الفصل الثالث

جالسا في مكتب صديقه بالشركة الذي انتقل لها حديثا، يحتسي الشاي رفقته في ذلك الوقت المخصص لوجبة الغذاء، ويثرثران معا حول العديد من الأمور من بينهم ذلك الحديث الذي يشكره به "إيان" على مساعدته في الانتقال إلى تلك الشركة العريقة، حيث أخبره في جدية تحمل الكثير من الراحة:

-العمل كثيرا جدا مثلما أخبرتني قبلا، ولكن لا يهم أمام ذلك النظام الرائع الذي يتواجد بتلك الشركة الرائعة، فهذه الشركة الثالثة التي أعمل بها، وحقا مختلفة كل الإختلاف عن تينك الأخرتين، تسطيع أن تجزم بأنها تختلف عن كاختلاف السماء عن الارض.

أنزل صديقه "تايلر" كوبه عن فمه، ثم عقب في تفهم مليئا بالثقة في تلك الشركة التي رشحها له وهو على أتم الثقة بإن العمل بها سينول رضاه:

-من الطبيعي أن يكون الإختلاف كاختلاف السماء والأرض، فأنت في فرع من فروع شركات آدامز، واعتقد انني لا أحتاج أن احلل اسم آدامز، فهو بالطبع غني عن أي تعريف.

حرك "إيان" رأسه عدة مرات بالتفهم وتأكد مما يقوله فقد اختبر ذلك بنفسه، وأردف بامتنان بعدما ابتلع آخر رشفة من كوب الشاي:

-أشكرك كثيرا تايلر على وقوفك بجانبي، ودعمك لي عند المدير العام، فلولاك حقا لما كنت قُبلت وحقا....

لم يدعه الآخر يكمل حديثه مقاطعا إياه وهو يقول بابتسامة طيبة:

-عزيزي إيان، ماذا تقول أنت!، أنا حقا لم أفعل أي شيء لك، قسم الحسابات كان بحاجة إلى أحد بمثل خبرتك صدقا، وكل الذي قمت به هو أنني لفت نظرهم لملفك الشخصي وجعلتهم يدققون به ليس أكثر، وبالأصل إذا كانوا ركزوا به بدون أن ألفت نظرهم لذلك لكنت قُبلت أيضا.

ابتسم له "إيان" فرحا على تشجيعه الدائم له، بينما أضاف "تايلر" بنبرة مرحة ملطفا الأجواء بينهما مرددا:

-انت فقط الذي لا تعلم قيمة ذكائك ومدى تفوقك بالعمل.

اتسعت ابتسامة "إيان" مظهرة نواجذه، وعلق عليه بعدما وثب عن كرسيه:

-صدقا لا أحد يعرف قيمتي مثلك صاح، سأعود لمكتبي حاليا ونكمل حديثنا فيما بعد.

أومأ له صديقه وابتسامته مازالت متشكلة فوق وجهه وأردف في ود:

-حسنا، صديقي.

تحرك أخذا مجازه نحو غرفة مكتبه التي انتقل لها توا، بتلك الهيئةالرجولية المتسمة بالوسامة التي تتهافت عليها جميع النساء، بعينيه الزيتونيتين وشعره البني المائل للشقرة، يقدس عمله تقديسا ومجتهد به اجتهادا عظيما، يحب تأدية أعماله على الوجه الأكمل، يحب أن يحظي بالقدر الكافي من التقدير فذلك يشجعه كثيرا على المضي قدما به، وذلك السبب بالتحديد ما جعله يترك الشركتين السابقتين لعمله في أحد فروع شركات "آدامز"، حيث إنه لم يلقى التقدير الكافي بهما على مجهوداته المضنية في العمل بهما، لم يمضَ عليه الكثير من الوقت وكان تارك الأولى؛ والثانية عندما عمل بها كرر الأمر مجددا، فهو لا يهمه التقدير المادي مثلما يهتم بالتقدير الفكري الذي يستطيع من خلاله أن يثبت خبراته ونباغته في عمله، وجده واجتهادة في تأدية جل ما يوضع على كاهله.





ترجل "نيكولاس" من سيارته الذي أوقفها في مرأب قصره، وفي تلك الأثناء قبلما يدلف للداخل استمع صور مكابح سيارة، التفت لمصدر الصوت ليجدها شقيقته الصغرى "إيما" تصف سيارتها هي الأخرى وترجلت منها بابتسامة متسعة وأردفت له في سعادة غامرة وهي تتقدم نحوه:

-ما هذا؟، أيعقل؟، سيد نيكولاس شخصيا زادنا كرما وشرفا وجاء إلى قصرنا المتواضع.

ارتسمت الضحكة على وجهه من كلماتها، فهى أكثر شخص أو بالأحرى الشخص الوحيد فى حياته المليئة بالعمل والكد والكثير من العمل مجددا، الذى يجعل عيناه تلمع بالسعادة لرؤيته والتحدث إليه، اقترب منها حتى أصبح قبالتها واحتضنها باشتياق، وغمغم بصوت دافئ يحمل المرح بعد أن قبل وجنتيها فى حب:

-قررت أن أعطف على حاجتكم الملحة لرؤيتي، وجئت لكي أقضي معكم يومين.

ثم تابع فى مشاكسة لا تخرج من إلا نادرا، وهى ما تزال بداخل أحضانه مكملا لها بنبرة مرحة ودودة:

-أشتقت إليكما كثيرا، ماذا أفعل إذا؟

بادلته عناقه فى حب أخوي وشوق عارم، فلقد كان شقيقها متغيب عن القصر ولم تره لأيام عدة، بسبب انهماكه فى عمله وفي أمور شركاته التي لا تنتهي ولا تنفك توضع على كاهله، كما أنه استسهل الذهاب فى الأونة الأخيرة لشقة مقاربة لمقر شركته، وقرر المكوث بها بدلا من العودة إلى القصر راحة له من ناحية وإقتصارا للوقت.

فرقت العناق بعد مدة ليست بقصيرة، رمقته بنظرة تتشبع بالحزن، وأردفت بنبرة مستاءة للغاية:

-نيكولاس، أرجوك أخي لا تغيب عنا هكذا، انت تقريبا انتقلت للعيش بمفردك، وكل ما تفعله إنك تأتي إلينا يوما أو يومين فقط، ولا نجلس معا نتسامر سويا مثل السابق.

لم تكد تنهي كلماتها الشاجنة حتى أضافت بنبرة ذات مغزى وهي تنظر لها بمكر لذيذ ومحبب لديه:

-ولتكن عالما بذلك، هذا الأمر يثير ضيق والدنا للغاية.

تدارك "نيكولاس" ما ترمي إليه تلك النظرة والمغزى من وراء نطقها الأخير حول ضيق والدها من الأمر، ليهمهم في مكر هو الآخر وقال لها وهو مضيق عينه عليها:

-فلتأتي أولا نرى ما الذي سيفعله والدنا عندما يعلم أن آنستنا الجميلة آتية بعد الحادية عشر قبل منتصف الليل، وإضافة إلى ذلك هي التي تقود السيارة وليس السائق.

فجر قنبلته الموقوتة في وجهها والتفت معطيا لها ظهره وشرع فى الدلوف إلى داخل القصر، أصابتها صدمة لحظية مما تفوه به ولكنها تداركت سريعا الورطة التي ستصبح بها إذا علم والدها بالأمر والتي من الممكن أن يمنعها من قيادة السيارة مرة أخرى، لذا أسرعت خلفه وما إن خطى خطوتين حتى كانت واقفة أمامه وأمسكت بأحد ذراعيه ونظرت له فى توسل وهي تقول فى لهفة وتوتر:

-نيكولاس أرجوك لا تخبر أبي أنني عائدة بذلك الوقت بمفردي دون السائق.

رمقها من طرف عينيه بنظرة غامضة لم تستشف منها أهو غاضب أم تفهم الأمر، ثم هدر في جدية بتحذير:

-آخر مرة تفعليها إيما، لا أريد أنا أعلم إنك خرجتي ليلا بدون سائقك، سوف أتغاضى تلك المرة، لكن المرة القادمة لن انتظر أن أخبر أبي، وسأتصرف حيال الأمر على طريقتي، وانتي تعلمين أن تصرفي لن ينول إعجابك بالتأكيد.

لم تستسغ أسلوبها الآمر ولكنها لم ترد إثارة حنقه، وكل ما بدر منها أنها مطت شفتيها فى قليل من  التبرم، وأردفت بتبرير وهى ناظرة للأسفل:

-لم أكن خارجة ليلا، أقسم لك أنن بالخارج منذ الصباح، كنا أتسوق مع صديقتي أماندا وأخبرت أبي قبل خروجي، وصدقا أخي لم أكن أعلم أني سأتأخر لذلك الوقت هكذا، لذلك لم آخذ السائق معي.

لم يعلق على ما قالته وظل وجهه جامد التعبيرات، بينما هي رفعت أنظارها له من جديد قائلة ببسمة محببة وتدلل تعلم أنه سيأتي بنتائجه:

-لن أكررها مجددا، لا تتضايق مني أرجوك كلاوس.

رددت الأخير من كلماتها وهى واضعة يدها الصغيرة على وجنته برقة وهي تنظر له بتلك النظرات المتسمة بالوداعة مما جعله يلين ويبتسم لها، ثم امسك يدها ووضعها فوق فمه وقبل باطنها بحب أخوي، وأردف قائلا بهدوء بعد ان حاوط خصرها وبدأ في التحرك معها إلى الداخل:

-تعلمين جيدا كيف تسكتيني وتلعبي بعقلي انتي بنظراتك الشقية وضحكتك الجميلة تلك، حسنا إيما لست ضائق منك، وهيا لندخل لنرى والدنا.

انفجرت شفتيها بضحكة واسعة مليئة بالسرور لرؤيته، وحاوطت خصره هى الأخرى دخولا إلى القصر، "نيكولاس" الشخصية الجامدة تلين فقط معها هي دون غيرها، يصبح معها شخص آخر غير المعتاد منه، يعاملها هي وحدها معاملة استثنائية غير الجميع، فهو يتعامل بجفاء وجمود مع أى أحد آخر مهما كان يجمعهما صلة وطيدة، فهو يخرج معها هى فقط جزء صغير من "نيكولاس آدامز" الذى اضاعه فى مكان ما بإرادته ورغما عنه ولا ينوي إعادته مرة أخرى.





جالسون جميعا حول ما ئدة الطعام بغرفة السفرة، يتناولون وجبة العشاء وهي الوجبة الوحيدة التي تجمع كل من "إيان" مع أختيه "إيزابيلا" و"إيلا"، كونه متفرغا حينها ويكون عاد من عمله، كانت نظرات "إيلا" و"إيزابيلا" تتسم بالغرابة فغمزهما ولمزهما آثار غرابة "إيان"، وما كادت "إيزابيلا" تتحدث حتى أتى إلى مسامعهم صوت "إيان" متسائلا فى تعجب موجها حديثه لأختيه مفرقا نظراته عليهما:

-ماذا دهاكما انتما الاثنتين، أفقدتما عقلكما أم ماذا؟

نظرت له "إيلا" بابتسامة مرحة وبدأت في الحديث قائلة:

-إيزابيلا كانت تقول صباحا أنها..

قاطعت تتابع حديثها "إيزابيلا " مسرعة وهى تنظر لأخيها وهدرت بإندفاع محاولة التشويش على ما كادت تقوله الاخرى:

-إذا أخبرتك إيان أن أمي تقول أني متبناه  وتقول أيضا أنها لا تحب غير إيلا، وعندما أخبرتها أني سأخبر إيان حبيبي بذلك الأمر لأنني ليس لدي غيرك بذلك البيت، لوحت لي بيدها معبرة عن عدم اهتمامها بما قلت وقالت لي أنه لا يطيقك كذلك، ماذا ستفعل حيال ذلك؟ هل هذا يرضيك أخي؟، سوف أترك لك الحكم في ذلك الامر إينو.

نظر "إيان" لها وهو مضيق عينه عليها يستشعر الكذب فى حديثها بسهولة، خاصةً حينما وجد "إيلا" اتسعت عينيها وفغرت فاهها بإندهاش ملحوظ مما تفوهت به الأخرى، توترت "إيزابيلا" قليلا فهي تعلم أن "إيان" يثير حنقه تزييف الأحاديث، وانتبهت وسط هرجلتها لأخيها حينما أردف بهدوء:

-بغض النظر عن إينو تلك واتمنى ألا تعاد مرة أخرى وذلك أفضل لك مؤكدا، تفهمين قصدي بيلا.

نظر لها إياها بنظره رأت بها التهديد والتحذير، مما جعلها تلقائيا تهز رأسها بالإيجاب مومئة بالموافقة على حديثه، بينما أكمل هو قائلا بنبرة تتسم بالمرح قليلا:

-عمةً إيزابيلا لا يرضيني ما قلتيه إذا كان حقا..

أسرعت "إيزابيلا" مقاطعة الأخر قبلما بنتهي من حديثه، وقالت موجهة حديثها لوالدتها وأختها بإبتسامة سمجة تحمل التشفي:

-ألم أخبركما أنني ليس لدي في ذلك البيت غير إيان.

نظر لها "إيان" بضيق جم من مقاطعتها له وهدر بها فى استخفاف لما قالته ولسماجتها الغير مستساغة:

-أأنهيت حديثي؟، لما تقاطعيني أيتها الحمقاء؟، أألقنك درسا حيال ذلك الآن؟

يُتبع...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي