعام امامه مطالبه إياه أن يمد يده و يأكل، و حين لاحظت شروده سألتة عن السبب، فوجدته متلعثم في الحديث فقالت:
- مالگ ياصقر؟ شكلگ مخبي عني حاجة ياضنايا؟!
نظر لها بعينان ذائغتان، وتلجلج في القول و قال:

- بـ صراحة كده يا أمي أنا اخدت حقگ.
-حقي من مين يا صقر؟
- من الكلب اللي اتهجم عليكي؟
- يانهاري عملت ايه انطق؟
- حرقت قلبه على بضاعته اللي في المخزن.
- يامصبتي ليه كده ياصقر؟ حرام عليگ يابنى، دي فلوس ناس، من أمتى و أنت بالقسوة دي؟
افرض حد شافگ و بلغ عنگ، تروح فيها الاحداث، و اضيع فيها من بعدگ، ليه كده يا ضنايا تخلي الشيطان يلعب في راسگ.
وقف بعزة نفس و بعيون محدقاها بغضب شديد قائل:

- كان لازم اعمل فيه كده، و لولا انه حرام كنت حرقته هو، لما يلمسگ يا أمي يبقى جزاءه الموت، لكن أنا حرقت قلبه على شوية هدوم، ممكن يعوضها، لكن الشرف ميتعوضتش، و دموعگ عندي تساوي كتير اوي و مفيش حاجة تعوضها.
- ياحبيبي أنا خايفة عليگ، حد يكون شافگ و يبلغ، و كمان مش كل ما حد يضايقنا ناخد حقنا بأيدينا، كده الدنيا هتبقى غابه، و أنا فوضت أمري لله و ربنا كان هياخد حقي منه، و لو مش في الدنيا كنت هاخده في الاخرة.
- و اهو ربنا خلاني اخده في الدنيا.
- لا يا ضنايا، مش ربنا، ده الشيطان هو اللي وسوس ليگ بالانتقام.
- ايًا كان المهم اني طفيت ناري و خلاص، و انتقمت منه.
-اوعدني تحكم عقلگ ياصقر، و تفكر بعد كده قبل ما تتصرف، و إذا كان ربنا سترها معاگ المرة دي، ممكن يفضحگ لو كررتها، يا بني أنا مليش غيرگ في الدنيا دي.
- اوعدگ يا أمي.
- ربنا يبارگ فيگ و يهديگ يارب، يالا مد ايديگ و كل الاكل هيبرد.

جلس وحاول تناول طعامه لكنه لم يستطع ابتلاع أي قطعة خبز في جوفه، نظرات أمه تلاحقه، التي تعجبت من تصرفات رجلها الصغير الذي وهبه الله لها و انعم به عليها، دعت الله أن يحفظه و يبارگ فيه، لكنها كانت حزينة ان قسوة الأيام عليها جعلته يتصرف هكذا، و دعت ربنا أنه يسترها معه، و لا يفتضح امره.
**************

و جاء يوم جديد بأمل يرفرف داخل قلب الصغير أن يجد عمل لدى الاسطى "منصور" المكانيكي في ورشته، القى الصباح على والدته، و قبلها من جبينها، و ابلغها بما يريد فعله، طلبت منه أن تجهز له طعام الفطور، لكنه آبى و تركها متوجه إلى ورشته بخطى بطيئه، و صراعات تتصارع بداخله، يفكر هل سيقبل أن يعمل معه، ام يرفض؟ و ما هو البديل المتاح لديه؟! ظل يسير في دربه، و ما مر به خلال الأيام السابقه تلاحقه أمام عيناه، كأنها حيوان مفترس يركض خلفه و يلاحقه يريد الفتگ به، و هو يحاول الهروب منه، لكنه غير قادر على التصدي له، وقف فجأة وجد نفسه أمام الورشه، أخذ شهيق عميق لينظم انفاسه، ثم أخرجة ببطئ، و لمح صاحب الورشة، منحني بجذعه على أحدى السيارات ممسگ بيده ادواته، محاولا فحص العطل بها، تقدم نحوه و القى عليه التحيه، ثم قال:

- كنت عايز أتعلم عندگ في الورشة ياعم منصور، و أكون من صبيانك ممكن؟

القى "منصور" المفتاح الذي بيده و قذف به، وأمسك قطعة قماش يمسح بها يده، و وضع يده على كفته قائلا:

- يا صقر يابني أنت لسه صغير على الشغلانه دي وصعبه عليك، عودگ لسه طري.

حدقه بنظراته الصقريه، و قبض على حاجبيه و قال في نبره تحدي:

- أنا مش صغير، و مفيش حاجة اسمها عود طري و ناشف؛ في حاجة اسمها واحد بيستحمل و يتحمل التعب، و التاني لأ، جربني و ان شاء الله مش هتزعل مني وهشرفگ، أنا بستوعب وبفهم بسرعه، أنا كنت بطلع من الاوائل في المدرسة، مش هتخسر حاجة.

كان يسمعه و علمات الإعجاب تبدو على وجهه، و تعجب كيف لـ طفل في مثل سنه و يتمتع بهذا الذكاء، وفن الرد، و قوة الإقناع، اومأ له بـ الموافقه، و بدأ معه أول دروس تعليم فن أصلاح السيارات، كان يعطي له المعلومات البسيطة التي يستوعبها عقله الصغير، لكنه تفاجأ و اندهش حين وجده عنده القدره على فهم ما يقوله، و تنفيذه بـ كل دق، ترك له ينفذ ما شرح له بفعله، و اتمه على أحسن وجه، ابتسم له بـ سعاده مردد:

- برافو عليك يا صقر، أنت فعلا ذكي و هتتعلم بسرعه، كده أنا خلصت العربيه، و صاحبها هيجي بعد شوية يستلمها مني، عايزگ بقى تغسلها و تلمعها زي العروسه كده؛ عشان الزبون يتبسط منگ.

- حاضر ياأسطى، فريره و هتكون مرايا.

قالها وهو سعيد بما قاله له، مسرع لجلب دلو المياه، و المسحوق لينفذ ما أمر به، و أثناء عمله كان يتحدث للاسطى" منصور" أحد العاملين معه في الورشه يدعى" صلاح" يعمل معه منذ أن كان طفل في عمره، و كبر معه حتي أصبح الآن رجلاً، و ذراعه الأيمن و يعتمد عليه في كل شيء قائل:

- مش الواد لسه صغير يا أسطى على تعليمگ له، خليه يشتغل في حاجات بسيطة، غسل العربيات، الورشة، يشتري طلبات كدا.

جلس على مقعده، و امسگ بـ يده فنجان الشاي الذي بردت حرارته؛ بـ سبب انشغاله في العمل، و التقط بيده سجاره كانت موضوعه خلف اذنه اليمني، اشعلها، و زفر أنفاسه و قال بهدوء:

- أنت اللي بتقول كده يا صلاح، اشحال أنگ لما جيت الورشة كنت تقريبا في سنه، أو ازيد شوية، و اديگ أهو شايل الورشة معايا، و كتفگ في كتفي.

- ماهو عشان كده بقولگ أنه صغير، أنا مفلحتش في التعليم، و ابويا هو اللي جابني بدل ما اصيع في الشارع، قال يتعلم صانعه تنفعه، و أنت بحق الله علمتني و جميلگ فوق راسي، بس اللي أعرفه أن الواد صقر بيروح المدرسة و شاطر فيها، حرام يسبها، أنت فاهمني؟

- فاهمگ يا صلاح، و عارف قصدگ و نيتگ، صدقني ربنا عوضگ بصنعه تكسب منها دهب، و أن كان ملكش حظ في التعليم دي مش نهاية الدنيا، و لو صقر هيكمل دراسته هنقف جنبه و نساعده، و الوقت اللي مفيش شغل يبقى يعمل واجبه، اطمن.

- ربنا يجازيك خير يا أسطى، أنت فعلا قلبك كبير، و بتساعد كل الناس، يارب يجعله في ميزان حسناتك.

كاد ان يرد عليه ويآمن على حديثه، قاطعه دخول "صقر" يأخذ أنفاسه بسرعه قائل:

- أنا خلصت العربيه يا سطى، تعالى شوفها محتاجة حاجة اعملها.

نهض و توجها معه، وجدها كالعروس واقفه منتظرة عريسها يتقدم وياخذها بين أحضانه، تبسم له و قال:

- عفارم عليگ ياصقر، استريح عقبال ما يجي صاحبها ياخدها.

-أنت فطرت صحيح ياصقر؟
قالها "صلاح" بابتسامه فأجابه بنعم، فكانت بنبرة تردد استشعر احراجه، فقال له و هو يخرج محفظة نقوده، و يعطي له ورقه فئة عشرون جنيهاً قائلا:

- طب ياسيدي أنا لسه على لحم بطني و متعود أفطر مع أسطى منصور، روح جبلنا سندوتشات عشان ناكل كلنا مع بعض، و قسمها بقى فول على طعميه، و بطاطس، اجري يالا بسرعه.

أخذ منه المال و ذهب لجلب الطعام، سعد "منصور" لتصرفه و شكره على حسن معاملته له، تنهد الآخر و قال:

- متشكرنيش أنا يا أسطى، صدقني اللي يستحق الشكر هو أنت، اللي عملته معايا محفور جوايا، و بحاول أعمله مع غيري.

- بارك الله فيگ ياصلاح، أنا عملت اللي يمليه عليا ضميري، و ربنا يكرمنا جميعًا، أهو صقر جه، تعالى ناكل لقمه لحسن عصافير بطني بتصرخ.

يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي