الفصل الثاني

تطلعت عزة إليها باهتمام كي تستمع منصتة بإصغاء لهذه الوصلة المسلية من حديث جارتها؛ والتي تُتحفها بها كلما خرجت لتقضي حاجتها من السوق او حتي لتبتاع ولو شيئًا بسيطًا من محل البقالة القريب من مسكنهم، لتُنعش خيالها البرئ

في شئ حرمت منه ولا تجده كمعظم النساء،
وهو الجمال الافت للأنظار، الأنثي التي يتهافت على رؤيتها الرجال ويتسابقون لنيل رضاءها، كما تقص وتحكي لها ابتسام الاَن؛ والتي اندمجت في الوصف ببهجة ظاهرة:

- ظل الرجل يلاحقني يا عزة ويسير خلفي من بداية دخولي لسوق الخضار وحتى خرجت واستقليت السيارة الأجرة ولسانه لم يكف ولو لحظة واحدة عن الوصف والمدح في جمالي وعن أمنيته لنيل امرأة مثلي، حتى مللت وكدت أن أطلب له رجل الأمن.

ولكني تراجعت حتى لا أتسبب في أذيته فهو لم يتحرش او يتجرأ على لمسي، ولم يفعل سوى المعاكسة، بالتغزل في جمالي وجمال قدي الذي يوقع اعتى الرجال وهو رجل مسكين كما ذكر.

توقفت لتضحك بانتشاء وهي تتذكر قول الرجل والذي تعدى غزله الوقاحة بوصفه الدقيق لها وما ترتديه من عباءة مُحكمة الضيق على جسدها، مستغلًا سكوتها وعدم ردعه، بالإضافة إلى تباطُئ خطواتها وكأنها سعيدة بما تسمغه.

قطعت شرودها عزة بقولها المتردد مع هذا الشعور القلق والذي ينتابها دائمًا في كل مرة مع جارتها رغم سعادتها بالحديث الممتع وهي تحكي عن لهفة الرجال عليها بتفاخر:

-لكن عزيزتي، ألا تخافي من أن يكون هذا الرجل خطير مثلا فيصُدر منه فعل شيئًا ما لا تتوقعينه ؟
ردت بعدم اكتراث ساخرة؛

-حبيبتي يا عزة وما في بيده أن يفعل؟ نحن في السوق وهذه الأشياء تحدث لي كثيرًا، وأنا بصراحة اعتدت على هذه المضايقات والمناكشات، لكن حينما تزداد معي عن الحد المسموح به أستطيع إيقافه وإيقاف عشر من أمثاله.

-حفظك الله حبيبتي، أنت جميلة ويحق لك الدلال، والتفاخر أيضًا، ما دمتِ قادرة على الحفاظ على نفسك، ضد غدر البشر وأطماعهم.

قالتها عزة بطيبتها المعهودة رغم نبرتها الحذرة في توجيه النصيحة بشكل غير مباشر لجارتها التي تخاف عليها وتهتم بها .

غمر السرور قلب الأخرى دون أن تنتبه جيدًا لمغزى النصيحة التي وجهتها لها عزة، لتقف فجأة وقد دب الحماس بداخلها لتتناول ألأكياس الملقاء على الأرض وفوق الكنبة بجوارها، تنتوي فعل ما تفعله يوميا منذ بداية حمل عزة؛ والتي لحقتها متمتمة بحرج لتمنعها:


-بالله عليك لا تفعل.....
-لا تحلفي حتى تلتزمي برد الكفارة أو الصيام .
قالتها ابتسام مقاطعة لها لتكمل بإصرار:
-سأجلي الأطباق الموجودة في حوض الغسيل سريعًا، ثم نتناول وجبة الإفطار معًا.

كي تأخذي أنتِ بعد ذلك علاجك، ويزداد أنا وزنًا بتكرار الوجبات التي اتناولها مع زوجي ومعك أيضًا.
ضحكت عزة مرردة خلفها:
-ازدادي حبيبتي كما تشائين، فكلما ازدتي في الوزن زاد جمالك.

التفت إليها تسألها بتشكك:
-أرجو أن تكوني صادقة في قولك ولا تجامليني يا عزة.
-أقسم بالله بأني لا أُجاملك، هذا بصدق ما أراه بعيني.
قالتها عزة بابتسامة ودودة زادت الحماس بقلب الأخرى لتردف:-سوف أساعدك بترتيب المنزل أيضًا.

تمتمت خلفها عزة بالكلمات الممتنة وهي تتبعها نحو الذهاب للمطبخ، فجارتها العزيزة منذ أن علمت بحملها وتوصيات الطبيبة لها بالراحة التامة وهي لم تتأخر عنها ولو بيوم واحد لمساعدتها في أعمال البيت وشراء الأغراض من السوق والبقالة.

وخلف باب الغرفة وبعد أن استمع لحديثها اليومي مع امرأته حتى حفظها وعلم بأبعاد كثيرة عن شخصيتها، تابع بمراقبته لهن عبر الثقب الصغير، حتى انتقالهم للمطبخ المقابل لغرفته مباشرة، ليعتدل بانتباه، فالمتابعة الاَن أصبحت أكثر تشويقًا والرؤية أوضح عن الصالة .

تتركز أنظاره عليها وهي واقفة بجوار حوض غسيل الأطباق التي تجليها، وينتظر بشوق انحسار العباءة عليها مع تحركاتها الدائمة داخل المساحة الضيقة.

تباسطها في الحديث مع عزة التي تساعد بخفة معها حتى لا تضر نفسها ويتأثر حملها، وضحكاتها التي تدوي بصخب وتصل إليها لتُلهب خياله المريض، فلا يهدأ ولا يسكن سوى برحيلها بعد فترة طويلة من الوقت.

ثم يأتي بعد ذلك عذاب التفكير في كل كلمة وكل همسة صدرت منها، مع صورتها التي احتلت خياله منذ قدومها مع زوجها من بلدتهم، لتصبح جارة وصديقة لزوجته، مع مشاركتهما هي وزوجها للسكن معهما بنفس الملحق وبهذا القرب بين العأئلتين الصغيرتبن،

تبقى في عقله بطلة لأحلامه، ترافقه في صحوه وتُحرم عليه النوم؛ بالتفكير المتواصل بها والبحث عن طريقة تمكنه من الوصول إليها، ولكن كيف يحدث ذلك؟

بين امرأة تعشق المراَة ليغمرها السرور في كل مرة تنظر لنفسها وترى جمالها بها، وبين رجل يخشى النظر إليها، حتى لا ينظر لنفسه ويرى ما يجعل النساء تنفر منه، وجهه الدميم

❈-❈-

في الخامسة عصرًا وبعد محالاوتها المستميتة بإلحاح
استيقظ اَخيرًا عصام من نومه، بوجه متجعد بعبوسه وتجهمه، وذلك بعد أن ألقى نظرة على التوقيت بهاتفه، ليهتف حانقًا عليها:

-في الخامسة يا امرأة توقظيني على قرب انتهاء اليوم!
تأففت زوجته لترد وهي تصفف بالفرشاة على خصلات شعرها أمام المراَة:

-هكذا أنت دومًا يا عصام، تشدد بقولك على الإستيقاظ في الثالثة، كي ترهقني أنا في المحاولات البائسة ولا تستقيظ إلا بصعوبة، ثم تعود لُتحملني الذنب.

ضغط على شفته السفلي يكظم غيظه كي لا يخوض في نزال من جدال لا فائدة منه معها، ونهض عن التخت يهمس كازًا على أسنانه بعد أن وصل أليها وأصبح بقربها:

-أغلقي فمك ولو قليلًا يا ابتسام، فمزاجي العكر الاَن لا يحتمل ثرثرتك .
التوى ثغرها تنفيذًا لأمره، فهي أيضًا لا تريد سماع توبيخه الدائم لها، لتجفل على صيحته بعد ذلك:

-واتركي شعر رأسك وتصفيفه الاَن، أريد الطعام جاهزًا فور أن انتهائي من حمامي وقبل ارتداء ملابسي.
اومأت برأسها له دون رد لتسمع غمغمته من خلفها:

-لا تفلح في شئ سوى الإهتمام بنفسها، اللعنة عليها وعلى شعر رأسها وجمالها الذي تفتخر به.
زفرت تنظر في ظهره حتى دلف لحمام الغرفة واغلف بابه عليه فتمتمت هي الأخرى:

-اللعنة عليك أنت وعلى برودك يا عديم الشعور والإحساس .
تنهدت بالاخيرة لتذهب لمراَتها المحبوبة تحدث نفسها وهي تتلاعب بخصلات شعرها الذهبي الطويل:

-لا يكف عن التذمر ليتهمني دائمًا بالتقصير، رغم كل ما أفعله معه في محاولاتي البائسة لإرضائه، ومع ذلك لاشئ يعجبه مني، ولا ألقى منه الدعم او التقدير بكلمة حتى .
أعمى البصر إنه حتى لم يهتم بلون شعري الجديد؟

❈-❈
في الساعة السابعة
خرج عمران من شقته بالزي الرسمي للعمل، البنطال الأسود وفي الأعلى قميص باللون الأزرق، والمعطف الثقيل على ساعده يتجهز لأرتداءه، في انتظار عصام
الذي هاتفه منذ قليل.

فقد حان موعد نوبتهما الليلية في حراسة المبنى، انفتح باب الشقة ألمقابلة لشقته ليفاجأ برؤيتها هي أمامه:
-مساء الخير.

القت تحيتها بروتينية ككل مرة تراه بها، وهي تٌخرج الكيس الأسود للقمامة خارج الشقة، لا تضع عينيها بعينيه وتنظر إليه جيدًا، يعلم في قرارة نفسه ان ما يمنعها من ذلك ليس الخجل .

ولكنه النفور من التطلع إلى وجهه الملئ بالحفر، هذا بالإضافة إلى الحرق الذي شمل أكثر من نصفه، فجعل هيئته تقارب المسخ؛ بالتشوه الذي رسم كلوحة فنية بائسة تثير الفضول في النظر إليها من البعض، ويفر من أمامها المعظم.

أجلى حلقه ليرد بلهجة جعلها عادية:
-مساء النور، الم ينتهي عصام بعد من ارتداء ملابسه؟ لقد هاتفته منذ قليل ولم يرد .

أجابت وهي تدعي لف طرحتها جيدًا حول وجهها:
-لقد انتهى وعلى وشك الخروج الاَن، دقيقة وينضم إليك، اتريد مني الدخول إليه واستعجاله؟

من جديد تجيب عن سؤاله متعمدة عدم النظر إليه، ليأخذ هو فرصته كاملة للتأمل جيدًا في ملامحها الفاتنة، هذا البشرة البيضاء الصافية التي لا تشوبها شائبة، عكس زوجته التي انعكس ضعفها الجسدي على بشرتها فجعلها دائمة الشحوب.


رغم كل ما تفعله من اهتمام بها من أقنعة طبيعية في المنزل وكريمات التغذية العلاجية من الصيدلية، فلا يفلح شئ في تصفيتها ولا بتغطية العظام البارزة لوجنتيها الغائرتين، كم ود لو كانت بوجه مستدير كهذه، وجنتين مكتنزتين بلونهما الوردي.

وكأنهن تفاحتين ناضجتبن تنادي صاحب النصيب،
ويا ليته كان هو؟
ارتفعت عيناها فجأة بتساؤل فانتبه من شروده ليرد على الفور بعملية:

-سوف أكون شاكرًا لكِ لو هتفتِ عليه كي يأتي سريعًا، ويستلم النوبة، فلابد من ذهابي الاَن كي اَتي بالعلاج الناقص لعزة من صيدلية أخرى تبعُد عن هنا كثيرًا.
تطلعت وبدا عليها التأثر لتقول بلهفة:
-حسنا سريعًا سأدخل إليه؟

قالتها والتفت لتجد زوجها أمامها بملابس العمل هو الاَخر يردد:
-لا داعي لاستعجالي فقد خرجت وحدي، كيف حالك يا سيد عمران؟

قال الاَخيرة بلهجة مازحة لرفيقه الذي تبسم له فظهرت أسنانه البيضاء وهو يرد :
-جيد جدًا يا سيد عصام، مشتاق ففط لرؤيتك عزيزي.
أطلق عصام ضحكة رنانة ليكملا الرفيقان مزاحهما

وهما يهبطان درج الملحق الذي يسكنان به، أصابتها ابتسام عدوى الضحك خلفهما، لتغلق باب شقتها سريعًا وتنضم للحديث مع جارتها في الشقة الثانية.

❈-❈-
جلس عصام على الكرسي البلاستيكي يرتشف من الكوب الزجاجي لمشروبه الساخن وقد جاء به عمران من القهوة القريبة في اَخر الشارع، والذي كان منشغلًا الاَن بإشعال النيران في الأسفل لتعمل على تدفئتهم وقد
زحف تيار الهواء البارد وشعرت به أجسادهم.

-أممم كوب السحلب الساخن جاء في وقته يا أبا عمران.
قالها عصام متلذذًا بالطعم الجميل بفمه، تبسم له المذكور يرد بامتعاض

-لا أدري يا رجل كيف تُعجبك هذه الأشياء الغريبة؟
ولا يعجبك الشاي الذي يعدل الرأس بالفعل ويدفئ الجسد من كل برد

تبسم عصام يقول متفكهًا:
-لأني كالأطفال يا عزيزي، يعجبني اللون الأبيض وتناول المكسرات بالمعلقة، اقسم انه لمن امتع الأشياء، لا أدري لما لا يُعجبك؟

-لأني لست طفل
قالها عمران بابتسامة متوسعة بمرح، والتي قابلها عصام بالضحك عاليًا، حتى انتبها الاثنان على الصوت النسائي القريب منهما..

-أنت يا هذا أنت يا أخ ؟
أجاب عمران على المرأة التي تبدوا في عمر الثلاثين وبجوارها فتاة تبدوا في الرابعة عشر:
-نعم سيدتي هل تقصدينني أنا؟

نفت برأسها سريعًا المرأة لتلتف نحو عصام تسأله بلهفة متهربة هي وابنتها من النظر إلى عمران:
-هل تعرف اين يسكن الدكتور محس عثمان استاذ الطب النفسي؟

أجابها عصام بحرج من صديقه الذي تجاهلت المرأة سؤاله عن عمد، في حدث تكرر أمامه قبل ذلك كثيرًا، حتى انتابه الإشفاق عليه من هذه الأفعال التي تؤذي مشاعر الاَخر:

-استاذ محسن عثمان في الشارع التالي من هنا، هذا مركز الدكتور عزيز لعلاج العظام وزوجته الدكتورة فاطمة استاذة النساء والتوليد .

ردت المرأة بمسكنة أصابته بالضيق:
-أين هذا الشارع الذي تقصده؟ انا غريبة عن هنا ولا اعلم الطرق ولا حتى انتبه جيدًا لقراءة اليافطات المعلقة، هل تتطوع وتذهب معنا ارجوك؟

التف لصاحبه بتساؤل لإنقاذه ولكن الاَخر ابتلع الغصة المسننة بحلقه، واغتصب ابتسامة يومئ له بذقنه مشجعًا:
-أذهب يا عصام كي تدلها على العنوان الصحيح، وسأنتظر أنا هنا ولن اتحرك من مكاني،

تنهد عصام بضيق ليتبع المرأة نحو العنوان المذكور، ونهض عمران كي يجلس محله يرتشف من كوب الشاي الذي برد، يتطلع لانصرافهم ويراهن بداخله على شئ ما، وكما توقع التفت رأس الصغيرة لتُلقي بنظرة فضوليه نحوه، فشاكسها برفع حاجبه، مع ابتسامة ذات مغزى.

شهقت الفتاة برعب لتعود بنظرها بعيدًا عنه، لدرجة جعلته يشعر نحوها ببعض الشفقة قبل أن يعود ويذكر نفسه أنه لم يخطئ بشئ، هو لم يحُثها على الإلتفات كي تشاهد من جديد الوجه الغريب لتتسأئل عن المتسبب في تشويهه، او عن حجم هذا التشوه.

والأصح قبل كل ذلك، هو ليس مسئولًا عن هذه الهيئة التي خلق بها، وجهه الخالي من المواصفات الجمالية حتى الأقل من العادية، يشبه والدته التي كانت تًعاير من زوجها به؛ بأنها أنجبت نسخة ثانية منها، قبل أن يتوفاها الله في هذا الحريق الذي شب بمنزلهم قديمًا.

فالتهم ألأثاث والتهم نصف وجهه مع محالاته البائسة في النجاة من النيران التي اخترقت غرفته ليلًا وهو نائم، بعد انفجار أسطوانة الغاز، إثر إشعالها بخطأ من والدته راحت ضحيته.
وبعدها يزداد الطين بله في حظه المشؤم

نفض رأسه من ألأفكار السيئة بالغوص في ذكرايات الماضي، حتى لا يجدد على نفسه شعور الحسرة والحزن، تناول هاتفه من جيب بنطاله، لتتغير ملامح وجهه.

وينبت بداخله الفرح المؤقت، بدخوله على وسائل التواصل الإجتماعي وشخصية أخرى غير شخصيته،، قبل أن يدخل بتطبيق الرسائل ويعيد محاولاته في التواصل عبر حساباته العديدة المزيفة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي