بلا موعد

نونا`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-07-25ضع على الرف
  • 60K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

قطرات غيث سخية تتساقط من السماء في ليلة رعدية المزاج، وهو كالمجنون يبحث عنها وسط الركام، ورجال الحي يحاولون الإمساك به؛ ولكن هيهات أن تقيد ثائر محب…!
…………
مرت الساعات ثقيلة على روحه وهو صامت، فقط مُتشبث بصغيرته وكأنه يتأكد من وجودها، رافضًا شعوره بالخسارة الفادحة.

فقط يتمنى لو عاد الزمن للوراء بضعة أسابيع، فربما كان باستطاعته حينها حمايتها وإقناعها، ولكنه القدر الذي وضع النهاية رُغمًا عن صراع دواخلنا.

يسير مُحترق الروح لا يدري منذ متى يسير ولا أين موقعه الآن؛ فقط يمشي برفقة صغيرته في أحضانه منذ خرج من المشفى ووقع على إجراءات تحضير الجنازة الخاصة بحبيبته…

فاق على رنين هاتفه وأبرق بعينيه كأنما عاد للوعي على بغتةٍ، لم يتوقف لمعرفة هوية المتصل وإنما انحرف مساره عائداً إلى ما هو مُجبر عليه ولكن بروح قاسية………!!!
…………….
نبضات خافقها تزداد هلعًا ولا تستطيع الوصول إليه، تسير ذهابًا وإيابًا قلقة على روحها وإدراكها الداخلي بأنه لن يبالي بحالها ببروده المُعتاد!

هناك غصة بداخلها ولكنها لا تسمح لها بالطفو كثيرًا فوق سطح مشاعرها؛ فعشقها له أكثر كثافة من أن يطفو بل غُرِزَ بأعماقها استقرارًا لا سبيل لاقتلاعه من الجذور…!

كثيراً ما تتذكر يوم رأته أول مرة وكانت حينها في أعقاب طفولتها…

يومها كانت تلهو في حديقة القصر مستمتعة بالجو الربيعي والفراشات حولها و المربيات يراقبن تصرفاتها ولكن من بعدٍ لاسيّما أن تذمرت منهن كثيرًا لوالدها، والذي ما إن سئم من كثرة بكائها حتى أمرهن بالابتعاد عنها قليلًا..

باكية كانت بعدما تعثرت بحجر صغير في الحديقة الخاصة بقصر والدها، إلى أن وجدت ظِلّ طويل يعلوها، دارت بعينيها في المكان بتلقائية تبحث عن إحدى المربيات ولكن تَبًّا لعِنادها فلا أحد منهن متواجد قربها الآن!

انحني ظلًا طويلًا فوقها باهتمام شديد:

_ما بكِ أيتها الصغيرة؟

ازداد بكاؤها خوفًا من ذلك الغريب مُحاولة الابتعاد عنه للوراء، ولكنه جلس أرضًا مثبطًا حركتها تلك، وممسكًا بساقها الجريحة يطالعها بعمق تبعه تأوه خافت:

_آوه انظري كيف جرحتِ نفسك، يا لكِ من طفلة شقية!

طالعته مثل جرو صغير خائف و الدموع ما زالت تتساقط من بؤبؤي عينيها؛ جذبتها عيونه البنية الحادة.. تذكرُ أنها رأت بالتلفاز عيون طائر يشابه حدة عيون ذلك الشخص!

كان طويلًا يفوقها بالكثير ووجهه أسمر وشعره أسود لامع يتناسق مع سترته الزرقاء.

ولكنه لم يهتم بها كثيرًا أو بتحديقها به حين نهض باحثًا عن أحد لمداواة تلك الصغيرة، وما زالت تتابع آثار اختفائه من أمام ناظريها بفضول ممزوج بخوف طفولي…!

فاقت على صوت أقدام الخادمة المسنة التي ذهبت لفتح الباب حين سمعت صوت بوق السيارة الخاصة بسيد البيت "رائد أبو الدهب"، ركضت مُسرعًة لاستقباله كما اعتادت منذ زواجها الذي مَرّ عليه شهران.

تباطأت أقدامها شاعرة بانقباضه بسيطة في خافقها تزامن مع إبصارها لطفلة صغيرة باكية بأحضانه وهو يحاول السيطرة على حركتها…!

وجهه مُرهق للغاية وعيناه حمراوتان وبشرته مُلطخة بتراب أسود، وملامحه قاتمة مُبهمة لا تعبر عن شيء واضح.

أشارت بإصبعها صوب الطفلة الصغيرة مُتسائلة:

_مَنْ تلك يا رائد؟

وكأنه لم يسمعها، بل تجاوزها صاعدًا إلى غرفته، مقربًا الطفلة أكثر من قلبه.

بهتت ملامحها شاعرة بأن هناك كارثة ستطيح بداخلها ناسفة روحها.

أمَرّت الخادمة بعقل مشغول بالانصراف حتى تنام، وصعدت بدورها إلى الأعلى بخطوات مضطربة خائفة…!

……………
دلفت إلى داخل غرفتهما حيث وجدت تلك الصغيرة قد غَفت ونام معها عما حولهما مُغمضًا عينيه، سامحًا لنفسه بالبكاء دون صوت؛ بكاء فضحه خطان من الدموع يسيلان على وجنتيه!

انخلع قلبها لمرآه هكذا، وكعادتها الحنونة العاشقة لتفاصيله خطت بقدميها فوق السجاد الوثير مُقتربة منه دون أن يشعر بها، و عانقته من الخلف.

فتح عيناه بسرعة وملامحه مليئة باللهفة:

_هدى.

قطبت ما بين حاجبيها بشدة متسائلة بقليل من الحدة:

_مَنْ هدى تلك؟

أجفل من سؤالها وتحاشى النظر إليها ناهضًا من مكانه دالفًا للمرحاض بصمت مطبق، وعلامة الاستفهام تزداد بداخلها ناشبة مشاعر خائفة كادت تنساها.

……………….

ارتدت الشال الصوف تتابع تساقط حبات المطر مِن نافذتها الزجاجية الطويلة، وعيناها تتابع لتلك الطفلة الصغيرة النائمة وتفكيرها بحال حبيبها وزوجها مسيطر عليها كليًا.

تساءلت بداخلها عن سبب شعورها بالخوف والانقباض… تُرىَ مَنْ تلك الصغيرة، وما صلتها بزوجها ذو الطباع الجادة؟!

رأت كيف تشبث بالصغيرة وكأنها ابنته؛ من صلبه ودمه!
قاطع شرودها صوت الباب يُفتح وزوجها خارج من المرحاض، اقتربت منه بابتسامة عاشقة بلهاء:

_أراك استعدت بعضًا من نشاطك!

أومأ برأسه قليلًا، فإجابة صامتة كانت بالنسبة له أكثر من كافية، بينما فضولها يزداد جوعًا…

صعد إلى الفراش جوار صغيرته وكاد أن يغفو ثانيةً، ووضع الغطاء الثقيل على جسده وكأن الموضوع مُنتهٍ ولا حق لها بمعرفة هوية تلك الدخيلة الصغيرة!

اقتربت منه ولمست كتفه، ففتح عينيه لتسأله مجددًا بإصرار عنيف:

_لم تُجيبني بعد!

تأمل وجهها مليًا وقد ذهب نصف نعاسه، وفجر قنبلته مُراقبًا مدى تأثيرها:

_ابنتي من حبيبتي وزوجتي!

رمشت بعينيها في ومضات خافتة وكأن سمعها ثقيل واستيعابها بطئ وتساءلت بهمس:

_لم أفهم.. ماذا تقصد، سألتك عن تلك الصغيرة، لابد أنها ابنة أحد رجالك وسيأتي لأخذها، رجاءً رائد لا تمزح، بالأصل أنت لا تمزح عادةً مما يعني أنها……..

راقب تشتتها بلا مبالاة وأكمل حديثها؛ كأنه يخبرها عن أحد صفقاته:

_ابنتي!

ضيقت عينيها للحظات قبل أن تهب صارخةً بانهيار:

_ماذا؟؟

سألها مستفزًا لغريزتها:

_أي ماذا! هل أصبحتِ صماء فجأة؟

رمشت جفونها مرات سريعة نابذة الفكرة من أساسها وهزت رأسها وأجابته بعدم استيعاب:

_لا، لست صماء؛ ولكن….

كعادته يأمر وينتظر منها التنفيذ بدون جدال:

_الوقت تأخر، وجسدي يحتاج لبعض الطاقة حتى أستطيع المواصلة!

احتارت أهو يُحادثها ببرود قاسٍ لتدعه ينام أم هو يخبرها أن تغلق الحديث نهائيًا،،

هي صمتت كعادتها في كل شيء مرَ إلا الآن لم تطعه، سألته بنزق و صوت مرتفع حدته:

_وأين أمها؟

لفظها بشعور مرير وكأنه لا يصدق:

_تركتني في منتصف الطريق!

وغادر الغرفة حاملًا الصغيرة بين ضلوعه متجهًا إلى غرفة أخرى..
فقدت القدرة على الحراك لتلاحقه، بل أطبق الحديث على روحها وكأنها ستموت خنقًا، وحين بدأت تستعيد وعيها كانت البادرة شهقة قوية لتدخل في نوبة بكاء حادة، و هو لم ينتبه.. كعادته!
……………..

استيقظت بهمة ونشاط كعادتها و هبطت للأسفل حيث غرفة المطبخ،،

وجدت ابنها يقطع بعض الخضراوات، وما إن انتبه لها حتى حياها قائلًا:

_صباح الخير سيدة جميلة، بهتت ألوان الخضراوات من حولي حين دخلتِ هنا!

ضحكت بمرح على حديث ابنها وأخبرته:

_ألن تتوقف عن مناداتي باسمي مجردًا، أحب أن أسمع كلمة "ماما" منك.

_لا أستسيغ تلك الكلمة أشعر أنها تزيدك سنًا وأنتِ لا تحتاجينه يا جميلة!!

هزت رأسها بقلة حيلة وسألته:

_ألم تتأخر عن مدرستك؟

_كفي عن القلق، سأحضر الفطور قبل أن أذهب وحتى تستيقظ تلك الكسولة!

_لا تتحدث عن أختك هكذا، إنها تعمل بجد لزفاف ابنة خالتك!

_يا إلهي، بالطبع لن أحصل على مرادي و كأنكِ لم تنجبي سواها!!
_إنها بكريتي يا مالك..!

تأوه بمزاح:

_أوه، كاد البيض أن يحترق أثناء حديثنا عن الابنة الميمونة ملك.

ضحكت بمرح مقتربة منه:

_هيا أبدل ملابسك وسأكمل تلك المهمة.

قبلها على خدها مغادرًا لتمسك المقلاة وتُكمل الأمر، ولكنه قبل أن يعبر باب المطبخ أخبرها:

_اليوم سأتجول مع أصدقائي!

حاولت رسم ابتسامة هادئة وسألته:

_حسنًا، هل يمكن لي التعرف على أصدقائك هؤلاء يومًا؟

أجابها وهو يسير صوب غرفته:

_حسنًا، ربما في القريب تتعرفي عليهم….!

…………….
سمعت صوت سيارته في الصباح مغادرًا ولم تقوى على النهوض، حاولت الهروب بالنوم علها تفيق ذات مرة وتجد أن الأمر كابوس ملفق كمزحة سيئة…

و لكن صوت بكاء الصغيرة حرمها تلك اللذة أيضًا، أيعقل أن تتفق مع والدتها لتخريب كل شيء في حياتها حتى النوم؟!

طرقت الخادمة الباب ثم دخلت ومعها صينية الفطور و أخبرتها بهدوء:

_لقد أحضرت الفطور الذي تحبينه، سيدتي.

_اتركيه واخرجي على الفور.

وما كادت تفعل حتى سألتها قبيل أن تدير تلك الكرة المعدنية الصغيرة التي تحكم غلق وفتح الباب:

_تلك الصغيرة التي أحضرها رائد معه بالأمس…

ثم بللت ريقها لتتابع بصوت مبحوح:

_هل أطعمتها شيء؛ صراخها يؤذيني ولا أستطيع النوم!

أومأت الخادمة برأسها مضيفًا:

_أطعمتها وأبدلت ملابسها، ولكن منذ تركها سيدي وهي تبكي بلا توقف.

صرفتها بإشارة من يدها في صمت، و نهضت من فوق الفراش تطالع طعامها بضيق قبل أن تشرع بجمع ملابسها في حقيبتها، وما إن انتهت حتى هاتفت والدها..

_نادية حبيبتي، كيف حالك؟

صمتت لثوانٍ قبل أن تكسره بالبكاء:
_أبي أنا عائدة إلى البيت، لن أستطيع المكوث هنا!

تغيرت نبرة والدها للسؤال:

_ماذا حدث؟

_سآتي وأحكي.

_سأرسل لك السائق، لا تقودي وأنتِ في تلك الحالة!

أومأت بصمت وكأنه يراها وأغلقت الخط، لتنظر ثانيةً لفطورها بسخرية وتتساءل:

_"أكان يُطعمني تعويضًا عن كوني مغفلة من الدرجة الأولى؟! "

ثم بدأت ترتدي ثيابها على عجلة.
…………

_أخيرًا صمتت الصغيرة.

قالتها الخادمة التي استعدت مخدومتها بعدما فشلت في تهدئة الصغيرة، وما إن أمسكتها "نادية" حتى هدأ بكاؤها رويدًا رويدًا، ابتسمت بصمت متسائلة بصمت:

"كيف لأم أن تكون بتلك القسوة وتترك ابنتها؟ "

ثم أعطت الصغيرة للخادمة وهبطت للأسفل حيث جاء السائق بعد دقائق قليلة لتغادر إلى منزل والدها….
…………….

_كان متزوجًا يا بابا.. متزوجًا ولم يخبرني قط! ألست شريكة حياته حتى وإن كنتُ الثانية كما اكتشفت بالأمس؟ ،ألم يكن من حقي أن يخبرني قبل إتمام الزواج؟

حاول تهدئتها وأخبرها:

_سأهاتفه ليأتي حتى أستطيع أن أفهم!
علّت نبرة صوتها صارخة:

_لا أريد رؤيته، ليتعفن في جهنم، أريد أن أحصل على حريتي وأتطلق!

أخبرها بنبرة غامضة عنيفة:

_لن يحدث!، ليس وقد وقعت الاتفاقية الجديدة..!

وكأنه نسى مشكلة ابنته و تملكته روح العمل من جديد، برقت عيناه بحماس:

_ستكون تلك الاتفاقية مهدًا لإنجازات قادمة، سيزيد رأس المال بذلك الدمج..!

حدثته بعدم تصديق واستنكار:

_و ماذا عني يا أبي؟

أجابها بلامبالاة متخفية بهدوئه:

_ماذا عنك يا نادية؟، من المؤكد أنها نزوة عابرة؛ وكثيرًا ما يحدث الأمر، لا تشغلي بالك بالأمر كثيرًا وحين يأتي سأعنفه بالتأكيد..!
_هل فعلت مثله يا أبي؟
_لا، أنا كنت أحب أمك!
طعنها حديثه البسيط، فهي لا شيء بالنسبة لزوجها، غادر والدها لشركته بهدوء، وتركها لدوامات الأمس تبتلعها وكعادتها منسية رغم وجوده جوارها!!

……………..
بقنوط أودع حبيبته وأمها في التراب، وما إن ذهب الأقارب والجيران حتى بقى يقرأ لهما ما تيسر من القرآن الكريم، ولم يغادر المكان إلا بعد غروب الشمس على مضض…

عاد إلى منزله الكبير وصعد مسرعًا للأعلى حيث حوض الاستحمام خاصته ليزيل عنه تعب اليوم باكيًا بحرقة دون أن يراه متطفل، وما إن انتهى حتى ذهب إلى ابنته "حياء"؛ ذلك الاسم الذي أصرّت عليه حبيبته حينما أخبرته بشغف:

_أريدها أن تكون اسم على مسمى، أن يكون الحياء زينتها.. أتعلم حين تأتي لهذا العالم لن أريد شيئًا آخر، هي تكفي!

زمجر كالأطفال مثل عادته حين يكون منسيًا:

_وهل علي أن أغار من ابنتنا منذ الآن؟

ضحكت بعشق معانقًة إياه:

_أنتَ حبيبي وصديقي وأخي وأبي يا رائد، لا أعلم كيف كانت الحياة لو لم نتزوج!

قبلها على جبينها:

_أنتِ حياتي يا هدى حقًا، أنتِ وابنتنا و أمكِ؛ مؤكد سيقبل أبي حين تجيء حياء إلى هذا العالم، سيلين عقله الاقتصادي!
ضيقت عينيها بشكٍ:

_لا أعلم، ولكن لنترك كل شيء للظروف، يكفي أنك بجانبي الآن…..!

لكمة للحائط كانت تفريغ بسيط لمكنون داخله، ألن يراها بعد الآن؟

ألن تتذمر وتبكي خفيةٍ حين تعلم بأنه سيعود إلى المنزل حيث عروسه الجديدة؟!

ألن تعانقه بشدة حتى لا يفارقها، ألن تضم حياء إليها وتجعله يستمع إلى خططها بشأنها؟!!
ألن يحادثها مثل الماضي، ألن يتبادلا الهموم…؟!

ذهابها كان سريعًا للغاية، لم يشعر بها؛ كان على وشك الانتقال برفقة أمها إلى شقة جديدة بدلًا من شقة أهلها القديمة المتهالكة بعدما أقنعها أخيرًا بترك تلك الحارة، من الآن يشتاق إليها بعنف طاغٍ على أي شيء آخر…!

جفف نفسه جيدًا وارتدى ملابسه قبل أن يذهب إلى غرفة ابنته النائمة ليأخذها في حضنه وينام مغلقًا كل شيء قد يسعى لتفريقهما في تلك اللحظة، فلم يعد هناك أي ما يثير اهتمامه عدا هذه الصغيرة الناعمة.
……….

كعادته منذ أسبوع يستيقظ مبكرًا ويتأنق في اختيار ثيابه السوداء، واضعًا العطر الذي تحبه ثم ينطلق إلى قبرها
اليوم حلق ذقنه الطويلة وأخذ صغيرته معه للمرة الأولى، ربما شعر بعدما دفن نفسه بين الأوراق أنه الآن أكثر تقبلًا لغياب حبيبته عن الأمس.. لم يلق بالًا بغياب زوجته المزعومة قدر اهتمامه بوجود ابنته في أحضانه!
أوقف محرك السيارة بعيدًا عن مدخل القبور وترجل من سيارته حاملًا الورود بيد وبالأخرى تشبث بابنته، سار بقلب ملتاع مشتاق لامرأة واراها التراب؛ ما إن ذهبت حتى أصبحت الحياة رمادية بطيئة حد المللّ.
ضحك بمرارة متذكرًا كيف كان يُراقبها بالجامعة، كان يرتاد نفس الجامعة الحكومية معها؛ ورغم أنه يكبُرها بعامين إلا أنه كاد أن يكون ملتصقًا بها دون أن تدري..!
جلس على الأرض وفي أحضانه ابنته النائمة يداعب النسيم وجهها الناعم، تحدث إليها بما يجيش بصدره بوجوم:
_مرحبًا هدى، "حياء" معي الآن…
أجلىَّ حنجرته محاولًا التغلب على تلك الحشرجة اللعينة وقال:
_أتعلمين… أبي والجميع علموا بوجود حياء؛ لكن لا تقلقي لن يستطيعوا فعل أي شيء مهما كان لها!
تلألأت عيناه بالماس الزجاجي وأطبق على شفتيه بقساوة متشجنًا:
_أنا أشتاقك كثيرًا، أنا لم أحب أحدًا مثلك قط!
اهتزازه الانفعالي مصحوبًا ببكاء كان له الأثر في مشاركة الصغيرة له البكاء بعدما استيقظت:
_لماذا تركتينا؟ ألم أعدك أني سأخبرك والدي حين ننتقل إلى المنزل الجديد.. أنتِ كاذبة هدى، بل مخادعة؛ جعلتني أتعلق بكِ لتتركيني الآن وحيدًا.
طالع صغيرته بعيونه الباكية واشتد عناقه لها وسألها:
_سأقبل الأمر إن لم أكن مهمًا عندك، ولكن ماذا عن ابنتنا؟ ألا تتذكرين كم كنت أخشى حملها والحركة بها لئلا تقع… أنا لا أجيد إطعامها حتى!
نظر إلى اللوحة الرخامية المحفور عليها اسم زوجته وتاريخ الميلاد والوفاة ثم إلى ابنته وقال بحنق:
_انظري… إنها تبكي الآن ولا أستطيع فعل شيء لها!
اقترب أكثر من تلك الرخامة زحفًا على الأرض ولمسها بحنين هامسًا:
_هي تشتاق إليكِ كثيرًا..!
وضع جبهته على تلك اللوحة الباردة وتنهد بقوة:
_أعلم أنكِ تسمعيني، فقط لا تتركيني في أحلامي، سأنتظرك اليوم، فلا تخادعيني! اتفقنا؟
………..
في تمام العاشرة ذهب إلى شركة حماه "أحمد عبد العزيز"، لقد سئم تعامل أبيه معه منذ أن هاتفه والد نادية يخبره بالأمر؛ حقًا لا يدري لمَ يظن الجميع أنه افتعل كارثة؟!

ألم يتزوجها على سنة الله ورسوله؟، لقد كانت الأولى والوحيدة قبل مجيء تلك المتعدية زوجته!!

العشق لا يحدث إجبارًا ولا يخضع لسلطان؛ بل أن تجد نفسك تجدف عكس التيار لو تحتم الأمر لتظفر بنشوة الانتصار، وعشقه لحبيبته كان أقوى انتصار!

دخلت تلك السكرتيرة الصغيرة تخبر حماه بوجوده، وهو انتظر بالخارج يجمع أفكاره، همس في سره:

_"آآآه لو يعلم الجميع بما أكبحه بداخلي، لتركوني بلا جدال"

استرسل في أفكاره حين عاد للمنزل ثان يوم من الوفاة، كانت ابنته تبكي بشدة حينها ولا يستطيع تهدئها!

أخبرته الخادمة بحزن واضح:

_بالأمس، نامت حين هدهدتها نادية هانم، لكني الآن لا أستطيع تهدئتها!

وقتها تجاهل ما سمعه، لم يُرد سماع أي شيء يخص نادية وابنته في أحضانه، أراد الاختلاء بقطعة من حبيبته؛ تلك القطعة التي تركتها وكأنها هكذا ستغادر مطمئنة عليه…!

خروج تلك السكرتيرة وصوتها يدعوه للدخول قطعا استرساله، تقدم إشارتها المهذبة بيدها تدعوه بالدخول ودلف ليجد حماه يطالعه بتروي، وما إن أغلقت السكرتيرة ذلك الباب حتى أشار له بالجلوس.

أجلىَّ حنجرته متحدثًا بهدوء هو أبعد ما يكون عنه داخله:

_أريد التحدث معكَ قليلًا يا عمي!

انتفخت أوادج الحماة غضبًا وبدأ تعنيفه مثلما يُؤنب المعلم تلميذه:

_كنت أنتظرك، ولكنك تأخرت كثيرًا، كثيرًا جدًا يا رائد!

تنحنح مُجيبًا إياه متنهدًا باستسلام زائف ليبدو كما يود حماه:

_حسنًا تأخرت، ولكن حان وقت الحديث.

سأله "أحمد" بنبرة غاضبة، رغم حفاظه على انفعاله لأقصى درجة ممكنة، ومتفحصًا تعبيرات وجه الآخر:

_سمعت أن تلك المرأة توفيت، منذ متى تعرفها حتى تنجب منها؟

وكأن العالم يرى علاقتهما بمنظور الحرمانية طالما ليس له علم به؛ لم يأثما!
قطعًا لم يفعلا، أبوه لم يستوعب امتلاكه خططًا أخرى، قلب ينبض بحب ليتكل بالزفاف، وينتج عنه أحفاده.
يكفي ضغطهم، ألا يشعر أباه بحزنه، اللعنة عليهم!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي