الفصل الثالث

الفصل الثالث

(لقاء بلا موعد)

في ليلة من ليالي هاتور كان الجو باردا تتصاعد من
الأفواه الأبخرة البيضاء، ترسم على وجه السماء سحبا مثقلة بهموم البشر، ونسمات الهواء اللاسعة تداعب خدي المتورد.

كانت الساعة لا تزال السابعة مساء وأنا أجوب
الطرقات الفارغة من الناس إلا القليل، شعرت بشيء
من السكينة وهدوء النفس، كنت أمشي دون أن
أدري إلى أين أصل، كل ما أحسسته أني أريد أن أخرج من منزلي.

فعندما تأملت من شرفتي أجواء الشتاء شعرت برغبة ملحة في أن أنزل إلى الشارع، فغاية متعتي أن أتجول وسط الطرقات، أشاهد التغيرات التي تطرأ على
الأحياء، وكأنها تذكرني بالأشياء التي تعترض خطوات حياتي.

فكم من معاناة مررت بها، وكم من ابتسامة كلما
تذكرت هذه المعاناة التي رحلت عني، ولم تترك لي
سوى ذكرى وابتسامة، قد تكون الابتسامة صافية
خالية من شوائب علقت بها جراء ما مررت به، وقد
تكون مازالت في شوائبها، ورغم ذلك أبتسم لها
يكفي أني خرجت منها وأنا أبتسم.

ظللت أعبر من طريق إلى آخر بلا هوية، أتأمل أبنية
الشوارع، لاح لي محل سمك الخليل الذى ينتصف
شارع الكورنيش، تفوح منه روائح الأسماك المطهوة
بنكهة الخضروات، تخترقني رائحة البخار المتصاعد
من شوائها، كم هى لذيذة!

قررت أن أذهب إلى المطعم أتذوق قطعة من السمك المشوي مع طبق من الأرز الأبيض وكوب شاي كبير ساخن.

كنت أجلس في واجهة الزجاج الذي يكشف لي المارة في الشارع من أمامي، أنظر إلى الناس أرى الأصدقاء
يتشابكون، يضحكون، يداعبون الهمسات فتأبى إلا أن تسعدهم بمرحها.

هذا الطفل الصغير يصطنع البكاء يتعلق بأصابع أبيه
في عناد، يشاكس رغبته في ألا يستجيب له ولكنه
يصر، فيشد يد أبيه، ويأخذ به إلى بائع حلوى غزل
البنات؛ ليجلب له واحدة ملفوفة برقة وانسيابية على عصاها تتطاير شعرات منها مع أنسام الهواء فينظر
إليها الطفل ويضحك ضحكته الحلوة بملء فمه،
ويبتسم له الأب، ويبتسم معهما بائع الحلوى،
وأبتسم أنا أيضا لأجل بسماتهم.

هذه القطعة الهوائية استطاعت أن ترسم الفرحة
على ثلاثة أوجه في آن واحد، غريب هو حال البشر
يبتسمون للشيء البسيط رغم ما يحملون من أوجاع
بداخلهم.

فكما علمت عن العم عاطف بائع الحلوى الذي
استطاع بهذا الشيء الهزلي أن يسعد قلب طفل
صاحب قرار، اتخذ قرارا بسيطا في وقت قليل، وسعى
لتنفيذه حتى نال ما أراد، أطفال ولكن.

كان عم عاطف يعاني مرضا في الصدر لم يمنعه من
الخروج في هذا الوقت القاسي وبيع حلواه، أصبح عم
عاطف بحلوته من أطلال المكان، يقصده الناس
للاستمتاع بالحلوى، إن غاب افتقد المكان روحه، وخلا الجو من حلاوته.

كلما نظرت إلى هؤلاء الأشخاص قلت في نفسي:

-ما أبسط هذه الحياة!

نظرتنا إليها هو ما يجعلها أكثر تعقيدا، لو أننا تركنا
الأحداث تمر علينا دون أن نستوقفها كثيرا، دون أن
نحيل الحدث إلى حكايات مصطنعة؛ ليكون الموقف
الواحد درسا دراميا لسلسلة متواصلة من التراجيديا
المؤسفة.

على جواري الأيمن يجلس رجل يبدو من هيئته أنه قد بلغ الأربعين من عمره، أو تجاوز قليلا، يعلو شعره
الأحمر بعض الخصلات البيضاء، يتناول عشاءه، وبين
اللقمة والأخرى تنهيدة ونفس عميق.

كان شارد البال يهيئ لك من اللقيمات التي أكلها أنه ما أكل شيئا، ووراء كل مضغة يشرب رشفة ماء، ما
كان في المطعم إلا أنا وهو فقط.

دخلت إلى المطعم امرأة ترتعد من البرودة، امرأة
فارعة الطول، نحيفة، ترتدي معطفا بنيا داكنا من
الفرو، خلعت معطفها ووضعته جانبا، بدى على زيها ملامح الأناقة الشتوية القاتمة، جلست منفردة، إذا
نظرت إليها ترى وجها راضيا ينم عن بسمة وإن لم
تبتسم.

أشارت إلى النادل ليحضر لها العشاء، دون أن
تدري وجدت نفسها مشدودة إلى الرجل ذي اللحية
الحمراء، لاحظت حالة السكون المسيطرة عليه حتى في تناوله لطعامه، وفجأة رفع إليها نظره، و كأنه
أحس بها، شعرت نظراته لها؛ فارتعشت خجلا، حاولت أن تشغل نفسها بحقيبتها فأخرجت منها منديلا
ورقيا.

بدأت تتناول طعامها، وهى تنظر خلسة إليه على غير
إرادة منها، وكأن شيئا ما يسيطر عليها، ويجذبها
لتفقد أحواله التي تبدو على وجهه.

ترتبك في نفسها، وتركز في طعامها، تتناسى أمره،
لا تدري لِمَ هذه الجاذبية إليه؟. والأغرب أن بسمتها
العفوية قد انتقلت لتستقر على وجهه، ما شعر
الاثنان بوجودي، وكأنهما فقط في المكان أو هكذا بدى لي.

كان المكان خاليا من الناس إلا أنا وهما، يبدو أن
الوحدة هى ما دفعت بهما للخروج في جو هكذا،
ليلة قاسية باردة وأعتقد أنه سبب كاف يمنع أحدا من
الخروج خشية سقوط الأمطار، فالسماء ملبدة
بالغيوم.

استغربت تواجدهما، وكأن الأجواء خلت من الحياة إلا من حياة أرادت أن تجمع بينهما، كان يخيم على
المكان الكآبة والسكون حتى أني ظننت أننا في
انتظار هطول الأقدار.

بعد أن انتهيت من عشائي حملت حقيبة يدي وخرجت أتبطأ في خطواتي، أشعر بعدم رغبتي في العودة إلى
البيت، فكرت أن أذهب إلى مقهى سلسبيل لتناول
فنجان من القهوة، أردت السهر لأستمتع بأجواء
الليلة، وما تحمله من غموض.

أحب مقهى سلسبيل فهو مقهى متواضع يطل على
نهر النيل، أجد به الأنس الجميل، أهل الأدب والفن،
له رونق خاص رغم بساطته وطابعه الشعبي، محال أن تشعر فيه بوحدتك ولو كنت جالسا بمفردك، ستعبر
إلى قلبك أصوات الآخرين بنبرتها الطنانة، همسات
ندية لقصائد ملقاة وكل ما تنشده من طرب.

هناك يجلس أستاذ منير على مقربة من النيل، يبدو
عليه أنه مهموم، سأذهب إليه لعلي أأتنس به.

ـ مساء الخير أستاذ منير.

- مساء النور رحاب، أهلا تفضلي، اجلسي.

ـ أول مرة أراك هنا، خير إن شاء الله.

- نعم أول مرة لي هنا، نادرا ما أخرج من بيتي في فترة المساء، يبدو أن المكان سيروق لي.

ـ هو فعلا مكان أصيل، دافئ.

- أراك اليوم على ما يرام رحاب، على غير ذاك النهار كنت عنيدة للغاية.

ـ أنا حقا أسفة، ولكن.

عاودني شعوري بالأسف تجاه هند عندما ذكرني بذاك اليوم، وأنا التي جاهدت نفسي لأنسى ولكن دون
جدوى.

عاودني كلماته المرهفة قائلا:

- ما بك رحاب تكلمي، أولا دعيني أطلب لنا فنجان من القهوة، معها نشعر بالدفء فالجو يزداد برودة.

ـ شكرا لك أستاذي الفاضل، ولكن هذا واجبي أنا،
المكان مكاني، وهى أول مرة لك هنا.

- لا شكر على واجب رحاب هذه المرة علي والمرة
القادمة عليك، لا فرق بيننا.

ـ هكذا أنت أستاذ منير دائما ما تحرجني بذوقك.

- هيا قولي لي: ما الأمر؟.

ـ أتذكر تلك الأوراق التي حطمتها برفضك لنشرها.

- لا تبالغي رحاب، طلبت منك تأجيل النشر لتزاحم
الأحداث على الساحة، والخبر البائت يفقد جاذبيته.

ـ كنت أرغب في نشر مقالا أدبيا لم يكن لي ولكنه
لـ هند هذا ما أهمني.

قال وكأن صوته امتزج ببرودة الجو:

- من هى هند؟.

ـ أختي التي تكبرني، تهوى الكتابة خاصة في مجال
الأدب.

- لم تكلميني عنها مسبقا، فكيف لي أن أعرف؟.

ـ لا أحب أن أستعطف أحدا.

- استعطاف! لا أفهم، ولِمَ الاستعطاف أصلا؟. لأجل
من؟. أنت معتادة على مثل هذه الأمور في مجال
عملنا.

ـ ولكن.

- ما لك رحاب؟. تكلمي من فضلك.

ـ سأقول لك وأمري إلى الله.

- بربك رحاب لقد أثرتني، احكي ما الموضوع؟.

-الحكاية أستاذي الفاضل منير: أن هند أختي للأسف تعرضت للإصابة بالحمى وهى صغيرة، فقدت معها
قدرتها على الحركة، وألزمتها كرسي متحرك، ظلت
حبيسته طيلة حياتها.

- تابعي فأنا أستمع إليك.

ـ هند إنسانة حساسة للغاية ترفض أن تخرج إلى
الآخرين حتى لا ترى نظرات الشفقة والعطف في
أعينهم، وهو ما ترفضه تماما.

- إنسانة مرهفة الحس مثلك رحاب.

ـ لا أستاذي بل أنا التي مثلها، المهم أغلقت هند على نفسها، واعتبرت غرفتها مملكتها الخاصة، وهبها
الله ملكة الكتابة، أثقلتها هى باطلاعها في الآداب، كتبت عدة مقالات أدبية.

أحببت أن أدخل إليها السرور، وأجعل من مقالاتها
الساكنة على مكتبها أن تنبض بالحياة، فكرت أن أنشر لها مقالا في جريدتنا، وأخبرتها بذلك.

فرحبت، وكانت في منتهى السعادة، وكأنها تصالحت مع الحياة، ولكني عدت إليها للأسف بخيبة الأمل،
وخفت عليها أن تفقد ثقتها بنفسها، وتتوقف عن
الكتابة، وتخسر أملها في الحياة.

كان ينصت باهتمام وكأني أحكي له رواية مأساوية
لبطلة في قصة ما ثم قال لي بشغف:

- وماذا حدث بعد أن علمت بالأمر؟.

ـ لم أكن أتوقع أن تتقبل الأمر بهذه البساطة، فبدلا
من أن أطيب أنا خاطرها، وجدتها قوية متماسكة،
وكأن شيئا لم يكن.

- لِمَ لم تخبريني رحاب؟ ربما اختلف الوضع.

ـ لا أعرف نصيبها يبدو أن الفرح لن يعرف لها طريقا.

- لا يا رحاب لا تقولي هذا، فالأمل دائما موجود.

إن لم نقدم نحن الكتاب الأمل لغيرنا، ونسعى لرسم
البسمة على الشفاه فأي قيمة لعملنا؟ وأي هدف
نكتب لأجله؟.

ـ أنت على حق ولكن ظروف العمل تقضي بأشياء خارج إرادتنا.

-علينا رحاب أن نطوع العمل وفق إرادتنا.

ـ بمعنى.

- سنعيد تنسيق الجريدة بشكل يسمح للآداب أن تأخذ حقها في النشر.

ـ رائع أستاذ منير ، غير معقول.

- ما هو هذا غير المعقول؟ كل شيء ممكن ومعقول.

ـ أقصد أن ما اقترحته هو بالضبط ما قالته هند، لقد
اقترحت علي أن نعيد تنسيق الجريدة بدلا من التناوب
بين الموضوعات.

- جميل، إذن اتفقنا، فلتكن مشيئة الله، أحضري لي
غدا مقالة هند وسوف أهتم بها.

ـ لا أعرف كيف أشكرك أستاذ منير، أنت لا تدري كم
يعني هذا لأختي هند.

سادت بيننا فترة صمت، انتهينا فيها من شرب
القهوة.

قلت له و أنا ألمح عليه شيئا ما أشبه بالصرخة
المكتومة:

ـ مالي أراك مهموما هكذا لعله خير، كلنا لدينا في
حياتنا غصات، عليك بالابتسامة فهى أفضل الحلول
للتغلب على ضيق النفس، فقط ابتسم ليس أكثر.

لم يرد علي، وظل شاردا يتأمل نهر النيل، يفكر وكأنه
على وشك اتخاذ قرار.

قال لي وهو يتكلف ابتسامته:

- لا تبدأي أيتها الفيلسوفة، من أين لك بهذه
الحكمة؟. يبدو أن قراءاتك في الفلسفة غرك في
نفسك، وصور لك أنك تملكين الحلول.

ـ وهو كذلك أستاذي، أليس من الحكمة تتكون
الرؤى وينضج العقل؟.

- أتعلمين رحاب؟. أنا أفكر في إعداد صفحة خاصة
لعرض مشاكل القراء والرد عليها يمكنهم أن يرسلوا لنا عبر بريد القراء، ونقوم بنشر المشكلة والرد عليها، وأعتقد أنك أنسب من يقوم بهذا العمل، أراك تملكين الموهبة، فالرد المقنع منحة خاصة تتطلب مرجعية
جيدة، وهذا ما أجده فيك.

ـ ممكن أطلب منك طلب، من فضلك لا تخيب رجائي.

- تفضلي رحاب، أمرك فيلسوفتنا، أنت اقترحي، وأنا
على التنفيذ فورا.

ـ لا تزد من إطرائي حتى لا أزداد غرورا كما لمحت
سابقا.

- أنت لا تتركين شيئا يمر بسلام لديك تركيز عال رحاب، لا يمر عليك أمر دون أن تنظري فيه، هل أدركت لِمَ أنا
اخترتك؟ لأنك تهتمين حتى لأصغر الأمور.

ـ من بعض ما عندكم أستاذي الفاضل.

- أخبريني بم تريدين رحاب.

ـ هند.

- هند هند هند ما عندك غير هند، كل هذا الحب
لـ هند.

ـ إنها حقا تستحق كل تقدير لو أنك تعرفت إليها
لأدركت ما أقول.

- لا خلاف أتفق معك تماما، ما بها هند؟.

ـ أريد أن تقوم هى بالرد على بريد القراء، فهى أجدر
مني، أريد أن أقدم لها عملا يليق بشخصها، وهى تميل إلى مثل هذا النوع من الأعمال.

- ولكن رحاب كيف؟!. هل تقترحين أن يكون لها
مكتب في الجريدة أم تقوم بالعمل من البيت؟!.

ـ لا يهم أستاذ منير كما تشاء فالأمر لك، هل تعطيها فرصة؟.

- نعم وأنا متحمس، ولكن بشرط.

ـ ما هو؟.

- أن يكون تعليقها على رسائل القراء بدون توقيع
ويتم في البيت، إن أثبتت نفسها واستطاعت أن
تكتسب ثقة القراء أجعل لها مكتبا خاصا بها في
جريدتنا، وأمنحها التوقيع أسفل الردود، أتوافقين؟.

ـ أوافق، وهذا حقك، وأشكرك على هذه الثقة، أعلم أن هند ليس لديها الخبرة الكافية في مجال عملنا،
ولكني أؤكد لك أنها تملك الموهبة وينقصها الخبرة، والخبرة لن تأتي إلا بالتفاعل و النزول إلى الساحة.

- و هو كذلك، أمهليني وقتا لإعداد رسم تخطيطي
لشكل جريدتنا الجديد، ستكونين راضية تماما.

ـ أستاذ منير أؤكد لك أن هند أفضل مني بكثير،فأغلب أرائي تعلمتها منها، لديها هبة ربانية لاحتواء الغير،
وتفهم ما بهم، والتعامل مع مواقفهم.

- شوقتني لرؤية هند، كما أني أحسد هند على أخت
مثلك.

ـ سيكون إن شاء الله، ولكن أجدر بك أن تحسدني أنا
على وجود هند في حياتي.

ضحك ضحكة عالية ثم انقطع صوت ضحكه، وانتهى
إلى فراغ عميق، لم أحاول أن ألح عليه بسؤالي يبدو
أنه لا يريد أن يتكلم فهذه عادته كتوم للغاية.

***
(خروج آخر للحياة)

ووضعت وردتها الذابلة على صخرة صماء على شاطئ
البحر، فعلت الأمواج و ثار البحر هائجا، خرج عن
حدوده ليعلو فوق الصخرة ويأتي بالوردة الذابلة إليه،
تراها تسبح بعيدا على سطحه، تتقاذفها الأمواج
المتلاطمة؛ لترحل بها على مرمى البصر إلى أن غابت عن عينها.

نظرت إليها في جمود تحدق بالبحر الواسع وكأن
الموج أخذ معه زهرة حلمها ورحل،تساءلت بينها
وبين نفسها: لِمَ تركت وردتي ولِمَ الآن أبكي عليها؟!.

توقفت هند قليلا عن الكتابة، وأخذها تفكير عميق
وكأنها تتذكر موقفا مشابها لما كتبه قلمها.

وبعد فترة عادت إلى رشدها، وشعرت بإحساس غريب،
إنها تكتب قصة، وتشعر بأنها تخط جزءا من ذاتها
على هذه الصفحات البيضاء، ولكن سواء أكانت
القصة تشبهها أو تجسدها فهى تشعر بفرحة تخالج
نبضاتها فرحة تشبه فرحة الأم بأول مولود لها بعد أن غاب عنها طويلا.

كانت قصة امرأة تبحث عن ذاتها أول قصة لـ هند تفرغ فيها مكنوناتها، وتعبر عن نفسها، وتجد فيها دنيتها التي صنعتها من محبرة قلمها وأوراقها، الروح التي
لطالما غابت عنها، وظلت تبحث لتجدها، ولكنها لم تصادفها إلا عندما بدأت كتابة قصتها.

خرجت هند إلى نافذتها بعد أن أزاحت عنها ستائرها، جلست إلى الطاولة الموجودة بها، نظرت إلى السماء نظرة امتنان، أخذت تنظر هنا وهناك وهى تبتسم في
نفسها والبسمة ترتسم على شفتيها، وضعت يديها
على صدرها تحاول أن تخمد نبضات قلبها المنتفضة،
داعبت أزهارها البيضاء بأطراف أصابعها واستنشقت
رحيقها.

حلقت فراشة وردية اللون بين الزهور، وأخذت تنتقل
من زهرة إلى أخرى بمرح ودلال، طاردتها هند بيدها
تحاول أن تمسك بها ولكنها ما استطاعت فالفراشة كانت تحلق بخفة وانسيابية.

ضحكت هند ضحكة طفلة تلهو ضحكة تنم عن سعادة داخلية آتية من إحساسها بالرضا، كانت نسمات
الهواء تداعب خصلات شعرها المنسدلة على جبينها عندما سمعت طرقات هادئة تدق على الباب.

اتجهت هند إلى الباب لتفتحه، وإذا بشخص طويل
القامة يقف أمامها شخص لا تعرفه ولكنها تألفه،
ملامحه ليست غريبة عنها هكذا شعرت في نفسها
عندما نظرت إليه تنتظر حديثه ولكنه لم يتكلم وظل صامتا.

استغربت هند من موقفه، وقالت في بالها:

-ربما أخطأ العنوان.

لهذا بادرته الكلام قائلة:

- هل من خدمة؟.

- أسأل عن الأستاذة رحاب.

- ومن تكون؟

-أنا الأستاذ منير رئيس تحرير جريدة آفاق التي تعمل
بها رحاب.

- أهلا أستاذ منير.

- أعتقد أنك هند.

- نعم تفضل بالدخول.

وبعد عدة خطوات مترددة قال بصوت هادئ:

- أعتذر عن زيارتي المفاجئة.

- لا داعي للاعتذار فلك من الاحترام ما يجعلنا نثق بك.

- شعرت بالقلق من غياب رحاب كما أني أعلم بأنها
تسكن بالقرب من الجريدة لهذا قررت أن أمر عليها
في طريقي لأسأل عنها.

- رحاب ليست موجودة الآن خرجت لتحضر لنا بعض
الأغراض.

- أحببت أن أطمئن عليها فربما حدث لها مكروه
اضطرها إلى الغياب.

- حقيقة ليس هناك شيئا غير أنها أرادت أن تقضي
معي اليوم منذ فترة طويلة لم نجلس معا.

- حدثتني عنك رحاب كثيرا.

- وحدثتني عنك أيضا.

- لديك موهبة مثقولة في الكتابة.

- الكتابة عالمي أنا الآن أكتب أول قصة لي.

- عظيم، وما اسمها؟.

- امرأة تبحث عن ذاتها.

سادت بينهما فترة صمت حائرة مترددة إلى أن قطعت هند هذا الصمت بقولها:

- أعرف أنك تحب شرب القهوة سكر زيادة.

- شكرا لك لا تشغلي بالك فقد تناولت قهوتي في
المكتب.

- هو واجب الضيافة ولا يمكن أن أتخلى عنه.

- كما تشاءين.

ذهبت هند إلى حجرة مكتبها وأحضرت بعض الأوراق، ناولت هند الأوراق للأستاذ منير، وقالت له:

- إليك بعض قصتي لتقرأها إلى أن أحضر لك القهوة، تفضل إلى غرفة الجلوس.

- اسمحي لي أن أجلس في حجرة المكتب إن لم يكن
لديك مانع.

- لا أبدا، فأنت أهل بيت.

اصطحبت هند منير إلى حجرة مكتبها، وانصرفت
لإعداد القهوة.

كانت هند تشعر بحرج قليل من وجود منير في البيت، فما اعتادت منذ زمن بعيد أن تلتقي بأحد أو تنفرد به،
وأغلب لقاءاتها مع الآخرين نادرة، ولا تحدث إلا بوجود رحاب.

دخل منير إلى غرفة مكتب هند، وجلس إلى مكتبها
الخشبي، ونظر إلى محتوياته، فعلى يمينها توجد
مقلمة خشبية بألوان بنية مموجة بها مجموعة
أقلام، وعلى اليسار برواز يحمل صورتها هى ورحاب
بجانبه منبه لونه أبيض محفور عليه صورة فتاة في
هيئة ملاك.

وفي منتصف المكتب ثلاثة كتب، كتاب في الأدب،
وآخر في الفلسفة، والثالث رواية مترجمة، هذا
بالإضافة إلى بعض الأوراق مكتوب عليها مقولات
فلسفية غير مفهومة كأنها تجسد شيئا ما، أو تعبر
عن حالة ما.

بدأ منير يتصفح الأوراق التي ناولتها إياه هند، والتي
تمثل جزءا من قصتها، وجد منير نفسه مستغرقا في
القراءة لما وجده في أسلوبها من جاذبية حزينة تسلب الوجدان يقظته لترحل به في دنيا غير دنياه.

توقف قليلا عن القراءة، وسرح بخياله إلى هند
يستغرب نفسه، يستغرب هذا الشعور الذي حل به
بمجرد أن رأها أمامه، يتساءل عن هذه الجاذبية التي
لمحها في عينيها عندما التقى بها ينظر إلى طلتها
التي أصابت قلبه بوخزة مفاجئة لم يكن يتوقعها؛
فأسرع قلبه في دقاته دون توقف بطريقة ألجمته عن
الكلام، ولكنه قال في نفسه:

- ما هذا الجمال الذي يسكن هند؟! أي فتاة رأيتها
هنا؟!.

حرمتها الطبيعة من الحركة، ولكنها فاضت عليها
بجاذبية وتفرد، بريق عينيها الدامع أشبه بندى وردة
تنظر إلى أسفل حتى لا يرى أحد حزنها، وردة خجولة
تغلق على نفسها رغم تفتح ورقها وانتشار عبيرها،
لقد ظلمت نفسك ياهند، لِمَ خبأك القدر عني؟! و لِمَ
ظهرت الآن؟!.

فاق منير من شروده على صوت هند المبحوح تقول له:

- أستاذ منير القهوة، أراك شاردا، خير إن شاء الله.

- أخذتني كلماتك الرائعة.

نظرت هند إلى أسفل تشعر بالخجل ظلت صامتة لم
تقو على النطق، عاود منير حديثه قائلا:

- هند أنت مبدعة لك إحساس فريد، أليس من الظلم
أن تحرمي القراء هذا الابداع؟!. وتحرمي نفسك الوجود في عالم القراء.

- لا أعرف أشعر بالتخوف من أمر النشر.

- أعطي نفسك فرصة، واتركي لكتاباتك حيزا من
الوجود، وبعدها احكمي على الأمر.

- الحياة الحياة ما أقسى حياتي!.

- وما أجملها! إذ أعطتك كل هذا الابداع الذي ليس
لسواك، ربما أنها قست عليك ولكنها عوضتك، فلِمَ
تقسين أنت على نفسك؟!. لم تكن صدفة عادية أن آتي اليوم لزيارتكم.

- لا أفهم.

- لقد أتيت إلى رحاب لأناقشها في أمر جريدتنا التي
سبق لنا أن تناقشنا فيه، ولقد وعدتها بأني سأنظر في الأمر، وأعيد بناء الجريدة، ولكني عدلت عن الأمر إلى
أمر آخر، وأحببت أن أطلعها عليه، ولمَّا لم تأت قلت
أذهب إليها وأناقشها.

- وما هو الأمر الذي عدلت عنه؟.

- كنت قد وعدتها بأن أخصص عمودا للأدبيات في
الجريدة ولكني توصلت إلى فكرة أفضل.

- وما هى؟

- أن أسس مجلة أدبية صغيرة ملحقة بالجريدة أفرد
فيها للأقلام الأدبية الموجودة بمكتب الجريدة،
وللقراء، وللموهبين، ويبدو أنك ستكونين أول قلم
مميز لمجلتنا الأدبية المتواضعة.

سكتت هند تفكر، كأن الحقيقة قلبت خيالا، دار في
ذهنها سلسلة من اللامعقول ودون أن تدري
همست:

-غير معقول.
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي