الفصل الثاني

ضحكت "إيلا" بقوة، بينما حركت والدتها رأسها بإنكار وعلقت قائلة:

-أولم تتناولي قهوتك وقت استيقاظك إيزابيلا!

اصطنعت الأخرى الحزن وغمغمت وهي تنهض عن مقعدها لتشرع في الذهاب لجامعتها:

-لقد أضحيت أشعر أنني نكرة في ذلك البيت، سأذهب، فعلى ما يبدو أنني ليس لي مكانا بينكم بالأصل.

انتهت من ضب اغراضها في حقيبتها ثم توجهت بخطواتها نحو باب الشقة، لتهب حينهة "إيلا" ورائها وهي تقول بنبره صوت مرتفعة نسبيا وهي تأخذ حقيبتها وهاتفها الجوال متحفزة للحاق بها:

-انتظري إيزابيلا سأتي معك.

وضعت "إيزابيلا" حقيبتها فوق كتفها وامسكت بمتعلقاتها فى يدها ثم اعادت بنظرها تجاه اختها ووالدتها قائلة فى مرح:

-أوتدريا!، أنا لست أملك بذلك البيت غير إيان، انتظرا ريثما يعود من عمله وستريا ما الذي سيفعله عندما يعلم بطريقتكما المتجافية معي.

تعجبت "إيلا" مما تقوله وتدعيه وأردفت مستفهمة بغرابة:

-اية طريقة متجافية تلك؟، أتتهمينا ظلما أم ماذا!

أردفت الأخرى بتأكيد ونظرات ماكرة تندلع من خضراوتيها:

- نعم أفعل، هل هذا بجديد علي أم ماذا؟

خرجتا معا متوجهتين لجامعتهما وصوتهما وهما يتكلمان معا بذلك المرح يطرب أذني "كاميليا" لتبتسم وتحرك رأسها باستنكار على فتاتيها اللتين أضحتا كبيرتين وما زالتا على طباعهما الطيبة التي ربتهما عليها مما يسعد قلبها ذلك كثير .

فلن تنتهي "إيزابيلا" المرحة عن عبثها معهم نهائيا، وتلك البهجة التي تملأ البيت عن طريقها، فستظل هكذا مرحة مفعمة بالطاقة والحيوية، كما ستظل "إيلا" هادئة، وديعة، وقليلة الكلام.

ملامحهما وجمالهما استثنائي، تملكان عينين خضراوتين باختلاف اتساع العين لكل منهما، حيث تتسع عينا "إيزابيلا" قليلا عن "إيلا"، "إيزابيلا" طولها يزداد قليلا عن "إيلا" والتي هي ذات جسد أنحف من "إيزابيلا"، تتسم "إيزابيلا" بالبشرة الحنطية، بينما "إيلا" لديها بشرة بيضاء حليبية، ولكنها لا يتنافسان في حسنهما الذي تتسم به كلتاهما.





بنظراته الشاردة كان ينظر "جون" في الفراغ أمامه وهو جالس في شرفة غرفته، موضوع على الطاولة جميع صور ومتعلقات زوجته الراحلة، وكعادته كلما يزداد اشتياقه لها يجلبهم للنظر فيهم، كانت الابتسامة تتشكل على ثغره تارة وتارة أخرى يتشكل الحزن، ليس لديه أية دراية حول نهاية ذلك العذاب الذي يتكبده لأعوام، يتمنى لو يراها ليوم واحد فقط، كي يخفف ذلك الاشتياق الذي لم يعد قلبه ولا عينيه قادران على تحمله، يمسك في يده التي ترتجف مع اهتزاز جسده كلما كافح على حبس عبراته صورة لهما قبل ذلك الحادث الشنيع الذي حول حياتهم جميعا وخسر كل ما كان يملك وقتها حتى زوجته خسرها مع مرور الوقت، ليصبح على تلك الشاكلة التي توحي بفقدانه للحياة معها ولكن جسدها هو ما يدخله نفس ويخرج منه فقط..

قطع تفكير "جون" صوت دق يأتي من باب غرفته، علم أنها ابنته الصغرى، كفكف عبراته التي تهاوت دون إرادته، وصدح صوته داعيا إياها للدخول، لتدخل هي بابتسامتها الرقيقة المشرقة التي اعتاد رؤيتها كل صباح وبصوتها الناعم الجميل صاحب أجمل صدى صوت على سمعه بعد زوجته قائلة:

-صباح الخير، والدي.

رغما عنه ارتسمت على وجهه ابتسامة طيبة لها، فهي صغيرته "إيما" ابنته الجميلة، والشيء الوحيد بحياته القادر على إشعاره بالراحة التي سلبت منه منذ أعوام عدة، أردف بصوت متعب قليلا وهي يرمقها بقليل من التعجب:

-صباح النور صغيرتي، مرتدية هكذا وذاهبة إلى أين!

تقدمت بخطواتها المليئة بالطاقة لتجلس على الكرسى الخشبي بجاور كرسيه الجالس عليه، ثم  حدقت بوجهه وهي تضع حقيبتها فوق الطاولة الصغيرة المقابلة لهما ثم قالت برقتها المعهودة عليها دائما:

-مرتدية هكذا لإنني ذاهبة للتسوق، لقد مر الكثير من الوقت على آخر مرة تسوقت بها، وهنالك العديد من الأغراض تنقصني وأريد شرائها، لذا قررت أن أذهب أنا و"أماندا" صديقتي سويا للتسوق، خصيصا أن الدرلسة بدأت وهناك العديد من الاشياء الخاصة بكليتي لم أجلبها بعد.

حرك وجهه في تفهم ومد يده لكي يمسك بكوب قهوته الصباحية المعتاد تناولها كل صباح، ثم غمغم بود قبلمت يرتشف منها:

-حسنا حبيبتي، أفعلي ما تشائين، ولكن الشيء الأهم عندي أن تعتني بنفسك.

نهضت عن مقعدها بعد أن تفقدت الساعة ووجدتها قاربت على الميعاد المتفقة عليه مع صديقتها، توجهت إليه لتحتضنه وتقبل وجنته وهي تقول في عجلة طفيفة:

-حسنا حبيبي، لا تقلق علي.

مدت يدها ممسكة بحقيبتها ثم شورت له بيدها تودعه وهي تتمتم بحماس لا يجدب نهائيا:

-وداعا أبي.

اتسعت ابتسامته وهو يرى كم حيويتها التي تبعث بداخله رغبة في التمسك بالحياة لأجلها، وأردف في رد على توديعها بنبرة ودودة:

-وداعا صغيرتي الجميلة.

تحركت من أمامه بخطوات مسرعة نحو باب الغرفة حتى خرجت منه واختفت من أمامه، حيويتها تلمس قلبه وتجعله يريد العيش الذي فقد الرغبة فيه من سنوات طوال، ابنته تلك التي تمتلك الملامح الصغيرة الطفولية التي كلما كبرت لا يراها سوى طفلته وآخر مولودة جمعته بزوجته المتوفية، "إيما" ذات الثمانية عشر عاما ولكنها في هيئتها تصغر ذلك السن كثيرا لتبدو في الثالثة عشر، ذات جسد رفيع  وقامة قصيرة و لكنها تمتلك من الأنوثة قدرا كافيا يجغلها محط أنظار الفتيات قبل الفتية، بذلك القدر الذي يحبها بها والدها تحبه أضعافه، لا تملك في هذه الحياة غيره هو بعد رحيل والدتها التي لا تذكرها حتى لوافاتها وهي بالخامسة، وتكتمل عائلتها بشقيقها الأكبر والوحيد والمحبوب لدى قلبها "نيكولاس".

يُتبع...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي