الجزء الثاني

مضي أسبوع منذ تلك الحادثة داخل المخيم كانت الأمطار تهطل وكأن الغد لن يأتي، إنتقل الأطباء إلي الدير القريب من طرف القرية، كانوا يواصلون تقديم المساعدة بكل نبل، إن الطقس هنا ملائم لتفاقم شتى الأمراض بأنواعها.

كان أكثر الضحايا من الأطفال دون سن الخامسة، مات القليل قبل وصول شاحنة الإمدادات الطبية بسبب السيول و الفيضانات، إن المنظر هناك يجسد المعاناة بجميع أشكالها، لا يبهرك جمال الطبيعة فهي سلاح فتاك لا يستطيع البشر السيطرة عليه.

تذمر دوناتيلو مبدياً انزعاجه من عدم توقف الغيث، نظر إلي النافذة بحزن فهو غير معتاد على مثل هذا الطقس، الملل كان يطغى على مزاجه.
تبسمت مالينا و قالت:

" إن الغيوم تبكي، حزناً على ما يقترفه سكان الأرض ضد الطبيعة التي آوتهم و لاتزال تقدم لهم العون"
رمقها مايكل بنظرة و بدأ يتبسم.

" كان عليها البكاء في منطقة آخرى كالصحراء مثلا"
أضاف دوناتيلو و هو يتغطي بشاله السميك، إن الهواء بارد يبعث نسماته اللطيفة.

" أتعلم هنالك أسطورة بشأن عدم هطول الغيث في البيداء أتريد سماعها؟"
همست مالينا مستلقية على الكرسي الهزاز.

" أنا أود سماعها بما أنه ليس هنالك ما نفعله"
قالت تاركو متجه صوب مالينا التي جلست بإعتدال.


" قبل زمن بعيد جداً، كانت الأرض مخضرة متزينة بأجمل الأزهار والغابات التي تحجب الرؤية من علوها الشاهق، كانت الغيوم سعيدة بمشاركة غيثها مع أهل الأرض، كانت تتجول من منطقة لأخرى في فضول لإستكشاف أراض جيدة.

أحبت الغابات غيوم السماء الماطرة كانت تنتظر عودتها بفارغ الصبر حتى تتحسس أوراقها قطرات الماء و تنعم بمشهد قوس قزح جميل، و لكن مرت الشهور و لم تأتي الغيوم، فحزنت تلك الأراضي الخضراء بهتت و ساء حالها.

كل ما يشغل تفكيرها هو غيوم السماء ذات أمطار الرحمة، يوما بعد يوم بدأت الغابات تفقد رونقها، حتى تحولت كليا إلي تلال من الرمال لا حياة فيها، جفت البحيرات و ماتت الأشجار حسرة كانت ترغب برؤية الغيوم مجدداً و سماع دوي رعدها و رؤيتها تبرق في سمائها كالسابق.

بعد عدة أشهر عادة الغيوم و مرت بتلك الأراضي و لكنها لم تتعرف عليها فقد أصبحت صحراء قاحلة، تجاهلتها و سارت تبحث عن الغابات التي اعتادت تأملها و مشاركتها الغيث بحب"

صمتت مالينا لفترة فقد دخل كاينر إلي مجلسهم و جسده بالماء قد تبلل، خلع بهدوء نظارته السوداء ووضعها على الطاولة، كان قد أحضر ما تبقى من علب الدواء الذي ترك في المخيم .

" هيا أكملي ماذا حدث للبيداء بعدها؟"
قال دوناتيلو بفضول

" لقد وصلت الغيوم "
همست مالينا بينما كانت تحدق بكاينر، الذي جلس عند الزاوية يجفف نفسه.

" يا شباب إسمعوني، غدا سنتوجه إلى قرية واتيكا في الجنوب إن المواطنين هناك يعانون من إنتشار الالتهابات و مضاعفات حادة للوباء، سنتحرك عند السابعة خذوا راحتكم "

قال الطبيب دييغو رئيس الفريق الطبي.


" أيقظوا مايكل حان وقت الغداء"

قالت تاركو و هي تعد طاولة الطعام بهدوء .

كانت تاركو وكأنها أختهم الكبيرة تعتني بكل ما يرد من شؤنهم، جلسوا و شرعوا بتناول الغداء، كالعادة كاينر لم يجلس معهم و فضل تناول الطعام وحده خارج الدير أمام الباب، خف هطول المطر قليلا لكن الضباب قد عم المكان.

كان كاينر يحدق بل يتأمل كل قطرة و كيف أنها تعانق الثرى في شغف و قوة حينما وقعت عيناه عليها، تلك الحسناء التي كانت تركض تقفز عالياً تحت رزاز المطر، شعرها بسواد ليلة لا قمر فيها.

بشرتها شاحبة عيناها قرمزيتان اكتست بالحب لونا، كانت بسماتها وحدها مضاد حيوي لأي بكتيريا أو فطريات، إنزلقت قدمها فوقعت على الأرض، كأنه أحس بها عندما تألمت فذهب صوبها.

" أأنت بخير ؟"
سأل كاينر وعيناه لم تفارق النظر إليها مطلقا، لم تجب هي واكتفت بالتحديق لفترة من الزمن، همست قائلة محاولة النهوض دون مساعدته:

" هل يمكنك رؤيتي؟"
تراجعت للوراء و كلها ذهول من أن بشري تمكن من رؤيتها و سماعها تتحدث.

" أجل و لما هذا السؤال الغبي؟"
رد كاينر و عينيه تتفحصان منحنيات خصرها الجذاب و شفتيها خلسة.

" من أنت أنا لم أرك من قبل هنا؟"

سألت و هي تقترب ببطء من كاينر، كانت تبدو جادة و كأنها تشعر بالخوف من شيء ما و لا تستطيع التحدث عنه، كأنها و إن إقتربت منه أكثر سيحترق و يتفحم. توقفت على بعد بضع سنتمترات منه، تتأمل عينيه اللتين كالدماء .

أمسك بمعصمها و سحبها صوب شجرة بالجانب، كانت أنفاسه تعلو و تهبط و كأنه أنهى للتو سباق الألف ميل.

" لما يراودني هذا الإحساس الذي لم أشعر به منذ زمن بعيد، كيف إستطعت إعادة إحياء ما قتلته بيدي هاتين؟"
صاح كاينر و برقت عيناه.

تبسمت تلك الفتاة و قالت:
" أنت أيضا مثلهم"
أفلتها كاينر، و إبتعد عنها فقد لاحظ فظاظة تصرفه وعدم إحترامه للخصوصية التعامل.

و ضع يده على رأسه ثم قال بصوت ذا نبرة لا تخلو من الغضب:
" من أنت؟"




" كاينر!
ما الأمر ؟
مع من تتحدث؟"
سألت مالينا التى أتت لتفقد كاينر الذي كانت تصرفاته غريبة كان كمن يحادث شخصاً غير موجود.

" عفوا!
اتركينا لوحدنا فأنا أحادث هذه الفتاة"
كان يشير إلي موضعها و لكن مالينا لم تكن ترى غير الأشجار و الكثير من الحشائش.


" من هي ؟
عن أي فتاة تتحدث؟
ربما أنت تتوهم إن الضباب كثيف بصورة غير منطقية، تعال لنعد إلي الداخل، فقد حضر مايكل القهوة "
همست مالينا محاولة استعادة توازن الوضع، كانت تتساءل في نفسها إن قد تناول شيئا أفقده صوابه.

" هذا ما أود معرفته هو هويتها، لا أريد الدخول أتركيني"
رد كاينر بينما التفت ووجد أن الفتاة اختفت، تماما لا أثر لها.

تمالك هو أعصابه ذهب مع مالينا الغي الداخل و باله مشغول بأمر تلك الحسناء، كان الوقت يعيد بناء نسيج نفسه من جديد ولكن برواية أخرى ببطل جديد و أحداث متشابكة.

السابعة مساء السرور بتوقيت أرض كثر خيرها و فاض ماؤها، تحرك الفريق متوجه صوب قرية واتيكا حاملين معهم المعدات التى تلزمهم للتعامل مع الوضع هناك، أصيب مايكل بالزكام فبقي في الدير مع تاركو.

تدور إشاعات غريبة عن أن قرية واتيكا، كيف أنها تعد أول بوابة تنقل لعالم مصاصي الدماء و للأبعاد الأخرى، تم لعن البوابة و قفلت قسراً و منع كلا الجانبين من العبور عبرها.

كانت تفتح جزئياً في كل خمسين ألف سنة عندما تضعف القوى التي تبقيها مغلقة، يمر من خلالها القليل من سكان العوالم الأخرى و غالباً ما يكونون المنسيين والذين تم نبذهم لجرائم ارتكبوها أو لعدم موافاتهم شروط الكمال عند عشيرتهم.

إن هذا جنوني بل لا يصدق، الجميع يقول ذلك و لكن للحقيقة رأي غير هذا، ظل كاينر المسكين صامتاً شارداً لا يبدي أي ملامح و كأنه في بيات شتوي يستضيف معه الحزن و الخذلان ليكونا له أنيسين.
العربة كانت تسير ببطء فالطريق وعر و يغطيه الطين.

" سيدي سوف أتوقف هنا عليكم متابعة الطريق وحدكم"
قال أحد سكان المنطقة التى كان يقود العربة.

" مهلا!
لما عليك تركنا هنا إن القرية هناك على بعد بضع أمتار، أرجوك أوصلنا للداخل"
تذمرت مالينا، و هي تمسح وجها الذي كان يتعرق بكثرة، طريق الرحلة كان طويلاً و شاقاً، لم تعتد على مثل هذا التنقل من قبل.


" مستحيل!
يا صغيرة، ألم تسمعي شيئاً عن هذه القرية !
إنها الليالي العشر المظلمة لا أحد يقترب من القرية حتى لا يصاب بالمس، لدي أسرة على الإعتناء بها لا أخطط للموت سريعا و بهكذا طريقة"

رد السائق كان طويل القامة داكن البشرة له عينين جميلتين، يرتدي جلد حيوان يلفه على خاصرته، لقد كان الخوف و الإنفعال يبدوان ظاهرين عليه و كأنه يرى إحدى حفر جهنم مفتوحة أمام ناظرية.


" لا بأس انتظرنا هنا سوف أحضر عربة من داخل القرية لنقل أمتعتنا و الأدوات"
أجاب الطبيب دييغو متفهما الوضع معظم القبائل هنا يؤمنون بوجود ظواهر و أشخاص خارقين للطبيعة يعظمونها و البعض الكثير يخافون منها.

" لن أبقى هنا أكثر من نصف ثانية سأعود لأقلكم بعد عشرة ليالي كما إتفقنا هناك عند تلك الشجرة الضخمة، أتمنى أن تكون على قيد الحياة لحينها"
قال السائق ثم أردف بترانيم و مصطلحات غريبة و كأنه يقول دعاء للحماية من شر شيء ما.


لم يتمكنوا من إجراء نقاش أو إتفاق عادل مع السائق لتغير رأيه، فقاموا بنقل الأشياء صندوقاً يليه صندوق إلي القرية، بعض الصبية الصغار ساعدوهم في نقل المعدات بحذر كما طلب منهم، الى المكان المخصص لهم لعلاج المصابين.

كان المواطنون لطفاء معهم يقدمون لهم الطعام من حين لآخر، الأجواء كانت هادئة بصورة مثيرة للريبة، كانت الساعة تقارب الواحدة فجراً، الجميع كان منهكا، فقد كان هنالك عدد ليس بالقليل من المصابين.

لاحظوا وجود بعض الخربشات و آثار أنياب غرزت في رقاب و أذرع البعض منهم، هؤلاء كانوا يعانون من حمى شديدة و تشنجات تكاد تردي بحياتهم، لم يتمكنوا من تحديد سبب تأذم حالتهم.

" ما رأيك بحال هؤلاء؟
أعنى الذين تم تصنيفهم تحت القسم (د)"
قالت مالينا و هي تحدق بدوناتيلو الذي كان قاطب الوجه، محتاراً فيما عليه فعله، فدوناتيلو هو المسؤول عن الإجراءات الأولية و تفحص حالات المرضى بشكل دائم.

" أجريت تحليلا لبعض العينات من دمائهم، النتيجة كانت صادمة، إن بها نوع من الجينات غريبة يحال تواجدها في أجساد البشر بشكل خاص"
رد دوناتيلو، و هو يقلب الأوراق و يمعن النظر في تدقيقها.


" هل للطبيب دييغو علم بهذا؟"
سألت مالينا و هي تتفقد لائحة الأدوية المطلوبة حتى ترسلها الى تاركو لتأمينها في أسرع وقت ممكن.

" أجل أعلمته بالأمر، لكنه لم يقل شيئاً، طلب مني الإستمرار في مراقبتهم "

رد دوناتيلو وهو يلعب بالقلم الذي يحمله في يده، دون سابق إنذار سمعوا أصوات لطبول يتم ضربها بقوة جعلت جدران المنازل تهتز، كانت و كأنها تنادي كيانا يقبع في مكان بعيد في الأعماق المجهولة حيث لا وجود للبشر فيه.

مجموعة من السكان يتجمعون في الخارج يرقصون بجنون، كانوا يرتدون أقنعة مخيفة و يهللون بطلاسم و عباراة تنفر السمع.

" م_ما الذي يحدث؟ "
تمتم دوناتيلو فقد تذكر تلك الحادثة في المخيم، كانوا يريدون الخروج للخارج لتفقد الوضع و لكن أوقفهم غلام يسمى كروستاك أحد الصبية الذين تم تكليفهم برعاية الأطباء وتوفير اللازم له، كان يقارب عمره السادسة عشر.

" توقفوا لا أحد يخرج من هنا إلا من أراد أن تصيبه لعنة الليالي العشر المظلمة"
قال بصوت مخيف و عينين تصفان هول ما يحدث في الخارج، أصوات لصيحات و صريخ عالية تحولت بعد بضع دقائق لضحكات بصورة هستيرية جنونية.

بدأ كروستاك بنثر خليط من مواد بيضاء على جوانب المخيم من الداخل، نثرها على رؤوس الأطباء و المرضى.

" ما الذي تفعله بحق الله؟"
صاح دوناتيلو الذي لم يعد يفهم ما يجري أمامه، الأضواء كانت تومض وتنطفئ، رياح عاتيه هبت من اللامكان، لقد كان منظراً مروعاً.

" إهدا دع الفتى يقوم بعمله، ألم تلاحظ غرابة ما يجري حولنا؟ ألم تقرأ قصص رعب من قبل؟"
ردت مالينا و هي تتصنع الشجاعة، مراقبة مايفعله بحذر أن يفوتها جزء، يجعلها تندم مدى حياتها.

" هل الجميع موجود هنا؟ سأختم على الباب، لن يتمكن أي مخلوق مهما بلغ وهنه أو قوته من الدخول الي هنا"
قال كروستاك و هو لايزال يردد ألفاظ بأصوات متعددة الطبقات، كل شخص كان ينظر إلي جاره، لم يكن هنالك أحد غائب، أو هذا ما ظنوه.

" مهلا أين كاينر!"
صاحت مالينا جنت عندما لم تجده معهم، كأن قلبه توقف لدقيقة و هي تعاود إرجاعه لعمله الطبيعي لكن دون جدوى.

" إن الوقت يداهمنا يا آنستي سيأتون قريباً، لن ننتظر أحد أكثر"
قال و هو ينثر مسحوقه على حافة الباب و أطرافه.

" ألم تسمعني لقد خرج كاينر لإحضار ما تبقى من الصناديق التي بها المصل المضاد من الخارج لا يمكننا تركه وحده في ظل أجواء كهذه"
توترت مالينا وبدأت بالمشي يمنة و يسرى في حيرة من أمرها.

" لن يتم تفعيل الحاجز الكامل إلا بعد ثلاثة دقائق إستمري بالدعاء له حتى يعود سالماً "
قال كروستاك وهو يواصل قول ترنيمة بسرعة.

أهتزت الأرض و كأن شيء ضخم هبط من السماء، أصوات الصياح و الصراخ إختفت، من فرض السكون يستطيع المرء سماع نبضات قلبه و هي تكاد تخرج من قفصها.

" أخبرني يا بني أكثر عن هذة الظهارة"
قال الطبيب دييغو الذي بدى مهتما، إذ أنه لم يبد أي اهتمام من قبل بأي من ما حدث و قيل له.

" صه! سيسمعونك، حتمت لن تسعد بمعرفتهم"
همس كروستاك مسكتا دييغو.

كاينر كان يسير ببطء حاملاً صندوق المصل غارقاً في التفكير في تلك الحسناء، متجها إلي المخيم، و لكن شيء ما أمسك بيده و سحبه إلي داخل كومة قش ضخمة.

كانت هي تلك الفتاة قرمزية العينين غير مبالية بكاينر غطت أذنيه بقوة عندما بدأ ذلك الكيان بالصياح وكأنها تحميه من لعنه ما، حاول كاينر إبعاد يديها عنه و لكنها كانت تحكم قبضتها عليه .

"أي قوة تلك التي تتمتع بها تلك اليدين النحيفتين"
همس في نفسه كان يحدق بها، كيف لها أن تظهر هكذا و فجأة، لقد تناسي كلياً ما يجرى حوله.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي