الفصل الرابع

وقف بينهم يتابع الحديث الدائر بأعين متربصة لا يغفل عن هفوة، وهي تتحدث بلهفة مع الطبيب تعرفه عن نفسها بأنها زوجة حارسه عصام، لتسأله ببلاهة إن كان يتذكرها أو راَها قبل ذلك، وعزيز يستمع ويتطلع إليها بأعين الإعجاب والإهتمام، فيستجيب لها بابتسامته.

لتزداد لهفتها في الحديث معه، وهذا يزداد اشتعالًا بغضب مكبوت على موقعه بينهم كالخرقة البالية، التي لا يرها ولا يشعر بها أحد، يقرأ جيدًا ما يدور برأسها الاَن نحو إعجاب الطبيب بها وما قد يشطح به خيالها في ذلك، من أفكار يعلمها جيدًا.

بحكم مراقبته الدائمة وفهمه لها فالغبية لا تعلم ان نظرة الطبيب لها لا تتعدى الإعجاب اللحظي بالمرأة الريفية التي تتحدث معه بطلاقة، بالإضافة لجمال صورتها الذي قد يبهره كرجل بوقتها.

ثم تذهب عن ذاكرته بمجرد استقلاله السيارة أو الأنخراط بعمله المرهق في علاج المرضى، او حتى بحديثه العادي مع زوجته الطبيبة التي تليق به وعلى نفس الدرجة العلمية والفكر الواحد.

فمهما كان تواضع الطبيب وحسن أخلاقه؛ فهو لن يميل سوى لمن تعادله في الطبقة، أو ع الأقل يقترب عقلها من عقله في التفاهم، والأهم من ذلك؛ أخلاقه الراقية لن تجعله يميل أو حتى يفكر مجرد التفكير في زوجة أخرى غير زوجتك.

حتى لو أراد؛ فلن يملك الوقت لفعل ذلك، هذا ما يعلمه بحكم تربيته في منزل الرجل، حينما استلم العمل مع الطبيب الكبير عن عمر الثالثة عشر.

لم يظلا كثيرًا على حالتهم حتى أتى عصام بسيارة الطبيب التي أحضرها من أمام المدخل الرئيسي للمبنى، عدة لحظات بسيطة التي مرت ولكنها كانت كفيلة بإحراقه.

خرج الطبيب ليستقل سيارته على الفور قبل أن يراه أحد الأشخاص، فلا يستطيع الفكاك من حصار اَخر، توقفا عمران وعصام حتى اختف السيارة من أمامهما ليعودا لمسكنهم من خلال الباب الخلفي للحديقة وقد انتهى عملهما مع ذهاب الطبيب.

دلف خلف عصام ليجدها مازالت واقفة محلها ولكنها كانت مستندة على جدار الملحق، ونظرة حالمة على صفحة وجهها الذي محتفظًا بابتسامة السعادة، ليصله على الفور ما يدور بعقلها السازج الأحمق.

ربت على وجنتها عصام مستغربًا هيئتها ليأمرها باتباعه لدخل منزلهم قبل أن يستأذن منه ليغفى ويستريح قليلًا حتى يأتي ميعاد نوبته، خلفه هو أيضًا في الذهاب إلى عزة التي كانت تراقب من شرفتها الصغيرة في الأعلى كل ما دار منذ قليل.

❈-❈

وكما توقع كان الطبيب هو بطل الحديث الدائر بين الاثنتان، وهي تقص على زوجته كل ما تحدثت به أمام عزيز، والأخرى تستمع بانتباه، وابتسامة بالإنبهار تعلو وجهها، للجرأة التي طرأت حديثًا على جارتها.

حيث أتتها الفرصة لكي تتحدث مع الطبيب الذي تسكن بمنزله لما يزيد عن الأربع سنوات ومع ذلك لم تتمكن من رؤيته سوى بعض مرات معدودة، بفضل انشغاله الشديد، حتى وهي تعالج من قبل زوجته، الطبيبة الراقية الأستاذة فاطمة.

-لما صامتة أنتِ يا عزة؟ تكلمي وادلي برأيك عن ما قصصته عليكِ.
سألتها ابتسام في محاولة منها لتسمع وتعرف برد فعل جارتها عما تتفوه به، وكان رد الأخرى ابتسامة متسعة ومرحة:

-وما الحاجة لسماع رأيي يا امرأة؟ وقد تطورتي وصرتٍ تحادثين الرجال، لقد فشلت تربيتي، أنا لم أربي جيدًا.
قالتها بمزاح لتنطلق الضحكات الصاخبة منهن فتصل إلى هذا المتعوس الملتصق وأذنه خلف الباب المغلق، ليزداد الضجيج في عقله بالتفكير المتواصل.

لقد رحبت بالرجل وكادت أن تقع من طولها لمجرد رؤيته بالقرب منها، أوقفته واعترضت طريقه بلهفة وخفة غير طبيعية، حتى إذا افتر فاهه بشبه ابتسامة لها؛ حلقت في الفضاء بفرحة وكأنها ملكت النجوم، لتأتي وتقص على زوجته وكأنها فعلت أمر بطولي.

أو أنها التقت بنجمها المفضل في التلفاز، وحصلت منه على توقيع لتظل تفتخر به بجميع سنوات عمرها القادمة، تنهد يغمض عينيه بتمني أن يُصبح هو مكان الرجل، فينال ما يبتغيه من النساء.

نفض رأسه عن هذا الخاطر الغريب، فهو لا يحلم بغيرها ولا يوجد من النساء ما حلت برأسها كمثلها، لقد سكنت بعقله واحتلت وجدانه وسيطرت على كل حواسه، فلا يرى من النساء غيرها، ولا يسمع بأفضل من صوتها، ولا يتنشق برائحة كرائحتها التي تتركها في ركن من منزله.

على صوت ضحكاتهم مرى أخرى يقطع عنه شروده، فالتفت رأسه بحدة، وقد ضاقت أنفاسه وتعب من كثرة التفكير في التعلق بالمستحيل.

خطر إليه النهوض وطردها من منزله كي يستريح عقله ولو لدقائق من مشاغلتها له على الدوام، حتى لو كان هذا بدون قصد منها.

❈-❈

في المساء وعلى ميعاد النوبة المسائية، دلفت لداخل الحجرة على صوت الهاتف الذي لا يتوقف بصوت الإتصالات العديدة التي تتواتر عليه، وزوجها واقف امام المرأة يتأنق بما يرتديه كما ينثر على ثيابه العطر، بتجاهل تام للرد

-عصام الا تجيب على الهاتف اللعين؟ وتريحنا قليلًا من الأصوات المزعجة؟
هتفت بها نحوه مندهشة بانزعاج قابله هو بنظرة باردة لانعكاس صورتها في المراَة، ليرد بعد وقتٍ طويل وقد أحرق أعصابها بالفعل في انتظاره.

-لا أريد الإجابة أو الرد، فلا تهتمي انتِ
صاحت غاضبة وقد أخرجها بهدوئه المستفز عن طورها:
-كيف لا أهتم يا عصام؟ وهذا اللعين قد أصاب رأسي بالصداع النصفي بهذه الاتصالات العديدة، لا تريد الإجابة فاجعله إذن على وضع الصامت أو أغلق الهاتف.

التف إليها صامتًا بنظرة مستخفة تعلمها جيدًا، ظل لعدة دقائق على وضعه، وهي تتطلع إليه بترقب، حتى تحركت شفتاه ليقول اَخيرًا:
-أراكِ اخذت الثقة وأصبحتِ تناطحيني في الرد، بل وأصبحت تأمريني أيضًا بما أفعل وبما لا أفعل.

صمتت تصك على فكها في انتظار المزيد، فهيئة زوجها تدل أن مخزون كلماته القاسية قد أتى ميعاد فيضانه، وكما توقعت وجدته يكمل بنظرة تشملها من اعلى رأسها حتى طرف جلبابها في الأسفل :

-لقد تغيرت يا ابتسام، وأصبحت امرأة أخرى لا أعرفها، فكما أثرت بكِ حياة المدينة وغيرت في صورتك الخارجية للأفضل، غيرتك في طبعك أيضًا، شعرتِ بالإطمئنان حتى جعلك شديد الجرأة، ليُصبح صوتك عاليًا مع زوجك بقلة حياء .

-انا قليلة الحياء يا عصام .
هتفت بها مقاطعة له، فعلى صوته بالصياح عليها بغضب ظاهر:
-مجرد مقاطعتك لي الاَن قلة حياء أنا لا أرضى عنه، لست طويل البال حتى أصبر عليكِ يا ابتسام.

إرتفعت عيناها إليه بتساؤل يشوبه التوتر، وهو الأعلم بما يدور على الفور برأسها الاَن بعد سماعها العبارة، فتابع يضغط على النقطة التي تخشاها دائمًا برعب، ألا وهي تكرار الفشل في زواجها والعودة مرة أخرى مطلقة ذليله في بيت أباها تنهشها أللسنة البشر بلا رحمة.

-لا تأمني غدري حبيتي، قد تجديني الاَن صابرًا على وقاحتك، ثم فجأة اقلب الطاولة فوق رأسك واقوم بتطليقك على أتفه الأسباب، وبعدها سأجد الحُجة الجيدة أمام اهل البلدة حينما اذكر كل أخطائك من وقت زواجي بك.

تعلمين ان الجميع سيصدقني، بل وسيدعمونني في قراري حتى أهلك يا ابتسام، اليس كذلك؟
توقف يرى رد فعل كلماته على وجهها الذي انسحبت الدماء منه، وانفاسها التي أصبحت تتلاحق سريعًا دون توقف من مجرد التخيل.

حتى كاد أن يتراجع مشفقًا عليها، ولكن عقله اليقظ بذكريات الماضي أبى أن يعطي فرصة لعاطفته للتأثير عليه، يكفيه ما عانى منه في زيجته الأولى من امرأة، عشقها بكل جوارحه، حتى عمي عن عيوبها، فجعلته يتغاضى عن أخطائها التي كانت تزداد يومًا بعد يوم.

وحينما انتفض بالرفض لأفعالها، لم يُعجبها اعتراضه لتذكره بتفضُلها عليه، حينما تنازلت وتزوجت بمن أهو اقل منها تعليمًا بشهادة أقل من شهادتها الجامعية،
نفض رأسه ليجلي عنها زكريات الماضي التي حفرت بالقلب ندبة عميقة لا يعتقد انه سيشفى منها أبدًا.

غلف وجهه بقناع قاسي يدعي الحكمة وقول النصيحة:
-أنا لا أُخيفك ولكني أحذرك، حتى لا تكرري الخطأ، فشلك في الزواج الثاني سيقضي على كل فرصك الجيدة في الزواج للمرة الثالثة.

أنتِ جربتي قبل ذلك ولا أعتقد نسيانك لنمازج الرجال التي تبتغي الزواج من مطلقة، مابين أرمل يريد امرأة لتربية أطفاله، او شاب فاشل لا يجيد تجهيز نفسه فيطمع بجهاز غيره مع مطلقة لن تكلفه شئ، أو رجل عجوز يريد الزواج بمن تعيد إليه شبابه.

ظلت صامتة بأعين غائمة، لجمتها كلماته السامة عن الرد، وقد ذكرها بهذه الأيام العصيبة في الشد والجذب مع عائلتها التي كانت تريد سترها والموافقة على اي خاطب مهما كانت صفته، وهي لا تجد غير البكاء حيلة لردعهم عن الضغط عليها كي توافق .

تنفس أمامها بعمق شاعرًا بالأكتفاء مما فعله بها، كاتمًا هذا الصوت من الداخل والذي يدعوه لطمئنتها، لعدم نيته في فعل ذلك والأنفصال عنها، ليربط على قلبه بالالتفاف عنها ينتوي المغادرة

فتناول هاتفه وعلاقة المفاتيح ليضعهم بجيب بنطالة ثم ذهب منصرفًا دون أن يكلف نفسه عناء النظر نحوها، ومعرفة ما أصابها.

وقد سقطت بجسدها على أرضية الغرفة بعد ان تهاوت اقدامها عن حملها، وقلبها من الخوف ازداد خفقانه بصورة جعلتها تشعر بقرب توقفه، تتمنى الموت ولا العودة لهذه السنوات المريرة التي قضتها كمطلقة، حمل ثقيل على أهلها في المنزل.

وفي الخارج تتربصها الأعين أينما وطئت أقدامها، تُحاوطها الظنون والأتهامات المسبقة على أقل فعل تقوم به، مطمع لكل خسيس يظنها سهلة المنال.

كالبضاعة المستعملة يقل ثمنها مع أي خاطب من الأعداد الغفيرة التي تريد الزواج بها، ولا تجد منهم من ما يناسب او يصلح لها.

❈-❈

-إلى أين أنت ذاهبة؟
تفوه من خلفها فجأة لتشهق منتفضة واضعة كفها على موضع قلبها وقد أجفلها الاَن بحضوره، فتسائلت بأنفاس متهدجة:
-متى جئت يا عمران؟

تقدم نحوها بوجه عابس فقد استفزه استمرار خوفها الغريزي منه في كل مرة تتفاجأ برؤيته رغم مرور السنوات التي جمعتها معًا، وكأنه تذكره عن غير قصد بتشوه وجهه، فقال مشدد على أحرف كلماته:

-أنا من بدأت بالسؤال، إذن فعليك الإجابة وليس الرد بسؤال اَخر.
ابتعلت لتجيبه ببعض الثبات وقد هدء ارتياعها قليلًا:
-لن أذهب بعيدًا بإسدالي هذا يا عمران، هما خطوتين فقط للشقة المقابلة لشقتنا، سأذهب لجارتي ابتسام.

أخفى ارتباكه لمجرد ذكرها بالأسم، وسألها بنبرة طبيعية:
-ولما لا تأتي هي؟ ألا تعلم بأنك متعبة وكثرة الحركة خطر عليكِ وعلى حملك؟
أجابته بعفوية:
-تعلم كل ذلك وهي دائمًا ما تأتيني وتساعدني أيضًا.

-ولكنها اليوم بحال بائسة ومنهارة من البكاء بعد شجارها مع زوجها، لقد اتصلت بها وعلمت منها ذلك، أود الذهاب للاطمئنان عليها، فهي لم تقصر معي أبدًا.
سألها بفضول تملكه للمعرفة؛
-ألم تعلمي منها سبب الشجار؟

-سوف اعلم حينما أذهب.
قالتها سريعًا وهي تعيد بلف حجابها قبل الذهاب، ولكنها تذكرت لتساله:
-لم تخبرني يا عمران، عن سبب حضورك من نوبة عملك بالأسفل الاَن؟

لوح أمامها بالعلبة الفارغة قبل أن يذهب لوجهته في المطبخ، لتعلم انه قد أتى من أجل تعبئتها بالسكر من أجل إعداد الشاي والمشروبات الساخنة كي تساهم في تدفئته ومعاونته على السهر مع رفيقه في الأسفل، اومأت بتفهم وانصرفت بعد ذلك ذاهبة.

وبداخل المطبخ توقف مستندًا بظهره على طرف حوض غسيل الأطباق من خلفه، وقد ذهب عقله إليها، يتسائل بداخله عن المتسبب في المشاجرة التي حدثت بينها وبين عصام الذي تركه بحالة لا يرثى لها في الأسفل، هي منهارة في البكاء وهو متجهم الوجه بشرود.

لكم ود اختراق الشقة المجاورة الاَن ليسمع منها كل ماحدث بأذنيه كفعل ما يقوم به كل صباح، وليس تلخيص مبهم من عزة التى لا تتحدث بغير المفيد، وهو مغرم بالتفاصيل في كل ما يخصها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي