الفصل الثاني

الفصل الثاني

(إيماني وشقائي)

لقد تعلقت بك أيتها المرآة، مرآتي المستديرة التي
تعلوها نقوش ذهبية مفرغة، وكأن هذه النقوش
تمثل قطعا من حياتي يبدو في ظاهرها الكمال، وفي جوهرها جوفاء لا يلمس جفاءها سواي.

كلما نظرت في مرآتي وجدت ظلالا مترامية من حياتي تظهر متمثلة من ورائي تنظر إلي عبر مرآتي في صمت وعتاب تلومني.

كنت أخشى هذا الشبح المتجسد في مرآتي، ولأني
امرأة مؤمنة تقدس تعاليم الإنجيل، وتجد فيه الخلاص علقت أعلى مرآتي بروازا نقشت عليه هذه الآية:

" تعالوا إلىَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا
أريحكم، احملوا نيري عليكم وتعلموا مني؛ لأني وديع ومتواضع القلب؛ فتجدوا راحة لنفوسكم؛ لأن نيري
هين وحملي خفيف ".

وعلى يسار مرآتي وضعت سلسلتي الذهبية تحمل
صليبا صغيرا عليه صورة المسيح مستسلما لآلامه،
سلسة أهداني إياها زوجي منير في ليلة زواجنا
لتمنحنا الحياة الأبدية.

كنت سعيدة للغاية بها، واعتبرتها هدية من الله
وليست من زوجي؛ لهذا اعتنيت بها عناية خاصة دون باقي قطعي الذهبية قدستها إلى درجة أني لم
أستطع أن أضعها ولو لمرة حول عنقي جعلتها أمام عيني حرصا على ألا يتشوه جمالها أو تفقد بريقها.

هناك شيء ما مفقود في حياتي لا أدري ما هو، ما
أشعر به أن إيماني أحال بيني وبين الآخرين، فمعروف عني أني أقرب إلى القديسة حتى أن البعض ممن
يعرفونني عن قرب تعجبوا لأمري، كيف أكون على
هذا القدر من الإيمان ولم أفكر في الالتحاق بالدير
لكي أهب نفسي للرب؟!.

أنا نفسي لا أدري كل ما أدركه أني لم أفكر في الأمر
أبدا.

ربما لأني نشأت في أسرة متدينة حريصة على العلاقات الأسرية التي تربط بين أفرادها، ترى في أسرتها
الصغيرة التي تحافظ على مبادئ دينها الحياة المثلى للحياة المسيحية المنشودة.

تربيت على أن تقديسي لزوجي، وعنايتي بأولادي،
ومحافظتي على استقرار زواجي هدفا مقدسا، كما
أني لم أحرص على الزواج من رجل دين من رجال
الكنيسة.

كنت أرغب في رجل مثل أبي، رجل صالح، يراقب الله
في تصرفاته، ويسعى لإسعاد أسرته البسيطة ولو
بكلمة أو ابتسامة، ويجد في هذا غاية إيمانه.

يحافظ على صلواته، ولا يعرف شيئا من هفوات
الرجال عندما يتجاوزون سن الأربعين.

في لقائي الأول بزوجي منير قبل خطبتنا دارت بيننا
جلسة تعارف جمعت الأسرتين تبادلنا فيها الحديث
الخلوق، لمحت فيه ما يشبه أبي، لم يكن بالرجل
الكاهن، كان مؤمنا، وإيمانه بسيط ولكنه عميق.

لمست فيه صدق الحديث، وبعدها بفترة لا بأس بها
تمت خطبتنا، وأقمنا نصف إكليل بالكنيسة الإنجيلية التي أنتمي إليها، أما منير فكان ينتمي إلى طائفة
الأرثوذكس، وبعد ما يقرب من ثلاثة أشهر كان زواجنا.

كان زوجي منير يملك حسا مرهفا يكتب قصائد
شعرية، وينشرها في جريدة آفاق فهو رئيس تحرير
الجريدة.

اختلفت طبيعتنا بعض الشيء فأنا لا أقرأ إلا في
الكتب المقدسة، والقليل من الفلسفة، وأرى أن أي قراءة أخرى غير مجدية لحياتي، أما هو فكان يهوى
الإطلاع في الآداب هذا إلى جانب الأخبار اﻻجتماعية
والسياسية والرياضية، وأخبار الساحة التي تفرضها
عليه طبيعة عمله في الجريدة.

بعد زواجنا كانت حياتنا أشبه بحياة الرهبان في الأديرة إلا القليل من متاع الدنيا وزخرفها، وكانت لي الكلمة
السائدة في حياتنا حتى عندما أنجنبنا طفلينا باسم
وباسمة وقع اختيار اسميهما علي.

أردت لطفلي حياة دينية كاملة، وحرصت على تنشئتهم تنشئة دينية عميقة في شكلها ومضمونها؛ لذا
ألحقتهم بـ(كورال) الكنيسة الذي يقام يوم السبت.

كانت حياتنا الخاصة متحفظة حرصا مني على نقائها
بحيث لا ندنو بأنفسنا إلى شهوات النفس، وتطغى
علينا أهواءنا، حتى أني جعلت لها وقتا محددا على
فترات متباعدة، وبمرور الوقت، ونظرا لانشغالي بأمور المنزل، وعملي كـ (مبشرة) تباعدت الفترات بيننا.

ورغم أنه كان يحملنا سرير واحد إلا أني عزمت على
الأمر، وكنت صارمة في قراري، وطبعا ما راق هذا
لزوجي، فهو لم يكن مثلي في تحفظي.

كان بشرا عاديا لا يختلف عن الآخرين، إيمانه راسخ،
ولكنه يمارس الطقوس الحياتية المألوفة بين أي
زوجين.

حاول مرارا أن يناقشني في قراري، وأنه أمر مشترك
بيننا لا يصح لأحدنا أن يفرض رأيه، ولكني ما كنت
أسمع، تعودت ألا أتنازل عن قرار يخص مبادئ إيماني
تحت أي مبرر.

أراد أن يخبرني أن ما بيننا وليد اللحظة، وليس مجرد
عملية تخضع لوقت وحساب، وما كنت أصغي، ويبدو
أن تمسكي بإيماني كان هو الحاجز الذي باعد بيننا.

وبمرور الأيام قال لي زوجي:

ـ مادام أن إيماني لا يرقى لإيمانك فالأولى أن ينام كل واحد منا في غرفة مستقلة فهذا أفضل لقداستك.

صدمتني كلماته، لم أتوقعها منه، واستاءتني لهجة
السخرية التي خاطبني بها.

صمت للحظات أحس بشيء يؤذي كرامتي، جاوبته
وأنا أحاول أن أتماسك نفسي:

- لك ما تشاء، ربما هو أفضل كما تقول.

ـ صدقا أول مرة تقرين لي فيها بشيء أبادرك أنا به.

- ربما لأنه كان شيئا يدور بصدري، ولكني تأخرت في
مصارحتك به، وها أنت تسبقني إليه.

ـ كان يدور في صدرك، منذ متى؟!.

- لا أذكر.

ـ لِمَ أشعر بأنك غريبة؟!. ما اعتدت منك أن تخفي شيئا عني.

- لا أخفي شيئا ولكني انتظرت الوقت المناسب، لم
أخطط للأمر، مجرد فكرة طرأت على بالي في وقت
مضى، وطردتها لأنها لم تكن في وقتها.

أطرق رأسه إلى الأرض يقول:

ـ فقط لأنها لم تكن في وقتها، لا يوجد أي شيء آخر.

وكأن شيئا ما خطر على باله أغفله سابقا.

- ماذا تعني منير؟ لا أفهم ما ترمي إليه.

ـ لا أبدا لا عليك أيتها القديسة.

- لا تنعتني قديسة، فلست كذلك.

سادت فترة صمت بيننا ثم عاودني الحديث قائلا:

ـ ماذا سنقول لـ باسم وباسمة خاصة البنت، تعلمين
مدى حساسيتها.

- أعلم أنها تشبهك سأقول لها ما ينبغي أن أقوله.

ـ هل لاحظت عليها أي شيء غير طبيعي مؤخرا؟.

-لا لم ألاحظ شيئا، فهى على ما يرام ليس بها ما
يستدعي القلق.

ـ هل أنت واثقة من كلامك؟.

- بكل تأكيد ليس بها شيء يذكر.

ـ أرجو ألا يكون انشغالك بكيانك المقدس حجب عنك أخطاء أبنائك.

- لِمَ تحاول أن تثير القلق في نفسي؟ ما بها؟.
صارحني.

ـ صدقيني لا أعرف، ربما لا شيء، أراها على غير عادتها، فقط لاحظت تغيرها.

- ربما أنك تبالغ، فمن طبعها الهدوء.

ـ فقط أحببت أن ألفت نظرك إلى أننا بشر ولسنا
ملائكة، لا يعني التزامنا أنه لا يحق لنا أن نخطئ.

خرج من البيت في صمته، وأغلق خلفه الباب بهدوئه
المعتاد، وكأنه يقول لي في سلام:

-لقد انتهى.

أقلقني أمر ابنتي، أخذني مما دار بيننا، هل يحاول أن
يهز ثقتي بما غرسته فيها فقط ليشعرني بفشلي؟.

ذهبت في تردد إلى غرفة ابني باسم لأطمئن عليه،
كان جالسا ببرائته المعهودة، يرسم على ورقة بيضاء
أسرتنا، أثارني ما رسم، كما أخافني.

رسم والده ينظر في استعطاف، ورسمني أنا واقفة
أمام لوحة (مريم المقدسة)، ورسم باسمة جالسة
القرفصاء، تنظر إلى أسفل تتشابك أصابعها.

سألته في جزع:

- ماذا تعني لك هذه الرسومات؟.

فقال لي بتلقائية:

- أليس هذا هو حالنا؟.

أبي دائما دائما يسألك و أنت لا تهتمين؛ فأنت
مشغولة دوما عنا بإيمانك الذي لا ينتهي، وباسمة
في انطوائها الدائم واغترابها عنا.

خرجت من غرفته أضع أصابعي على شفتي، كيف
لصبي في مثل عمره أن يفكر بهذا الشكل؟.

ودون أن أشعر وجدتني أتجه إلى غرفة ابنتي باسمة،
وكانت في ذاك الوقت في درسها الديني في
الكنيسة مساء السبت.

جلست على مقعد مكتبها، وأخذت أتصفح أوراقها،
فوجدتها تكتب جملة وتكررها، كانت هذه الجملة آية من الإنجيل، كتبت:

"من كان منكم بلا خطية فليرمها أولا بحجر".

شعرت بدوار، وخرجت مسرعة إلى غرفتي مشوهة
الفكر أقول في نفسي:

-أي خطيئة تتحدث عنها فتاة مازالت في سن الصبا؟!.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي