المقدمة الفصل الأول

( المتسولة الشقراء الفصل 1 )





في جناح ضخم و فخم، جناح شاسع المساحة بكل معنى الكلمة ، شكله كلاسيكي محض ، و أثاثه ثقييل بأصالته ، نوافذه الضخمة تشرق من خلالهم شمس الخمسينات الساطعة تدفء الإرجاء.

جدار الجناح مزين بلوحات غريبة مشكلة، لوحات ذات ألوان سوداء تبعث شعور الألم و القسوة.

يتوسط الجناح سرير عريض ضخم، من حوله الستائر الحريرية الشفافة ، مرفوعة فوق أيادي تماثيل الإغريق الذهبية.

سقف الجناح المقعر ، مزخرف بلوحة مرسومة من زجاج، لوحة إمرأة شقراء إغريقية عارية، لا يغطيها الا وشاح شفاف بالابيض.

و فوق السرير المبعثر الدال على وجود ليلة حمراء بالأمس، كانت تتواجد هناك إمرأة مدثرة اخرى، تتقلب في جهتي اليمين و الشمال، و كانت ملابسها الخاصة بملابس الجنديات المبقعة باللون الاخضر في الارض، تقبع هناك بشكل مهمل.

و بينهم ملابسها الداخلية المثيرة تثبت عن هويتها الأنثوية، بين تلك الملابس الخضراء العسكرية الصارمة، التي تقصي الجانب الأنثوي بمجرد الدخول إلى حياة المعسكر القاسية.

اضحت الأنسة متململة على السرير، تفتح عينيها بهدوء على إثر صوت عقارب الساعة ، إذ فتحت عينيها و الابتسامة تعلو شفتاها برضا تام.

نظرت الى الساعة الذهبية الضخمة، المعلقة في الحجرة، لتتسع انظارها و ملامحها تغيرت كليا إلى الدهشة و الخوف ' يا إلهي إقتربت الثامنة '.


ثم نهضت بفزع من مكانها، و كانت موجهة أنظارها الى باب مزخرف آخر ، و هي تسمع رشاش المياه ذا الصوت العالي و الدال على وجود شخص ما في الحجرة.

اللعنة، لن يكون حضرته مسروراً أبدا بوجودها هنا بعد الثامنة، عملية الهروب لا بد وأن تتم بشكل فوري.


نهضت الآنسة بقلق، تسرع في ارتداء ملابسها و العرق يتصبب من جبينها كلما نظرت لعقارب الساعة.

و دقات قلبها تتسارع بالخوف مع  صوت رشاش المياه القادم من ذاك الباب، كأنها تراقب ساعة موتها، يداها ترتجفان، جسدها يرتعش، تكاد تفقد حواسها من الخوف.

ارتدت ملابسها في غضون دقائق معدودة، و رتبت شعرها على طريقة الجنديات، مع ارفاقه بقبعة الجنود خضراء اللون، ثم هرولت مسرعة وهي تحمل اشلاءها و بقايا ليلتها الحمراء معه، مغادرة الجناح بسرعة.


ما ان فتحت البوابة حتى اسرعت بالمشي في ذاك الممر الطويل، الذي يتواجد في اخره جنديين حرسين يقفان بكل جمود.

بدأت تسرع لدولاب سلالم القصر الضخمة، و على طول السلالم كانت تركض بهرولة و الخدم من حولها يسرعون بالتنظيف، و اصوات عقارب الساعة يعلو صداها المخيف في ارجاء المكان.

ما كادت تنزل للأسفل لتخرج من بوابة القصر، حتى اصطدمت بصاعقة هزت كيانها الأنثوي.

اصطدم وجودها بأربع رجال ضخام من كبار ضباط العسكر، و من أعلى الرتب في الجيش بعد الضباط الأمراء، يلبسون بزات عسكرية برتب عالية، و متفاوتة على الأكتاف.

من بينهم امرأة طويلة، و تتضح على وجهها الصرامة و القوة المختلطة بالجمال الأجنبي الفاتن.


كانت إمرأة لديها سلطة بين الرجال، شكلها متناسق مع وجهها الجميل بملامحها الحادة، و بزتها العسكرية التي اضفت عليها طابع الكفاءة.


بينما الرتبة التي على كتفيها توحي على أنها الرتبة السادسة من الضباط الكبار ألا وهي رتبة "العقيدة"

توقفت الجندية تنظر الى القادة الكبار، والصدمة بارزة على ملامحها، عيناها مفتوحان مع فم مفتوح، و ما فتئ ان استقامت في وقفتها، و الهلع والإرتباك واضحان عليها.

رفعت يدها تقدم التحية العسكرية الى سيادتهم، كان الضباط الكبار الخمسة ينظرون اليها بملامح شبه منعدمة تقريبا، و ثلاتة منهم إستمروا في المشي بدون إكتراث للموضوع.

بينما العقيدة  إستمرت بالنظر للجندية بملامح حادة كسيف، بل أشد من ذلك.

انحنى رأس الجندية بسرعة، لتهرول للخارج هربا من هالتهم السلطوية القوية، و رعشة الخوف تنتشر في جسدها، أنظار الشدة والقوة التي لا تضاهى أبدا، ارعدت فرائصها.

أخدت العقيدة تلاحق بعينيها خطواتها، و تتفحصها بتدقيق، و تتفحص ملامحها  و تتبعها بانظارها.



إستدار إليها أحد القادة الأربعة الكبار، ذا الرتبة الرابعة "الرائد" صاحب الشعر الأشقر الوسيم، ومن ثم ابتسم إبتسامته الساحرة  وبنبرة ساخرة اردف: هل تحفظين ملامحها أيتها العقيدة؟

فزعت العقيدة من صوته الجوهري، لتعاود النظر اليها كأنه قد أمسك بها بالجرم المشهود، لتنطق بهدوء: إنني فقط أحاول التعرف عليها لا أكثر، أيها الرائد .

الرائد وهو رافع حاجبه الأيمن يمثل الإقتناع بكلامها: أوو فهمت الآن، ممم، أنت كل يوم تتعرفين على جندية جديدة، ممممم، و ما هدفك من هذا؟ يااا عقيدة؟

العقيدة بكل هدوء، عقدت يديها خلف ظهرها لترفع رأسها اليه؛ بحكم طول قامته الشاهق، وردت بكل ثقة:

أنا ضابطة، وقائدة الجيش العسكري النسائي، أوليس من الطبيعي ان احفظ ملامح جندية في جيشي؟


الرائد بنفس النبرة الساخرة والهادئة: و ما فائدة التعرف عليهن، او حفظ وجوههن، ونحن نراهن مرة واحدة فقط (و شدد على كلمة " فقط") هل لديك فكرة عن هذا أيتها العقيدة؟

إرتبكت مكانها، وهي تحاول إخفاء نظرات صدمتها من سؤاله الجريء هذا: أظن أن هذا السؤال يجب أن توجهه للسيد العميد، لا أنا ، أليس كذلك؟

خَر ضاحكاً بقهقهة عالية : ههه السيد العميد؟! حسنا، مارأيك أن نسأله معا، أيتها العقيدة!


و إستدار بمنتهى البرود، تاركا إياها و الابتسامة الساخرة تعتلي وجهه، يسير لاحقا بالضباط الآخرين الذين قد إنسحبوا قبله.

إعتلى وجه العقيدة الإرتباك وحاولت جاهدة الحفاظ على هدوءها لتلتحق بهم، و هنا كان الجميع متوجه إلى غرفة الطعام ذات الآثات الثقيل الأوربي المبهرج بتماثيل عارية من الذهب الخالص.

حيت هناك مائدة بطول مترين تقريبا، و حاولي عشرين كرسي مزخرف بالذهب أيضا، و الخدم من حول المائدة بلباس موحد، خدم الجيش الخاص، مؤهلين في المعسكر، يوضبون المائدة بتنظيم يزجون بالطعام فوقها و العرق يتصبب جبينهم.

ينظرون باستمرار الى الساعة المعلقة في الأعلى ، التي تتحرك كالعدو اللدود، مهددة إياهم بحبال المشنقة التي تترتب عن أي خطأ أو تأخير.

جلس القادة الكبار على كراسي متقاربة، غير الكرسي في الرأس، بعد أن أزاح لهم الخدم الكراسي للجلوس، و تناول كل واحد منهم منديلا يوضبه فوق ملابسه استعدادا لتناول الطعام.

 بينما إستمر الخدم وهم يوضبون أطباق الأكل و هي فارغة أمامهم، إضافة للملاعق و الشوكة الفضية التي توضع هي الأخرى بالترتيب فوق المائدة، كما لو كانت جنوداً مصفوفة.


..

بالعودة للجناح الملكي، جناح العميد، الذي كان ينبض بهدوء قاتل يصم الأدنين، ماعدا عقارب الساعة اللئيمة ، الشريرة التي لا ترحم.


فتح باب الحمام المزخرف بهدوء، ليسمع بعدها صوت وقع أقدام قوي، صوت حذاء يخطو، و بين كل خطوة وخطوة مسافة وقت وزمن، صداه يملئ المكان، صوت ينشر الرعب قبل أوانه.


حتى ظهر شخص من العدم، شخص ضخم طوله شاهق وأكتافه عريضة، كأنه رجل إغريقي ثابت، يرتدي بزة عسكرية مختلفة عن الضباط الكبار، بزة غريبة و على أكتافه رتبة ذهبية الصنع بعلم النسر إنها رتبة

"السيد العميد".
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي