الفصل الرابع

"حدثت عمتك وأخبرتها أن عقد القران والزواج بيوم واحد، وهو نهاية الأسبوع".

شهقت بصدمة وهي تقرأ رسالته، تلخبطت مشاعرها الآن لم تعد تعرف هوية ما يجتاحها من أحاسيس، سعادة من حلم على مشارف البداية، أم قلق من حياة جديدة، توتر طبيعي بتلك اللحظة، كل ما تعرفه حاليًا أن ما تشعر به بعيد كل البُعد عن الحزن، شعور جديد تعيشه فهي ستصبح عروس، صحيح أن الموعد قريب جدًا ولكن هي تتفهم وضعه، فيجب أن يتوج حبهما بالزواج قبل سفرهما، يجب أن ترضى بأي شيء حتى تبقى جواره ومعه في أزمتة، لن تجعل سحابة الصيف تمر مرور الكرام بل ستجعلها تمطر بالحب والسلام والفرح.


تبسمت باتساع وهي تنظر لساعة يدها، منتظرة خروجه من مجلس الضيوف فهو قرر المجيء، والتحدث مع عمتها وجها لوجه وحدهما دونها، الأمر أزعجها بالبداية ولكن احترمت ذلك، وظلت واقفة أمام الباب حتى انتهى حديثهما وخرج على وجهه ابتسامة إثر رؤيتها أمامه، أشار لها بأن تقترب ثم أمسك كفها بحنان، وربت عليه برفق كمن يمسح على قطة ليشعرها بالأمان، نظر لعينيها فشعر بأنه يغرق بها أكثر، يجزم أنه لم يرى فتاة بجمالها أبدا، غرتها المتمردة دائما، شمس حبه المنعكسة على وجنتيها لتعطيها من نورها ويزداد لون خديها حُمرة، تلك اللمعة في عينيها كلمعة نجمة متوهجة بروعتها ودلالها الغير مقصود هذا، قادرة على زرع حبها أكثر وأكثر داخل قلبه.

- كما أخبرتك سابقًا الزواج مع عقد القران بآخر الأسبوع، كل شيء سيسير بسرعة أعلم ذلك، ولكن هذا أفضل أنتِ تعلمين.

هزت رأسها برقه وخجل:
- أعلم، لا يهم المهم هو أن أكون بجوارك.

- بارك الله لكما، وجعل بينكم موده ورحمة، الأطفال سيسعدون بهذا الخبر أنا متأكدة.

ابتسم ريان بهدوء على ذكرهما:
- بكل تأكيد فهما عاشقان لحور كما أنا أسير عشقها.

- تذكرت ريان هل يمكنك أن تأخذني لبيت صديقتي قمر، فقد وعدتها أن أذهب لها اليوم.

رفع "ريان" حاجبه:
- هل قمر تلك الفتاه رأيتها ذات يو...

ضحكت حور، وهي تقاطعه فهي تعلم أن ريان يعرفها ولكن يماطل حتى يعترض، لن يتغير هو وأساليبه المكشوفة:
- ريان، ليس كل مرة،سأذهب اليوم حتي أخبرها بموعد زواجي وتساعدني في التحضيرات.

انكمش وجهه باقتضاب لتضحك وهي تذهب لتحضر نفسها.
. . .

بالواجهة الأخرىٰ بمكان يملأه رائحة المعقمات، يقشعر بدنك عندما تدخله وينهش الخوف قلبك لمجرد عبور بابه، فهو مكان الجرح والفقد..

ألم شنيع يتملك من سائر جسدها، وكأنها مقيدة بأغلال حديدية تعتصرها وتجعلها تشعر بعدم قدرتها على مقاومة هذا اللاوعي، وها هي تستعيد وعيها، شريط يمر أمام عينيها يحمل الكثير والكثير من الذكريات على مر عمرها، والديها وضحكها الصاخب، مشاغبة سليم لها وفك ضفيرتها وتذمرها منه، صوت قهقهة والدها على مشاجارتهم المعتادة، تلاشت ابتسامتها حين حملتها الذكريات إلى آخر ما دلف لعقلها قبل إغمائها.

فتحت عينيها بفزع وهي تتلفت حولها باندهاش، أين هي ومتى جاءت إلى هنا؟! تشعر وكأنها فقدت التركيز ونست ما حدث، اعتدلت في جلستها وأخذت تلتف حولها بهيستريا، تبحث عن أحد تفهم منه ما حدث لها، أمسكت برأسها بقوة جسدها مجهد يؤلمها كحال رأسها، حاولت تحريك قدمها ولكن صُدمت عندما شعرت بثقلها، لتفزع وترفع الغطاء عنها بقوة وذعر تخاف مما جال بخاطرها، ولكن تنهيدة راحة خرجت منها عندما رأت تلك الجبيرة ملفوفة حول ساقها اليسرى، على الأقل لم تفقد قدرتها على المشي، نظرت حولها اللون الأبيض يشعرها بالتوتر، فهو رغم هدوءه وسلامه إلا أنه أكثر لون متعب للأعصاب فهو لون الوحدة، جدران حائط الغرفة ملون بالأبيض الكراسي الموجوده بالزاويه بيضاء أيضًا، ماذا حدث لها؟

سؤال دار في ذهنها، شهقة خرجت منها قوية ومدوية وكأنها استعادت ذاكرتها، دموعها سقطت لا إراديًا عندما تذكرت ما حدث، تلك الشاحنة المقاطعة لهم، وذلك النور القوي، صراخها عليه حتي ينتبه للطريق، التفتت لتبحث عن جرس التنبيه، "ركان" ماذا حدث له؟

أين هو! انقبض قلبها قلقًا فكل ما تذكرة أنها رأته يصارع القدر وحده، نقيضها فهي استسلمت بسهولة.

الموت، كان بينها وبين الموت شعرة،
شعرة بسيطة وكانت ستذوق ما ذاقه والديها من قبل.
لم تخف الموت أبدًا، ولكن رائحته التي مازالت عالقة بها تشعرها بقشعريرة مخيفة.

نظرت نحو الباب مترقبة الطارق تنتظر دخوله، لتشهق بقوة وتحاول أن تفرغ فاهها وتنطق، ولكن حواسها تغلبها وترفض النطق، فما مرت به من ليلة عصيبة ليس أمر سهلا حتى تتخطاه، مدت يدها للأمام تراه أمامها يتحرك ويتقدم نحوها بابتسامته المعهودة، ولكن هذة المرة ابتسامة حنونة غير سابقتها ماكرة.

جلس جوارها على الفراش يمسك يدها الممدودة ويربت عليها بهدوء، وفي عينيه ألف شيء وشيء، ولكن ما للعين قوة ولا للسان قدرة على النطق.

- ركان.
لفظت بها أخيرًا بعد صراع دام دقائق داخلها، تنطق باسمه وكأنها نجت من الغرق المحتوم.

- أنا آسف.
اعتذر منها بحزن وندم على ما حدث لها، ليشعر بها تنظر نحوه يرفع عينه مقابلها يراها تبكي، دموعها تتسرب على وجنتيها، فرفع يده ومسح دموعها بهدوء ورفق:

- آسف، آسف مهما اعتذرت لن يكفي.

- هذا قدرنا، شاء الله أن يعطينا درس حتى لا نتشاجر ثانيًة.

ضحك على برائتها ونظر نحو الجبيرة، لتفهم ما يدور براسه:
- لا تقلق مجرد جبيرة، كلها خمسة عشر يوم وسأصبح مثل الحصان "غندور".

- غندور!
سألها بتعجب، لتجيبه بفخر وهي تشير نحو نفسها بعفوية وابتسامة واسعه على ثغرها.

- نعم، حصان العم مسعد جارنا بأول الشارع، أنا من أطلقت عليه ذلك الاسم، أليس رائع؟

- أنتِ الرائعة حقًا ملك، أشبه بملاك هبط من السماء ليثلج على قلبي.

تخبطت مشاعرها من كلماته ومدحه لها، فهي غير معتادة عليه حنون وهادئ هكذا، لتحمحم بتوتر:
- كم مضىٰ من الوقت؟!

- ما يقارب الأربع ساعات.

- قمر ومعتز وإخوتي!

سألته بقلق ليرد بهدوء:
- لا تقلقي، لقد طمئنتهم وأخبرتهم بخروجنا اليوم، وليس له داعي قدومهم.

هزت رأسها، ثم رفعت عينيها نحوه عندما سمعته يتحدث بنبرة مرحو:

- أتعلمين ما يحزنني الآن، سيارتي أشعر بالحزن الشديد فأنا لم أفرح بها، إنها جديدة فقد اشتريتها منذ أربعة أشهر فقط، أنفقت فيها كل ما ادخرته العام الماضي، والآن لا تصلح لأي شيء مجرد قطعة خردة.

لم تعرف ما تقول أتضحك على كلامه أم تحزن على ما حدث لسيارته، ليبتسم أكثر برضى متمتم :
- لا تحملي نفسك فوق طاقتها، الأمر مكتوب مهما بلغنا الأمد وأنا راضي بقضاء الله وقدره، فقد قال الله عز وجل في كتابه العزيز: بسم الله الرحمن الرحيم "مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" وأيضًا قال عز وجل: "إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا". صدق الله العظيم.

- ونعم بالله والحمد الله على كل شيء.

. . .

وقف بسيارته أمام بيت صديقتها لتنظر له بهيام وابتسامه خجولة:
- أشكرك.

رفع حاجبيه وزم شفتيه:
- توقفي،بعد كل ما فعلته لكِ تشكرينِ!

استنشقت دفعة عميقة من الهواء، ونظرت له بحب :
- حسنا لا شكر بعد الآن، هل يمكنني قول شيء آخر؟

سأل بعدم فهم وترقب:
- شيء آخر! مثل ماذا؟

استجمعت شجاعتها وتوردت وجنتيها بحمرة الخجل، ابتسمت بتوتر وحياء ليتعجب لأمرها وسكونها، ما هي إلا ثوان حتى نبض قلبه بقوة كقرع الطبول من كلمتها.

- أحبك.

ألقت بكلمتها داخل سيارته، وبسرعة أمسكت بحقيبتها وخرجت ملوحة بيدها له، ثم تحركت مبتعدة عنه كأنها تهرب من فعلتها، مرتبكة خجوله تاركة إياه مشتعلًا بحبها النابض داخل صدره، ليضرب بوق سيارته عدة مرات بطريقه عشوائية حتى يجعلها تلتفت نحوه مرة أخرى وكما أراد حدث، التفتت كعباد الشمس ساحرة وفريدة من نوعها فأخرج رأسه من نافذة السيارة:
- سأحاول أن أكون هادئاً وعقلانيا هذة الفترة، ولكن أعدك بعد الزواج سأرد لكِ كل أفعالك هذه.

ضحكت بغنج رقيق وعفوي، تدير جسدها عنه بنعومة وهي تتحرك داخل بيت صديقتها "قمر".

- كلها أيام حوري.

...

- ماذ به وجهك قمر؟ ما الأمر!!

- قلقه جدا، فقد أخبرني أخي ركان أنهما في المشفى هو وملك ابنة عمي، حادث سير وارتطمت بهم سيارة نقل كبيرة، أنا خائفة عليهما جدًا حور رغم أن ركان طمئنني.

- لا تقلقي، سيكون كل شيء على ما يرام، هاتفيهم لنطمئن.

بالفعل قامت قمر بمهاتفة ركان ليخبرها أن معتز أتى لهما، وهما في الطريق الآن.

- الحمد لله، لقد توقف قلبي من الفزع .
هتفت بها قمر لتبتسم لها حور:
- عندي لكِ مفاجئة يا قمر.

- ما هي؟

- عقد قراني وزفافي بعد أسبوع.

- يالله، أتعلمين قلبي يرفرف فرحًا الآن، سعيدة لأجلك كثيرًا.

.....

بسيارة معتز يقود بهدوء ورزانة كعادته يبتسم باطمئنان، فهو كان مذعورا لأجل أخيه وابنته الروحية، وبخ ركان كثيرًا على عدم انتباهه لتلك الشاحنة، ولكن كعادة الأخ الأكبر حنون فاحتضنه بحنان أخوي بين ذراعيه، وربت على رأس صغيرته ملك بحنو، الجو هادئ ويغلبه الصمت بالسيارة، ركان يجلس بجانب معتز بالأمام وعلى الأريكه الخلفية تتوسط ملك بقدمها المكسورة تنظر للنافذة بهدوء وعقل شارد، توترت بشدة عندما امتدت يده ليضعها على يدها لم تنتبه لتوقف السيارة وخروج معتز ليحضر القهوة، تلعثمت وهي تتفادى النظر نحوه ثم حاولت سحب يدها من يده عندما شعرت بضربات قلبها ترتفع، وبخت نفسها بداخل عقلها (أنتِ من سمحتِ له منذ البداية إياك والاستسلام عودي لرُشدك ملك، وتذكري من يكون ركان بالأساس) حاولت سحب يدها مرة أخرى لكنه لم يتركها.


- ركان أبعد يدك، قالت وهي تحمحم لينظر نحوها ويرمقها بنظرة غريبة جعلتها تنكمش على نفسها بخجل، خجل ؟

هزت رأسها يمينا ويسارا وسخرت بداخل عقلها (بالتاكيد لست أخجل منه!).

" ملك " همس بنبرة مبحوحة، فشعرت بالدماء تصعد إلى وجهها.

" تعلمين ما يدور بداخلي نحوك ! " أكمل وهو يحك عنقه بيده الأخرى بابتسامة.

أومأت وهي تتفادى النظر نحو وجهه بكل طريقة، لكنها صُدمت عندما وجدته يميل عليها فانتفضت وهربت وأبعدت وجهها عنه بسرعة موبخه إياه :
- ماذا تفكر نفسك فاعلًا؟

رمقها باستغراب من عصبيتها المفرطه " ما بك ؟! "

- أرجو أن تلتزم حدودك معي وتتوقف عن تلك الأفعال الهزلية، أنت تتحرش بابنة عمك، لو علم معتز بأفعالك تلك لقتلك مكانك فورًا دون تفكير، لا تجعلني أضطر لإخباره بكل ما تفعله.

ضحك، هل يضحك وهي تفور غضب منه هكذا، ياله من مستفز ثارت أكثر من ضحكاته المستفزه تلك.
- توقف عن الضحك أيها الوقح.

أقترب أكثر نحو مجلسها ومال عليها لتتوتر وتتقوس، تدخل بجسدها بالأريكه أكثر لتزيد ضحكاتة ويرفع يده نحو وجهها، تغمض عينيها بقوة والدم يتصاعد بوجهها، تكتسب وجنتيها حمرة الخجل..

- كان هناك قشة على رأسك، يبدو أنها علقت من تلك الشجرة جوار المستشفى.

قشه!! ما هذا الإحراج والموقف اللعين التي وضعت نفسها به متسرعة، دائما تتسرع بحديثها له كل الحق في الضحك.

-لن أتوقف عن التحرش بكِ ملك حتى ترضخي لي وتتوقفي عن عنادك وجبروتك هذا، سأحصل على قلبك مهما كلفني الأمر، وهذا وعد مني.

قال كلماته ليقرع قلبها كالطبول، تكاد تجزم أن صوت ضربات قلبها يصل إلى مسامعه من قوته، التفت واعتدل بكرسيه مع دخول معتز السيارة مرة أخرى ممسكا بأكواب القهوة بيده لتصمت، وتلتفت نحو النافذة مرة أخرى وهي تستشيط غضبًا.

أبتلعت لعابهاا وهي تراه يغمز لها من مرآة السيارة الجانبية...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي