الفصل السادس

مد يده نحو منفضة السجائر الموضوعة أمامه فوق سطح المكتب، ليقوم بإطفاء عقب السيجارة بها، و هو يزفر دخانها مطولا، ثم أخبر "ماسيمو" الجالس على الكرسي الملخق بالمكتب يتفقد بغض التقرير بتركيز، بنبرة صوت جادة قائلا:

-جهز نقسك و استعد لأجل مراسم زواجك الذي سيتم الخميس القادم.

رفع رأسه عن الأوراق التي أمامه، و رمقه بنظرة تحمل التفاجؤ مرددا بغرابة متزايدة:

-سريعا هكذا!

رجع بظهره على المقعد في وضع مريح له و هو يقول بفتور مميت:

-و ما الداعي الذي سيجعلنا نؤجل الزيجة لأجله؟

اخفض عينيه لجزء من الثانية كأنما يستعرض شيئا ما في ذهنه، ثم رفع نظراته إليع متسائلا بشيء من الإستشفاف:

-هل وافقت أستريد؟

ظهر الإمتعاض جليا على ملامح "نوح" و احتدمت ملامحه بوضوح و هو يعقب على تساؤل الآخر هادرا بتجهم:

-و هل هي تقدر أن ترفض لي كلمة؟

زم شفتيه و آثر الصمت، و بالرغم مما يعتريه من خنقة طفيفة تختلج صدره مجهولة المصدر، إلا أنه لم يتحدث حيال ذلك، بينما تابع "نوح" و هو يطرق على سطح المكتب بسبابته بحركة رتيبة هادئة بكلمات قاصدا التفوه بها عندما لاحظ دلوف "ديالا":

-عمةً ضع في حسبانك أنك ستنتقل للعيش معي في الفيلا بعد زواجك.

تصاعدت أمارات الغضب إلى وجه "ماسيمو" من تلك التحكمات التي سأم منها من والده، فهو لا ينفك يضيق عليه الخناق، و هدر في عصبية بصوت حانق:

-مجددا أبي !، ما ذلك التصميم...

لم يتابع سيل كلماته عندما وصل إلى سمعه صوت خطوات لحذاء أنثوي قريب منه، علم أنه ل"ديالا" الشريكة الوحيدة له، كما أنها ابنة أحد أصدقاء والده، و أيضا تجمع بينهما علاقة صداقة وطيدة، و الأقربون مما يعرفونهما يعلمون أن صداقتهما ستؤول لعلاقة زواج في القريب العاجل، نعم لا يجمع بيهم مشاعر حب، و لكن صداقتهما القوية بالإضافة إلى علاقة شراكتهما الرائعة تجعل منهما ثنائيا مثالي يصلح للزواج من وجهة نظرهما، جاءت الأخرى بعدما استمعت لكلمات "نوح" الأخيرة المتعلقة بزواج "ماسيمو" المجهول و انتقاله إلى فيلا والده، ضيقت عينيها و هي ترمق الإثنين بنظرات يعتليها الغرابة، ثم ثساءلت بشيء من التعجب و هي تفرق نظراتها عليهما:

-عن أي زواج تتحدثان عنه؟، زواج من تقصدان !

تفاجأ "ماسيمو" من استماعها لما قاله والده، ليظهر عليه الربكة من تساؤلها المباغت و الذي لم يضعه في حسابنه و لم يرتب له ردا مسبقا، بينما كانت نظرات "نوح" مليئة باللؤم و هو يجيبعا نيابة عن ابنه الذي تلبك من سؤالها مرددا بثبات بكلمات ذات مغزى يقصده:

-ماسيمو، سيتزوج بأستريد ابنة عمه.

تكونت غصة مريرة في حلقها عندما وقع على سمعها رد "نوح" الذي يحمل الصلابة، إلا أنها لم تظهر ذلك متحاملة على نفسها، و التفتت بوجهها ناحية "ماسيمو" الذي يجلس مستبد به الإرتباك و مطرق رأسه لأسفل غير قادر على النظر بوجهها، ابتسامة له ابتسامة فاترة و قالت بهدوء مقتضب بنبرة صوت رسمية جادة:

-مبارك لك، الإجتماع باقٍ على موعدة خمسة دقائق من الآن، عن إذنكما.

تحرك نحو باب المكتب فور إنتهائها مما قالته، لينتاب "ماسيمو" شعورا بطيف ذنب نبض بداخله تجاهها، أما "نوح" فكان يشعر بالإنتشاء الممزوج بشعور الإنتصار، فقد انتهى من أمر تلك الفتاة التي كان يرى أنها تحوم حول ابنه، و لم يكن هناك أي قبول بداخله نحو زواجهما على الرغم من أنه أبيها صديقا له، انشق ثغره بابتسامة واسعة كون خطته تسير كما خطط له بكامل حذافيرها الذي رتب لها ترتيبا مسبقا.

¤¤¤¤¤¤

نظرات ساخرة اعتلت عينيها و هي ترمق ذلك الفستان الأبيض الذي أحضره لها "ماسيمو" من أجل عقد قرانهما مساء اليوم، كأنما هما خطيبين طبيعيين، و قام خطيبها المزعوم بإرسال ثوب زفافهما، و لكن أي زفاف ذلك الذي لم توافق عليه قبلا و سيتم جبرا؟، للوهلة الأولى التي ترى فيها زواحا يتم من أجل الحصول على أطماع و كل واحد يرتب لأخذ حصته، ذلك الورث الذي لا يحق لا أحد سواها هي وجميعم يرتبون لنيل ما يريدوه منه، و لا أحد يحق له سنتا واحدا منه، و الأسوأ انه ليس عمها و ابنه فقط الطامعين بها، فوالدتها قبلهما تريد و تطمع و ترغب، و التي هي من المفترض أن تحميها و تحمي كل ما يخصها كونها أم، إلا أن حالة والدتها يجب أن تتوخى الحذر منها و من مما يختلج نفسها من نوايا خبيثة لطالما استشعرتها منها منذ صغرها، و التي استمعت لها مرارا و تكرارا عندما كانت ترتب و تخطط مع أختها الكبرى، و التي هي شبيهة لها إلى حد كببر، و في تلك اللحظة بالتحديد ارتسم في ذهنها صورة نكراء لا تنفك تجول في ذهنها حول والدتها.

التفتت بوجهه نحو باب غرفة نومها بنظرات متفاجئة موجهها نحو والدتها التي دلفت بغتة دون حتى أن تدق فوف الباب، اعتراها عدم الإرتياح من مجيئها فهي لم تأتي إليها منذ وفاة والدها بل لم يجمعهما أية أحاديث منذ ذلك اليوم، كأنما متناسية صلة الدم الجامعة بينهما، و أنها أم لها، تابعت خطواتها التي تأخذها نحوها بجمود ظاهري متنافي مع ما يعتليها من حزن و أسى ثم استمعت إلى صوتها و هي تهدر بعدما أصبحت أمامها مباشرة:

-أنا أعلم أنك لا تريدين ماسيمو.

حدجتخا في نظرة جادة و حركت لها رأسها مومئة في تأكيد على ما قالته، ثم أردفت بكلمات ذات مغزى قائلة:

-فعلا لا أريده، أفي مقدورك الرفض و منع تتمة هذه الزيجة.

زاغت عينا "صوفيا" عنها لجزء من الثانية و كأنما تفكر في حل سريع لحل تلك المعضلة، ثم عاودت النظر قائلة باندفاع نزق كأنما وجدت ضالتها:

-يمكنني أن أزوجك لمارتن ابن خالتك اليوم، و بتلك الطريقة نكون أنهينا تلك الزيجة و ضيقنا الخناق على نوح و ... علام تضحكين أستريد؟

نطقت بتساؤلها بغيظ بالغ عندما تراءى لها ضحك ابنتها المفاجئ و الذي لمحت به استهزاء طفيف على ما تتفوه به، لتحدجها ابنتها بنظرة تحمل اللوم و أردفت بنبرة متهكمة:

-مارتن!، إنني أوافق على ماسيمو أرحم لي.

وثبت عن جلستها تاركة والدتها تشعر بسريان النيران بدمائها من سخرية الأخرى على حلها الوجيه بالنسبة إليها، رمقتها بعينين حمراوتين من غليلها و ملامح مشدودة، و "إستريد" تخبرها بشاكلة مليئة بالفتور الغريب كليا عليها، و هي متوجهة نحو الخارج تاركة الغرفة كلها:

-على العموم أمي إذا كنتِ تريدين الرفض لا يوجد عتدي أية موانع أو مشكلة في ذلك، لكن هذا إذا استطاعتي أن تمشين كلمتك على عمي.

تنهيدة مجولة أخرجتها من صدرها فور خروجها من باب الغرفة محاولة بها تثبيط انفعالاتها و تهدئة حدة أنفاسها التي تهدجت من بضع كلمات وقعت على مسامعها من والدتها كأنما كانت آتية لتؤكد لها على عدم اكتراثها بها و لا بمشاعرها و روحها المستنفذة، و أنها لا تعبأ بشيء آخر سوى نفسها، أتت إليها فقط لتعرض عليها الزواج بإبن خالتها "أنابيل" التي لطالما عاملتها بمعاملة مماثلة لمعاملة والدتها السيئة و البغيضة للغاية منذ كانت طفلة صغيرة لا تفقه في أي شيء شيئا، و ذلك المتحرش الآخر "مارتن" الحقير الذي حاول من قبل تلمس جسدها بطريقة دونية بشعة.

••••

احست من بين نعاسها بوجود أحد ممد بجانبها على الفراش، كانت مغمضة العينين لم تفق بعد من نعاسها، شعرت بيد تتحرك فوق خصرها بطريقة مقبضة للروح، تطاير النعاس من عينيها و فتحتهما على مصراعيهما و انتفضت في نومتها و مدت يدها بسرعة نحو إضاءة الغرفة من الأباجورة الجانبية الموضوعة فوق الكومود، و التفتت برأسها لتجده "مارتن" ابن خالتها، مستلقيا على الفراش بجانبها ملتصقا بجسدها و يبدو بهيئة مريبة، عادت بجسدها للخلف زاحفة بيديها قليلا لعدم قدرتها على ترك الفراش حيث إنه كان ساددا عليها الطريق بجسده الكبير مقارنة بجسدها، و تكلمت بصوت يحمل الهلع شاعرة بعنف في وجيب قلبها في صدرها:

-ما الذي تفعله أنت هنا؟ أخرج من الغرفة ؟

دنا أكثر منها مقربا وجهه من وجهها، ليتسلل لأنفها رائحة غريبة تفوح من أنفاسه، و بعدها استمعت إلى صوته الغير متزن نهائيا يقول:

-أستريد أنتي جميلة للغاية، و أنا لم أعد استطيع تحمل أسلوبك الجاف معي و صدك لي على الدوام.

نظراته الثاقبة لسائر معالم جسدها الأنثوية من عينيه الحمراوتين بشكل رهيب إثرا لسكره الذي لم تنتبه له "أستريد" بعد، أشعرتها برعشة سرت في كامل جسدها، و سريعا ما تكلمت بخوف بالغ و هي تحاول الفكاك من بين حصاره الخانق و المؤجج لخوفها:

-أقول لك أخرج من هنا مارتن.

تضاعفت ضقات قلبها العنيفة على الأخير، و أصبح صدرها يهبط و يعلو بهرجلة واضحة إثرا لأنفاسها المتلاحقة برعب جم، بالأخص عند اقترابه المباغتة و الذي تفلت نتيجة له شهقة مرتعدة من حلقها، ليقوم هو بمحاوطة جسدها بعدما اعتلاه و راح يقرب وجهه من وجهها و هو يغمغم بخمول و نبرة متثاقلة و عينيه تناظراها بنظرة مليئة بالشهوة و الرغبة المؤججة في عروقة بطريقة مخيفة للغاية:

-لا يوجد واحدة كان بمقدورها أن تفعل مثلما تفعلين و تقف في وجهي هكذا، انتي التي جعلتيني أضعك بداخل رأسي و أصبح راغبا بك بتلك الطريقة.

دفعته بيديها في صدره بكامل قوتها المسلوبة مو هول الموقف، و لكنها لم تزيحه قيد أنملة بسبب قوة جسده الذي لا تقارن مع جسدها الضئيل الهش، و أردفت بصوت اصبح على مقربة من البكاء:

-من المؤكد أنك جننت.

ضحكة متسعة ارتسمت فوق ثغره، مظهرة أسنانه بطريقة بشعة مقززة على شاكلتها، و تفوح من أنفاسه نفس الرائحة الكريهة التي جعلتها راغبة بإفراغ محتويا معدتها، يتلمس خصرها بروية مرعبة ثم أمسكه بقوة، لتتفلت صرخة متفاجئة هالعة منها و هي لا تكف عن التململ بجسدها و إبعاد وجهها عنه و هو يحاول الإقتراب أكثر لتقبيل شفتيها:

-أصرخي كما ترغبين، أمك و أمي بالأسفل، و لا واحدة فيهما ستسمع شيء.

تواترت دموعها في الإنهنار على صدغيها و هي تتلوى أسفل جسده المثجى فوقها، لا تنفك تكف عن محاولة تحرير جسدها من بين يديه، و قالت بصوت صارخ بنشيج بكائها الذي لم تتحكم به بتهديد:

-ساخبر أبي بكل ذلك، سأجعله يرسلك إلى الجحيم مارتن.

ضحكة مستهزئة تشكلت على جانب شفتيه و غمغم بتهكم و هو مستمر في تحسس جسدها قائلا بصوت مشابه لفحيح الأفاعي:

-و ما هو الدليل على ما ستقولينه يا قطة، ثم أنك في بيتنا، سأدعي إنك أنت من جئتي إلي غرفتي وقمت بإغوائي.

تضاعف محاولاتها في إبعاد جسدها عنها، شاعرة بالكثير من الإختناق الذي جثم فوق صدرها من قربه الدنيء، كما أنها لا تصدق تلك القذارة التي تفوه بها و كيف يفكر في مثل ذلك بالأساس، فقد اتضح لها إنحطاطه الذي فاق حدود مضايقاته الدائمة لها، و صرخت به بقوة ساببة إياه:

-أنت حيوان و قذر للغاية.

فتح الباب بغتة و ولجت والدتها على فوره، و على إثره انتفض "مارتن" من فوق جسدها الممد بطريقة موحية للغاية على ذعره، لترى نظرات والدتها التي رمقته بها شزرا ثم دمدمت بجمود و هي موجهة نظرها نحو "أستريد" التي انكمشت في جلستها بعدما سحبت جسدها للخلف فور ابتعادها عنه و على محياها معالم الرهبة و الرعب:

-أخرج مارتن.

لم يعترض على امرها و لم يوضح أو يبرر لها الصورة التي رأتهما بها، فهو يعلم غضب خالته، ناهيك عن حالته غير الواعية نهائيا كي يختلق أية كذبة حول ذلك الوضع القذر، توجهت "صوفيا" فور خروجه نحو "أستريد" التي انهمرت دموغها بغرزارة و على صوت بكائها و هدرت بنبرة متسلطة و محذرة في آن واحد:

-لا أريد كلمة من الذي حدث منذ برهة أن تخرج من فمك لأبيكِ، و هذا من الأفضل لكِ أستريد.

يُتبع ...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي