الجزء الثالث

كانت عيناها القرمزيتين ترتجفان و كأنها ترى وحشاً يتقدمه الموت في خيلاء، نظر كاينر إلي حيث كانت تحدق هي، رجل في الثمانين من عمره طويل القامة حسن المنظر يرتدي ثياباً فخمة لا تشابه أي من التى رآها في حياته قط.

تقدم وسط الحشود التى كانت تندمج في الرقص بصورة جنونية تزيد من سرعة رقصها كلما زادت دقات الطبول، ضرباتها و كأنهم يعزفون لحنا ناقصاً بلا لون كان الجنون يتطاير من أعينهم، الغبار يغطي نصف الساحة التى لن تعرف سماءها من أرضها.

كان و كأن كل شيء مبعثر و في فوضى عارمة، الجنون بحد ذاته جسد أمام عينيه لكاينر، الراقصون كانوا من سكان القرية يرتدون ثياباً غريبة على أجسادهم رسومات مختلفة و مخيفة، أما عن أقنعة البعض منهم تبدو و كأنك تحدق إلي الخوف نفسه و هو يقول:
" سأنال منك".

أشعلت أكوام الحطب التي كانت في وسط الساحة وبدأ الجميع بالرقص حولها بالتوالى كانوا يردودن و يهتفون بعبارات مبهمة، طلاسم وتعاويذ سحرية محرمة، ستلعن كل من يسمعها.

العرض كان قد استمر لساعة كاملة دون توقف، الإنهاك و التعب لم يبدوا ظاهرا عليهم، في لمح البصر بدأت الحشود بالاصطفاف على كلا الجانبين و التراجع للخلف خطوة بخطوة وهم يرقصون ببطء على الإيقاع الذي تغير لحنه حتى أصبح سلسلا لا يشتت إنتظام نبضات الفؤاد.

ضوء القمر الذي كان بدراً ينعكس على أجسادهم التي بالزيت قد تغطت، كان للمكان رونق مختلف طاقة قوية من نوع آخر، السماء تلبدت بغيوم سوداء وكأنها ستشهد وقوع مأساة.

الأطفال كانوا يقفون على عتبة باب أكواخهم برفقة كبار العمر الذين قد دمعت أعينهم من رؤية منظر مهول طال إنتظارهم لحضوره.


" عليك الخروج من هنا"
همست تلك الحسناء قرمزية العينين.
أبعدت يدها عن أذن كاينر ببطء وكأن خطر لعنة ما قد زال.

" و من أنت حتى تملى علي ما يجب أن أفعله؟"
رد كاينر الذي نهض ينفض الغبار و القش عن ثيابه.

" المكان خطر هناك لا تذهب صوبهم
لا تقربهم فيقتلونك "
قالت الحسناء في رعب يعتلي وجهها البرئ.

" و لما؟ أنا في الأساس لا استوعب ماذا يحدث أمامي؟!"
أضاف كاينر الذي شده إصرارها على مكوثه و إتخاذ تدابير الأمان.

" ألا تفهم ؟ إن هذه طوس تبجيل زعيم مصاصي الدماء، و ستقتلونكم لا محالة هنا."
قالت بصوت واضح، جعل كاينر ينظر إليها باستغراب.

ضحك كاينر الذي لا يؤمن بمثل هذه الخرافات حتى أدمعت عيناه.

" مصاصي دماء!هنا و في هذا القرن من الزمان
هل ضربت رأسك في صخرة أم ماذا؟ لا وجود لمصاصي الدماء إنهم محض قصص من تأليف المختلين من البشر حتى يربحوا القليل من الشهرة و النقود"
رد بكل استخفاف واستهزاء من حديثها.

فجأة سمعا صوت صياح و صراخ لفتيات في السابعة عشر من عمرهن لقد كن حوالي أكثر من مئة فتاة، عندما نظرا إلي مصدر الإزعاج المنفر، عشرات من الصبايا راكعات أمام ذلك العجوز الذي بدأ بغرز أنيابه الحادة التي يصل طولها لسبعة سنتمتر في عنقة تلك المسكينة التي كان مكبلة بالقيود الثقيلة.

أما عن بقية الفتيات فقد إكتفين بالصياح دون القدرة على الهروب لقد كن عاجزات استسلمن لقدرهن المميت...
كاد كاينر يهرع لإنقاذها لو لم توقفه الحسناء.

" ما الذي تفعلينه؟ ذلك المخلوق المتوحش سيقتلها"
صاح كاينر وهو يحدق بها.
" هل أنت غبي؟ أتعلم لن تزيد الوضع إلا سوءا إن تدخلت! هذه تسمى قرابين يتم تقديمها و التضحية بها للزعيم الأعظم حتى يكون على رضى عنهم دائما و لا يحل عليهم غضبه وبطشه"

تفوهت هي بعدها بعبارات و كأنها من لغة أخرى، قام ذلك الرجل العجوز بكسر رقبة الفتاة الثانية و فصل رأسها عن جسدها و رماها بعيدا ثم قال بصوت أجش كله تكبر و تعالي:


" لاتستهينون بي أيها البشر الحثالة، تلك لم تكن عذراء "
عم الصمت حيز الفراغ و توقفت الطبول عن العزف حتى الراقصون جمدوا في مكانهم و كأن الزمن أخذ إجازة دون سابق إنذار.

تقدم رجل من أهل القرية وهو يؤدي رقصة غريبة و هو يلوح بيديه للاعلى و الاسفل كان يتغنى بكلمات غير مفهومة، يغطى جسده الكثير من فراء الحيوانات كان ضخما، يبدوا عليه القوة و الهيبة، رأسه مستدير و تلك الندبات تعطيه طابعاً يجعل المرء يتجنب خوض قتال معه.

" تعظيمك أيها الزعيم!"
قال بصوت كله احترام و تبجيل.

ركع أمام الرجل العجوز بهدوء فائق و كأنه يحسب كل خطوة و يضع لها ألف تقدير و حساب متفاديا حدوث أي خطأ.

قبل أن يرفع رأسه و يقول حرف آخر، قطع ذلك العجوز رأسه و أمسك به بين مخالب يده اليمني يرفعه على الملأ و هو يقول بتعجرف:

" يالكم من بشر حمقي! أإستدعيتموني فقط لأشهد عرضكم المثير للشفقة، ما عادت قرابينكم ترضيني، سأعود و بجيشي سأغزو هذه البقاع"

تصاعد دخان رمادي قاتم حجب الرؤية لفترة من الزمن، الصمت لايزال يخيم على الأرجاء، و كأنهم إن تحدثوا سيلقون نفس المصير، الكل كان يراقب أنفاسه حتى لا يفارق الحياة بهكذا طريقة.

عندما صفى الجو إختفت الفتيات من أمام الساحة حتى جثث الموتى الذين قتلهم مصاص الدماء ذلك لم تعد موجودة، بدأ السكان بالتهامس و الزعر يتربع قلوبهم حتى أخمص أقدامهم ترتجف في خوف، لم يكن كاينر يتوقع أن كل القصص عن مصاصي الدماء و خرافاتهم حقيقة.

" من أنت؟ ما السر وراء هذة العروض ؟ ما إسمك؟"
سأل كاينر و هو ينتظر تفسيرا منطقيّ بشأن المشهد الذي الذي لا يستوعبه أي عقل عاقل.


" كاينر !"
صاح دوناتيلو الذي بالكاد يركض من شدة الخوف كان يسقط و يتعثر برباط قدمه كالأحمق.

" هل أنت بخير؟ لقد قلقنا عليك"
قالت تاركو وهي تتعرق بشدة


" تمهلوا يا رفاق، أنا بخير"
همس كاينر، إختفت تلك الحسناء و لم يجد لها أثر، لاحظت مالينا أن كاينر يبحث عن شخص ما و كأنه كان مع أحدهم.


" عن من تبحث؟"
سألته بعد أن اطمأن قلبها برؤيته بكامل عافيته، تجاهلها كاينر وعاد إلى المخيم وكأن الذي حدث أمامه كان مجرد حلم فظيع.


" إنها النهاية، ألم أقل لكم أن تقدموا له أفضل القرابين لما لم تخطفوا فتيات أكثر ؟ إن هذه الأرض غنية بالنساء اللواتي لا نفع لهن خلقن ليكن قرابين يفتدى بها حتى نعيش نحن الرجال بكرامة و أمان"
قال زعيم القبيلة بغضب خارج عن السيطرة.

" سيدي لقد كانت هنا؟
تلك الفتاة الشب..."
قبل أن يكمل الرجل حديثه صفعه رئيس القرية بقوة و صاح قائلا:

" ثكلتك أمك يا غلام، لا أود سماع كلمة واحدة عن تلك اللعنة النكرة هنا في أرضي، هل أنت من تمكن من رؤيتها، أصحيح هذا؟"
" ن _ نعم سيدي"
رد الرجل بخوف و كأنه يعلم نوايا الزعيم.

حاول الرجل الهرب، جرى و تعثر و سقط فقام محاولا الفرار من هنا، و لكن بإشارة واحدة من الزعيم سهما من العدم إخترق قلبه فوقع قتيلا.


" يجب أن تكون شاكرا لي فقد خلصتك من لعنتها "
همس في أذنه و هو يضحك و الجميع من حوله مرعوبين فزعين.

" إلى ماذا تحدقون؟عودوا الى منازلكم فكلكم ستموتون قريبا !"
قال الزعيم بصوت عالي و كأنه لن يجد حلاً للمصيبة التي هم فيها، كان مايكل و دوناتيلو يراقبان بصمت.


"أهذا الجانب الآخر الذي تحدثت عنه الصحف عن طبيعة هذه الأرض."
تساءل مايكل في نفسه، تذكر تفاصيل تلك الليلة وحدها يقشعر من الأبدان.


" لا أود البقاء هنا لحظة واحدة"
قال دوناتيلو

" و كأنك تمتلك وسيلة للخروج من هنا"
رد مايكل و هو يشر بالعودة الي المخيف فإن الوقت قد تأخر كثيراً.

" إنها الثامنة صباحا ما الذي تريده مني، ألم تعلم أنني لم أنم الليل بطوله بسبب حوادث هذة القرية، بدأت أكره تواجدي في إفريقيا هذه"
صاح مايكل بعد أن أيقظه دوناتيلو لحضور إجتماع طارئ في غرفة الطبيب دييغو.

" و كأنني نمت بهناء، إنهض يا مدلل أمك، سنغادر هذة القرية، هذا ما سمعته من الطبيب دييغو وهو يتحدث مع رئيس البعثة عبر الهاتف"
رد دوناتيلو هو يمشط شعره و يرتب ثيابه و هو واقف أمام المرآة.


" هل أنت واثق من قولك؟ هل تقول الحقيقة؟"
سأل مايكل و هو يقفز من على فراشه و السعادة تبرق في عينيه و كأنه نجم محلق.

" و هل كذبت عليك يوماً؟"
قال دوناتيلو بينما كان مايكل ينظر إليه بنظرات تقول عكس ذلك.

" أتريد مني أن أذكر لك عدد المرات التي خدعتني فيها و كالغبي أنا كنت أصدقك"
قال مايكل.

" بحقك يا رجل! صدقني هذه المرة"
همس دوناتيلو و هو يلوح لمايكل ثم خرج من غرفته.

في طريقه صادف دوناتيلو مالينا التي كانت تركض صوب الساحة التي أقيم فيها العرض المخيف، حتى الآن لا أحد يصدق أن ما حدث حقيقي، معظم طاقم العمل يظنون أنها مسرحية دبرها أهل القرية ليخيفوا بها الرجال ذوي البشرة البيضاء و يجبرونهم على الرحيل، و لكن الحقيقة عكس هذا تماما في هذا العالم كل شيء وارد .


" هي أنت! يا مالينا! توقفي"
كان دوناتيلو يصيح و هو يلحق بها، لاحظت مالينا أنه يتبعها فتوقفت ثم قالت بنظراتها تلك :

" ما الذي تريده أيها الأحمق، توقف عن مطاردتي هذة ليست رواية رومانسية و أنت لست البطل فيها"

"أتعلمين أنني أود فؤادك، رغم قسوة ألفاظك"
همس دوناتيلو و هو يحدق بتفاصيلها الباهتة و شعرها المتشابك و كأنها تصارع نفسها ثم العالم لتعيش.

" ليس لدي وقت لهراءك أيها المدلل الكسول"
قالت هي ثم تجاهلته و ذهبت.

" ماذا عن الإجتماع؟"
قال بصوت عالي، لكنها لم ترد عليه وواصلت مشيها.

" آه حتى الفتيات القبيحات أمثالها تتجاهلني، أيعيني هذا أنه ليس لي حظ مع حسناوات إفريقيا ذوات البشرة بلون الكاكاو و الذرة لحظ نضجها.
تبا"
قال دوناتيلو و هو يركل جذع شجرة ملقى على الأرض.


عاد هو إلى حيث سيقام الاجتماع كان في الغرفة رئيس زعماء عشائر القبيلة و مسؤول من الحكومة بالإضافة إلي الطبيب دييغو و تاركو.

جلس دوناتيلو بهدوء في كرسي بالقرب من صندوق أسود ملفت للنظر كان على الطاولة، دخل مايكل بسرعة قبل بدأ الإجتماع.

" بخصوص ما حدث البارحة، فنحن لن نتمكن من مواصلة العمل هنا يمكنكم نقل المصابين الى المشفى المركزي بالعاصمة، إن الأوضاع هنا لا تبشر بالخير"
قال الطبيب دييغو متحدثا الى زعيم العشائر لقد كان ذلك الزعيم يرتدي ثيابا غريبة التصميم صدره العاري به الكثير من النقوش المريبة، كان يرتدي حقيبة من الجلد يلفها حول عنقه.

" و لكن يا سيدي سيموت الأطفال إن لم يتلقو العلاج المناسب و في أسرع وقت أرجوكم ارفقوا بحالهم"
رد زعيم العشائر.

" سلامتنا تأتي في المقام الأول ثم باقي البشر ثانيا، نحن لم نارك موطننا حتى نعود إليه و نحن بلا عقل "

قال مايكل ثم أضاف :
" كما أننا لا نتقاضى أجراً منكم بتقديم المساعدة لكم."

" سندفع القدر الذي تودونه من المال، لا تخبروا أحد بما رأيتموه أو سمعتموه خلال الليلة السابقة"
تمتم زعيم العشائر و كأن أحد ما يهدده.

" كيف سنضمن أن ما حدث لن يتكرر مجدداً "
قالت تاركو و هي تحدق بخوف الى الصندوق الذي كان يهتز بالقرب من دوناتيلو الذي لم يلحظه.

فجاة ضرب مسؤول الحكومة الطاولة و قال:

" عذرا أيها السادة و لكن لا وجود للأشباح و لا مصاصي الدماء في هذا العالم، كما أن أهل هؤلاء القبائلة يؤمنون بالخرافات ربما شاهدتم إحدى مسرحياتهم السخيفة"
كان ينظر إليهم باستهزاء.


" أيها البشري الجاحظ لفضل الزعيم الأعظم صن لسانك و إلا"
قال زعيم العشائر و كأن هنالك ملك يجلس بينهم و هو يدافع عنه بشدة.

" إن ما رأته أعيننا لم يكن كذباً و لا تمثيلاً لقد كانت حقيقة يصعب تصديقها لما لا تفهم هذا"
قال دوناتيلو بغضب و حسرة

كانت تاركو ترتجف و تتعرق فقد برز من الصندوق أصابع تتحرك و كأنها تبحث عن شيء ما، لم تقدر على التحدث أو تنبيههم مطلقاً.

" إن قرار رحيلنا نهائي و نحن لا نود مالكم كما أن ما حدث يجب على العالم معرفته"
قال الطبيب دييغو بخبث.


فجأة صدر صوت عالي كصياح حيوان غريب من الصندوق جعل الجميع يصمت و يغلق أذنه، وقع دوناتيلو على الأرض من شدة الفزع، بدأ بالزحف حتى التصق بالحائط.


" حمقى!
كم أنتم بشر متخلفون"
قال صوت صدر من الصندوق الذي طار في الهواء.
" كيف تمكن هذا الصندوق من كسر قوانين الجاذبية"
همس مايكل في نفسه و أسنانه ترتجف حتى كانت تصدر صوت مزعجاً.

ظل مسؤول الحكومة مصدوماً من شدة الفزع تجمد في مكانه و عيناه تلعبان كرة التنس مع اللامجهول.

" تعظيمك تبجيلك مولاي، آسف لأنك اضطررت لتريهم جزء من قوتك الهائلة"
قال زعيم العشائر بخوف.

تحركت اليد التي داخل الصندوق صفقت فتعالت ضحكات شرير مستبد طاغي حاكم بلاد الظلام و الدمار الذي لا رحمة في معجمه.

" إرحل من هنا كائناً من كنت"
قال الطبيب دييغو و كأنه لم يكن يخاف من منه بتاتاً
لم يبدو عليه أي ملامح للضعف كغيره.

" مما صنع هذا الرجل؟"
قال دوناتيلو في ذاته.

كان دييقو يبتسم و يبدأ بالضحك هو الآخر مما زاد هذا جنون الصندوق الذي كان يتخبط بجدران الغرفة، الدماء تسيل من داخل الصندوق بلا توقف.

" و كأن هذة الحركات تخيفني"
قال دييغو و قد شمر عن ساعده و كشف عن وشم على يده، كان الوشم لكيان غريب به العديد من الرموز، صرخ ذلك الصوت بقوة حطمت النوافذ و سقط بعدها الصندوق على الأرض .

كان الجميع منبهرين متفاجئين و مصدومين من هول ما يحدث أمامهم.

" من تكون بحق إلهي العظيم؟"
سأل زعيم العشائر بخوف و جسد كل خليه فيه تصرخ تقول :

" ساعدوني"
ضحك دييغو ذلك العجوز بغطرسة ثم قال:

" الآن تعادلنا سأغض النظر عن ما تسميه سحرا لتخيفنا بشرط ألا أرى وجهك أمامي مرة أخرى، من تظن نفسك؟ أنت لست الساحر الوحيد في هذا القرن"

أغمي على مسؤول الحكومة بعد أن إرتفع ضغطه وانهارت أعصابه كلياًّ، نقله دوناتيلو و مايكل الي المخيم و قاموا بتقدم المساعدة له.


كانت تاركو تبكي و كأن الغد لن يأتي، كانت خائفة لم يكن هنالك أحد معها في الغرفة فقد خرج الطبيب دييقو برفقة زعيم العشائر الذي تبعه و هو يطلب منه السماح في ذل و هوان.

" أين نحن بحق الله؟ عقلي لا يصدق ما تراه عيناي هذه الأرض مسكونة"
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي