الفصل الرابع

«الفصل الرابع»


أنسحبت الشمس مبكرا تاركة للقمر المجال، فيكون هو الشاهد والدليل على علاقات بدأت بنفور، تزين السماء النجوم كعروس تزينها حليتها، والسحب تتمختر كرداء يكشف جمالها، اما القمر فهو كعيون البدر الساحر.


اجتمع الثلاثة كما الهو المتفق في التمام والساعة المحددة، وليكمل جمال المشهد كان القمر اليوم بدرا، فكانت الحديقة ساحرة وليس هذا مبالغة فكان ضؤ القمر يحاوطهم في خفة، والزرع يتراقص فرحا أما الخضار والهواء يبعث طمأنينة تشب راحة في القلوب، ترتدي عائشة جلباب فضفاض لونه أخضر ومثله ملحفة مشابة للون والنقاب وأما روان فهي ايضًا ترتدي نفس اللون، صدفة غير مرتبة، وعمرو يرتدي الأسود كعادته، يجلسون على كراسي متوسطة الحجم بحانب مجموعة الريحان والنعناع والورود، على الطاولة أمامهم أكياس للتسلية والأستماع وزجاجة مياه، ترتسم الراحة على وجهوهم ويشق الفرح باب لقلوبهم، لحظات قليلة من الصمت الملجم بالسكون التام، حتي أجتمع الجميع وانضم معهم، لم يخططو لإنضمام باقي اراد العائلة ولكن هذا سيضيف مزيدا من البهجة، ومعرفة أكثر للجميع، فسنوات الغياب أضافت الكثير من الجهل لبعضهم البعض ونجحت الغربة في تفريق شملهم العزيز.

صدح صوت جدهم بفرحة:
-وإن مت اليوم، سأموت وأنا فرح، فها أنتم قد جمعتم مرة أخري، وليس هناك فرحة تضاهي فرحة لم شمل العائلة مرة أخري.

أمتلاء الامتعاض وعدم الرضا وجه الجميع، ونظرو له نظرة قاسية تنم عن عدم قبول حديثه، وتعاذب الجميع من الله ألا يكون من ضمنهم، فهو العمود الذي تسند عليه أركان المنزل، جلس الجميع وبدأ التسامر في خفة يشوبه المزاح والفرحة، وبدأ صوت عمرو مستفسرا عن قصة مغيث وبريرة، فهذان الأسمان سكنا خمائل عقله منذ زمن، ربما جذبه الحديث وأراد أن يعرف أصل قصتهم، ليقول مناديا عائشة:
-أخبريني يا إبنة عمي ما قصة مغيث وبريرة.


لو كنت أعلم أن هذه القصة ليست صدفة في حياتي، وأنها بداية لجوف قلبي، لإبتعدت على الفور، ولكن تشاء الأقدار، ويشاء ربك السميع العليم أن يجعل قصتهم المصغرة بداية مغيث ونهاية عائسة، فقد تمكن مغيث أن يعيد قصته ويولد من جديد، وتعاد كل الذكريات متجددة المواقف، وتأخذ القصة القديمة منذ الأزل بثأرها من الجميع وتنحد العشاق، وتنتقم من هذا قيس وذاك مجنون، ومن عبلة وعنترة، فلو كانت هناك قصة مؤلمة تحاكي فراق المحبوب فهو رفض بريرة لمغيث.

في ذلك أتذكر بستمي ألتي أرجخ ان الجميع راها وان كانت ملثمة خلف القماش مقموعة، ولكن عينيا قد فضحت كل شيء، وبهدؤ بدأت أقص حكايتهم التي خلدها الزمن، وأرتباطهم معا مأسم واحد رغم فراقهم الحقيقي على أرض الواقع وبلسان فصيح وقلب متيم بدات اعزف الحان قصتهم كعازف للاناشيد:
-مغيث وبريرة هي قصة لعاشق تم رفضه من زوجته بعد أن نالت حريته، لأكون أوضح ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كانت هناك أمة تلقب ب بريرة، أرادت نيل حريتها من مالكيها، فذهبت لعائشة رضي الله عنها تطلب منها تحريرها، أي أن تشتريها من مالكيها وتعتقها، فأخبرت عائشة نبينا الكريم وأشترائها وعتقتها، ولكن كانت هذه الأمة متزوجة من مغيث ولها أبناء منه، بعد تحريرها أرادت ان تتحرر من زواجها أيضا وألا تظل مع مغيث المملوك، وكان مغيث يعشقها فوق عشق المتحابين ألف مرة،فعندما راء الرسول الكريم حالته ذهب لبريرة ليشفع له فقالت: أتأمرني يا رسول الله فأخبرها انه هنا ليشفع لها وأنه يمشي في البلد باكيا خلفها ويصل دموعها لحيته، فلعلها ترق على حاله وترجع من أجل أبناءها، لكنها رفضت وفضلت الإبتعاد، من أقرب القصص لقلبي، فهذا دليل حي من واقع النبي أن لازال هناك حب وإن مر سنين على الزواج وتعدد الأبناء، ولكن قسوة الفراق تمنع الإنسان من خوض علاقة الحب، فمن يقترب من ألسنة النار من المؤكد أن يحترق.

استفسر عمرو:
-ولكن هل يسمح لها الإسلام بذلك؟
ردت بتلقائية معهودة، ونورا من العلم لا يطفأ:
-نعم، فالأسلام دين يسر، وهي لا تحمل له مودة، كما انها مخيرة أن تظل برفقته او تتحرر من الرابط بينهم، وأختيارها ليس منافي لقواعد الاسلام، كما أنها لو تأكدت ان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرها باكمال الوصال لظلت فهو نبي الله، ولكن عندما أخبرها أنه يطلب هذا شفاعة، كان ردها انها لاتطيق، فلم يجبرها، ولكن تعجب من حب مغيث ورفض بريرة، جاءت في هذه القصة العديد من الفوائد، ووضحت حجم معاناة حب من طرف واحد، وكما كيف للإسلام أن ينصف المرأة ويعطيها حرية الأختيار، بالأضافة لتواضع النبي صلى الله عليه، وأهتمامه بموضوعهم، لقد شملت قصة صغيرة قيم عديدة.

روان:
-جزاك الله خيراً، قصة جميلة ومؤلمة، وايضا ملمة بشمائل الإسلام.
عمرو:
-ولكنها تحمل في عبقها ألم خاص، لا يشعر به سوى من عاش الأمر.
ردت عائشة بحكمة تتجاوز سنها الصغير قائلة:
-ربما أنت مخطيء، فالحب من طرف واحد ليس نارا كوية علي قدر انه نارا تدفيء القلوب، لهذا الدرب من الحب فوائد كثيرة، في هذا الحب انت لست مضطر أن تثبت عشقك، ليس يعتمد على رؤية اوتملك الشخص، او ان ترافقه يوميا، حبا يظل ويكبر مع الأيام، حبا لك وحدك، انت المسيطر والمهيمن على جميع قواعده، تخيل هل هو شئ بشع من وجهة نظرك أم انه نوع مختلف.

بسمة ماكرة رقت علي محي وجهه، واستنكار واضح قال بتمرد:
-فلأخبرك شيء، أن لم تكون متملكة، ومالكة وتحرقك نيرتن الغيرة فهذا ليس حب، الحب والهيام والعشق له درجات، أولي درجات الجنون، ان تجن وتثور، يتلغبط محيط، وتشعر بسحب أنفاسك لاسماع صوته، ان تشعر بجموح تام، أنه طاقة كبيرة غير مفسرة، وأمان دائم وابتسامة تشف الظلام فتضى كيانك من الداخل، إنه عوض السنين والجزء الذى تبحث عنه لإيكملك، غير ذلك فهذا جحيم والجحيم غير مقبول ولا يصنف حبا.

عائشة:
إختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، فكلا منا يرى الموضوع من نظره وفكره.



في بيت يبعد أمتار عن هذا المنزل، يحمل داخله عاشقًا غارق في عينين محبوبته، فهو ايضًا كمغيث ولكنه لم يعترف بحبه، أو انه ينكر الحب، ينظر من فوق بيته على الحديقة، فمنزله يطل من الخلف على منزل عائشة، يراقب ضحكاتهم، ومزاحهم ويحاول ان يفسر تعابير زجههم، تشتعل بداخله نيران الغيرة لعودة عائلة على، وأقتراب محبوبته من رائحة رجل، وأن يراء أحد عينيها غيره، وان تجلس في مجلس موجود به أحد محارمها، هذا هو مجنون الحب كما يطلق عليه عمرو.

يجي ويذهب على سطح منزله، يكاد. يبقي من حرقة الغيرة التي أصابته، يجن ولا يعرف دواء ولا طبيب، كيف يصل للمكان، لعله يفكر في حرق الحديقة لكي لا يجمعهم مكان مرة آخري، فتتزين الفكرة في باله ويقرر بعد رحيل جميعهم ان يحرقها، وإن كانت مكان مقرب لقلبه، فهذه الحديقة لها فضل، تجمعه بها كثيرا، يراقبها خلسة منها، أنها المنفذ الوحيد لرؤيتها، والمكان المحبب لحبيبته، كيف سينام الليلة بعد هذا المشد المميت، يعجب لحاله وذاته، فهو هذا الكريم الشاب، الذي وضع لنفسه مستقبلا وحياة، ينحني أمام عشق لأنثي، فقد وصل لكونه مهندس كبير يقبل به أى احد، به من الصفات الجميلة التي لم تتجمع بشاب في مثل عمره، ولكنه ذليل حب، يستيقظ في الليل ليلقي نظرة خلسة عليها، وتشرق الشمس ليضطر ليذهب في طريق يجمعه بها، وإن كان لا يري سوى عينيها فعينيها كفيلة أن تجعله أسير لسنين.

يقف يحترق، يسترجع ذكرياته ليتفأجا بوالدته أمامه، فهي قد كشفت ما بداخله وتعرف مكنون قلبه، وتشفق على حالته، ولكن ليس بيدها حيلة.

لتقول له بصوت حنون:
-وماذا بعد يا إبني، أنك تشق طريق صعب، هكذا ستحترق وحدك، ركز في مستقبلك، فأنت لست تقوي على هذا الألم منفردا.

ليرد:
-وهل بيدي شيء وهل املك على قلبي سلطان، أنها مقدسة عزيزة خالدة فى معبد قلبي، انها طاهرة كمسجد، ونقية كقلب طفل، أنها سعادة قذفت فى قلبى، أمي لست قادر على تخطي الأمر ولن أستطيع تجاهله، أن عالق في ارض العشاق، أصبت بجنون يلقب عائش، لن استطيع دفن قلبي وان ألقي به في مكب نفايات، فهي ليست كالبقي، ليست مجرد فترة وستمر، أنها فترة ماضية، حاضرة، ومستقبلا سيدوم للأبد، صندوق ذكريات يشملها، صوتها محبب لقلبي كإحدي نبضاته، عندما تضحك يسكن قلبي سعادة لا توصف، سمخت لنفسي أن أتسرق النظر لتفاصيلها وأعطي ذاتي حق امتلاك رويتها، الإبتعاد يا أمي لن يشفى، فهي فلذة قلبي ومسكن ألمي وبيت أحزاني، انها سفينتي التي ستنجيني من غرق، تنفرج أسرير وجهي راقصة لرؤيتها، وكأنها أميرة هاربة من إحدي حكاوي الزمن القديم، أنها كوصف الجنة، ما لا يخطر على قلب بشري، ولو تمادت أحلامك، أنا سجين قيد بقيود محبتها، شاعر يلقي كلام من صنع بهجتها، سكران أصابها نشوة الخمر من طلتها، وأن كنت أسعي يوما لشيء، فلست أسعي سوى للم الوصال، وأحتضان ينسي كل شيء ذقته من بعد عنها، ان تهدا روع قلبي من نبضاته الصارخة بأسمها، كحال اليتيم الذي فقد أمه وأبوه أصبحت يا أمي، فبالله باليتيم لا تقهري، فأنا يتيم ولد من رحم الحب، أمي حبها لا ينافس حبك، ولكن أزهر على يد امرأة، ماء الزهور حبها، وشمس الإضاءة إبتسامتها، انها ظل يحميني من لهب الشمس المحترقة، بإختصار كأني نبتة وهي البرعم.


نظرة منكسرة تحمل في ثناياءها ألم أم، مسحت المكان ببصرها، وألقت نظرة على معذبة إبنها، لعلها لا تشعر حتي بوجوده على هذا الكوكب، هي هناك تضحك وهو يعذب، هناك تشعر بالدف وهو هنا يبتعد عن الجميع ليراقبها، كم قاسية الحياة، والأقسي عودة إبن عمها المبجل ليكون عائق في طريق إبني، ماذا افعل وأنا احلم أنها نار لا تخمد، فكل ما عليا ان أضع في طريقه آخري لعلها تستطع ان تنسيه هذه، ربما وجود انثي في حياتها سيجعله يفكر بطريقة ما أن وجودها ليس بهذا الججم، وأنه يستطيع ان يكمل بدونها، ولكن من هي؟ وكيف ستفعل هذا؟

رؤية ضبابية، وأفكار شيطانية تتراقص فى عقله، لعله الآن يفكر في حرق البلدة كاملة، او يذهب ليصفع الجميع وينتزعها منهم عنوة، وان يسجنها لألف سنة لضحكها وتركها الكجال لغيره أن يقتحم حياتها، هل هذه نهاية المطاف، أم بداية جهنم الحمراء المتربعة على عرش قلبي.

أدركت والدته من نظراته أنه قادم على فعل شني، وربما لن يستطيع التخلص من نتائجه، فهو كل مرة يزداد جنونا، ويصبح الأمر خارج عن السيطرة، ويزداد الوضع سواء.





عودة لتجمع العائلة، متغافلية عن الصقور المحلقة فوق رؤسهم، وعن تلك الأحقاد المخفية التي تراقبهم، الجميع ملهي، لا أحد يركز للنظر لذلك المبعيد الملتهب، ولكن أستطاعت روان أن تعثر عليه رغم حرصه على الأختفاء، على الرغم من الأمتار التي تبعدهم إلا ان نظرانه كان مشبعة بدموع وحرقة تشبه ندوب، لم تستطع تحديد الوجهة التي ينظر إليها، فهم جميعهم يجلسون في ذات الركن، ولكنها أصابها فضول لمعرفة لمن ينظر وبكن أستطاع حديث العائلة أن يشغلها ويرجعها لهم حين قال عمها خالد ان إبنته تجيد الشعر والأدب.

روان ببسمة وشوق:
-هل حقا تجيدين الشعر يا عائشة، لعلك تبرعين في كثير من الأمور، أجح أنك أكتسبت هذه الموهبة من الوحدة التي تحاوطك.

لتعقب عائشة:
-ربما، ولكن كل ما في الأمر أن احس انه شيء مزج بداخل وريدي، وشرياني، يجري بداخلهم كمجري الدم، شي احبه ويخرج تلقائيا وإن كان يفتقد للوزن والقافية والراتبة وقواعد اللغة ولكنه في الاخر استطيع ان اطلق عليه أدب.

عمرو:
-وإن كان هناك موهبة، فعليك تطويرها، فحاولي التزام اللغة لكي يخرج سليم ملم بمتن صحيح.

روان:
-عليك ان تعرفي ان عمرو يحب الأدب بل انه أحد اصحاب الادب الكبار، شاعر وكاتب وناقد، أنه جزء كبير من حياته، صدفة حيدة لتستغلي وجوده ويعلمك القواعد الصحيحة.

ابتسامة مشرقة عمت وجهه وقال بغرور ليس معتاد وفرحة غريبة:
-أظن انك محظوظة جداً، لأكون معلمك، ولكن عليا ان احكم بنفسي ان كنت تجيدين وانها حقا موهبة ام انها مجموعة من الكلمات التي لا تربطها صلة بالادب.

نظرة ماكرة وحاحب مرفوع وقلت له:
-وان كان ليس شعر، عليك ان تعلمني، ووان كنت حقا معلم بارع، فهذه قضية طالبة للعلم، بجانب ان الادب قد يكون موهبة، فهو ايضا هواية وممارسة، ويكتسب ويعلم ام ان ليس كلامي صحيح.

صمت دام ثم رحل الجميع، وظللت مرافقة له هو وروان، بعد توديع الجميع لنا واخبرنا بالنوم مبكرا، وشعورنا بالجوع رغم كثرة ما تناوله في الحديث إلا انه نفد، وبقيت امعائنا تنوح، أستكمل حديثه الذي قطعته العائلة عند رحيلها وقال بثبات:
-ليس كل شيء يوعلم، لا بد ان يكون هناك موهبة، لا يجوز موهبة بدون لغة، ولكن مستحيل لغة بدون موهبة، هل فهمت؟
ؤوان بإمتعاض:
-دعونا نؤجل حديثكم ونفكر ما الطعام الذي سنعده لان كدت أموت جوعا، بالاضافة ان الليل مخيم ولا بد ان نجد شي.

عائشة:
-أنتِ محقة، أنا ايضا أشعر بالجوع، ولعلنا نكمل الحديث بعد إعداد الطعام، هل عندك مانع في هذا؟
عمرو:
-نعم لدي ما أقول، وايضا عليكم ان تفكرو ماذا ستعدون قبل ان تذهبو فربما ما ستصنعونه لا احبه.

روان بضحكة:
-تظن انك لن تأتي معنا وتشارك في إعداد الطعام، انت مضحك لآخر درجة، ستاتي وتشارك فى الصنع، وإلا لن يكون لك نصيب من الطعام.

عمرو:
-هل تهددين يا أختي الصغيرة، ومن تقصدين بان يعد معكم ويشاركمم، هل تطلبين مني دخول المطبخ واشارك فتاتان واگون أنا الولد الوحيد بينهم.

عائشة:
-أنا استسلم، المجادلة مع شخص مثلك لا تنتهي.
روان:
-أنت محقة، فهو يجادل هذه الفترة كثيرا، بل لأول مرة يجادل بهذا القدر، يبدو أنه يعاود لأيام طفولته، ويستعرض قوته كناقد أدبي، أليس كذلك يا استاذ.
عمرو:
-أنتهي الحديث، هيا أذهبا واعدا كلاكما الكعان وأنا في الأنتظار.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي