الفصل الثالث

ابتعدت عنه وهي تشعر بنار تحرق قلبها وتكوي عقلها، لأول مرة القلب والعقل يتفقان، فعقلها يعزم على أن تبتعد وتتركه وتنفذ ما دوِّن فى الرسائل، والقلب يتفق مع العقل لخوفها الشديد عليه هو وأولاده "يزن ومليكة".

أمسك بكفها واقترب منها مرة أخرى يقطع المسافه بينهم، ليهتف بغضب فقد ما تبقى من صبر:
- حور أنتِ من أجبرتني على فعل ذلك.

أجابت بتعجب وانفعال:
- أجبرتك على ماذا؟!

نظر لها بهدوء وهو يحاول إخفاء نبرة العتاب من صوته:
- يوم ويومين، أسبوع، قلت لنفسي لأمهلك وقتك لتهدئي، وبعد ذلك ستأتي لتشرحي لي ما سبب تغيرك وكلامك، ولكنكِ تتمادين ليصل بكِ الأمر للهرب والنفور؟! هل تنفرين مني يا حور؟!

عم الصمت المكان، أخرجت نفسها من الهالة الذي وضعها بها، صمت مرعب يجعل القلوب تخفق بشدة ليقطع الصمت صوت صيحات حور وشهقاتها، فهتف ريان بحزن ونبرة هامسة:
- حور، لآخر مرة سأسالك وأنا مازلت متمسكا بكِ حتى الآن، هل تحبينني؟

اقتربت منه ثم ارتمت على صدره، وبكت بين أحضانه بحرقة، لم تشعر بالوقت كيف مر عليهما، كل ما تشعر به هو السكينة بين ذراعيه ودفئهما فتبدد جزء من آلامها المبرحة، بعد لحظات ابتعدت عنه ثم رفعت عيناها الممتلئة بالدموع لتشكو له كعادتها ما حدث، رفع يديه يضمها لصدره ثانية لعله يتمكن من مداوة جرحها، ولكن أوجاعه هي من تصدح عالياً، كم تمنى إخراجها من بين أحضانه وصفعها بقوة تجعلها تفيق وتتخلى عن فكرة الابتعاد عنه، تلك الحمقاء أصبحت كفيفة لا ترى من يعشقها ويتحمل كل شيء لأجلها فقط، شقت العبرات الحارقة وجهها كأنها لم تصدق ما يحدث.

دموعها استمرت بالانهمار كالغيث، ولكن كيف لدموع المجروح أن تصبح غيثا، فالغيث يروي الأرض العطشة أما دموعها الآن فترهق روحها، وتجعلها تختنق:
- قلت لك ابتعد عني، لا أريدك بحياتي.

انفعل "ريان" واقترب منها ثم أمسك معصمها وهو يحركها ليضرب ظهرها بالحائط، وقف أمامها وفرق الطول يجعلها الطرف الأضعف على الإطلاق ليهتف بحدة:
- حتى لو أنكرت فأنت تريدينني يا حور، تريدينني رغما عنكِ.

نفت ما قال وقابلت كلامه بالرفض التام، ليصمم على كلامه وبنبرة أكثر صرامة:
- لو كنتِ ترفضين قربي كنت رأيت ذلك بعينيكِ، ولكن صدقيني عيناكِ قالتا العكس تمامًا.

رأى الضعف يتجزأ بجسدها ليضرب الطاولة المجاورة لهما بقوة، جعلتها تقف كالصنم تستمع لتوبيخه وانفعاله:
- أنا حقًا مصدوم منك، ألهذة الدرجة لا تثقين بي!؟

- الأمر لا علاقة الثقه ب..

قاطعها بحدة ونبرة غليظة يشوبها الانفعال:
- لقد طفح الكيل، مللت كونك ضعيفة وانهزامية هكذا، إذا كنتِ خائفة ولست عازمة على محاربة كل الصعاب من أجل علاقتنا وحبنا، لما لم تخبريني من البداية؟! لما جعلتني أغرق بكِ؟! إذا كنت ستضعفين الآن، لماذا لا تصارحينني بكل مخاوفك؟! لما لا تثقين بي؟! لو كنتِ تثقين بي كنتِ ستصارحينني بتلك الرسائل، للأسف حور أنتِ من سمحت لهولاء الأوغاد أن يتمادوا معك.
صمت قليلا ومن ثم هتف بنبرة أشد قسوة وعصبية:
- حور أنتِ ضعيفة، وجبانه أيضًا.

هزت رأسها بقوة، وهي تضع يدها فوق آذانها لا تتحمل تلك النبرة القاسية منه فهو دائما كان الأحن عليها:
- لا تتحدث هكذا.

رفع ريان حاجبه باستغراب من جملتها:
- هكذا كيف؟

- نبرتك وانفعالك كأنك تكرهني ريان.

لم يتمكن من الحديث حتى قدماه تخشبتا محلها، فرفع يديه يزيح خصلات شعره بغضب جامح يفرغه بعنف شديد، شعر بأنه على وشك الانهيار فرمقها بنظرة أخيرة ثم أسرع لحمام الشقة، دلف سريعاً ثم استند على الباب والحزن يلهو بتعبيرات وجهه، حديثها يحطم قلبه.

ذكريات الماضي تلاحقها بلا رحمة فتنهش ما تبقى بأوجاعها، صرخة مدوية جعلته يهرع للخارج .

بالخارج تسللت العبرات الحارقة وجهها، فمازال هذا القلب يرتجف لقرب معشوق الروح لجواره، اقتربت من باب الغرفة بتعب نفسي شديد ثم توجهت للدخول مرة أخرى، لم تعد تشعر بطوفان ملحمة العشق المجسد بين أحضانها كل ما تراه ذكرى هذا اليوم البشع الذي هدم حياتها، توجهت لتجلس على الأريكة ودموعها رفيقتها كالعادة تكون في رحلة الأوجاع، لم تشعر بأنها تستند على الزجاج المهشم، صرخت بقوة حينما جرحت قدماها فخرج مسرعاً، أسرع ريان إليها ثم انحنى حينما وجدها تحمل قدميها عن الأرض بعينين مغلقتين بقوة جعلته يشعر بمعاناتها، انحنى ليرى ماذا هناك ؟فأزاح عنها الزجاج بعناية، فتحت عيناها لتجده يجلس أرضاً يزيح عنها ما يؤلمها، طالت النظرات بينهم والعتاب سيد الموقف، وقف حينما انتهى من معالجة جرحها يتأمل دموعها بحزن قطع نياط قلبه، فرفع يديه يلامس وجهها قائلا بنيرة صادقة:
- عاقبيني كما تريدين، ولكن لا تؤذي نفسك بأي طريقة حتى وإن كان بغير قصد.

هزت رأسها مرات عدة ترفض الخضوع لقلب شاب من بعد الحبيب، ليزفر وهو يضرب الحائط بقوة لقد عجز على إيصال فكرة أنه هنا لأجلها ولأجل حمايتها، هتف بهمس وهو يجلس بتعب فقد شعر بصداع مفاجئ:
_حور أنا أحبك، وهذا كل ما في الأمر.

نظرت لوجهه ويده الممسكة بجبينه، فاقتربت منه بقلق، كيف لها أن تجعله ينفعل هكذا وهي الأعلم بتعبه ومرضه:

- ريان هل أنت بخير؟

- لم أكُن يوم بخير سوى بجانبك.

- أنا آسفه أعتذر لك للمرة الثانية أكون أنانية، ولكن صدقني الأمر ليس ضعفا مني "ريان"، البعُد عنك وعن يزن ومليكة كالانتحار تمامًا، فأنا أحبك.
استرسلت بتبرير:
- صدقنى أنا لم...


أمسك معصمها بضعف، وجعلها تجلس على الأريكه التي تتوسط الصاله لينظر لها بهدوء:
- لا أعلم ما يخيفك ويجعلك تهربين هكذا، ولكن صدقيني لن أسألك عن أي شيء عن ماضيك، فارتاحي ولا تعيري أي اهتمام لأي رسائل تأتيك، أنا لستُ مراهقا يا حور، لم آتي لأعاتبك أتيت وانفعلت عليكِ حتى أسمع اعترافك، فقد وقف قلبي وتعطش لكلمه منك تريحه وتروي ظمأه، والآن أنا لا يهمني شيء فكلمة أحبك من فمك تكفيني.


هزت رأسها بهدوء فهي حقا لا تستطيع إكمال يوم بدونه، كيف لو أصبح اليوم أيام عدة! استسلمت له وقررت المضي قدمًا معه بدون رهبة من الماضي، ستحارب من أجلهما.

ولعل الحرب هي نهايتهما.

"يقال في الحب والحرب كل شيء مباح"
وهي ستستعد جيدًا للحرب من أجل حُبها.

. . .

بمكان بعيد بزاوية أخرى من الكوكب، وتحديدًا بأمريكا يقف وهو يفرك يديه لعله يحصل على بعض الدفء فالجو قارس البرودة، لم يفهم ما دار بذهنه وجعله ينسى قفازاته فهو بعادته لا يخرج من منزله إلا إذا كان يرتديها، ظل ينفخ بكفيه متذمرا من الجو ومن حظه السيء، فهو ينتظر أكثر من نصف ساعة لعله يجد سيارة أجرة، والآن عندما اتصل بصديقه يعتذر منه هو يجزم الآن أنه لا حظ أسوء من ذلك، ابتسامة ساخرة ارتسمت على شفتيه عندما سقطت قطرات المطر على رأسه ويديه، ليضرب بقدمه الأرض بضيق، صدى هاتفه يرتفع مرة أخرى يحاول التواصل مع أبي أحد، كان لديه عملية جراحية مهمة، والمستشفى اتصلت به حتى يحضر وتأخر الوقت ونسي مفتاح سيارته، هو معتاد على تلك المواقف فهو طبيب ويتعرض لتلك الأشياء كثيرًا، ولكن اليوم يشعر بضيق قوي بصدرة يخنقه، شعور يغزو قلبه ليرفع حاجبه عندما جائه اتصال من "مصر" بلده الأم ليجيب بهدوء وعملية :
- نعم! من المتصل؟

- أنا نور، دكتور "فيصل" أردت أن أسألك عن التحاليل الأخيرة لريان؟

أتاه صوتها الهادئ المتردد ليضرب صداه على قلبه، ويرن كالأوتار تمامًا، فصوتها كالناي يطرب أذنه ويجعله يبتسم دون إرادته، كالمطر هي جعلت تعكر مزاجه ينقلب للنقيض، لكنه أجابها بنبرته المشاكسة التي تستفزها:
- ألم تعترفي له بعد؟

قبضت على يدها:
- أرجوك دكتور أنا اتصلت حتى أطمئن على حالته، فهو بالفترة الأخيرة أصبح عصبيا وعاد للتدخين مرة أخرى.

- الآن اتصلت وتحدثت مع، وبالسابق ترفضين الرد على إيميلاتي ورسائلي.

- لم تجب على سؤالي.

- لما لم تعترفي له!

- هذا لا يعنيك.

- تشعرين بحرقة؟ عليكِ أن تعترفي له المماطلة لن تنفعك، لترتاحي.

- ليس لك دخل، أخبرني بخصوص ريان!

أراد أن يرد لها ما قالته
- ليس لك دخل هذا لا يعنيكِ

- ولكنه ابن خالتي!!

- وهو مريضي أيضاً، وليس مصرح لي أن أفشي أي شيء بخصوصه حتى لو لكِ.

ما هذا؟! أيسمع صوت بكاءها الآن ولكن لما! نظر للسماء ليرى أن المطر توقف عن الهطول، وكأن السماء أعارتها هي تلك المهمة لتهبط الدموع من عينيها كالأمطار في النزول، حاول تهدئتها قائلا بصوت حاني: - توقفي عن البكاء وسأساعدك.

- أنا قلقة بخصوصه، فكما تعلم أنا قريبته وأيضًا أح...

قاطعها بنبرة يشوبها الحزن، أو قد تكون نبرة حزينه بالفعل:
- أعلم أعلم، تحبينه، حسنًا إذا يجب أن نتقابل ونتحدث بخصوص حالته بالقريب العاجل، وكما قلت مسبقًا يجب أن يحضر في أقرب وقت حتى يقوم بإجراء العملية.

- تحدثت معه ورفض، لا أعلم ماحدث له فجأة ليرفض، ولكن سأحدثه مرة أخرى.

- تحاليله الأخيرة جيدة وكل شيء تحت متوقع، ولكن عندما كان مقلعا عن التدخين وعودته له ستحدث الكثير من التغيرات، وهذا لا أتمناه البتة.

أغلق الهاتف وهو يزفر بضيق، هو يعلم من البدايه أنها مغرمو بريان ويعلم أن الطريق مسدود، وأن ما ينمو داخله سيكون من طرف واحد، حاول كثيرًا إيقاف ذلك الشعور ولكن ليس على القلب سلطان.

أغلقت نور المكالمة، ثم خرجت من غرفتها لتجلس بجانب أختها وأخيها لتسألهم بهدوء:
- متى ستتحدثون مع ريان؟

- ليس اليوم، في الغد إن شاء الله، والآن سأفتح الباب فقد جاء أولاد العم.

هتفت ملك باعتراض:

- انتظر "سليم" من جاء من أولاد عمنا؟

- "معتز" و"ركان" وأيضا "قمر" آتية معهم.

تأفافت لتسألها نور بتعجب:
- ما الأمر ملك!

- لا أطيق وجود "ركان" فهو سمج ومغرور.

- بالعكس ركان متعاون وطيب القلب.

نظرت لها بلامبالاة وأعادت نظرها للهاتف مرة أخرى غير مهتمة بدخول الجميع، لينظر نحوها ركان وهو يبتسم ابتسامة هادئة، بينما هتفت نور ببسمة صافية:

- قمر مرحبا، اشتقت لك، متي أنهيت بعثتك الدراسية؟

ابتسمت وهي تجلس جوار الفتاتان :
- أتيت إلى أرض الوطن منذُ أسبوع، وأنهيت البعثة الشهر الماضي.

غمزت لها نور خلسة:
- إذا ما الذي تنوين فعله؟! هل ستكملين ما بدأتيه من قبل؟

نظرت قمر بهدوء لسليم نظرة خاطفة، وتنهدت بأسىٰ وقلب متألم:
- لا أتوقع أن شيء جديد سيحدث.

- لا بد من المحاولة مرة أخرى.

اقتربت منهم ملك وهي تقول بفضول:
- عن ماذا تتهامسان؟!

- لا شيء، ركان قرر فتح عيادة خاصة له.

قالتها قمر لتغير الموضوع، فنظرت ملك باتجاه ركان دون إرادة منها لتجده ينظر نحوها، أبعدت نظرها عنه بسرعة وارتباك، هي لا تريده أن يفهم نظراتها نحوه خطأ.

قرر سليم أن يفتح الموضوع أمامهم سريعًا:

- سأذهب لمعسكر يخص الجيش بعد يومين، وسفر نور لإكمال البعثة العملية بعد يومين أيضًا، لهذا قرر عمي ذهابك عنده يا ملك بمرافقة قمر وأنا وافقت.

ابتسامة ماكرة ارتسمت على وجه ركان، وكأنه نال ما كان يخطط له ويريده، لترفع حاجبها باستنكار:
- سأجلس هنا وحدي حتى تعودوا من أعمالكم، لستُ صغيرة.

- هكذا أفضل ملك، أعرف أنك لستِ صغيرة ولكن أنا سأطمئن عليك أكثر هناك.

- لا ترفضي ملك فأنا سأسعد جدا بمرافقتك معي والبيات عندنا، سنستمتع كثيرًا.

نظرت لقمر ونور لتجد نظراتهم تحثها على الموافقه، ثم نظرت له لتجده يبتسم بخبث فابتلعت ريقها بتردد لتهز رأسها دليلا على الموافقة، فهي لا تريد أن تظهر جبانو أو تهابه حتى لا يستضعفها.

وقف معتز مستأذن:
- حسنا ملك غدًا سآتي لأخذك.

كادت أن تجيبه بابتسامة فدائماً كان معتز بمثابة الأب الروحي، فهو كان العون والسند بعد وفاة أبيها وانشغال أخيها "سليم"، نقيض ركان من يراهم لا يصدق أنهما إخوة بعيدًا عن اختلافهم بالشبه، إلا أنهم اختلفوا بكل شيء، الصفات والتصرفات وردات الفعل، كل شيء.

- لا تتعب نفسك معتز، أنا سآتي لها فلدي عمل قريب من هنا غدًا، وسأخذها بطريقي.

وافق معتز بهدوء ثم استأذن وهم بالرحيل معتذرا لعمل طارئ.

نفخت بضيق، ووقفت من مكانها لتخرج لحديقة المنزل متعللة بأنها تريد أن تستنشق بعض الهواء النقي.

… …


في صباح اليوم التالي بمنزل يعمه الهدوء، تسللت خيوط الشمس من الستار لتنير غرفته ذات الطلاء الأسود الداكن، ليكسو صمتها الغامض صوت رنين المنبه المعتاد سماعه بالنسبة إليه، فرفع ساعديه ليوقف رنينه المزعج، ثم أزاح غطاء الفراش لينهض عن سريره الوثير، ومن ثم اتجه لحمامه الخاص، وقف مقابل مرآته ليزيل شعر لحيته الزائد، ومن ثم صفف شعره الأسود الذي یکسوه بعض الخصلات البيضاء التي زادت من وسامة وجهه القمحي، عينيه البنية كانت تتوهج بتحد سافر لضوء الشمس المذهب، فكانت تحاوط حدقتيه البنيتين خط خفيف من العسل المسكوب، انتهى مما يفعله ثم خرج ليختار إحدى بذلاته الداكنة المعتادة بالنسبة اليه، ثم هبط ليترأس تلك الطاولة الكبيرة بمفرده ينتظر هبوط أطفاله، لم يشعر يوماً بملل يهاجمه، فوجود أطفاله حوله يملؤ عليه يومه وحياته بأكملها، دقائق وهبط الأطفال جالسين على مقاعدهم المعتادة.

- صباح الخير أبي.
قالها الصغير يزن وهو يجلس على مقعده بهدوء ورتابة، ليبتسم الأب على ابنه الأكبر يشبهه إلى حد كبير بالطباع والشكل، ذكي وقنوع مثابر وشجاع لا يهاب شيء، يبلغ من العمر عشر سنوات، ليربت على رأس الصغير وهو يحييه ويحثه على تناول طعامه، لتتحدث الصغيرة ببرائة:
- صباح الخير والدي الشجاع.

نظر لها بحب وحنان ليحييها ومازالت الابتسامه على وجهه، لتكمل بنفس الهدوء والبرائة:
- تحدث مع يزن وعاقبه فقد ضرب "زميلي بالفصل"، وجعله يبكي كثيرًا.

رفع الأخ حاجبه وتحدث بحدة:
- يستحق ذلك، ولو كان بيدي لضربته أكثر من ذلك.

- هل سمعت؟! ها هو يعترف بفعلته، ألم تنبهنا على عدم اقتراف المشاكل والعنف!

- أصمتي فأنتِ السبب.

- نعم ولماذا؟ أنا لم أفعل شيء.

- بل فعلت، فوقوفك مع ذلك الوغد خطأ، وكيف تجلعينه يمسك يدك هكذا.

- لا ترفع صوتك علي، فأنت لست أخي مجرد ابن عم بغيض ومتحكم.

هنا خرج عن صمته وسكونه، وهو يتحدث بغضب وعتاب لم يعهدوه منه:

- مليكه! كيف لكِ أن تقولي هذ؟! لم أنبه عليكِ قبل أن تتحدثي مع يزن باحترام فهو الكبير، ومنذُ متى وهناك فرق بينك وبينه؟! فأنتم إخوة حتى وإن كنتم غير أشقاء...

نظرت الصغيرة للأرض بحزن وعيون دامعة، كادت تدافع عن موقفها ولكن قاطعها الأب بنبرة زادت صرامة وحدة، وهو ينظر ليزن:
- وأنت سيد يزن ألا تحترم وجودي؟! أنت لست صغير لأفعالك، تلك أختك فعلت ما هو خطأ تحدث معها بهدوء وأرشدها للصواب، أفعالك الصبيانية الطائشة هذة لن تحدث مرة ثانية، وإلا سيكون العقاب عسيرا.

جادله الصغير بإصرار على صحة موقفه:
- ولكن أبي أنا لم ا...

رفع "ريان" سبابته كتهديد :
- لا أريد تبرير، هذا سيكون التنبيه الأول والأخير لك احذر غضبي منك، اعتذر من أختك الآن، وأنتِ مليكة اعتذري من أخيك، وكلامك لا أريد أن أسمعه مرة أخرى وصوتكما تعودا أن يكون هادئا لا عالي حتى لا يتأزم النقاش بينكما.

نظرا لبعضهما البعض نظرات حزظ وضيق، فيبدو جليا أن النيران لم تهدأ داخلهما حتى الآن، حتى كلمات والدهم لم تكن كفيلة لتهدأة النار، ليحمحم كإنذار على نفاذ صبره، فنطقت الصغيرة ملاكه المُرسل بهدوءها ونبرتها الرقيقه الطفولية:
- أعتذر أبي، أعتذر منك يزن

- وأنا أيضاً أعتذر

أمسكا بحقيبتهما وقررا الخروج، بعد سماعهم صوت الحافلة مودعين الأب بقبلة على الجبين.

انتهى من تناول طعامه في تمام الثامنة كالمعتاد، ثم فنجان قهوته بعد الفطور بعشر دقائق مثلما اعتاد، ليغادر منزله في تمام الثامنة والنصف متجهاً إلى عمله، هبط "ريان" من سيارته ليتجه لمكتبه، فهرع إليه صديقه الودود سليم :
‏- صباح الخير، أين كنت أول أمس؟! المقدم إيهاب يسأل عنك، ويبدو أنه سيوبخ الجميع فمزاجه متعكر للغاية.

رمى سيجارته من يدة وهو ينفث دخانها :
- لا يهم، منذُ متى والمقدم إيهاب ذو مزاج صافي دائما متعكر المزاج، أشكرك سليم على ذهابك لذلك المعسكر بدلا عني.

_كف يا رجل، ليس بيننا هذا الحديث أهم شيء أن نطمئن عليك.

ابتسم الأخير بهدوء ممسكا بهاتفه وهو يدخل مركز الشرطة بخطوات ثابتة لا تخرج إلا من رجل واثق الخطى، ليبتسم وهو يكتب بعض الحروف ويقوم بإرسالها لصاحبة الوجه والقلب الحسن.

….

"للذّكريات تجاعيد، تماماً كالسّنين، لكنّها تسكن الأرواح لا الوجُوه."

بغرفة ذات الطابع النسائي، بألوان كلها لا تميل الا لفتاه ناعمة، فالزهري لا يليق إلا بفتاة حساسة، جدران تحمل اللون الزهري والأريكة التي تتوسط الغرفة تحمل نفس اللون، حتى الفراش لم يتمرد وأخذ نفس اللون لتصبح الغرفه كغرف أميرات ديزني، تجلس "ملك" ممسكة بإحدى الصور لها ولوالديها تنظر لهما بحزن يملئ القلب وعين تملئها الدمع، تحارب كل شيء بحواسها حتى لا تضعف وتبكي، تنظر لملامح والدتها الناعمة ووالدها الرائع، رجل شرقي بحد ذاته وقفت لتتجه لمرآتها تنظر لملامحها المشابهة لوالدتها، نفس لون العين تتشابه مع العسل في لونه ومع ظلمة الليل في سمرته، فشعرها حمل من ظلام الليل لونه لينسدل بتموج غجري على ظهرها يعطيها مظهر فتاة مشاكسة، قبس ذكرىٰ مؤلمة تركض أمام عينيها ركض الوحوش تصور لها كيف انتهت حياة أمها وأبيها في لحظة أودت بها لحالة إغماء وكسر في اليد اليُمنى لا أكثر، لماذا غادرت أرواحهم وتركوا روحها هي وأخوتها.

رغم وجود إخوتها بجوارها، ولكنها تشعر أنها وحيدة شريدة في الدنيا...

انتفضت على يد "نور" فوق كتفها، اعتذرت مبررة أنها رأتها قد طال وقوفها أمام المرآة رغم ندائها المتكرر، وأنها يجب أن تتجهز لتذهب لبيت عمها فركان قد اتصل وأخبرها أنه في الطريق.

هزت رأسها وهي تمسك بثيابها الموضوعة على الفراش، لتبدأ بتجهيز نفسها، وقد وعدت نفسها أنها لن تضعف وستقف أمام ذلك البغيض وتلقنه درس إن قرر ذات مرة مضايقتها.

سمعت صوت أختها يحثها على النزول لمرافقة ركان، فقد جاء منذُ دقائق لتهبط عتبات الدرج بهدوء وحذر، فهي تحمل حقيبة بطولها ليضحك ويقترب يأخذ عنها الحقيبة متمتما:
- مازلتِ قصيرة القامة حتي بعدما أتممتِ عامك الثاني والعشرون، قصيرة كالفأرة.

فأرة!! هل هذا هو التشبيه الذي وجده ملائما لها، كيف يجرؤ ويشبها بالفأرة، صاحب الساقان الطويلتان، حسناً إذا هل يريد الحرب الآن؟ فلتبدأ وسترى.

- أنت تشبه الزرافة بطولها، والقرد بسخافته.

- قرد! سأوريك القرد، وبسرعة قذف بحقيبتها على الأرض بقوة، وخرج من المنزل ينتظرها بجانب السيارة لتنظر "لنور" بصدمة من حركته.

- أنتِ من فعلتِ ذلك بنفسك، عليكِ تجنبه إذا كنتِ لا تُطيقينه.

همت بالخروج وهي تجر الحقيبة خلفيها بقوة وضيق مودعة "نور"، لتجده يقف بجانب السيارة ممسك بهاتفه وينظر به وكأنه لا يلاحظ قدومها لتدبدب بالأرض بطفولية لم تقصدها ليضحك على مظهرها، ويقترب ممسكا بالحقيبة ويدخلها بالسيارة، ويفتح لها الباب بطريقة كلاسيكيه ما كان منها الا أن ترفع حاجبها قبل أن تدخل السيارة منتظرة ركوبه.

ثوانِ معدودة، ودخل السيارة وهو يبتسم:
- قولي لي السبب ملك.

سألته بفضول:
- أي سبب؟

- سبب عدم قدرتي على الغضب منكِ، كيف يمكنك من اللأشي مراضاتي هكذا.

- لن تخدعني بكلامك المعسول هذا.

- متى سيلين قلبك علي؟!

- ألقيت بقلبي بأقرب سلة مهملات ذاك اليوم، ولن أعيده لجسدي أبدا.

زفر بإستياء وهو يحرك السيارة، الليل بدأ بفرد ستاره فالساعة الثامنة ليلاً، وكالمعتاد الطريق مزدحم والسيارات هنا وهناك، أصوات الباعة الجائلين يملئ المكان، طفل ممسك بالورود يحاول ملاطفة المارين حتى يبيع ولو وردة واحدة، يقف أمام نافذة سيارة ركان لينظر له "ركان" بهدوء ويفتح النافذة :
- مرحبًا يا صغير، هل لك أن تعطينى واحدة باللون الزهري؟! ففتاتي تحب ذلك اللون كثيرًا.

ابتسم الطفل بسعادة، فها هو سيحصل على النقود ويبيع الورود كما أراد، لبى طلب ركان وسار في طريقه كما سار ركان في طريقه أيضًا، واضعا الوردة بجانب كرسيه.

كانت تتابع الموقف وتنظر للوردة، هي عاشقة للورود بكل ألوانها فالورد له نكهة خاصه تعبر عن روعته، همت بمسك الوردة وشمها ولكن قاطعها صوته:

- لا تلمسيها

عقدت حاجبيها:
- لما؟

- قلت للصغير أنها لفتاتي

- وإذا!!

- أنتِ لستِ فتاتي صحيح؟!
قال جملته بمكر ثعلب، ومراوغة ذئب ينتظر إجابتها.

توترت وانكمشت ملامحها عندما اكتشفت مراوغة لها :
- بالطبع لست فتاتك، ولكن لن يحدث شيء إن...

قاطعها :

- بل سيحدث أشياء.

نفخت ونظرت أمامها بضيق، ليبتسم هو وعينيه عليها يتأمل ملامحها التي يحفظها عن ظهر قلب، وعاشق لتفاصيلها ينتفض بفزع من صرختها له:

- انتبه للطريق ....

ثوان معدودة ينظر أمامه ويغلق عينيه بقوة للضوء الساطع أمامه، صراخها يصم أذنه، تتقلب السيارة في الهواء عدة مرات ومن ثم ترتطم في الأرض بقوة ليتطاير زجاج السيارة، تناهت أصوات الناس يتهاتفون من حولهم، أغمضت عينيها باستسلام عكسه فهو يصارع الاستسلام، يقاوم آلام جسده ينظر لها بخوف وقلق، أذنه تلتقط صياح رجل يستنجد بالإسعاف، الصوت بدأ يبتعد شيء فشيئا ليختفي كأنه أصبح أصم، ما هذا السواد لما أصبح يرى الأسود فقط أين اختفت باقي الألوان هل هذة هي النهاية!!

لكنه لم يبدأ بعد، لما تنتهي حياته الأن...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي