قلب رجل و 99 أنثى البارت السادس

*"قلب رجل و99 أنثى" "البارت السادس"*
تنهدت جويرية وتنفست الصعداء وقالت بابتسامة مرحة وهي ما زالت تقف خل الحاكم:
_أتعلم! أنا أحلم بهذا اليوم منذ سنوات، لن يطرأ في مخيلتك كم عانيت كل تلك السنوات حتى أصل إلى هنا وأُصبح في منتصف غرفة نومك،

نظرت جويرية حولها في جميع أرجاء الغرفة وقالت باستهزاء:
_كل هذا الثراء الفاحش بالإضافة إلى معاونيك المخلصين لن يستطيعوا أن يخلصوك من قبضتي،
أصدر الحاكم صوتاً كالزمجرة مشيراً لأنه يريد أن يقول شيئاً،

انتبهت له جويرية وابتسمت باشمئزاز وأزالت عنه الوشاح الذي عصمت به فمه، صاح الحاكم وقال:
_من أنتِ؟! وما الذي دفعك إلى فعل ذلك؟! ولمَ تختبئين خلف ظهري؟! فلتتحلي بالشجاعة وتجعلينني أرى من تلك التي تجرأت على إقتحام بيتي بحيلها؟!.

قهقهت جويرية وتقدمت كي تقف أمامه، ولكنها كانت ما زالت تضع الوشاح الذي يخفي وجهها، فقال الحاكم ببلاهة ومكر توقعتهم جويرية بالتأكيد:
_أتمزحين معي؟!.
نظرت إليه جويرية ثم رفعت حاجبها الأيمن وأزالت الوشاح الذي يخفي وجهها،

صُعق الحاكم حينها، حتى أنه تلعثم ولم يستطع أن يُبدي دهشته بغير ذلك، ظل يُحدِّق بها وكأنه يتأكد من أنها حقيقية، فقال وهو ما زال يشعر بالدوار من شدة ذهوله:
_أنتِ ابنتة عائشة أليس كذلك؟! لا أصدق مدى التشابه بينكما،

أنتِ تشبهينها كثيراً عندما كانت في مثل سنك ولكنك تفوقتِ عليها في الجمال، من ماذا خلقتِ أنتِ؟!.
كانت جويرية قد وضعت الحاكم في منتصف الغرفة في الأرض بعدما عقدت الحبل حول جسده جيداً، جلست أمامه ونظرت إليه باهتمام قائلة:
_هل تتذكر والدتي؟! كيف ما زلت تتذكرها بعد مرور هذه السنوات؟!.

تنهد الحاكم بعدما اغرورقت عيناه وشحب وجهه فبدا وكأنه ازداد في الكبر عِتِيّا، قال وقد شرد في ذكريات لم تذهب عن باله لحظة واحدة:
_أنا لم أنسى والدتكِ قط كي أتذكرها، في كل ليلة لا ينطبق جفنيْ سوى بعدما أتحدث إليها وكأنها معي، لقد اشتقت إليها كثيراً.

شعرت جويرية وكأن دمائها تغلي كغلي الحميم، حتى أنها لم تستطع أن تتمالك أعصابها وأمسكت به من ثوبه وقالت:
_هل تحاول خداعي؟! ماذا تقصد بحديثك هذا الذي لا جدوى منه؟!.

تنهد الحاكم وقال بحزن:
_هذه هي الحقيقة، منذ سنوات عديدة رأيت والدتكِ أثناء عملها في مزرعة جدكِ، ومنذ ذلك الحين أصبحت أسيراً لدى عينيها، لقد شغفتني حباً، كنت على استعدادٍ تام لأن أضحي بكل ثرواتي في مقابل أن تكون عائشة معي،

كنت يوميا أبعث أعواني كي يبتاعوا منها ثمرات الفاكهة، كنت آكلها دون أن يقوم أحدهم بغسلها لم أُرِد أن يختفي أثر لمساتها من على الثمار.
اقتضبت جويرية حديثه وقالت بانفعال:
_أهذا هو الحب؟!! وماذا فعلت أنت في النهاية؟! لقد قتلتها بيدك دون أن تتراجع عن الأمر حتى أنك لم تفكر في ذلك، أهذا ما يفعله المُحب من أجل حبيبه!؟.

تنهد الحاكم وقال:
_خشيت أن تلتقِ برجل يجعلها تحبه فتتزوجه، أنا لم أحتمل زواجها من صادق وكذلك لم أكن لأحتمل زواجها من شخصاً أخر لم أكن لأسمح لذلك.

ابتعدت عنه جويرية قليلا ونظرت في إتجاه آخر وقالت بعدما اغرورقت عينيها:
_كيف استطعت أن تقتلها بيدك؟! ألم يرق قلبك ولو لبرهة؟! ألم يعتصر فؤادك حينما اخترق سهمك صدرها؟! كيف استطعت أن تكون متحجر القلب هكذا؟!.

تنهد الحاكم بألم وقال بتذكر:
_لقد التقيت بها عندما كانت في سن السادسة عشر، أخبرتها أنني متيّم بها وأود الزواج منها، كنت أظن أن الفتيات يركضن خلف الثراء الفاحش والسلطة، لم أكن أظن أنها ستضيع فرصة الزواج من حاكم القرية ولكنها رفضت،

أخبرتني أنه تم خطبتها وتمنت لي الحظ السعيد مع امرأة أخرى، ربما لم توافق على طلبي لأنني أكبرها كثيرا في العمر ولكنني أحببتها بقلب ما زال يتمتع بشبابه، لقد رفضت عشقي لها رفضت الزواج بي حتى تتزوج من ذلك الفقير الذي لم يكن يملك سوى بيتاً صغيراً أنا لا أقبل أن أعطيه لأحد خادميْ، لقد تقبلت فقره ورفضت غناي.

فقالت جويريةوهي ترتشف دموعها:
_وقتلتها كي تنتقم أليس كذلك؟!.
طأطأ الحاكم رأسه وقال:
_ ربما شيئا كهذا.
أغمضت جويرية عينيها فسالت دموعها وقالت وهي تخفيهم:
_أين أخي؟!.

انتفض الحاكم من شدة المفاجأة وقال وقد جفت عروقه:
_مـ ماذا تقصدين لم أفهم!.
ثار ثوران جويرية وأخرجت سلاحها الأبيض واتجهت نحوه بسرعة البرق ووضعت سلاحها فوق رقبته،

وقالت وهي تحاول أن تروض وتقاوم روح الإنتقام بداخلها:
_أقسم بمن خلقني وخلقك إن لم تخبرني بالحقيقة وأين ذهب أخي فلن أتردد للحظة واحدة حتى أُريق دماؤك، عليك أن تعلم أنني لا أمزح.

وبالفعل قامت جويرية بغرس سلامحها في إحدى جانبي رقبته حتى يتحدث وإلا فسوف تقتله بالتأكيد.
تألم الحاكم وسالت الدماء من جانب رقبته وقال بتألُّم شديد:
_حسنا حسنا سأخبرك، ولكن عليكِ أن تخبريني أولا من الذي أخبركِ أنه ما زال على قيد الحياة!.

ظلت جويرية تنظر إليه ولم تذعن فتابع حديثه قائلا:
_لا بد وأنها الحكيمة، سأقوم بإعدامها بأبشع الطرق على الإطلاق لأنها لم تحتفظ بسر حاكمها.
ضحكت جويرية وقالت:
_كم يسعدني إخبارك أنك لن تفعل ذلك ولن تستطع لأن الحكيمة قضت نحبها عصر اليوم.

قامت جويرية بوضع إصبعها السبابة في الجُرح الذي سببته للحاكم وظلت تحركه كثيرا كي يتألم الحاكم بشدة ولكنها وضعت يدها الأخرى على فمه حتى لا يصدر صوتا، اقتربت منه جويرية وقالت:
_والآن أخبرني أين أخي؟! ولماذا قُمت باختطافه؟!.

ألا تعلم كم عانت والدتي في الحزن عليه وكم ذرفت الدموع لأجله؟! كيف استطعت أن تكون بكل تلك الضراوة؟!.
صاح الحاكم في وجهها وقال:
_لم أستطع أن أكون معها لذلك إتخذت ابنها كإبنٌ لي،

كنت أتوق لأن يربطنا شيء ما ولم أجد سوى ذلك الحل، لقد جعلته في مكانة يحلم بها كل الأولاد في القرية، كل ثروتي كانت تحت قدميه، ما إن يؤشر على شيء إلا وأحضرته له.
اقتضبطت جويرية حديثه وقالت:
_أين هو الآن أريد أن أراه.

طأطأ الحاكم رأسه ثانية وقال بندم:
_عندما قُتلت والدتكِ أخبرته الحكيمة أن عائشة والدته الحقيقية، حينها أتى إليْ وواجهني بهذا الحديث، لم أستطع أن أكذب عليه وأخبرته بالحقيقة ومنذ ذلك الحين لم أراه، فقط رمقني بنظره لم أستطع نسيانها أو تخطيها حتى الآن،

فقط رحل إلى حيث لا أدري، قضيت السنوات الماضية في البحث عنه حتى أنني جعلت من هم في العالم الخارجي يبحثون عنه ولكن كل جهودنا كانت بلا جدوى.

خارت قوى جويرية وسقطت أرضا، كانت جاسة تحدق في الفراغ بينما كانت الدموع تنهمر منها وبشدة، لقد فقدت بصيص الأمل الذي كانت تسعى خلفه، نهضت سريعا قبل أن يأتي أحد وكادت أن تنغمس في أمر معاقبة الحاكم على كل ما فعله ولكنها سمعت صوت غير مألوف،

نظرت إلى الحاكم سريعا وقالت بتوجس:
_ما هذا الصوت الذي أسمعه؟!.
لاح التوتر على وجه الحاكم ولم يذعن، فقامت جويرية بالبحث خلف ذلك الصوت، عندما قامت بفتح خزانة ملابس الحاكم وجدت شيء يضيء بشدة،

التقطت ذلك الشيء الذي ربما صُنع من الحديد أو ما شابه، نظرت جويرية نحو الحاكم وبيدها ذلك الشيء وقالت:
_ما هذا الشيء؟!.
تبسم الحاكم وقال بخبث:
_هذا ما لم تفقهوا عنه شيئا.

ثار ثوران جويرية واتجهت نحوه وسريعا وفي خلال لحظات كانت قد شقت عُنقه وتناثرت دماؤه حتى أن بعض القطرات منه تناثرت على وجه جويرية، لم تُرد جويرية أن تُضيع مثل هذه اللحظة في الخوف والهرب، كل ما أرادته هو أن تظل تنظر إلى الحاكم ودماؤه تسيل حتى امتلأت ثيابه بلون الدم،

كانت جويرية تشعر بالفخر لأنها استطاعت أن تنتقم وأخيرا، لقد خلصت القرية من شره وإلى الأبد، لا بد وأن الأهالي سينعمون بحياة أفضل بالأخص الفتيات من الآن فصاعدا لن تُجبر أي فتاة على الزواج في سن مبكر دون إرادتها.

كانت جويرية ما زالت تمسك بسلاحها الأبيض الملوث بدماء الحاكم، لم تنتبه من شرودها سوى على صوت رجل من الجلادين يقف عند باب الغرفة، كان يحدق في الحاكم ولكنه سرعان ما استوعب الأمر ووجه قوسه نحو جويرية،

ولكنها كانت أسرع منه وألقت بسلاحها فاخترق بطن ذلك الجلاد، سقط من جيبها ذلك الشيء الذي وجدته في خزانة الحاكم بالطبع أرادت أن تحتفظ به لأنه أثار دهشتها ولكنها لم تنتبه لسقوطه، ولت بالفرار حتى لا تتورط أكثر من ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خارج البيت كانا عمار وبشار ينتظران عودة جويرية فقد تأخرت كثيرا عنهم ولم يكن ذلك في الحسبان، فقد اقترب مطلع الفجر ولا بد من أن تكون قد خرجت قبل ساعة، نظر عمار نحو بشار وقال:
_بدأ الجلادون في التجول كثيرا، لا يمكننا قتل كل هؤلاء، علينا أن نفعل شيئا.
لاح التوتر على ملامح بشار وصار يفكر في طريقة ما حتى يُبعد الجلادون عن البيت وكذلك يريد أن يعطي جويرية إشارة حتى تنتبه لأن الوقت يداهمها، وإن لم تسارع في الخروج بالكاد سيلتقطونها وربما تُعدم في الصباح الباكر، تحرك بشار وأخذ مصباح الغاز الذي كان بحوذته وتحرك نحو عربة الحاكم الخشبية وأفرغ الغاز كله على سطحها ومن ثَم أشعل بها النيران وذهب نحو عمار سريعا كي يختبيء.
اجتمع الجلادون نحو العربة وكانوا يحاولون إطفائها بينما تحرك بشار وعمار نحو البيت كي يحضروا جويرية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منذ سن الثانية عشر، كانت جويرية تراقب الجلادون وتراقب كيف يقاتلون ويلقون بالسهام وكيف يصيبون أهدافهم بسهولة، تعلمت من مراقبتها لهم كيفية الدفاع عن النفس والتخلص من أي عدو بذكاء وفطنة.
ركضت جويرية ولكن ليس نحو باب المنزل، فقد كانت تبحث عن الغرفة الخاصة بكبير الجادين، ذلك الذي لطمها بقوة منذ عدة سنوات حينما كانت تريد أن تخلص والدتها من بين قبضته، ومن خلال مراقبتها الدائمة لهم علمت أنه يعيش في البيت عينه الخاص بالحاكم، ظلت تبحث عن غرفته حتى وجدتها، دلفت إلى الداخل ببطء شديد وجدته مستغرق في نوم عميق، فأشاحت عنه غطاؤه ووجَّهت له لطمة كالتي وجّهها لها منذ زمن، سرعان ما استيقظ وكاد أن ينقض عليها ولكن سلاحها كان أسرع منه بكثير، لقد تخلصت منه هو الأخر.
وقفت جويرية تنظر إليه كثيرا وتتذكر تفاصيل اليوم المشئوم وكيف كانت حالتها فيه، لم تجد نفسها سوى تبثق عليه، تحركت نحو باب الغرفة كي تخرج ولكنها فوجئت بجلاد آخر يقف أمامها ويوجه سهمه نحوها، سددت له جويرية ضربة قوية في بطنه جعلته يقع أرضا ومن ثَم ركضت بعيدا عنه، وقبل أن تختفي من تحت أنظاره عاد لرشده ووقف ثانية ووجّه سهمه نحوها ثانية، كاد السهم أن يخترق ظهرها لولا سرعة البديهة التي لديها ولكنه أصابها بشدة في بطنها، ولكن ذلك لم يوقفها لذا استمرت في الركض كي تخرج من البيت، وفي طريقها التقت ببشار وعمار اللذين صُعقا حينما رأوا الدماء تتدفق من بطنها، عاوناها على السير وخرجا سريعا من البيت لكي لا يراهم أحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ذهبوا ثلاثتهم إلى بيت بشار، ووضعوا جويرية في الفراش حتى تستريح قليلا، فقال عمار وهو يشع غضبا:
_لماذا تأخرتِ هكذا؟! كدنا نلقى حتفنا هناك ما الذي حدث جعلكِ تنتظرين كل هذا الوقت؟! أرأيتِ نتيجة تأخركِ الآن؟! لقد تعرضتِ للهجوم.

ضحكت جويرية بضعف وقالت:
_لم أستطع أن أفوت هذا الشرف، كان يجب عليكما أن تريا الحاكم حينما قُمت بشق عنقه، لقد كان ذلك حلم بالنسبة لي واستطعت أن أحققه وأخيرا.
تبسم بشار بتوتر قائلا:
_حسنا؛ ماذا سنفعل الآن؟!،

كيف سنوقف تلك الدماء!؟ ولا نعرف أو حتى ليس لدينا حكيمة ولا يمكننا أن نبحث الآن فبالتأكيد سنثير الشكوك حولنا.
نهضت جويرية وأخذت شهيقا عميق وقامت بربط منتصف بطنها بوشاحها،

وقالت بضعف تحاول أن تخفيه بقدر الإمكان:
_لن يصمت الجلادون، سيبحثون عن القاتل ويمعنوا التفتيش في سائر البيوت.
انتفض كلا من بشار وعمار وقالا في آنٍ واحد:
_وماذا سنفعل الآن؟! يجب أن نُخبّئكِ حتى لا يصلون إليكِ.

تنهدت جويرية وقالت:
_لا تكترث لأمر الإختفاء في القرية، لأن هذا لن يجدي نفعا، يبدو أنه حان موعد الرحيل.
عقد بشار حاجبيه قائلا:
_ماذا تقصدين؟! لم أفهم!!.
ضغط عمار على أسنانه من شدة الغضب قائلا:
_لا تقولي أنكِ تنوين الرحيل من القرية.

حركت جويرية رأسها بالإيجاب وقالت بحزن:
_بالضبط، يجب عليْ أن أرحل قبل مطلع الفجر خذاني إلى حدود القرية، لا يمكنني الإختباء هنا صدقوني، أريد أن أذهب قبل أن تنقلب القرية رأساً على عقب بحثا عني.

نظرا بشار وعمار إلى بعضهما البعض ومن ثَم نظرا نحو جويرية التي اغرورقت عينيها وقالت:
_ليس لدي خيار آخر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لم يكن الطريق إلى مشارف القرية سهلا أبدا، فقد انتشر الجلادين في القرية يبحثون عن القاتل، لقد شَق ذلك على ثلاثتهم، بينما كانت جويرية تحاول أن تركض بسرعة كعادتها سقطت أرضا وقد امتلأ وشاحها الذي ربطته حول بطنها بالدماء ولكنها لم تضعف ونهضت ثانية وأكملت الطريق إلى أن وصلوا إلى مشارف القرية.

كان بشار قد أعد لها حقيبة من القماش بها بعض الطعام والشراب وسُرة من العملات الفضية ربما تحتاجهم، وأحضر لها عمار مصباح غاز كي ينير لها الطريق.
توقفت جويرية لبرهة، نظرت نحو القرية والبيوت المترامية في أركانها، جال في خاطرها كل شيء وكل شعور راودها في القرية،

هذه المرة الأولى التي ستطأ قدمها خارج القرية إنه مجبورة على فعل ذلك.
نظرت نحو عمار وبشار وقالت لهم بأعين دامعة:
_كونوا بخير، واهتموا بأنفسكم جيدا، لا أعلم إن كنا سنلتقي ثانية أم لا.

نظرت جويرية نحو بشار وقالت:
_فلتأتي معي أود أن أُحدثك في أمر هام.
تحركا جويرية برفقة بشار مبتعدين بضعة خطوات عن عمار وتحدثوا سويا ومن ثَم ودعتهم جويرية وولّت بالفرار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في الصباح الباكر
تجمع الجلادون في ساحة القرية بعدما طرقوا أبواب جميع البيوت وأخرجوا أصحابها منها، كانت الأهالي في حالة دهشة مما يحدث وكانوا يجهلون السبب وراء ذلك، لم يكن يعلم السبب سوى عمار وبشار الذيْن خشوا أن يكون أحد ما رآهم حينما كانوا في بيت الحاكم.

قال أحد الجلادين بصوته الرخيم:
_لقد قُتل رئيس الجلادين أمس، وهذا لم يحدث من قبل، من الذي تجرأ على فعلة شنيعة كهذه!! أود إخباركم أننا سنجد الفاعل سنظل نبحث عنه ليلا ونهارا، أقسم أنه لن يفلت بفعلته هذه،

إن كان منكم من يعرفه أو يشك بأحد فليتقدم للأمام ويخبرنا حتى لا نكتشف ذلك فيما بعد ويكون أحدكم يخبأه كي يحميه فهذا يعتبر جُرم آخر ولن نتهاون أو نتساهل مع أي من الفاعل أو معاونيه.

فقال رجل من أهالي القرية:
_أين الحاكم يا أخي؟! لم نعتاد أن يفوّت الإجتماعات الهامة كهذه!!.
لاح القلق على وجه الجلاد ولكنه قال بصرامة:
_إنه مريض، فلتدعوا له بالشفاء العاجل، لقد وصاني أن أقول لكم، إن من سيدلنا على المجرم سيُكافأ بألفيْ قطعة نحاسية، يمكنكم الإنصراف الآن.

نظرا بشار وعمار إلى بعضهما البعض وكانوا يودون أن يضحكا ولكن لا يمكنهم في تلك التجمعات فإن فعلا حتى ولو عن طريق الخطأ ستحوم حولهم الشكوك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ظلت جويرية تركض بأقصى سرعة لديها، كانت الصحراء وجبالها الشاهقة تحيط بها من كل جانب، كانت تركض كثيرا وتتوقف لبرهة حتى تلتقط أنفاسها ومن ثَم تُكمل طريقها، على الرغم من أنها كانت ترتدي كندرتها إلا أن الرمال الملتهبة كانت تلفح قدمها من الأسفل من شدة حرارتها،

شعرت جويرية بالدوار وقد نفدت المياه التي كانت بحوزتها، فوضعت جعبة الماء فوق الرمال وجلست فوقها، أزالت الوشاح من حول خصرها فوجدت الدماء ما زالت تسيل، التقطت أنفاسها بصعوبة وكانت عينيها تُغلق رغما عنها،

وقبل أن يُغلقا نهائيا رأت أحد ما يقترب منها ولكنها لم تستطع أن تميز ملامحه من شدة الدوار، لقد خارت قواها ولم يعد لديها طاقة للنهوض والهرب من ذلك الغريب،، وفجأة فقدت الوعي وسالت الدماء لتروي الرمال العطشة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فتحت جويرية عينيها بإعياء شديد، شعرت وكأن الشمس فوق رأسها من شدة الحرارة، نظرت أمامها فوجدت والدها صادق ووالدتها عائشة يمسكان بيدي بعضهما وينظران إليها، سعدت كثيرا لرؤيتها لهم وكادت أن تركض نحوهم كي تحتضنهم وتشتم رائحتهم،

فقد افتقدتهم كثيرا، ولكن هناك شيء منها بشدة، فنظرت إلى جسدها وجدته مكبّل بسلاسل من حديد وقد نُصبت على جزع نخلة، نظرت حولها فوجدت أنها في وسط ساحة القرية وهناك الكثير من الأهالي، ظلت تحرك جسدها قدر المستطاع ولكنها كانت مُثبّته بقوة،

نظرت إلى والديها وقالت بينما سالت دموعها بغزارة:
_أمي أبي حرراني من هنا أرجوكما، لا أريد أن أموت، لا لن تكون هذه نهايتي أبدا، أنتم لن تسمحوا بذلك، أرجوكم افعلوا شيئا.

نظرا والديها إليها بحزن شديد، وقالت عائشة بحزن:
_لا يمكننا ذلك يا عزيزتي، أنتِ يمكنكِ أن تحرري رقبتك، فقط أنتِ.
انهمرت دموع جويرية ونظرت لوالدها وكأنها تستغيث به، كانت كالطفل الذي سقط في بئر ما ولا يجيد السباحة،

ويحاول ذلك الصغير أن يُجدّف بذراعيه الصغيرتين ولكن بلا جدوى بينما والده ينظر إليه، تكفي نظرة الطفل لوالده سيخبره من خلالها أنه في خطر وكأنه يريد منه أن ينقذه ولا يمكن لأحد سواه إنقاذ صغيره.
قال صادق وقد فهم نظرت جويرية إليه:
_أنتِ فتاتي القوية، ستستطيعين أن تلوذي بالفرار يمكنكِ فعلها.
#صغيرة_الكُتَّاب
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي