الفصل الاول

انثي بمذاق القهوة ١

استيقظ من نومه العميق على صوت ذلك المزعج الصغير، تنهد بملل فكم يكره صوته وضوضائه في اكتر الاوقات راحة، والتي لا يحلو النوم الا فيها،
الا وهي ساعات الصباح الاولى.. مد يده وهو لا يزال مغمض العينين لكي يضربه علي راسه تلك الضربه التي يخرس بعدها ولا ينطق مرة اخري ويعم الهدوء،
نعم هو ذلك المنبه البغيض الذي لا يكن له سوى الكره ذلك الازعاج الذي جلبه لنفسه بنفسه وبماله ومع ذلك لا يستطيع الاستغناء عنه ومضطرا لتحمله.
نهض بتثاقل واخذ نظارته ارتداها وذهب الي الحمام فتحمم سريعا ودخل المطبخ وعلي الفور توجه الي كنكة القهوه لكي يعد له كوباً من القهوة يستهل به يومه كالمعتاد..
وضعها علي جانب الموقد والتف لاحضار مسحوق القهوة وماان امسك الاناء الخاص به حتي صُدم من مدي خفته وضرب مقدمة رأسه بباطن يده وهو يتذكر انه انهي آخر مابه في صنع كوبه الاخير بالامس ،
فتركه وتوجه الي الثلاجه ففتحها ليجدها خاوية تماما الا من برطمان من معجون الطماطم منذ متي هو هنا وهل لايزال صالحا ام لا الحقيقة لا يعلم،
وهاهو نسي مجددا ان يحضر طعاما او قليل من المؤن ليضعها في ثلاجته للاستعمال لاحقا، فلعن نسيانه المستمر لامور لايعرف اهميتها الا وقت الحاجه، ولملم اذيال خيبة امله وذهب الي غرفته فلبس ملابسه ، واخذ حقيبة يده ونزل مسرعا استقل سيارته الصغيرة المتواضعه واخذ طريقه المعتاد لعمله،
ولكنه توقف امام كوفي شوب اولاً وطلب كوبا من القهوه معد للتنقل، وكم زفر وهو قابع في سيارته ينتظر ان يأتي دوره يناظر ساعته كل برهه ومع مرور كل دقيقه يشعر بالحنق اكثر، الي ان وصل لذروة غضبه وفتح باب سيارته متخليا عن اخلاق الاطباء وها هو سيتخذ اسلوبا همجي ويرفع صوته لكي يُبت في امر كوبه الذي طال انتظاره ولكنه تراجع وهو يري نادلا يتقدم نحوه بكوبه فحمد الله واخذه منه وانطلق فورا بعد ان دفع ثمنه..

دقائق معدودة ووصل وجهته وترجل من سيارته وبمجرد وضع اقدامه علي الارض واغلاق باب السيارة نظر للاعلي ثم أخذ نفسا عميقا وهو يناظر اللوحة المعلقه اعلى جدار المشفي فمرت عينيه على ماكتب عليها للمرة المليون تقريبا ومع ذلك لا يفوت صباح دون النظر الى اللوحة وقراءة ماكتب عليها فخورا بأنه وصل هنا فقد كانت حلما تعب كثيرا لاجل تحقيقه ((مستشفي الامراض النفسيه والعقليه بالعباسيه)) فتزداد عزيمته وحماسه فور ذلك على اصلاح ماافسدته الايام والظروف والاشخاص والمواقف في عقول بعض البشر.

دلف من بوابة المشفي يهرول كعادته ممسكا بحقيبته وكوب قهوته البلاستيكي والمتسبب الوحيد في تأخره يوميا اما وهو يشربه في بيته او وهو يشتريه من محل القهوه ، مما يعرضه للتوبيخ اليومي من مدير المشفي ولكن لا يهم..

ولا شيئ فالعالم عنده يهم مقابل كوب قهوتة الصباحي الذي يعادل عنده الدنيا ومن عليها..
دلف الي مكتب المدير بعد النقر على الباب المفتوح مرتين واخذت ملامحه وضع التجهم لكي يوحي لمديره انه لن يحتمل الكثير من التوبيخ اليوم،
ولكن على من تنطلي هذه الحيل وهو له مقدار قد كيل في نفس مديرة من التوبيخ ولابد ان يوفي له الكيل.

وبمجرد دخوله ورؤية المدير له انسابت عبارات المدير اليوميه اللاذعه للطبيب حمزة قائلا :
نص ساعه تأخير النهارده برضو يابيه، ياحمزه مش ممكن كده انت هتضطرني بتأخيرك واهمالك لمواعيد شغلك اني اتصرف معاك تصرف مش هيعجبك بالمره.. يابني دانا مدير المستشفي وبوصل قبلك يبني، يادكتور انا هضطر آسفا اني اخصملك اليوم اللي هتتأخر فيه عن ميعادك.

وها هو حمزه يستقبل كلام مديره وتهديداته الكاذبه قالباً عينيه بملل،

ثم قرب كوب القهوه من انفه فأشتمه ونجحت رائحتها ان تأخذه بعيدا عن الدنيا ومافيها فأبتسم براحة وأغمض عينيه الي ان انتهي مديرة من افراغ مابجعبته من توبيخ وصمت اخيرا،
ففتح حمزه عينية و تقدم الي الدفتر الذي امامه علي مكتب المدير فمضي حضور وانصرف على الفور، بمجرد ان اخذ التوجيهات اليوميه ورقم الغرفه التي يقطن بها مريض جديد كُلف بدراسة حالته والشروع في علاجه مع توصية خاصه من المدير بالحالة على غير عادته ،

انصرف حمزه بصمت غير مبالٍ لنظرات مديره النارية والتي رافقته الي ان تواري من امام عيناه،،
وما ان ابتعد قليلا حتي توقف عن المشي ليرتشف اولى رشفاته من معشوقته ليرتوي عقله ويرقص قلبه طربا وتنتعش روحه، فأغمض عينيه وأبتسم بأنتشاء يعادل نشوة النصر بعد حرب ضاريه من اجل الدفاع عن الوطن.

اكمل السير بعدها ماراً بطرقاته المعتادة في مشفاه وبيته الثاني كما يعتبره،
باحثا عن رقم الغرفه التي تقطن فيها حالته الجديده، وهو يستعد لمواجهة نوبة من الجنون قد تكون متعبة حد الانهاك من مريض في اشد نوباته هياجاً مثل ثور غاضب.

اما في مكتب المدير فبمجرد ان اختفي حمزه عن ناظريه تبسم برضى وهو يهمس لنفسه بصوت مسموع :
اخ منك ياحمزه ومن اهمالك، بس لو مكنتش اكفأ اطبائي مكنتش خليتك عندي فالمستشفي ساعه وحده لكن اعمل ايه محتاجلك وهتحمل سوئاتك وجنونك لان من غيرك المستشفي دي متمشيش ولا حد يخف منها ويتعالج غير بعد سنين

قالها وتنهد ثم انكب علي الاوراق امامه ينهي مابها قراءة وتدقيق ثم امضاء ..

اما حمزه فتوقف امام باب الغرفة المنشودة بعد ان تأكد من رقمها الصحيح وأبى ان يدخل الا ان ينهي قدح قهوته اولا فهو قادر على تحمل اي شيئ فالعالم الا ان تسكب قطرات من قهوته الصباحية بعيدا عن فمه ويضيع استمتاعه بالكوب كله..

انهي حمزه قهوته وضغط الكوب بقبضته مدمرا شكله الطبيعي ثم تقدم نحو صندوق القمامة فضغط على قاعدته بقدمه فانفتح الصندوق فرمي الكوب وابتعد فانغلق الصندوق، وتقدم نحو الغرفه شاحنا طاقته، مستدعيا قوته صاحبا هدوئه المعتاد، او برودة اعصابه كما يطلق عليه البعض، ففتح ترباس الباب الخارجي وذلك للتحكم في بقاء المريض داخل الغرفه واحباط اي محاولة هروب له وفتح الباب ودلف منه،،
وجاب الغرفة بعيناه يتفحصها ليعرف من اي زاوية سيتعرض للهجوم لكي يأخذ كامل استعداده.. ولكنه وقف لدقائق مذهول من هول مارأي..

فقد كانت فتاة تجلس على السرير في هدوء تام اشبه ماتكون بحورية من حوريات البحر علي حد ما سمع عنهم وعن حسنهم، وعلي حد افتراضه انهم يتحلون باضعاف جمال فتايات الارض..

قام بأغلاق الباب جيدا رغم انه استبعد تماما اي محاولة للعنف او الهرب من هذا الملاك الرقيق ولكن عمله هذا علمه الا يثق في الهدوء ابدا فقد يكون الهدوء الذي يسبق عاصفة هوجاء وايضاً، دائما وابدا الاحتياط واجب،

تقدم حمزه نحو ذلك الجمال المكنون بخطوات بطيئة وعيون فاحصه واول ماوقعت عليه عيناه شاش ملتف حول معصمها وشريط لاصق فوقه وهذا دليل قاطع علي محاولتها الانتحار،،،
ومن ثم انتقل بناظريه لمعصمها الاخر ووجد اثر لقطع قد شفي ولكنه ترك ندبة واضحه وهذا يؤكد له انها ليست محاولتها الاولي فالانتحار...

توقف امام سريرها ومد يده ليأخذ التقرير المعلق علي حافته والذي به كل تفاصيل الحاله وتوسعت عيناه وهو يقراء الحاله الاجتماعيه... متزوجه.. السن ٢٨
رفع رأسه من التقرير وطالعها بعيون متفحصه وعقل يشعر بغاية الغرابه فمن يراها للوهلة الاولى يظن انها فتاة يافعه لا تتعدى سنوات عمرها العشرون،، وعقل يتسائل تري من هو ذلك المجنون الذي يملك مثل هذا الجمال ويتركه يتألم الي ان يكره الحياة لدرجة الانتحار!!
عاد ينظر مجددا للتقرير وقرأ الاسم كاملا...
ود قاسم الشناوي... ديق حاجبيه لتعَود اذنيه علي وقع الاسم كأنما سمعه قبل ذلك مرات عديده، واخذ يكرره بينه وبين نفسه، وتوسعت عيناه اكثر حين قرأ المهنه.. عارضة ازياء !!
اخرج هاتفه ليتأكد مما هاتفه به عقله وكتب الاسم وقام بالبحث علي محرك جوجل وابتسم حين تأكدت ظنونه وظهرت صورتها علي شاشه المحمول وقام بقرائة النبذة المختصره عنها، وادرك الان ان هذا الاسم كثيرا ما تردد علي مسامعه ومر امام عينيه علي صفحات الصحف وشاشة الهاتف وفي اعلانات التلفاز..

نعم فهي عارضة الازياء المشهوة والتي تملك اكبر مصانع للملابس في البلاد، وصاحبة الماركه المشهورة ليفاد!!!

امعن النظر في صورها التي سرعان ماامتلئت بها شاشة هاتفه بمجرد ان ضغط على كلمة (المزيد من الصور)
وتعجب اين ذهب هذا الوهج وهذة الهاله التي كانت تحيط وجهها من السعادة!
واين اختفت تلك اللمعة التي فى عينيها وابتسامتها الساحره التي تأسر الالباب وكيف تبدلت من سيدة كانت تشع حيوية الي هذه الكتلة المنطفئه ؟!
نعم لازال الجمال موجودا، ولكنه جمال ذابل كزهرة اقتطفت من غصنها بمجرد ان تفتحت فذبلت قبل اوانها..

اعاد التقرير لمكانه وتقدم ساحبا مقعد كان في طرف الغرفه ليجلس امامها مباشرة، ولكن علي مسافة منها تبلغ حوالي المترين وهذا ايضا من احدى دواعي السلامه، وأمسك اطار نظارته فعدله رغم اعتداله ولكنها حركة اعتاد عليها ودائما مايلجأ لها في اشد اللحظات توترا..

تنحنح محدثا صوتاً لكي تلتفت اليه ويجذب اليه عيناها المتعلقتان بالنافذه منذ دخوله ولكن كان ذلك دون جدوي فقد استمرت علي نفس الوضع..

فقرر التحدث مباشرة وجذبها بالكلمات واستهل حديثه بسؤال تمني ان تجيبه عليه لكي يرضي فضوله فالمقام الاول ثم يساعده في علاجها فالمقام الثاني ولكن في قرارة نفسه يعلم انه لن يتلقي أية اجابات :
ممكن تقوليلي عملتي فنفسك كده ليه؟


انتظر لحظات ثم تحولت لدقيقه ثم دقائق ولم يجد اي اجابة منها كما توقع، او حتى التفاتة تدل على انها سمعته فطرح عليها سؤال آخر ولكن بطبقة صوت اعلى متمنيا ان تأتي بنتيجة هذه المره:
طيب ممكن تقوليلي اسمك... انت عارفه اسمك مش كده ؟
ولكن هاهي ثاني محاوله تبوء بالفشل ايضا حينما ظلت على نفس صمتها غير آبهة به او بأسألته، او لوجودة من الاساس، وكل مايشغلها الان هي اورق شجرة الزيزفون التي تتأرجح مع الريح ذهابا وايابا امام عينيها ،،

تحدث حمزة مرة اخرى واخرى واخري وفي كل مرة لا يجد منها غير الصمت ردا على حديثه،
فامسك بقلمة واخذ ينقر به على حافة المنضدة بجوارة نقرات متتاليه محاولاً ان يدخل على عقلها تغيرا لحالة الثُبات التي تسيطر عليه، وليغير رتم الهدوء الذي اعتادته وماهي الا دقائق من استمرارة في النقر حتي ابتسم فها هي طريقته تنجح مجددا وهو يري ود ترمش بيعينيها عدة مرات قبل ان تحول وجهها عليه وقد ارتسم عليه علامات الازعاج الواضحة وسرعان ماانتقلت بعينيها من عليه الي القلم الذي بيده فركزت عليه ثم لانت ملامحها مرة اخري فعرف انها ستعتاد علي صوته وتسرح معه فغير طريقة نقره في محاوله لتشتيت عقلها وحثه علي الانتباه فتبدلت ملامحها للانزعاج مرة ثانية وقبل ان تفقد انتباهها مرة اخرى قال لها ممازحا : سيدتي الجميلة الرقيقه هلا تكرمتي بالرد على سؤالى ايه اللي خلاكي عملتي فنفسك كده؟ واشار لها بعينيه ووجهه على معصمها فنظرت لمعصمها وتوترت وبدأت تفرك يداها ببعضهم بينما جفونها بدا عليها التثاقل وكأنها ستغمضهم قريبا،
وبالفعل هذا ما حدث حينما تكورت على نفسها وهي تهبط على السرير آخذة وضع النوم وعلم الطبيب حمزه حينها انها تفعل كل مابوسعها للهروب من عالمها الحالي وتأكد ان صدمتها اقوي من مستوي تحمل عقلها،
وانه بصدد مواجهة ضاريه مع حالة بارانويا شديدة وهمس لنفسه قائلا :
ياتري ايه بس اللي وصلك للحاله دي وياتري هتاخدي وقت قد ايه لغاية ماتظهر عليكي بوادر استجابه لعلاج او حتي مجرد انتباه ورجوع للدنيا ؟ بس اللي متوقعه انك هتطولي، وهتطولي اوي واني هتعب معاكي جدااا

يتبع...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي