الفصل الثاني

(البصيرة)




انني مجرد فتى في السادسة عشر من عمري، وان كان العدو شخص امامي ربما كنت أستطيع التحلي بالشجاعة او الشعور بالخوف فقط، ولكن انا لا أرى عدوي!!!!!
وما أشعره الآن في قلبي لا اجيد وصفه.

بدأت الاصوات تخف، حتى اصبحت كأنها هسيس بسيط.
وما ان خفت الاصوات حتى ازداد ألم قدمي وكأن جسدي كان مخدراً من شدة الهلع والخوف ولم يكن يشعر بالالم العضوي، رفعت سروالي ووجدت بها كدمة كبيرة ولكن جيد انه لا دماء نزلت منها.

عليا ان اجد مكاناً اختبئ فيه من دُجنة الليل، ادخلت يدي في جيبي لآخذ هاتفي ولكن لم اجده، يا إلهي يبدو انه سقط مني في السيارة.
نظرت حولي أسارع لأجد مكانا قبل ان يهبط الظلام تماماً.
على الاقل انا بعيد بمسافة جيدة عن ذاك الجبل!
ولكن لا اشجار، لا مياه ولا شيء يمكن ان يبقيني على قيد الحياة، انا متأكد انها مسألة ساعات وسأكون ميتٌ لا محاله.
وجدت صخرة كبيرة جلست تحتها وانا احمل كيس الطعام، وخطر في بالي هل يوجد ذئاب او ثعالب هنا؟
بدأت اقرأ القرآن في قلبي ثم ارتفع صوتي تدريجياً.
كان صوت تلاوتي جميل جدا بشهادة المسابقات التي ربحتها.
بدأت اتلو القرآن والطمأنينة تتسرب داخلي وارتفع صوتي، ولا اعلم كم استمريت جالسا اتلو القرآن، ثم تذكرت اني لم اصلي صلاة المغرب، امسكت قنينة الماء ووجدتها منتصفة فاذا توضأت بها سأبقى بدون ماء.
بدأت اتيمم ثم شرعت في الصلاة وبم ان صلاة المغرب جهراً فقد اخذت أستأنس بتلاوة القرآن واطلت في صلاتي.
لم ادرك ان عيوناً كثيرة لا أراها تراقبني، واني لم اكن وحدي بل المكان ممتلئ بممن لا آراهم.

انتهيت واحسست بالجوع فتحت الكيس ووجدت بعض المعلبات وشطائر كباب كنا اشتريناهم من مطعم صغير على الطريق قبل ان نتوغل الى الصحراء.
أكلت قليلا ثم اتكأت على الارض وانا متيقظ وحريص على اي حركة.

بالرغم من احساسي بالتعب والارهاق الا انني لم استطع النوم.

ادركت لاحقاً ان هذه الليالي هي الليالي التي غيرت مصيري وجعلتني اصبح رجلاً وليس مجرد فتى لا خبرة له في الحياة!

فالتجارب هي التى تمحصنا وتصقلنا لنصبح اقوى وانضج.

لحظات وبدأت اسمع اصوات غريبة مجدداً، ينخلع لها الفؤاد، كانت الظلمة تحيط بي من كل جانب والاصوات تزداد في الاقتراب، ومن هول الصوت حتى ظننته ملك الموت آتيا ليقبض روحي، او ان الساعة قد قامت.
فالانسان عندما يهاجمه الخطر وحيدا يصبح ضعيفاً هشاً قابلاً للعطب.

ارتعشت من الخوف وبدأت ابكي بصمت، وانا انتظر القادم ليظهر أمامي، ولكن طال انتظاري ولم يظهر شيء!
لم اكن ادرك ان عيون كانت تحدق بي من كل جانب في الاساس، وكلما زاد خوفي زاد عددهم.

وفي دجنة ذاك الليل قررت ان احاول النوم علّ روحي تخرج وانا نائم.
ولكن لم استطع، لان الصوت ازداد كثيرا وبدأت حروفه في الوضوح.
ارهفت السمع حتى استيقنت مما اسمعه، هناك همهمات بجانب ذلك الصوت المرعب تقول "كنا ننتظرك ايها المختار، انت ايندينان القادم"
اخذ الصوت يتكرر، ثم ظهر ضوء القمر خافت خجول وكأنه يقول ليواسيني " لا تخف لست وحدك، انا انير دربك".

كانت ليلة من اصعب الليالي التي مرت عليّا في حياتي، الظلام يحيطني الا نور خافت من ضوء القمر، تترائ لي خيالات تقترب وتبتعد.

لم يغمض لي جفن حتى بدأ الفجر في البزوغ، صليت صلاة الفجر وفرائسي ترتعش، اشعر بطاقة هائلة حولي ولكن لا أراها.
وما إن بدأ النهار في الطلوع بَدأت انظر حولي عَليِّ اجد ما يرشدني الى الطريق، قررت ان ابدأ السير، وكنت اسير ولا أدري ان كنت في طريق الخروج ام انني اتوغل اكثر في الصحراء.
كانت محاولة بائسة مني فقد كنت اعرف ان مصيري الهلاك، فأنا لا املك طعاماً سوى قطعة صغيرة من الخبز المتبقي من شطائر البارحة، واقل من ربع القنينة ماء!

اعتقد انني شجاع في موجهة الموت، ولكن كان خوفي من وحوش الصحراء والافاعي.

كنت امشي وامشي وليس هناك اي معلم او شيء ذا دلاله امامي، فقط رمال رمال رمال.

الشمس فوق رأسي والعطش والجوع قد تمكنا مني.

قرية ايندينان؛

بدأ العرق يتصبب منها، والخوف تسرب الى قلبها.
هاقد بزغ الفجر ولم تسمع اي خبر عن ابنها خليل،

لم ترضى العودة إلى منزلها بل جلست في منتصف ساحة القرية، قلبها يخبرها ان مكروهاَ ما قد حدث لإبنها، فقلب الام لا يخطئ!

كان بعض من سكان القرية يجلسون بالقرب في انتظار ابنائهم هم ايضاً.

ترأى للجالسين في وسط الظلام رجل يمشي، اقبل عليه الجميع وتجمهروا حوله، حاولت ام خليل تجاوز الجمهور للوصول إلى القادم الجديد. كان زوجها عدنان قد سبقها مسرعاً مع البقية.

قال صوت رجل ما: انه اسعد!
وتتالت عليه الاسئلة من المتجمهرين:
- اين كنت يا أسعد؟
- لما تبدو مفزوعاً؟ ماذا حدث لك؟
- هل انت بخير يا أسعد؟
- لا تبدو بخير هل تعرض لك بعض السارقين؟

كان ينظر الى الوجوه حوله ولا يستطيع مجاراتهم فما حصل له من اهوال منذ عدة ساعات قد غيب عقله واذهب فكره، حاول النطق ولكن لم يستطع، لا يرى سوى وجوه بها عيون تحدق به وشفاه تتحرك.

قال احد آخر: اعطوه شربة ماء، يبدو ان شيء مفزع قد حدث معه.
فأسرع اليه بعضهم بالماء، وبعد ان ارتشف عدة رشفات منه انفكت عقدة لسانه وبدأ يقص عليهم ما حدث معه في الصحراء، ثم اخبرهم عن الفتية من القرية الذين صادفهم في الطريق متوجهين الى قلب تلك الصحراء!

وما ان سمعت علياء والدة خليل حديثه هذا حتى اسرعت تشق جمهور المحتشدين متجهة نحو أسعد، وصلت اليه لاهثة ودموعها كالسيل على خديها وهي تقول: خليل، هل رأيته؟ هل رأيت ابني؟
فأخبرها اسعد انه قد رآه معهم وكانو عازمين على دخول الصحراء، وقد حاول منعهم وتحذيرهم ولكنهم لم يستمعوا اليه، بل يبدو ان حديثه قد زاد من حماسهم واصرارهم، كما هم المراهقون دوماً.


لم تستطع علياء ان تتمالك نفسها وقد مر شريط حديث الشيخ في ذلك اليوم سريعاً في ذاكرتها، بحثت بعينيها عن زوجها عدنان فرأته ينظر اليه وعلامات الذعر تبدو على وجهه فعلمت ان نفس الذكرى تمر في عقله.

حيث انه قبل حوالي العشر سنوات عندما اصيب خليل بنوبة ما واستدعوا له الشيخ اخبرهم بأمر قد انقض مضجعهم لعدة ليالٍ، حيث قال لهم: انه قرينه من تسبب بهذه النوبة، وهو احد اتباعهم، اتباع جن المملكة، ويبدو ان قرينه حاول اختطافه ويبدو ايضا ان اسياده قد علموا ان خليل هو المختار، انه ايندينان القادم.
علياء برعب ظاهر على وجهها: وماذا يعني هذا ايها الشيخ؟
طأطأ الشيخ رأسه ثم قال: في قلب تلك الصحراء يقبع جبل في ظاهره لنا، ولكنه ليس سوى مملكة للجن، حيث ان بصرنا نحن البشر لا يرى الجن ولا مُلكهم، وقد قام اهل قرية ايندينان منذ عدة عقود بعمل اتفاقية معهم، وقد جائت تلك الاتفاقية بعد حرب دامت طويلا بين القبيلة والمملكة، وقد قتل فيها من قتل من كلا الفريقين، وتنص تلك الاتفاقية على ان لا يتعرض احد من قومهم الى اي شخص من قبيلتنا او من القبائل المجاورة لنا داخل الصحراء او داخل اراضي مملكتهم.
عدنان: مقابل!!
الشيخ: مقابل ان يأخذو شخص يعلمون بأساليبهم انه مختار لأجل حماية مملكتهم.
اكمل الشيخ: وقد قام رجل من اهل هذه القرية بالتضحية بنفسه في اول مرة وذهب معهم وهو يدعى ايندينان، وتكريما له قام اهل القرية بتسمية القرية ايندينان.
تبادلت علياء النظر مع زوجها عدنان، وقال عدنان للشيخ السؤال الذي يدور في ذهنيهما: وهذا يعني ان خليل سيتم اخذه من قبل هذه المملكة!؟
الشيخ: من المفترض ان لا يتم اخذه الى المملكة حتى يصبح رجل، الا اذا احسوا بأنه في خطر فسيقومون بأخذه من اجل حمايته.
علياء ببكاء: يحمونه ممن؟ من امه؟ من ابيه؟ من شقيقه وشقيقاته!؟ انه مزال طفل صغير، لن اسمح لهم بأخذه لا الآن ولا ابداً.
عدنان: لم خليل؟ لم اختاروه هو بالذات؟ انه لا يزال طفل صغير ولا يعلمون ماسيكبر ليصبح عليه!
الشيخ: يا بني انا حقا لا اعلم ولكن ان كثفنا جهودنا فنستطيع حمايته على الاقل حتى الى ان يشتد عوده ويصبح رجلاً. سأقوم بتعليمه بنفسي في المسجد وسنحيطه جميعا برعايتنا وحمايتنا، لا تخافا.
عدنان: وكيف سنحميه فنحن لا نراهم!؟
الشيخ: يجب ان لا يذهب إلى الاعراس حتى لا يتكرر ما حدث معه اليوم، وان لا يخرج فترة غروب الشمس و ما بعدها الى ان يحل الفجر.
ثم سكت قليلا واضاف بتشديد: واهم شيء يجب ان لا يدخل الصحراء لأي سبب كان، وان يحمل معه خنجراً فضي اين ما ذهب.
علياء: سأحرص بنفسي على تنفيذ ذلك!

وعاد تفكيرها الى الواقع، ان طفلها الحبيب بين ايديهم بعد كل شيء، احست بإختناق في صدرها وحرقة تتصاعد، التفت للخلف لتخرج وكان ازدحام المتجمهرين كثيف فبدأت تدفعهم من حرارة الروح، روحها لم تستطع ان تبقى حبيسة بين اضلاعها، ارادت الخروج والتحرر لتبحث عن عزيزها، اردت الخروج ليقل هذا الالم الذي اصاب جسدها بأكمله.

خرجت من بينهم وهي تعاني حبسة في صدرها، وكان زوجها يجاهد للحاق بها، ركضت مسرعة نحوى لا شيء، كقطٍ مذبوح يموء ويركض من حرارة الروح، ثم وقفت وصرخت صرخةً مجلجلة "خليل".

سقطت ارضاً فجسدها الضعيف لم يحتمل كمية الالم الذي سكنه فجأة، فالالم النفسي ينغرس داخل خلايانا فنحسه الم جسدي يمزق انسجتنا بخبرة جزار يلهو بالسكين!
اسرع اليها عدنان يحملها الى المنزل فقد فقدت الوعي.

عيون شريرة تراقب ما يحدث بإستمتاع، وابتسامة صفراء مقززة تعلو ثغرها، فقد نجحت في تنفيذ ما طُلب منها بدهاء ومكر.
اسرعت الى وكرها لتحادث اسيادها، وكر السحر والشعودة، وكر الشرور.

خليل؛

متهالك على الارض يجلس القرفصاء، اعياه المشي وليس لديه مايقيم صلبه فقد نفذ اخر مالديه من ماء وخبز.
تلفحه الشمس اين ما جلس، وقد وجد هذه البقعة المضلله بسبب كتلة الرمل وقد آوى تحتها جسده عله يحس ببعض النسمات الباردة او يلطف الظل بعضا من عطشه، سيموت لا محاله.
"سيموت لا محاله، سيموت لا محاله" سمع الصوت يتكرر وقد ظن انه صوت عقله الباطن ولكن الصوت لم يتوقف.

تجاهل الصوت وحاول النوم وسيحاول المشي عند قرابة غروب الشمس، فإن حاول الآن ذلك فهو الانتحار بعينه، حيث ان الشمس عمودية وستقتله ضربة شمس قبل ان يموت عطشاً.

لا يعلم متى غلبه النعاس واستطاع النوم ولكن شيء ما كان قد ايقظه، فتح عينيه وهو مجفل فقد احس وكأن انفاس قد لفحت وجهه، ولكن لم يجد شيئا فقد كان وحيدا كلياً.

نهض واقفاً وبدأ بالسير، كان يحاول الاسراع في خطواته ولكن التعب متمكن منه ماجعله يمشي بمهل.
لا يعلم ان خطواته هذه كانت تغوص به نحو قلب الصحراء، حيث لا ماء ولا حياة.

كان يتأمل ان يجد احدى رعاة الابل فيعود معه حيث القرى والانس، ولكن ما يتمناه المرء شيء وما يحصل  عليه شيء آخر.

اسدل الليل ستاره، وكان وضع خليل سيء جدا، ارهاق وتعب وجوع وعطش وخوف كلها تجمعت في ذاك الجسد البشري الضعيف، فهل سينجو!؟

استلقى على الارض واغمض عينيه، سمع همس يقول: سيموت، سيموت، سيموت لا محاله!

اغلق اذانه بأصابعه ظنا منه انه حديث النفس او صوت العقل الباطن فلا أنيس له هنا.

ولكن ليلته كانت طويلة جدا، اطول من سابقتها فقد ازداد الصوت والهمس.
ضربات قلبه ازدادت ايضا بسبب قلة الطعام والشراب، اصبح خائر القوى.
طال عليه الليل بين غفوة وصحوة حتى جاء الصبح، وبدأ نور الفجر يهدد سواد الليل.
حاول الوقوف واخذ يتيمم ويصلي صلاة الفجر، اصبح موقن ان نهايته قريبة جداً.

اكمل صلاته وبدا يمشي قبل ان تشرق الشمس كليا وتزداد الحرارة، ثم بعد بضع خطوات رأى ماء امامه، لا يكاد يصدق عينيه.
بدأ في الركض وقد دب الامل في اوصاله، ركض بشعر مشعث وثياب مملوئة بالرمل، شفاهه جافة ومش شدة جفافها تكاد تخرج منها الدماء.

يركض ويسقط، يركض ويسقط، ولكن ماله لا يصل إلى الماء الذي امامه!
كل ما ركض ابتعد الماء! وقف يلقف انفاسه مستندا بيديه على ركبتيه، ثم وقف وبدأ يفرك عينية ويمعن النظر.
امتلئت عيونه بالدموع انه، لا امل له، انه السراب، ما يراه ما هوا الا سراب من نسج خياله.

جلس حيث هو وبدأ يردد الشهادة داخل قلبه، كان شجاع بحق، شجاع بالفطرة كبقية سكان الصحراء.
وضع يديه فوق رأسه يحمي رأسه من اشعة الشمس فقد اصبحت عمودية، وقد ارهق نفسه بذاك الركض نحوى السراب.

لا يشعر بالوقت من حوله ولا يدري كم مر عليه وهو جالس بهذه الوضعية، ولكن كل ما يعلمه انه منذ فترة لا بأس بها، لدرجة ان الشمس بدأت تحرق جلده.

قرر البحث عن اي ظل ولو صغير ليحتمي تحته، وما ان خطى خطوات معدودة حتى ومش عدة مرات غير مصدق يخاف ان يكون سراب ايضاً، رأى واحة من الماء وحولها اشجار النخيل وغزال يشرب الماء، ولكن ما الذي يحضر الغزال الى قلب الصحراء!

سيذهب اليها ولن يخسر شيء، فهو لن يركض ما ان تبتعد كما فعل سابقاً.
وما ان اقترب من اشجار النخيل ولا بكاد يبدل خطواته حتى خرج له من بين شجر النخيل رجل عجوز مظهره مرعب، ولكن خليل لم يتوقف فقد ركض قلبه نحوى الماء، الا ان العجوز استوقفه قائلا: ستموت لا محاله!

توقفت خطوات خليل، ونظر ناحية العجوز فأعطاه الاخير ابتسامة مقززة، والتفت ثانية ناحية الواحة متجاهلا ذاك العجوز البشع، الا ان اشجار النخيل بدأت بالاختفاء واحدة تلوى الاخرى، حتى الغزال رفع رأسه عن الماء ثم اختفى، يختفون كما لو كانوا سراباً
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي