فنونالموت

كريمة عوض`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-07-13ضع على الرف
  • 20.4K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

الذي يتحدث إليكم الآن *خالد*، طالب في كلية القانون للأسف وأقول للأسف لأنها لم تكُن بتاتًا تلك رغبتي في استكمال دراستي، أنا فنان، هل تعلمون معنى كلمة فنان، الأمر ليس له علاقة بالقانون لا من قريب ولا من بعيد لكنها كانت رغبة والدي يرحمه الله، كان طيبًا..طيبًا جدًا.. يريد أن يكون له ظهر وسند عند الحكومة ((محسسني إنه كان مقطع الدنيا مشاكل وخناقات وهو عمره ما عمل مشكلة واحدة في حياته..كان ماشي دايمًا جنب الحيط)) كل حياته تتمركز حول زراعة أراضي من هم حولنا بالأجرة، على أمل أن يمتلك يومًا أرضًا خاصة به، ملكًا له، لكن المنية كانت أسبق إليه من تحقيق ذاك الحلم العظيم بالنسبة له، الضئيل بالنسبة لبقية أخوتي؛ الذين كانوا يتمنون الخلاص من هذه الحياة البدائية _على حد قولهم ومفهومهم الغريب_
والأغرب في الأمر أنهم لم يتركوا تلك الحياة حتى بعد وفاة أبي، لا أدري أين ذهبت الولولة والتذمر الدائم من حياة القرية وما يتبعها.
المهم، لا أُنكر أن الحقوق كانت أيضًا رغبة والدتي- يحفظها الله لي- لم ترغب في الحضور معي للمدينة وفضلت البقاء مع أخي الأكبر رغم أني حاولت إقناعها كثيرًا، أشعر بالغربة هنا وحدي، لا أحب حياة المدينة والزحام الشديد بها، لولا دراستي لما خطوت خطوة واحدة خارج القرية، أحب الطبيعة وهواء الأرض ورائحة التراب، أينما أنظر لا أجدُ حدودًا لبصري، وهذا هو السبب وراء اختياري تأجير غرفة فوق سطح أحد العمائر لمسكني، قصدتُ ضرب عصفورين بحجر، الإيجار قليل وأكون مني للسماء، فكثيرًا ما أختنق من النوم بالغرفة فأفترش السطح أتأمل النجوم وبعضًا من الغيمات ليزورني النوم وأنعمُ به.
لا أمتلك للأسف ولو صديقًا واحد مقرب رغم أني في السنة الثالثة، الكل رفقاء لحظاتٍ وسلامات، لا أعلم العيب لدىّ أم فيهم، أجد نفسي انسان وحيد تأخذ الدراسة جُلّ وقته، حاولت البحث عن أيّ عمل كثيرًا؛ فكنت كمن يحفر في الصخر، إذا كان أهل المدينة لا يجدونه، أحصل عليه أنا القادم من الضواحي ولا زلتُ بلا شهادةٍ عليا،
عفوًا، نسيت إخباركم أن لي هواية تمنيتُ العودة لها، للرسم ونحت المجسمات من الجبس والطين، كنت في قريتي فنانًا بشكل رهيب في هذا المجال، كل من يرى عملي يملأه الانبهار به من جمال شكل المجسم ودقة تفاصيله، لكن الرجوع لهوايتي في المدينة صعب جدًا، الميزانية لا تحتمل تكلفة مواد بجانب الأكل والمواصلات والإيجار.
إختصارًا..سأحدثكم عن هذا اليوم والذي بدأت فيه حكايتي الفعلية، كنتُ عائدًا من الكلية صاعدًا الدرج على مهل فمشواري إلى السطح طويل، وبالتحديد في الطابق السادس الذي يسبق السطح بطابق وقبل أن أضع قدمي على أول الدرج المؤدي لأعلى انطلق بصري وبتلقائيةٍ مني داخل الشقة المجاورة والذي كان بابها شبه مفتوح بالكامل..نظرةً دون قصدٍ مني..تسمرتُ مكاني وتفاجأت لوهلة لما رأيته، كان هناك عدد كبير من اللوح المرسومة..منها ما هو مُعلق على الحائط ومنها ما هو مستندٌ عليه ولوح أخرى مرصوصة فوق بعضها البعض وكأنما الشقة رقم "٩" هذه عبارة عن معرضٍ للرسم.
صعدت السلم وأنا جُلَّ تفكيري مشغول بهذه الشقة..أتساءلُ..أيُعقل أن يكون ما أراه حقيقة وواقع ملموس..أيُعقل أن يحوي هذا العقار فنانًا بهذا المجال..لما لا.
وفي اليوم التالي تعمدتُ المرور بطيئًا من أمامها عسى أرى صاحبها لكن للأسف ظلت مغلقة وهكذا الحالُ حتى عند عودتي..وفي المساء كاد الفضول يقتلني.. نزلت وسألت حارس العقار"عم سليمان " "وكأنه ما صدق حد سأله عن حاجة جاب تفاصيل التفاصيل بسلامته"
_صاحب الشقة شاب أسمه "أحمد" في أواخر الثلاثينات أو أكبر بسنة أو اثنين، بيرسم لوح ويقولون أيضًا عليه...عليه...اه... نحات.
_وهل تعلم أنت ما معنى كلمة نحات يا عم سليمان؟
صدرت منه تلك القهقهة المُعتادة قائلًا: أنا يا بُني لم أرى شيئًا لكن يقولون أنه يقوم بعمل_اللهم أعفينا_ أشكال مثل الرجال والسيدات والحيوانات..أراهم وهم يغادرون بها..لكن لا أدري كيف يقومون بتصنيعها.
أخذ يصف لي الأمر وكأنه يتحدث عن شخص مجنون، فقط لأنه انطوائي ولا يختلط بأحد من سُكان العقار.
بعد حديثٍ ليس بطويل نهضت من جانب "عم سليمان" ببعض معلومات لابأس بها..على أساسها قررت التعرف على "أحمد" هذا وقلبي يكاد يطير من الفرحة لعثوري على من يشاركني في هوايتي تلك..وأين..هنا في نفس المسكن..يا لفرحتي.
ظللتُ عدة أيام أراقب شقة "أحمد" في صعودي ونزولي..للأسف لم أتمكن من رؤيته فقررت بعد تفكير طويل أن أتهور وأذهب إليه..رغم إنني ليس من عادتي كل ذلك الفضول بداخلي لكن عند موضوع الرسم والنحت أتجاوز القاعدة بمراحل.
فُتح الباب بعد طرقاتٍ خفيفة؛ ليقف خلفه شاب قد تجاوز فعلًا الثلاثين بقليل..طويل ذا ملامح هادئة متزنة.
انتابني الارتباك قليلًا فتجاوزته وسألت: أستاذ "أحمد"؟
-نعم اتفضل حضرتك.
-أنا جارك الذي علي السطح والصراحة عندما سمعت إن لديك في الفن والرسم طرف تمنيتُ أن أرى عملك..أنا
أيضًًا هوايتي الرسم وخاصة النحت..أحبه جدًا جدًا..أحيانًا أشعر أن هذه الهواية تجري في دمي وحين ما....
قاطعه "أحمد": أهلًا وسهلًا بحضرتك..تشرفتُ بك لكن اعذرني ممكن في وقتٍ لاحق لو سمحت.
شعرت كأن دلوًا من الماء انسكب فوق رأسي..خجل مابعده خجل..تمنيت أن تنشق الأرض وتبلعني من أمامه..اعتذرت منه وعُدت لغرفتي بشعور لا أتمنى لأحدٍ أن يجربه، قاسي جدًا.
مرت عدة أيام وكنت قد أخرجت الموضوع من رأسي تمامًا وانتهت الرغبة بداخلي برؤية عمله أو الاحتكاك به أو حتى الإلتقاء معه ولو بالصدفة إلى أن جاء ذلك اليوم..كنت صاعدًا الدرج للأعلى وما أن وضعت قدمي على السطح حتى وجدته ينتظرني أمام باب غرفتي وما أن رأني حتى بادرني بالحديث:
-أنا محرج منك جدًا الصراحة يا زميل ( تعجبت اللفظ لكن تجاوزته)
-لا تُشغل تفكيرك بي.. أنا كنتُ فضوليًا زيادة عن اللزوم فقط.
- أنا أسف والله، كان لديّ أسبابي..المهم أنا تشرفتُ بك جدًا وانتظر زيارتك لي اليوم.
تجاذبنا أطراف الحديث قليلًا..وعدته بالزيارة وذهب كلًا منا في طريقه.
لم أذهب ذلك اليوم..قمت بتأخير زيارتي له عدة أيام كرد اعتبار لنفسي، رغم رغبتي الشديدة في الذهاب إليه..إلى أن كرر عزيمته لي للحضور إليه مرة أخرى والحقيقة عندما ذهبت إليه استقبلني بحفاوة وترحيب وتملكني الانبهار مما رأيت..لوح جميلة ومجسمات غاية في الروعة..تناولنا الشاي وتكلمنا قليلًا..وجدته أيضًا مغترب لكن للعمل وليس للدراسة وهذا مشروعه هو ومجموعة من الشباب، يقومون بالرسم والتصنيع والبيع حتى وصل بهم الأمر أن أصبح لهم سوق خارجي أيضًا؛ فكثير من الأجانب يأتون للشراء منهم بمبالغ كبيرة..وعندما تحدثنا مرة ثانية عن موهبتي عرض مشكورًا أن يقوم بتجربة عملي..فإذا أعجبه ستكون لدىّ فرصة عمل معه..امتلأ قلبي بالسعادة بهذه الفرصة الثمينة التي كنت أبحث عنها.
مدّ لي يده عند خروجي بالسلام الدال على الاتفاق وتفرغت من دراستي بعد يومين وبدأت عمل مجسم لديه في شقته كي يرى مستوى عملي، كانت مفاجأتي سعيدة جدًا بملامح الاعجاب والإطراء الشديدة التي رأيتها على وجهه عندما رأى المُجسم وألحقها بتلك العبارات المشجعة والمُحفزة بجمال وحلاوة تفاصيل صنع يدي: فعلًا يا"خالد" سبحان من وضع بيديك كل هذا الاتقان..عملك رهيب وبتفاصيل دقيقة جدًا.
ابتسم "خالد" آثر تلك العبارات قائلًا: هل تُجاملني أم ماذا يا أخي.
_كفى تواضعًا يا عزيزي ..فقد تجاوزت بحلاوة صنعك كل من عمِل معي منذ بدأت..أنت في يديك كنز ثمين لا تعرف مقداره بعد.
جلس "خالد" على الكرسي القريب منه وقد انهكه التعب؛ فقد اشتدت كل أعصابه وحواسه من أجل هذا المجسم كي يخرج بالصورة التي هو عليها، وبعد جلوسه انتظمت أنفاسه قليلًا قائلًا :لقد أخجلتني بكل هذا الجمال في وصف عملي..بارك الله فيك.
وهكذا بدأت رحلة عملي مع "أحمد".
توالت الأيام وتغيرت فيها حياتي كثيرًا، عودتي للعمل الذي أحبه ملأتني بأحاسيس ومشاعر جميلة ساعدتني على تقبل حياة المدينة وأصبح لدىّ مصدر رزق ثابت يكفيني ودراستي، أُرسل منه لأهلي لكن كانت هناك أمور تشغلني بادرته بالسؤال عنها عند استراحتنا لشرب الشاي:
- عزيزي أحمد أريد الاستفسار منك عن أمرٍ لو سمحت لي.
ناولني "أحمد" كوب الشاي قائلًا: تفضل..قل مالديك دون تردد، نحن أصبحنا أخوةً يا رجل.
-سلِمت يا عزيزي، كنت قد قلت لي إنكم تشتركون في معارض بالأعمال التي تُصنع؛ فمتى هي، وأين تُقام؟
- عندك حق..كان من المفروض أن أشرح لك كل شئ منذ البداية..أنت بالتأكيد تدري يا "خالد" أن المعارض لها مواسم معينة والصراحة نحن لا نستفيد منها ماديًا بشكل كبير لذلك نُركز على الناس المهمة التي تأتينا من الخارج؛ فهم يشترون بمبالغ كبيرة، هل فهمتني.
ساد الصمت قليلًا ثم عاد للحديث: بمعنى أنك الآن تاخذ في كل مجسم ما يُقارب ٢٠٠٠ جنيه..لو دخلت بهذا المجسم أيّ معرض لن تحصل على ربع هذا المبلغ.
- نعم لقد فهمت، لكن أعذرني أين رسالة الفن في كل هذا؛ فإنها ليست مقتصرة فقط على الوارد المادي، فهناك ظهور أسمك والفن الخاص بك وعملك المميز للناس طالما أنك تكتسب موهبة جيدة، هل فهمت الآن مقصدي من سؤالي؟
أطلق "أحمد" ضحكة طويلة ثم أعقبها بحديث ذا لهجة يكتنفها شئٌ من السخرية: يا أخي دعك من هذه الشعارات الرنانة، لن تأكل شيئًا من ورائها، أبقى ياعزيزي حيث المصلحة، وأنت بصراحة وبدون أيّ مجاملة لك يد تلتف في حرير من جمال ماتصنع، لا أدري أين كنت تائهًا عني كل هذا الوقت، ثم هل كنت تحلم بالذي يعطيك مواد خام ويقوم بتسويق ما تصنعه بدل أن يتم ركنه فيما يسمى بالمعارض، وفي نفس الوقت يكون العائد والمقابل كبير بهذا الشكل.
حاول "خالد" إقناع نفسه بحديث "أحمد" رغمًا عنه: فعلًا معك حق، لم أكن أحلم بالذي يشتري ما أصنعه، لكن لديّ سؤال أخير لو لم يكن بهذا الأمر ازعاج.
-تفضل عزيزي، تحت أمرك.
-كنت قد قلت لي أن هناك مجموعة من الشباب يعملون معنا، لم أرى أحدهم منذ بدأت العمل.
- الصبرُ على رزقك ياأخي، أغلب هؤلاء الشباب يعملون في بيوتهم وبعدها يرسلون أعمالهم إلى هنا، اليوم في الثامنة مساءً نجتمع كلنا، نقوم بعمل هذا الاجتماع كل شهر..نشرب الشاي ونتسامرُ قليلًا ونرى إلى أين وصلنا إلى أعمالنا وما هو الجديد.
-نعم، لقد فهمت..أعذرني لو أسئلتي كتيرة.
-لا تعتذر يا عزيزي، هذا من حقك، لابد أن تكون على دراية بكل شىء.
مضى الوقت في العمل لم أشعر به حتى حان موعد الالتقاء بزملاء الموهبة.
قضينا وقتًا جميل جدًا، تعارفنا وانسجمنا كثيرًا.. غير أن هناك أمرًا قضى على تلك البهجة في نهاية سهرتنا..من بدايتها وقد لاحظت أن أحدهم لا يتكلم ولا يتجاوب معنا إلا بالقليل...في البداية لم أُعطي الموضوع أدنى أهمية لكن مع الوقت انتبهت لنظراته المتكررة نحوي طوال السهرة و ما زاد يقيني بغرابته أنه سارع لمساعدتي في حمل الأطباق والكؤوس عندما عزمت على حملها للمطبخ لتنظيفها وكأنه كان ينتظر فرصة ليختلي بي وها قد حصل عليها..وعند دخولنا للمطبخ أمسك بمرفق يدي كالمفزوع وهو ينظر ناحية الباب خوفًا من قدوم أي أحد قبل أن يُنهي حديثه:
-اسمعني جيدّا قبل ما يأتي أحد..حاول أن تنفذ بجلدك من هنا قبل أن تتورط.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي