لم يكن تقليديا

Hadeer mohamed`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-11-24ضع على الرف
  • 50.2K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

مع نسمات الخريف الهادئة التي بدأت تداعب الأجواء؛ فبثت الانتعاش بأرواح أنهكها التعب، وحينما شرعت الشمس بالغروب، سحبت دفئها الذي يمنح القلوب هدوءًا خاصًا يختلف عن ذلك الصخب الذي يدق بداخلها.

سار بسياراته متهاديًا وعقله لا يكف عن التفكير، خاصة بعد ذلك الإجتماع الذي جمعه مع أبناء عمه ومحامي العائلة.
أخذ يتذكر ما أملاه عليهم المحامي ربما لم ينتبه لشيء، أو يحاول أن يفهم ما المغزى وراء تلك الوصية التي ظهرت فجأة بعد مرور شهرين على وفاة الجد!

عاد بذاكرته لعدة ساعات مضت، وهو يستعيد ما حدث بالتفصيل ربما أغفل شيئًا.

في غرفة مغلقة، تحفزت بها الوجوه رغم الحزن الكامن بصدورهم، ينتظرون ما سيمليه عليهم السيد"راضي" محامي العائلة، الذي طلبهم في إجتماع خاص ومغلق ينحصر على الأحفاد الذكور لعائلة الخيام.

جلس السيد راضي خلف المكتب الخاص بالجد "عز الدين"، وأخرج مفتاح من جيب بنطاله، ثم هّم بفتح الدرج العلوي للمكتب، الذي يحتوي على الأوراق الهامة وهو يقول:

-أعطاني الحاج عز الدين -رحمه الله- المفتاح قبل وفاته ببضعة أيام.

(ثم تنهد بحزن وهو يتذكر رفيقه الذي وافته المنية منذ ما يقرب لشهرين، لكنه نفض ذلك سريعا، فلديه مهمة وعليه إتمامها).
أخرج علبة خشبية مغلقة، ثم فتحها وسحب منها ورقة مطوية تحت نظرات الشباب المترقبة.

أغلق الصندوق وأعاده إلى مكانه مرة أخرى، ثم عدل من نظارته الطبية وشرع بقراءة ما بالورقة بصوت مسموع للجميع:

    
"بعد السلام والتحية، عندما تقرأون وصيتي هذه، سأكون إنتقلت إلى الدار الآخرة، ففضلا اقرأوا لي الفاتحة، وأدعوا لروحي بالسلام والرحمة".

بدت نظرات الشباب حزينة رغم ما يشوبها من حيرة مما سيقوله السيد راضي، فقرأ الجميع الفاتحة ليكمل راضي قراءة ما بالورقة قائلًا:

  
"لن أخبركم كم إشتقت إليكم، لأني لم أخبركم بذلك من قبل، حتى عندما كنتم تسافرون وتقضون أيامًا وليالي بعيدًا عني، لم أخبركم حينها أن غياب فردًا واحدًا منكم يترك فراغً أجوف في قلبي، ولا
تعتبروا هذا اعتراف مني بذلك".


رسمت الوجوه شبح إبتسامة خافتة ممزوجة بحنين لذلك الجد الذي كان دومًا قدوة صالحة لعائلة الخيام.

أكمل راضي:

"دعونا من ذلك الآن، فأنتم تعلمون قدركم عندي جيدًا، حتى لو لم أقولها لكم يومًا؛ فتكفي نظرات الفخر التي تملأ عيني عند رؤية أحد منكم، لكن ما كان يقلقني دومًا هن حفيداتي، أخشى عليهن من المجهول ولم يمنحني الأجل فرصة لأضمن لهم حياة هنيئة مع أزواج أختارهم وأختبرهم بنفسي، وتعلمون أيضًا أني قمت بتقسيم ممتلكاتي حسب الشرع في حياتي، وسلمت والديكم محمود وعبدالله وجميلة عمتكم نصيبهم وقام كلا منهم بإنشاء مشروع خاص به، لهذا قررت أن
أكتب تلك الوصية التي أوصيكم فيها، أولًا بأن المقهى الذي أمتلكه بالحي، والذي احتفظت به لنفسي، هو خاص بالبنات"ألما وأسيل وسيليا"، فعليكم إدارته جيدًا وتقسيم الأرباح على ثلاثتهم، ولا تسمحوا ببيعه مهما كلفكم الأمر.

صمت راضي قليلًا ورفع عينيه من فوق نظارته ليتمكن من قراءة الوجوه، فوجد أن هذا الأمر مقبول بالنسبة إليهم فأكمل:


"الأمر الثاني، ألا تتركوهن للغرباء يتحكمون بهن ويفرضون عليهن ضغوطاتهم، لذلك أردت منكم أن يختار كل منكم زوجة منهن وأن يحميها ويرعاها بما يرضي الله ويجعلني مرتاح في قبري، أوصيكم وأنا أعلم بقدري عندكم جيدًا وعلى يقين أنكم لن ترفضوا لي طلب دوما ما كان يؤرقني، أترككم في رعاية الله".


أنهى راضي قراءة الوصية ثم طواها مجددًا ووضعها على المكتب أمامه، ورفع يده يخلع نظارته وهو يتابع رد فعل أحفاد عائلة الخيام، نهض عمار بإندفاع وقد بدا عليه علامات الغضب قائلا:

-ما هذا الهراء!

رمقه أخيه الأكبر قاسم بحدة، فتراجع قليلًا ليكمل:
-بالطبع لا أتحدث عن الشق الأول من الوصية، فأنا لا يحق لي أن أعترض عليه، ولا أرى به شيئا من الأساس، لكن الشق الثاني الذي ظهر فجأة ولم يبدي جدي أي شيء يخصه قبل وفاته، بل دوما ما كان يخبرنا أن جميعنا أخوة، ما الذي تغير الآن؟

أجابه راضي بهدوء محاولًا شرح وجهة نظر الجد كما أخبره بها قبل وفاته:

-كما قال في الوصية، إنه يخشى عليهن والجميع يعلم مدى تعلقه وإرتباطه بهن، ولأنه يثق بكم وأنكم   قادرون على حمايتهم.
    
رد عمار بشيء من السخرية:
-من الواضح حقًا أنه يثق بنا لذلك ترك لنا وصية كهذه، ألا يمكن أن نحميهن دون الحاجة إلى الزواج بهن؟!

بينما تحدث عدي أخيرًا محاولاً إخفاء مشاكسته:
-لا تنفعل هكذا يا عمار، فأنا لن أسمح لأحدكم بالإقتراب من إخوتي، فأنا لا ينقصني أن أزوج إخوتي لأصدقائي، كرامتي لا تسمح.

فقال عمار لراضي و هو يشير على ابن عمه:
-أنظر ها قد بدأنا، ألم يعلم جدي أن هذا الوحش المفترس لن يسمح لأحد بأن يقترب من إخوته؟!

إبتسم راضي على ما يحدث، فما يراه الآن أخبره به الجد حين أملاه وصيته، فهو على دراية كاملة بأحفاده وبردود أفعالهم، حتى ذلك القابع الهادئ الذي لم يتبين على وجهه أية تعابير سوى نظرة شاردة، لكنها آملة بأن دوما هناك فرصة وعليه أن يحسن إستغلالها.

هندم راضي ملابسه ثم التقط حقيبته نهض قائلا:
-أمليت عليكم الوصية وإنتهت مهمتي، لكن دعوني أخبركم أن الوصية غير مشروطة، بمعنى أن الجد لم يضع أمام تنفيذها شرطًا، لأنه كان واثق فيكم وفي محبتكم إليه بشكل كبير، فما عليكم سوى التفكير جيدًا وإتخاذ القرار الصائب، فلكم مطلق الحرية في التنفيذ أو عدمه، السلام عليكم.

قالها وخرج من المكتب، ليرتمي عمار بجسده على الأريكة ذات الجلد الأسود اللامع بجانب عدي قائلا:
-أشعر بأني وقعت بإحدى الروايات السخيفة التي تجبرني سيليا على شراءها لها.

تحدث عدي بنبرة مشاكسة:
-وهل وصل بك الحال بأن تقرأ الروايات التي تجلبها لسيليا؟

فرد الآخر متهكمًا:
-لا تتحدث هكذا وكأنك لم تجلب لها إحداهم يومًا.

ضحكة عالية خرجت من عدي وهو يمسد على لحيته الخفيفة، وقال:
-لا أنكر بالطبع، أني جلبت لها العديد من الروايات، فتلك المخادعة تعلم قدرها عندنا جيدا، فتستغل ذلك بشكل مبهر، لكن لم يصل بي الأمر أن أقرأهم أيضا، أأنت يائس لهذه الدرجة؟
    
أنهى عدي كلماته بمشاكسة لينفجر الآخر من الغيظ قائلا:
-مزاجك رائق، وكأن الوصية لا تعنيك في شيء؟!

    

لم يرد عدي بل ظل متمسك بنظرته الباردة التي تشعل غيظ ابن عمه ليهب منتفضًا وهو يرى أخيه الأكبر لا يبالي بالأمر وإبتسامة هادئة مرسومة على وجهه فقال:

-ستصيبونني بجلطة ببرودكما هذا، لذا سأرحل أنا قبل أن أفقد السيطرة على أعصابي.

    
فأردف عدي ببرود مغيظ:

-هذا أفضل لصحتك.

فرمقه الآخر بإشمئزاز من ذلك البرود الذي يجيده صديقه في الأوقات الصعبة، ثم خرج يضرب الأرض بقدميه لينفجر الرفيقان وتعلو أصوات ضحكاتهم الرجولية، لكنهم إضطروا إلى وأدها عندما دخلت "أحلام" سكرتيرة عدي وهي تلهث
قائلة:

-الشاحنات جاهزة لتحميل الشحنة وعليك أن تتفقدها قبل التحميل.


أومأ لها عدي وهو ينظر الى بطنها المنتفخة فهي حامل بشهرها الأخير ومع ذلك تصر على الحضور للعمل، يعلم أنها متعبة ولا يصح أن يسخر منها لكن قامتها القصيرة وإنتفاخها الشديد جعلها تشبه الكرة التي تتدحرج على الأرض فكتم عدي إبتسامته وهو ينفض تلك الخاطرة عن عقله، لترمقه هي بغيظ لأنها تعلم أنه على وشك قول ما يثير إستفزازها لكن ما يمنعه فقط هو وجود قاسم، فقالت من بين أسنانها:

-سأعود إلى مكتبي.

أومأ لها برأسه وهو يحك لحيته بيده محاولًا منع الضحكات التي كادت تفلت من فمه، ثم نهض من جلسته وإتجه إلى رفيقه الشارد ومال عليه قائلا:

-لا تفكر في الأمر كثيرا فكما أخبرت أخيك منذ قليل، لن أسمح لأحد بالإقتراب من إخوتي.

رفع قاسم أنظاره إلى رفيقه يقول بإعتراف يشوبه بعض الألم:
    
-الأمر محسوم يا رفيقي، فنحن لا نملك من قلوبنا شيء.

    
فاق عدي من شروده وإنتبه لذلك الصوت الأنثوي الذي شق السكون المسيطر على هذا المكان، أوقف سيارته وترجل منها وهو يرى شابًا يعترض طريق الفتاة، أسرع إليهم ورأى أن الأمر يزداد حدة عندما لمح الفتاة تمسك الشاب من تلابيب قميصه والآخر يهم بضربها، أمسك عدي يد الشاب التي كادت تهوى على وجه الفتاه و دفعه بحده إهتز لها جسد "رضا" فهتف به عدي قائلا:
-ألا تملك أي نخوة حتى ترفع يدك على فتاة؟

-إنها خطيبتي.
قالها رضا محاولًا الدفاع عن نفسه، وكأنه بإعترافه هذا سيحق له ما يفعل!

رفع عدي حاجبه بإستغراب ونظر إلى الفتاة التي قالت بغضب :
-كنت خطيبتك وإنتهى الأمر بيننا، لما تلحق بي الآن؟

-حتى لو هي كذلك، فهذا لا يعطيك الحق بأن ترفع يدك عليها.

قالها عدي ليرد الآخر:

-لم أكن سأفعلها ولكنها من بدأت، أردت أن أتحدث معها فقط ولم يستدعي الأمر ما تفعله الآن.

    
ردت بقوة:
-أخبرتك أن إرتباطنا إنتهى، لما لا تتقبل الأمر؟

إزداد شعوره بالغيظ منها فهتف بها:
-لست أنا من يقبل أن تتركه فتاة.

فتحفزت قائلة:
-تفكير ذكوري متعفن ولم يرقى لكونك من المفترض رجلًا ناضجًا، لكنك الآن تثبت لي أني كنت على صواب عندما فسخت تلك الخطبة السخيفة، أنا أصلا لا أثق بالرجال فحمدًا لله أن الأمر إنتهى عند هذا الحد.

كاد أن يمسك رضا بحجابها لكن عدي منعه، وصرخ بهم وقد شعر بمطرقة تدق رأسه:
-كفى، اصمتي قليلًا، وأنت إذهب الآن قبل أن أفقد أعصابي وحينها لن تجرؤ على التعرض لفتاة مرة أخرى.

    
إبتلع رضا ريقه ببعض الخوف من ملامح الغضب التي علت وجه عدي فرمقهم بنظرة حانقة ثم رحل وهو يتوعدها في سره.

بينما إلتفت عدي لتلك الفتاة يطالع هيئتها بتلك الملابس الرجولية بإستغراب، فملامحها هادئة وجميلة بخلاف لسانها الذي يشبه السوط فهي في المجمل لطيفة جدا، إستجمع هدوءه أخيرا وسألها:
-هل أنتِ بخير؟

أجابته بقوة و غضب تخفي خلفهم قلب يرتجف خوفا:
-ليس من شأنك.

    
-أنقذتك منذ قليل لو لم تنتبهي للأمر.

قالها عدي بإستغراب من هجومها الغير مبرر، فعقدت يدها أمام صدرها ثم اردفت:
-لم أطلب منك أن تتدخل، كنت سأتكفل به.

-حقًا؟!
قالها عدي بإستخفاف فأكملت:
-نعم، فلا تصنع من نفسك بطلا بلا داعٍ، أنا أعلم الرجال جيدًا بارعون في التلون.

دث يديه بجيبي بنطاله فاردًا جزعه أمامها بشموخ ثم قال هازئا:
-اوه، معقدة نفسيًا أليس كذلك؟
رغم الوخز الذي أصابته الكلمة بقلبها إلا أنها تمتمت ببرود وهي تضغط بقوة على كلماتها:
-أخبرتك من قبل ليس من شأنك.
ألقت كلماتها ثم إستدارت راحلة تاركة إياه في صدمة من طريقتها المستفزة.

عادت كارما إلى المنزل فوجدت والدها ينتظرها وقد أكل قلبه القلق عليها، ألقت السلام بإنهاك فإقترب منها "كامل" يقول:
-لما كل هذا التأخير كارما، قلقت عليكِ؟

رسمت كارما إبتسامة مغتصبة على وجهها وردت وهي تخرج علبة دواء من جيب سترتها:

-لم أجد الدواء في الصيدلية القريبة، فذهبت أبحث في صيدليات أُخّر بالأحياء المجاورة.

-لم يكن هناك داعي بنيتي، كنتِ تركتيه للغد وأحضرناه في عودتنا من العمل.

دخلت كارما المطبخ وأحضرت زجاجة مياه ناولتها لوالدها، ثم أخرجت قرص من علبة الدواء ووضعتها بفم كامل وقالت:

-الطبيب منعك من تأخير الجرعات يا ابي وعلينا الإلتزام بالتعليمات.

إبتلع الدواء كما يبتلع الكثير من الألم الذي يشعر به وهو غير قادر على توفير الراحة والأمان لإبنته الوحيدة، فهو يعمل بالبوفيه الخاص بمصنع الخيام للموبيليا وتذهب هي معه لتعاونه في عمله لأنها لا تجد عملًا بشهادتها.

    

أخذت كارما تجوب بالمطبخ ذهابًا وإيابًا بتوهان واضح رغم أنها تحاول الحفاظ على ثباتها حتى لا تُحمل والدها فوق طاقته خاصة أن الطبيب أوصى بمنعه من التعرض لأي من الضغوط حتى لا يرتفع ضغطه ويصاب بجلطة.

حضرت الطعام سريعًا ثم بدأت تضعه على الطاولة الصغيرة الموضوعة أمام والدها تحتنظراته المتفحصة التي يحاول بها التركيز ربما يعلم ما سر هذا القلق المرسوم على ملامحها.

جلست بجانبه تشاركه الطعام على مضض وهي تتذكر ما حدث مع خاطبها السابق الذي وافقت عليه بناء على رغبة والدها للإطمئنان عليها وهي وحدها من تدفع الثمن الآن.

    
بعد أن إنتهى كامل من طعامه ذهب ليتوضأ ويصلي كعادته قبل النوم ، فأسرعت كارما تنهي أعمالها المنزلية لتدخل غرفتها وتنعم ببعض الخصوصية التي ستسمح لها بالإنفجار باكية دون تساؤلات ولا إستجوابات لن تستطيع الرد عليها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي