الفصل الرابع

الفصل الرابع

(مواجهة غير منتظرة)

تعود منير كل مساء أن يجلس في غرفة مكتبه الخاصة بمنزله، غرفة تشبهه كثيرا في هدوء ألوانها، وبساطة أثاثها، فالأثاث الكلاسيكي فيها يوحي بالعهد
القديم، وكأنك رجعت بالزمان إلى الوراء حيث زمن
الجيل الأصيل بطابعه الفريد، ورونقه البديع، تميزه
تلك المسحة من الأناقة العتيقة.

فحينما تفتح باب الغرفة تشعر بأنك دخلت إلى فترة
الستينيات مع قليل من الحداثة التي تواكب تطور
العصر، ولكن يبقى هناك شيء أصيل يسيطر على
المكان.

اعتاد منير في المساء أن يجلس إلى مكتبه يقرأ في
كتبه، ويكتب في أوراقه، كانت الأوراق تعبر عما يدور
بداخله من أفكار وقيم ومعان استنبطها من خلاصة
قراءاته في مختلف أنواع الكتب.

في هذه المرة لم تكن قراءته في كتاب، وإنما في
نفس التقى بها على حين غفلة؛ فأثرت فيه، شيء ما
توقع أن يصادفه في حياته.

ربما قرأ عنه أو تخيله لكن أن يجده في الواقع فهذا ما أثار فكره لأن يرحل بعيدا فيه تصاحبه حالة من
الذهول والإحساس بالحسرة.

شعر برغبته في أن يكتب في هذا الشعور المخيف
الذي اجتاحه، وأفقده السيطرة على أن يوقف هذا
المد من الخواطر التي انهالت عليه، فلم يجد بدا من
أن يفصح عما يجول بذهنه، وتضطرب له نبضاته.

أمسك بقلمه الحبري حاول أن يكتب شيئا ولم
يستطع؛ فالتعبير يخونه رغم امتلاء نفسه بمعان لا
حصر لها، حاول ثانية ولم يستطع؛ فتوقف قليلا يسند رأسه على أطراف أصابعه يعود إلى أوراقه.

أخيرا يكتب عليها اسمها هند هند هند، ويكرر الاسم أكثر من مرة إلى أن تمتلئ الصفحة بكلمة واحدة وهو اسمها الذي علق به عقله.

فمنذ أن خرج من عندها وشيء خفي في داخله يردد
اسمها هند هند هند، وعين لا ترى إلا ثلاثة أحرف
تغلفها روح محلقة في سماء صدره الملتهب لعارض
اسمها على خياله بين الحين والآخر.

بدأ قلمه يطاوعه، ويستجيب لنداء فكره، وأخذت
الأحرف تنساق بين أسطره.

غير معقول أصحيح أني صادفت الحب الذي أقرأ عنه
في الروايات؟!. ولكن للأسف يبدو أن الأشياء الجميلة في الدنيا لا تصل إلى درجة الكمال، لابد وأن يكون بها ثغرة ما تنحدر بها عن درجة المثالية.

طبعا لا أقصد عجزها لأن جمالها وعقلها كانا كفيلين بأن يطمسا أي عجز بها، ولكن الأسوء هو..

آه يا ربي! أن نختلف في الرأي أمر هين، أن يكون أحدنا عاجز فليس بالشيء الذي يذكر؛ لأن الحب كفيل بأن يُغمض العين عن مصائب الدنيا بل قد يحيلها إلى
قيمة تُعلي من شأن صاحبها، ولكن أن يكون
الاختلاف في الدين فهذا هو المستحيل بعينه.

كيف سيكون مصير هذا الحب؟!.

من المؤكد أنه سينجرف بنا إلى حيث لا نعلم،
وستكون العاقبة غير محمودة، و بِمَ سيصف الآخرون
مثل هذا الحب؟!. هل لهم أن يتفهموا؟!.

كل شيء يهون في نظرهم إلا أمر الدين، فكم منهم سيصب غضبه علينا، وينصب من نفسه حاكما يُفتي
في أمرنا دون أدنى اهتمام بهذه المشاعر البريئة التي أتت على غير إرادتنا.

ومن يمكنه أن يفهم مادمتُ أنا المحب الولهان لم
أستطع إدراك هذه الحالة التي أعيشها، وما كانت في يوم تخطر على بالي.

ولكن هل الحب يعرف حدودا أم عليه أن يتجاوز كل
الحدود لكي يكون صادقا؟. ومن صدق الحب ألا تعيقه عائقة مهما كانت قوتها، فعليه أن يصمد إن كان
حقيقيا.

فمن المستحيل أن يتعارض الدين والحب، وقد علمنا
الدين أن الحب من أسمى قيم الحياة إن أحسنا فهمه، فـ الله محبة، وأمام هاتين الكلمتين تنهار كل القيود، ويبقى الحب فضيلة القلب، ومخلص الروح.

غريب أن أتحدث عن شعوري بهذه القوة، وأصف
مشاعري بأنها الحب، فما كان لقاؤنا غير مرة، كيف
أحكم على ما أصابني بأنه الحب؟!. ربما شيء آخر غير
الحب، فما أعرف عن الحب غير تلك العبارات التي
قرأتها في قصائد شعرية حفظتها عن ظهر قلب.

فهل من الممكن أن أحكم على مثل هذه المشاعر
بأنها حب؟!. قد يكون إعجاب، انجذاب.

غير أني أهملت مشاعرها هى، ربما ما أثرت فيها، أو
أعرتها انتباها، لا أنكر أني وجدت في عينيها بريقا
وهى تتحدث إلي، ولكن هذا لا يثبت شيئا.

ربما هى نفسها لم تفطن إلى ما أصابني بمجرد أن
رأيتها، قد تكون فسرت الأمر على أنه نوع من الحرج،
وإن علمت بحالي، فما ظنها بي؟ وهل في حياتها
مجال لأن يقتحمها شخص مثلي؟.

تلك الزنبقة الخجول لطالما تألمت عمرها، فهل أزيد من آلامها بهذا الحب المحكوم عليه بالموت خنقا؟.

و لو افترضنا أنها تبادلني الشعور، رباااه! ماذا عساي
أن أفعل؟.

لابد من لقائها مرة أخرى لكي أتأكد من حقيقة
شعوري، ولأجذم بما أكنه نحوها، ولكن علي أن
أتحرى الحرص حتى لا أفقدها، فمازلت لا أعرف
موقفها مني.

فاق منير من غيبوبته الفكرية التي ملكت عليه كيانه على طرقتين على باب غرفته، وصوت خافت يناديه:

- منير منير.

فطن منير إلى أنه صوت زوجته ماريا وقال في نفسه:

- غريبة ليس من عادتها أن تقطع علي خلوتي،
فلطالما باركت هذه الخلوة، وحافظت على هدوئها
حتى أنها كانت تمنع باسم وباسمة من الدخول علي، والتشويش على أفكاري.

كانت دائما تهيئ الجو المناسب لأقرأ وأكتب حتى
أكاد أشعر أني وحدي بالبيت، فما بالها الآن تخترق
خلوتي.

أجابها بصوت جاد حازم:

- لا أريد لأحد أن يدخل علي الآن.

- لقد أعددت لك فنجان من الشاي فاسمح لي.

أنصت منير لما تقول في استغراب ثم حدث نفسه:

-فنجان شاي.

ثم قال لها حازما:

- ولكني لم أطلب شيئا، ولا أريد أن أتناول شيئا.

-لقد أعددته بالفعل، فرجاء اسمح لي بالدخول.

قام من مقعده، واتجه إلى الباب، ويده اليسري في
جيبه، وفتح باب الغرفة، وتلاقيا، وظلا صامتين لفترة ثم دخلت ماريا، وجلست على الكرسي المقابل لمكتبه،
ووضعت صينية الشاي على الطاولة، وقدمت إليه
فنجان الشاي، وكان في ذاك الوقت قد عاد وجلس
على كرسيه.

لاحظت ماريا أمامه أوراق، وعرفت أنه كان مستغرقا
في الكتابة ثم رفعت فنجان الشاي إلى فمها،
وشربت منه قليلا، ونظرت إليه في تردد وحيرة قائلة:

-أعتذر أني قطعت عليك أفكارك.

-لا داعي للاعتذار مطلقا.

- أراك كنت تكتب، يبدو لي هذا من الأوراق التي
أمامك.

-نعم أكتب في أمر مهم.

-يا ترى ما هو الأمر المهم الذي شغلك إلى هذه
الدرجة؟.

-منذ متى وأنت تهتمين وتسألين؟.

-رأيت على جبينك ملامح الجدية؛ فشعرت بأن هناك
أمر ما أحببت أن أشاركك فيه.

سكت هنيهه يحدث نفسه:

-يا لسخرية الأقدار! ثم قال لها:

-لا تشغلي بالك.

-هل أعجبك الشاي؟ لقد أضفت إليه القليل من
النعناع الأخضر، أعرف أنك تحبه.

-بالفعل كنت أحتاج إلى كوب شاي شكرا لك.

-ولكنك لم تشرب منه شيئا فقط تنظر إليه.

-لا أدري ولكن أستغرب موقفك، ما الذي أتى بك في هذه اللحظة بالذات؟. ما تعودت منك مثل هذا
التصرف.

- ماذا تقصد بمثل هذه اللحظة بالذات؟. كأنك ترنو
إلى شيء.

-لا أقصد شيئا ولكن ما تعودت منك مثل هذا
التصرف.

-أبدا خالطني شعور بأن آتي إليك، وأتعرف إلى زوجي
الكاتب، أحببت أن أراك وأنت تعمل، كيف ستبدو؟.

- هذا كل ما في الأمر؟.

- نعم إنه كذلك، لِمَ أنت مرتاب هكذا؟.

نظر إليها نظرة ثاقبة ثابتة ثم أطرق عينيه إلى فنجان
الشاي، ورفع الفنجان إلى فمه مرة تلو الأخرى إلى أن انتهى من شربه دون أن يتلفظ بكلمة ثم أعطاها
الفنجان وشكرها في جمود وكأنه يقول لها: هيا
اخرجي لقد اكتفيت.

شعرت بدوار أصابها، و أحست معه بعدم اتزان، في
تعبيراته شيء ما جرح إحساسها، يشبه ذاك الموقف
الذي سبق لها أن مرت به، وأحست معه بالمرارة
نفسها، والإهانة بتجاهله لها، وتعمده أن يكون باردا، وقد تسللت هذه البرودة إلى شرايين إحساسها،
فوخزتها بنفضة المحموم عندما يفاجئه المرض.

أعياها كثيرا ذاك الفتور الذي غلف جلستهما، وقبل
أن تصل إلى باب المطبخ، شعرت بيد تلمسها من
الخلف؛ فارتجفت واعتدلت إلى الوراء، فإذا بمنير يقف أمامها صامتا، يريد أن يقول شيئا.

تفحصته قليلا ثم قالت بنبرة ترتجف:

-لقد أخفتني.

فأجابها في ذاك الفتور:

- أريد أن أتحدث إليك، الحقي بي إلى المكتب.

دار في خاطرها أنه شعر بمدى الايذاء الذي ألحقه
بها، ولذلك أراد أن يعوضها بجلسة أخرى تجمعهما
ليتدارك الموقف.

وعلى الرغم من أن طلبه هذا اعتبرته شيئا مهينا لأنه مازال فاترا خاليا من الإهتمام، هو مجرد تعويض ليس أكثر، إلا أنها لحقته على الفور إلى غرفة المكتب، شعر بأنها تريد أن تتحدث معه، فقد افتقدت إلى كلماته،
وتعبيرات وجهه الدافئة.

-أعتذر عن تجهمي في وجهك، كأني لاحظت عليك
أنك تريدين أن تتكلمي في أمر ما.

-أعرف، فقط شعرت بالرغبة في أن أجلس إليك حتى
وإن لم يدر بيننا حديث، ولكني شعرت بشيء ما.

-شيء ما، ما هو؟!.

-لا أدري، ربما اشتياق.

- لِمَ في هذه اللحظة بالذات؟!.

- كنت جالسة في حجرة المعيشة، أقرأ كتابا
للفيلسوف الهندي أوشو، فأنت تعلم أني أؤمن بما
يقول، واستوقفتني عبارة من عباراته.

وأخذت تقرأ عليه، وعيناها تسرحان، تنظران إلى
العبارات نظرة مدقق محلل، لديه خبرة بما هو كائن
على هذي الأوراق.

"لابد للحب أن يكون أرضيا تماما كما الأشجار تعجز عن النمو بدون الأرض، فإن الحب بحاجة إلى التجذر في
الأرض، على الحب أن يكون أعلى من العاطفة لكن
العاطفة يجب أن تكون داعمة له".

ثم صمتت رويدا تفكر في هذه الكلمات، أحست أنها
أول مرة تقرأها، كان لتلك المقولات شعور خاص
وهى تقرأها على زوجها، كأنها تخاطبه بها، أرادت
أن تقول له شيئا في نفسها، ولكن طبيعتها الإيمانية أمسكت بلسانها عن البوح، فلم تجد بدا من أن تقرأ
عليه هذه المقولات دون وعي منها.

لم تخطط للأمر، ولكن ترتيب الأقدار هو ما دفع بها
إلى أن تقرأ هذه الكلمات في هذه اللحظات بالذات،
وأن تتفاعل مع شعورها كأنثى، وكامرأة نبيلة تحتاج
إلى أن تقدم هذه المشاعر لزوجها في شكل غير
مباشر، وهى تعلم جيدا بأن زوجها الكاتب يمكنه أن
يقرأ ما تلمح إليه، هذا التلميح أتى منها من منطقة
كامنة في نفسها تسمى اللاشعور.

في خلال فترة الصمت هذه التي كانت ماريا تحدث
فيها نفسها، كان منير ينظر إليها وكأنه يقرأ أفكار
قلبها، وقال في نفسه:

-رباه! ترى إلى أي شيء ترمي بهذه المقولات
الفلسفية؟!. هل تريد إحياء الحياة بيننا بشكل
لا يمتهن كرامتها؟.

أريد حقًّا أن أفهم المعنى الحقيقي للكرامة بين
الأزواج، ما الضرر في أن تأتي إلي وتقول لي بمنتهى
البساطة: منير حبيبي دعنا نعانق بعضنا، ونرمي خلفنا ما فات من اختلاف وتجاوز.

تعال لنبدأ عمرا جديدا نعود به إلى أحلامنا التي ولَّت، ونجدد به أيامنا التي مضت خلسة منا.

ترى: ما الذي أحدث بها هذه الفوقة؟!. و لِمَ في هذا الوقت بعينه؟!.

كأن حدسها الإيماني ألهمها بشيء ما، هكذا يكون
أصحاب الفضيلة الإيمانيون يكشف عنهم الحجاب
أمام أمور قد لا يدركها الآخرون.

طالت فترة الصمت بينهما، مازالا حائرين يتساءلان في أنفسهما دون إفصاح، يتبادلان النظرات، وكأنهما
يتحدثان بصمت أجوف.

بدأ منير يتكلم مازال يعلو وجهه بعض الاضطراب:

-كيف تؤمنين بهذه المقولة، وهى تخالف مبادئك؟!.
أعتقد أنك تنظرين إلى الحب على أنه شيء أعلى من
أن يتجذر في الأرض.

-أنا قلت أني أؤمن بمقولات أوشو، ولم أقل أني أؤمن بهذه العبارات بالذات ولكنها استوقفتني، وأخذتني
معها عبر مراحل التفكير، ومع حيرتي وجدت أنه من
الأفضل أن أتحدث معك بشأنها لعلي أهدأ.

-مادام أنك لا تؤمنين بها فما الذي أثار حيرتك؟!.

-لا أعرف بالضبط ولكنها استوقفتني.

-أما أنا فأعتقد أنها على قدر كبير من الحقيقة، الحب كالشجرة يحتاج إلى أرض طيبة لكي يتجذر ويتفرع
ويثمر، وهذا لا ينافي فضيلته؛ لأنه يمسح على قلوبنا
مسحة نقاء تجلي بصيرتنا لإدراك أشياء ما كنا نراها
سابقا.

أخذ يسترسل في كلماته وهو ينظر إلى أوراقه، وكأنه
يخاطب هذه الأوراق لا يخاطب زوجته، ظل يقول:

الحب ما أنبله من شعور! عندما تتذوقه لأول مرة في
حياتك، يكون له وقع خاص عليك، أشبه بالطفل الذي ينطق كلمته لأول مرة، يكون سعيدا رغم أنه لا يدرك
ولا يعي، ولكن هناك حركة ما بدأت تدب في أوصاله جعلته مختلفا، يتوق إلى المزيد من الكلام بعد أن
اهتدى إلى أول كلمة له، وبعدها يبدأ في الانصات
لصوته:

هل هو حقيقة أم مجرد وهم؟! إذن ما هو الوهم؟!.

شعور لذيذ، وخيال ندي يرحل بي عبر غموض مثير،
رغبة جامحة تجعلك تغلق على نفسك كل شيء إلا
رؤاك الحالمة التي تجسد فيها خلوتك مع المحبوبة كما أراها الآن.

فإني أحيا معها في تلك الأغنية التي تجمع بين كل
حبيبين اتحدا في نغمة واحدة، بل إني ألمحها في
رقصة فرسان العصور الوسطى.

ألم يكن لكل فارس سيدة يضع عندها آماله؟!.

فها أنا يا سيدتي أضع بين حلمي بك غاية آمالي،
وقصيدتي التي لن تهمس إلا في أذنك أنت وحدك.

بعد عدة جمل سمعتها ماريا من زوجها منير أصابها
ذهول لا يمكن أن يوصف ففرغت عن فيه، وحملت
أوراقها الفلسفية وتحركت بهدوء تمشي ببطء نحو
باب الغرفة على أمل أن يستوقفها منير، ولكنه لم
يفعل.

فمازال يتمتم بجمل لا تفهمها، ولا تعرف إلى من
يوجهها، لم تعد تسمع منها إلا همسا إلى أن خرجت من الحجرة، وأغلقت الباب خلفها، وظلت مستندة إليه باهتة إلى درجة الموت.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي