قلب رجل و 99 أنثى البارت التاسع
*"قلب رجل و99 أنثى" "البارت التاسع"*
اغرورقت عيني جويرية، شعرت أنها ما زالت لم تستطع تخطي ذلك الألم، تنهدت وقالت بصوت متهدج:
_ليس لدي عائلة، لقد قُتـ..
لم تُكمل جويرية حديثها حينما دلف بكر إلى الغرفة فجأةً، تقدم نحوهم قائلا:
_لقد أحضرت لكن إفطاراً شهيا، هلموا لأنني أتضور جوعا.
أخفت جويرية دموعها سريعا قبل أن يتمكن بكر من رؤيتها بينما دق هاتف كلثوم بالرنين، فاستأذنت منهم وخرجت كي تجيب.
جلس بكر بجانب جويرية، نظر إليها قائلا:
_هل أنتِ بخير؟؟.
تبسمت جويرية بود قائلة:
_أجل، أشعر بأنني بخير جدا، شكرا لك.
غمز بكر بعينه ممازحا وقال:
_على الرحب والسعة.
دلفت كلثوم إلى الغرفة وقالت وهي تسرع إلى حقيبتها:
_أعتذر جدا، ولكن يجب عليْ أن أغادر في الحال.
نهض بكر مسرعا وقال:
_هل كل شيء على ما يُرام؟! تودين أن أوصلكِ إلى المنزل؟!.
تبسمت كلثوم بتوتر وقالت وهي تتجه نحو باب الغرفة:
_لا تقلق كل شيء بخير، ليس هناك داعي لتقوم بإيصالي فالسيارة تنتظرني بالأسفل، وداعا.
ودعتهم كلثوم بابتسامة ورحلت.
بعدما انتهيا بكر وجويرية من تناول الطعام، نظر بكر في ساعة يده ففوجيء أنها تجاوزت السابعة مساءً، فقال بملل:
_ما رأيكِ في أن نهبض للحديقة!.
نظرت إليه جويرية بعدم إكتراث وقالت وهي تشير نحو الأجهزة الطبية:
_لا، دعني هنا أتأمل تلك الأشياء العجيبة.
ضحك بكر بشدة قائلا:
_هنا في بلدتنا تلك الأشياء التي ترينها عجيبة وتودين تأملها، هذه آخر شيء من الممكن أن يود أحد تأمله، هناك الكثير من الأشياء عليكِ رؤيتها، هيا فلنهبط ربما تحبين ذلك!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هبطا سويا إلى الحديقة، كانت شيئا براقا بالنسبة لجويرية، لقد أحبتها كثيراً، شعرت أنها فرحة من الداخل أيضا، يبدو أن الحدائق ترسل الفرح في الأفئدة المتعبة، بعدما تجولت جويرية في الحديقة ما يقارب إلى الخمس مرات جلست وأخيرا كي تستريح على المقعد بجانب بكر.
قالت جويرية بينما كانت تنظر إلى السماء وتتمتع برؤية النجوم:
_لماذا تفعل كل هذا معي؟!.
نظر أليها بكر قائلا:
_عفوا!! لم أفهم، ماذا تقصدين؟!.
نظرت إليه جويرية وقالت بجدية:
_هل حقا لا تفهم ما أقول؟! أم أنك لا تعرف ما الذي أفكر به؟!.
ضحك بكر قائلا:
_كلاهما، ماذا تودين أن تقولي؟!.
تنهدت جويرية بحزن وقالت:
_لماذا تساعدني؟! لماذا لم تتركني هناك؟! لماذا أنقذتني من فاه الموت؟! كل تلك التساؤلات تدور في رأسي ولا أجد لها أي تفسير، لماذا تفعل كل ما بوسعك كي أتعافى؟!،
ما الذي تريده؟! أقصد ماذا سأفعل لك في المقابل؟! ليس لدي شيء كي أعطيه لك مقابل كل ما تفعله معي، إذاً أعطني سببا يُهدّيء من الضجيج الذي يعج في رأسي، رجاءً.
تبسم بكر واعتدل في جلسته كي يكون مواجها لها بجسده وقال:
_لم أجرؤ على ترككِ هناك، إنتِ تستحقين الحياة، منذ الوهلة الأولى والآونة التي تليها علمت أنكِ عانيت كثيرا،
ألا تستحقين أن تنعمي بحياة أفضل؟! حينما وجدتكِ في الصحراء ملقاة على رمالها الملتهبة وفي جسدكِ جُرح ما زال ينزف الكثير من الدماء، لم أتراجع لخطوة واحدة وقُومت بحملكِ وفعلت كل ما استطع كي لا تفارقين الحياة، ولكن السبب الرئيسي لكل ذلك حتى أنا لا أعلمه للآن.
قالت جويرية بعدما كانت تفكر في شيء ما لتتحدث عنه:
_أنت وكلثوم أصدقاء رائعين حقا، ذكرتماني بصديقاي في القرية، لقد ساعداني كثيرا، أفنوا جميع السُبل الممكنة كي ينقذوني، أنا حقا أفتقدهم وبشدة.
تبسم بكر قائلا:
_ما اسميهما؟!.
ضمت جويرية حاجبيها قائلة:
_وما شأنك أنت بذلك؟!.
شعر بكر بالحرج فصمت ونظر في الإتجاه الآخر مدَّعيا أنه يتأمل فتاة صغيرة تلهو وتلعب حول والدتها التي تجعلس على كرسي متحرك، بدا وكأنها تعرضت لحادث.
نظر بكر نحو جويرية قائلا:
_أريد أن أعرف حقا من أين أنتِ، من أين أتيتِ؟! ولماذا كنتِ مصابة تلك الإصابة البليغة؟! إن لم أجدكِ حينها بمحض الصدفة فعلى الأحرى كنتِ ميتة الآن.
تنهدت جويرية وقالت:
_أنا من قرية أمارديا، تلك القرية التي تفتقر لكل ما أنتم عليه هنا.
اقتضب بكر حديثها حينما شهق بفزع قائلا:
_قرية ماذا؟!!؟
نظرت إليه جويرية بعدم إكتراث وقالت:
_قرية أمارديا، ما الأمر؟!.
نهض بكر وهو يشعر بأن ما سمعه سيُذهب عقله،
قال بصوت خافت كان مسموعا بالنسبة لجويرية:
_هذا يعني أنها حقيقية.
نهضت جويرية هي الأخرى وقالت باستفهام:
_عن ماذا تتحدث؟! أنا لا أفهم!!.
أمسك بكر بساعديها قائلا:
_ما جعلني آتي إلى بلد "أوتريستاند" هي تلك القرية.
ضمت جويرية حاجبيها وبدا أنها لم تستوعب عما يتحدث، جعلها بكر تجلس وجاورها وقال:
_منذ أعوام كثيرة مضت،
على ما أتذكر بالضبط سنة 1911 ميلادية، كان هناك ملك يدعى "بيومانج"، عندما وجد البلاد تتقدم وتزدهر، أراد أن يصنع شيئا يكون بدائيا كما كانت البلاد في قديم الأذل، لذا قرر أن يذهب إلى بلدة " أوتريستاند" تحديدا في صحرائها وقع إختياره على مساحة شاسعة في وسط الصحراء وقام بإنشاء قرية "أمارديا"،
إنتهى من إنشائها في سنة 1953، أتذكر أنني قرأت أنه توفى قبل أن يعلم الإجابة عن سؤاله.
قالت جويرية باهتمام:
_وما هو ذلك السؤال؟!.
نظر بكر إلى عينيها قائلا:
_أيهما أفضل، الحياة البدائية أم الحديثة.
ضحكت جويرية بسخرية قائلة:
_لا أظن أنه هناك فرق، في كلتيهما يشقى الإنسان، وهذا لا يصنع فارقا بينهما.
تجاهل بكر كلمتها الأخيرة وقال:
_ذلك الكتاب الذي أُحدثكِ عنه قديم للغاية، حتى أن طياته رثة للغاية وقد نُزعت منه الكثير من الصفحات ولا ثيم أنها كانت هامة جدا، هذا ما دفعني للسفر إلى تلك البلدة، رجاءا أخبريني أكثر عن قريتكم.
ثار الغضب داخل جويرية ولكنها استطاعت أن تهدأ وقالت وهي تصطنع النعاس:
_أشعر بالنعاس، هلا أخذتني إلى غرفتي، لا أشعر أنني بخير.
فقال بكر سريعا:
_هل أستدعي الطبيب كي يفحصكِ؟!.
فقالت جويرية بجدية:
_لا، ليس هناك داعي، إن خلدت للنوم سأكون بخير لا تقلق.
همّ بكر بعدما جعلها تستند عليه وذهبا إلى غرفتها، ولم يغادر حتى اطمأن عليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الصباح الباكر
فُتح باب المبنى الذي احتُجز فيه بشار في يوم أمس، كان ذلك على غير العادة، نظر جميع المحتجزين على أمل أن يكون من أتى جلب معه بعض الطعام، ولكن كالعادة خابت كل آمالهم، دلف اثنين من الجلادين وأمسكوا بذراعي بشار وأخذوه للخارج.
لوهلة نبض فؤاد بشار بالأمل بعدما كاد أن يفقده، كاد أن يتنفس الصعداء لولا أن احتنق حينما رأى جزع النخلة قد نُصب، سرت قشعريرة في جسده وأراد أن يتملص من بين أيديهم ولكن لا جدوى من ذلك فقد أحكموا قبضتهم عليه.
صُلب بشار في جزع النخلة والتف حوله أهالي القرية بينما تجمع أمامه بعض من الجلادون، نظر رئيسهم نحو بشار بخبث قائلا:
_ليس هناك كاذب أتمّ كذبته، ليس هناك من يفلت بفعلته، أنت مذنب يا بشار.
قال بشار وهو يحاول أن يفعل أي شيء يفك وثاقة ولكن بلا جدوى:
_أنا لم أفعل شيء، أقسم بذلك.
ضحك الجلاد واقترب من بشار وهمس له قائلا:
_أعلم أنك لم تفعل شيء، ولكنك بالتأكيد تورطت في ذلك.
نظر الجلاد إلى الخلف وصاح قائلا:
_اجلبوا ابنة الحكيمة.
نظر بشار فوجد الجلادون أتوا وبينهم شمس، وقفت شمس قِبال بشار وهي تنظر إليه بحقد وغل.
فقال الجلاد بابتسامة خبث:
_أخبرينا بما رأيتِ يا، ذكريني ما كان اسمكِ؟!.
طأطأت شمس رأسها وقالت:
_أدعى شمس سيدي.
فقال الجلاد:
_حسنا، هيا أخبرينا عما رأيتِ.
تنهدت شمس ورفعت رأسها ونظرت نحو بشار وقالت:
_في تلك الليلة رأيت بشار برفقة الفتاة التي تدعى جويرية متجهين نحو الشمال الشرقي وكان برفقتهم شخص آخر لم أستطع التعرف عليه.
قال الجلاد وهو يفكر:
_من هذه جويرية؟!.
فسرعان ما قالت شمس:
_الفتاة الوحيدة في القرية بأكملها التي ترتدي جلباب فضفاض أسود اللون وتضع بيشة على وجهها.
انتفض جسد بشار وشعر أنه في مأزق لا سبيل للخروج منه سوى بالموت، ولكنه فكر قليلا وقال:
_ولمَ سأذهب أنا برفقة جويرية إلى هناك؟!.
كاد أن يتحدث الجلاد لولا أن قال بشار مسرعا:
_أستمحيك عذرا سيدي.
ومن ثَم قال موجها حديثه لشمس وتظاهر بأنه اكتشف شيئا للتو:
_ولمَ لا تكونين أنتِ الفاعل؟! أنا لا أوجّه لكِ الإتهامات، ولكن فتاة مثلكِ متزوجة ولديها طفل ما الذي سيذهب بها إلى الشمال الشرقي؟! أليس هذا هو الإتجاه الذي تزعمين أنكِ رأتني أتجه نحوه؟!.
نظر الجلاد نحو شمس التي تمكنت من رؤية الشكوك في عينيْ الجلاد، فصاحت بقولها:
_إنه يريد أن يضللك يا سيدي، أنا كنت أراقبهم عن كثب دون أن يشعرون بي.
قال الجلاد بنفاذ صبر وهو يُخرج سلاحا أبيض من بين ملابسه دون أن يُشعِر أحداً بذلك:
_ولماذا كنتِ تراقبينهم؟!.
انسحب الدم من أطراف شمس وشعرت أنها أوقعت نفسها في الشرك،
اختلست النظر ورائها ومن ثَم أطالت النظر نحو الجلاد، وفجأة ولّت بالفرار، ولكن قبل أن تخطو خطوتين كان الجلاد لحق بها ومرر سلاحه فوق رقبتها فسقطت مسجية على الأرض، كان مشهد حزين للغاية، لا يخلو من نحيب زوجها وصياح صغيرها.
نظر الجلاد نحو بشار واقترب منه قائلا:
_ما حدث تواً لا يبرهن على برائتك، فأنت ما زلت مذنب وسأكتشف الأمر عما قريب.
أُخِذ بشار إلى مبنى المذنبين ثانيةً وظل به متقرفصا يستند إلى الحائط ويفكر في أمر جويرية،
كم يأمل أن يلتقي بها ويطمئن عليها ولكنه لا يعلم أين هي الآن، تنهد وغط في نوم عميق ينتشله من مما حدث قبل قليل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عند الساعة العاشرة صباحا
أتت كلثوم إلى المشفى كي تطمئن على حال جويرية، ولكنها فوجئت حينما رأت بكر جالسا على الكرسي المجاور لغرفة جويرية، ربتت على كتفه برفق وحين استدار إليها قالت:
_ألم تعود إلى المنزل؟! هل مكثت هنا طوال الليل؟!.
نهض بكر وهو يقاوم التثاؤب قائلا:
_فلنهبط إلى الطابق الأسفل كي نحضر القهوة حتى أفيق جيدا.
قالت كلثوم بغضب وهي تحاول جاهدة ألا يعلو صوتها:
_فقط أخبرني لماذا مكثت هنا طوال الليل!؟،
هل جننت؟! أم أنك لا تطيق الإبتعاد عنها!! أريد تفسيراً منطقيا لهذا، في الحال أعطني تفسيرا لكل ذلك قبل أن أفقد صوابي.
فجأة تذكر بكر الحديث الذي دار بينه وبين جويرية بالأمس،
فأمسك بيد كلثوم كي يبتعدا عن باب الغرفة قليلا وقال بفرحة عارمة:
_لا يمكنني تركها، حسنا، سوف أخبركِ بما قد يُذهب عقلكِ، فأنا كاد أن يذهب عقلي كذلك.
تنهدت كلثوم بملل وقالت:
_ألا يمكنك أن تخبرني بهذا الشي الهام دون أن تثرثر وتُكثر من اللغط؟!.
تظاهر بكر بالغضب وقال وهو يمسك وجنتي كلثوم برفق:
_لماذا دائما ما تفسدين الأمور وتجعليها تفقد رونقها؟! الأمر حقا يتطلب المقدمات،
ولكن ماذا أفعل بكِ؟! أنتِ فتاة مشاغبة وغير مستطاع السيطرة عليكِ.
ضحكت كلثوم وأزاحت يديه عن وجنتيها وقالت:
_هل هذا مدح أم زم؟! فقط أخبرني حتى أحدد شعوري إن كنت سأسعد بذلك أم لا!.
ضحك بكر وقال وهو ينظر لعيني كلثوم:
_اثنين في واحد، وهذا أجمل ما فيكِ.
ضحكت كلثوم بخجل وقد احمرت وجنتيها، بينما صمت بكر قليلا وقال:
_كِدت أن أسهو عن أمر المفاجأة، حسنا اصغي إليّ جيدا،
تذكرين ذلك الكتاب الذي وجدناه في المكتبة العامة؟!.
ضمت كلثوم حاجبيها بتذكر وقالت:
_أجل، لا أتذكر اسمه جيدا، على ما أتذكر كان مسمى باسم قرية ما ولكني لا أتذكر ما هو.
قال بكر بابتسامة واسعة:
_قرية أمارديا.
صاحت كلثوم في وجهه وقالت:
_أجل هذا هو لقد تذكر، أخبرتني ذات يوم أن رحلتك لبلدة أوتريستاند ستكون لاستكشاف أمر تلك القرية، ولكنك لم تذكر شيء عنها حتى الآن، أخبرني ما الأمر.
قفز بكر من شدة الفرح قائلا:
_هذه القرية حقيقية، ما زلت لا أصدق، ولكنها حقيقية، ذلك الكتاب لم يكن يحكي شيئا هزليا ، كل كلمة قرأناها في ذلك الكتاب كانت حقيقية.
قفزت كلثوم هي الأخرى واحتضنت بكر من شدة فرحها ومن ثَم ابتعدت عنه قائلة:
_لماذا ننتظر إذاً؟! دعنا نذهب إلى هناك كي نراها، لا أطيق الإنتظار هيا بنا.
أمسكت كلثوم بيد بكر وهمّا بالحراك بالإتجاه الذي تقبع فيه غرفة جويرية، ولكنهما فوجئا بها تقف أمامهم ومعالم الصدمة بادية على وجهها، وفور أن رآها بكر نزع يدع من يد كلثوم، ذلك التصرف لم يكن هيّن بالنسبة لكلثوم فقد آلمها ذلك كثيرا ولكنها تظاهرت بعدم الإكتراث.
بادر بكر بالحديث وهو يتجه نحو جويرية قائلا بوجه بشوش:
_صباح الخير، تشعرين بتحسن أليس كذلك؟! لماذا خرجتِ من غرفتكِ كنت سآتي إليكِ!.
نظرت إليه جويرية بملامح جامدة لا تعلم ماهيتها
وقالت وهي تستدير كي تعود إلى غرفتها:
_أريد أن أغادر ذلك المكان، وأيضا دعني أرى ذلك الكتاب.
نظر بكر نحو كلثوم التي اغرورقت عينيها لأنه أصبح إهتمام بكر كله ينصب على جويرية، شعرت بوخذة في قلبها حينما طرأ في رأسها أنه لم يسألها لمَ غادرت المشفى في عجلة ليلة أمس،
لم يطمئن عليها، استطاعت أن ترى وتدرك كيف ستكون مكانتها عنده فيما بعد.
انتبهت كلثوم من شرودها على صوت بكر وهو يُحرك يده أمام وجهها قائلا:
_أين أنتِ؟! فيما أنتِ شاردة هكذا؟! هل أنتِ بخير؟.
اصطنعت كلثوم ابتسامتها وقالت:
_كل شيء تحت السيطرة لا تلقِ بالا.
ابتسم بكر قائلا:
_حسنا، فلتذهبي إلى الغرفة كي تساعدي جويرية في ارتداء الثياب التي أحضرتِها لها، بينما سأذهب أنا كي أجلب إذن الخروج.
أنانيون نحن حينما نحب، أو على الأحرى حينما نشعر أن شخص ما خُلق خصيصا ليبقى بجانبنا، لا يُشترط أن يكون هذا الشخص حبيب الفؤاد، أو ربما يصبح كذلك في يوم من الأيام.
حينما نرفض أن نتشارك أشخاصنا المفضلين مع احد هذا لا يعتبر وِزر أبدا، أراه حق لنا ولا يُفترض أن نتناقش في هذا الأمر كثيرا.
ولكن ذلك لا يترتب سوى على المساحة التي تركها لنا أشخاصنا المفضلون،
فهناك منهم من لن يسمح لنا بمثل هذا الشيء وأيضا على صعيد آخر هناك من سيحب ذلك كثيرا.
لم تستطع كلثوم أن تُبدي عما يدور بداخلها، ولم تجرؤ كذلك على إلقاء اللوم على عاتق بكر لأنه بدأ يهتم بشأن جويرية ولم يلتفت إليها،
أرادت ألّا تلتفت لتلك الغصة التي في قلبها ولكن ذلك شيء لا محيص منه، تنهدت كلثوم وهمست في نفسها وقالت:
_لسنا سوى أصدقاء ولم ولن نكن أكثر من ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعدما عاد بكر وبحوذته إذن الخروج،
انتظر أمام الغرفة بينما دلفتا جويرية برفقة كلثوم إلى الغرفة كي تبدل جويرية ثيابها.
مر ما يقارب إلى النصف ساعة ولم يخرجا بعد،
حتى أن بكر انتابه القلق وكاد أن يطرق الباب لولا أن فُتح بواسطة كلثوم التي خرجت وعلى مقلتيها ابتسامة واسعة، انتظر بكر ولكن جويرية لم تخرج بعد، ضم حاجبيه وكاد أن يسأل عن سبب عدم خروجها ولكن أشارت له كلثوم بيدها كي لا يتكلم.
مدت كلثوم يدها ناحية الغرفة فأمسكت بها جويرية وخرجت من الغرفة وهي تكاد أن يغشي عليها من شدة الخجل، كانت ترتدي بنطال من الجينز لونه أسود وفوقه سُترة حمراء زادت من جاذبيتها.
فضّلت كلثوم أن تترك جويرية شعرها حرا طليق وأسدلته على ظهرها فذاها جمالاً وبريقا خلابا.
نظر إليها بكر بانبهار وتفحص ولم يجد أي من الكلمات تعبر عن مدى إعجابه بتلك اللوحة الرابضة أمامه التي أبدع فيها الخالق وأحسن خلقها.
كانت نظرات بكر تجاه جويرية شيء هي لم تعتاده من قبل، حيث أنها رأت ذلك جُرأةً منه أو كما تطلق على ذلك بمعنى أدق؛ فهي وقاحة، ولكن لا سيم أنها سعدت بذلك من الداخل.
كانت كلثوم تتعمد أن تطيح بنظرها بعيدا عن بكر وجويرية، كانت تريد أن تضمر النيران نشبت بداخلها مؤخرا، كانت تتنفس كثيرا وتردد في نفسها:
_كل شيء على ما يرام، ما أفكر فيه ليس صائبا، هو مجرد صديق لي ليس سوى ذلك، ولن أسمح بأن يحدث غير ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان عمار يريد أن يلتقي ببشار بأي طريقة ولكن خشي أن يُفضح أمره، لذلك ذهب إلى صديق له يعمل مع الجلادون، بعد أن تصافحا وتبادلا السلام فيما بينهم، بادر عمار بالحديث قائلا:
_لا أعلم كيف سأطلبها منك ولكني حقا بحاجة لمساعدتك يا صديقي.
قال صديقه الجلاد الذي يُدعى "زيد":
_كم اشتقت إليك يا صديقي، أستمحيك عذرا لأنني لا أجد وقت للحلوس برفقتك وتبادل أطراف الحديث، هيا أخبرني ما الذي تريده بالضبط؟! تعلم أنني أُقبل على الموت لأجلك فأنا لن أنسى أنك من أنقذني من قبل.
تبسم عمار ولاحت ابتسامته الخبيثة المعتادة فقد وفَّر عليه زيد ما كان يكابده، قال عمار بابتسامة يائسة:
_لدي صديق مُحتجز في مبنى المذنبون، أود أن أراه لأجل أمر ضروري.
شرد زيد وضم حاجبيه وهو يفكر ويمعن التفكير في ذلك الأمر فهو ليس سهلا أبدا وإنما هذة مخاطرة كبيرة، تنهدت أخيرا وقال بعدما كاد عمار يفقد الأمل:
_أنت تعلم يا صديقي أن هذه مخاطرة وأي خطأ ولو كان صغيرا سأضع حينها عملي على المحك وأنت تعلم أنه مصدر رزقي الأوحد.
عاد الأمل يدق في فؤاد عمار وعادت ابتسامته الخبيثة تنير وجنتيه وقال:
_أنت نعم الصديق حقا، حسنا سأمر عليك في المساء بعد انتهاء عملك وسنتحدث حول هذا الأمر، إلى اللقاء في المساء يا صديقي.
#صغيرة_الكُتَّاب
اغرورقت عيني جويرية، شعرت أنها ما زالت لم تستطع تخطي ذلك الألم، تنهدت وقالت بصوت متهدج:
_ليس لدي عائلة، لقد قُتـ..
لم تُكمل جويرية حديثها حينما دلف بكر إلى الغرفة فجأةً، تقدم نحوهم قائلا:
_لقد أحضرت لكن إفطاراً شهيا، هلموا لأنني أتضور جوعا.
أخفت جويرية دموعها سريعا قبل أن يتمكن بكر من رؤيتها بينما دق هاتف كلثوم بالرنين، فاستأذنت منهم وخرجت كي تجيب.
جلس بكر بجانب جويرية، نظر إليها قائلا:
_هل أنتِ بخير؟؟.
تبسمت جويرية بود قائلة:
_أجل، أشعر بأنني بخير جدا، شكرا لك.
غمز بكر بعينه ممازحا وقال:
_على الرحب والسعة.
دلفت كلثوم إلى الغرفة وقالت وهي تسرع إلى حقيبتها:
_أعتذر جدا، ولكن يجب عليْ أن أغادر في الحال.
نهض بكر مسرعا وقال:
_هل كل شيء على ما يُرام؟! تودين أن أوصلكِ إلى المنزل؟!.
تبسمت كلثوم بتوتر وقالت وهي تتجه نحو باب الغرفة:
_لا تقلق كل شيء بخير، ليس هناك داعي لتقوم بإيصالي فالسيارة تنتظرني بالأسفل، وداعا.
ودعتهم كلثوم بابتسامة ورحلت.
بعدما انتهيا بكر وجويرية من تناول الطعام، نظر بكر في ساعة يده ففوجيء أنها تجاوزت السابعة مساءً، فقال بملل:
_ما رأيكِ في أن نهبض للحديقة!.
نظرت إليه جويرية بعدم إكتراث وقالت وهي تشير نحو الأجهزة الطبية:
_لا، دعني هنا أتأمل تلك الأشياء العجيبة.
ضحك بكر بشدة قائلا:
_هنا في بلدتنا تلك الأشياء التي ترينها عجيبة وتودين تأملها، هذه آخر شيء من الممكن أن يود أحد تأمله، هناك الكثير من الأشياء عليكِ رؤيتها، هيا فلنهبط ربما تحبين ذلك!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هبطا سويا إلى الحديقة، كانت شيئا براقا بالنسبة لجويرية، لقد أحبتها كثيراً، شعرت أنها فرحة من الداخل أيضا، يبدو أن الحدائق ترسل الفرح في الأفئدة المتعبة، بعدما تجولت جويرية في الحديقة ما يقارب إلى الخمس مرات جلست وأخيرا كي تستريح على المقعد بجانب بكر.
قالت جويرية بينما كانت تنظر إلى السماء وتتمتع برؤية النجوم:
_لماذا تفعل كل هذا معي؟!.
نظر أليها بكر قائلا:
_عفوا!! لم أفهم، ماذا تقصدين؟!.
نظرت إليه جويرية وقالت بجدية:
_هل حقا لا تفهم ما أقول؟! أم أنك لا تعرف ما الذي أفكر به؟!.
ضحك بكر قائلا:
_كلاهما، ماذا تودين أن تقولي؟!.
تنهدت جويرية بحزن وقالت:
_لماذا تساعدني؟! لماذا لم تتركني هناك؟! لماذا أنقذتني من فاه الموت؟! كل تلك التساؤلات تدور في رأسي ولا أجد لها أي تفسير، لماذا تفعل كل ما بوسعك كي أتعافى؟!،
ما الذي تريده؟! أقصد ماذا سأفعل لك في المقابل؟! ليس لدي شيء كي أعطيه لك مقابل كل ما تفعله معي، إذاً أعطني سببا يُهدّيء من الضجيج الذي يعج في رأسي، رجاءً.
تبسم بكر واعتدل في جلسته كي يكون مواجها لها بجسده وقال:
_لم أجرؤ على ترككِ هناك، إنتِ تستحقين الحياة، منذ الوهلة الأولى والآونة التي تليها علمت أنكِ عانيت كثيرا،
ألا تستحقين أن تنعمي بحياة أفضل؟! حينما وجدتكِ في الصحراء ملقاة على رمالها الملتهبة وفي جسدكِ جُرح ما زال ينزف الكثير من الدماء، لم أتراجع لخطوة واحدة وقُومت بحملكِ وفعلت كل ما استطع كي لا تفارقين الحياة، ولكن السبب الرئيسي لكل ذلك حتى أنا لا أعلمه للآن.
قالت جويرية بعدما كانت تفكر في شيء ما لتتحدث عنه:
_أنت وكلثوم أصدقاء رائعين حقا، ذكرتماني بصديقاي في القرية، لقد ساعداني كثيرا، أفنوا جميع السُبل الممكنة كي ينقذوني، أنا حقا أفتقدهم وبشدة.
تبسم بكر قائلا:
_ما اسميهما؟!.
ضمت جويرية حاجبيها قائلة:
_وما شأنك أنت بذلك؟!.
شعر بكر بالحرج فصمت ونظر في الإتجاه الآخر مدَّعيا أنه يتأمل فتاة صغيرة تلهو وتلعب حول والدتها التي تجعلس على كرسي متحرك، بدا وكأنها تعرضت لحادث.
نظر بكر نحو جويرية قائلا:
_أريد أن أعرف حقا من أين أنتِ، من أين أتيتِ؟! ولماذا كنتِ مصابة تلك الإصابة البليغة؟! إن لم أجدكِ حينها بمحض الصدفة فعلى الأحرى كنتِ ميتة الآن.
تنهدت جويرية وقالت:
_أنا من قرية أمارديا، تلك القرية التي تفتقر لكل ما أنتم عليه هنا.
اقتضب بكر حديثها حينما شهق بفزع قائلا:
_قرية ماذا؟!!؟
نظرت إليه جويرية بعدم إكتراث وقالت:
_قرية أمارديا، ما الأمر؟!.
نهض بكر وهو يشعر بأن ما سمعه سيُذهب عقله،
قال بصوت خافت كان مسموعا بالنسبة لجويرية:
_هذا يعني أنها حقيقية.
نهضت جويرية هي الأخرى وقالت باستفهام:
_عن ماذا تتحدث؟! أنا لا أفهم!!.
أمسك بكر بساعديها قائلا:
_ما جعلني آتي إلى بلد "أوتريستاند" هي تلك القرية.
ضمت جويرية حاجبيها وبدا أنها لم تستوعب عما يتحدث، جعلها بكر تجلس وجاورها وقال:
_منذ أعوام كثيرة مضت،
على ما أتذكر بالضبط سنة 1911 ميلادية، كان هناك ملك يدعى "بيومانج"، عندما وجد البلاد تتقدم وتزدهر، أراد أن يصنع شيئا يكون بدائيا كما كانت البلاد في قديم الأذل، لذا قرر أن يذهب إلى بلدة " أوتريستاند" تحديدا في صحرائها وقع إختياره على مساحة شاسعة في وسط الصحراء وقام بإنشاء قرية "أمارديا"،
إنتهى من إنشائها في سنة 1953، أتذكر أنني قرأت أنه توفى قبل أن يعلم الإجابة عن سؤاله.
قالت جويرية باهتمام:
_وما هو ذلك السؤال؟!.
نظر بكر إلى عينيها قائلا:
_أيهما أفضل، الحياة البدائية أم الحديثة.
ضحكت جويرية بسخرية قائلة:
_لا أظن أنه هناك فرق، في كلتيهما يشقى الإنسان، وهذا لا يصنع فارقا بينهما.
تجاهل بكر كلمتها الأخيرة وقال:
_ذلك الكتاب الذي أُحدثكِ عنه قديم للغاية، حتى أن طياته رثة للغاية وقد نُزعت منه الكثير من الصفحات ولا ثيم أنها كانت هامة جدا، هذا ما دفعني للسفر إلى تلك البلدة، رجاءا أخبريني أكثر عن قريتكم.
ثار الغضب داخل جويرية ولكنها استطاعت أن تهدأ وقالت وهي تصطنع النعاس:
_أشعر بالنعاس، هلا أخذتني إلى غرفتي، لا أشعر أنني بخير.
فقال بكر سريعا:
_هل أستدعي الطبيب كي يفحصكِ؟!.
فقالت جويرية بجدية:
_لا، ليس هناك داعي، إن خلدت للنوم سأكون بخير لا تقلق.
همّ بكر بعدما جعلها تستند عليه وذهبا إلى غرفتها، ولم يغادر حتى اطمأن عليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الصباح الباكر
فُتح باب المبنى الذي احتُجز فيه بشار في يوم أمس، كان ذلك على غير العادة، نظر جميع المحتجزين على أمل أن يكون من أتى جلب معه بعض الطعام، ولكن كالعادة خابت كل آمالهم، دلف اثنين من الجلادين وأمسكوا بذراعي بشار وأخذوه للخارج.
لوهلة نبض فؤاد بشار بالأمل بعدما كاد أن يفقده، كاد أن يتنفس الصعداء لولا أن احتنق حينما رأى جزع النخلة قد نُصب، سرت قشعريرة في جسده وأراد أن يتملص من بين أيديهم ولكن لا جدوى من ذلك فقد أحكموا قبضتهم عليه.
صُلب بشار في جزع النخلة والتف حوله أهالي القرية بينما تجمع أمامه بعض من الجلادون، نظر رئيسهم نحو بشار بخبث قائلا:
_ليس هناك كاذب أتمّ كذبته، ليس هناك من يفلت بفعلته، أنت مذنب يا بشار.
قال بشار وهو يحاول أن يفعل أي شيء يفك وثاقة ولكن بلا جدوى:
_أنا لم أفعل شيء، أقسم بذلك.
ضحك الجلاد واقترب من بشار وهمس له قائلا:
_أعلم أنك لم تفعل شيء، ولكنك بالتأكيد تورطت في ذلك.
نظر الجلاد إلى الخلف وصاح قائلا:
_اجلبوا ابنة الحكيمة.
نظر بشار فوجد الجلادون أتوا وبينهم شمس، وقفت شمس قِبال بشار وهي تنظر إليه بحقد وغل.
فقال الجلاد بابتسامة خبث:
_أخبرينا بما رأيتِ يا، ذكريني ما كان اسمكِ؟!.
طأطأت شمس رأسها وقالت:
_أدعى شمس سيدي.
فقال الجلاد:
_حسنا، هيا أخبرينا عما رأيتِ.
تنهدت شمس ورفعت رأسها ونظرت نحو بشار وقالت:
_في تلك الليلة رأيت بشار برفقة الفتاة التي تدعى جويرية متجهين نحو الشمال الشرقي وكان برفقتهم شخص آخر لم أستطع التعرف عليه.
قال الجلاد وهو يفكر:
_من هذه جويرية؟!.
فسرعان ما قالت شمس:
_الفتاة الوحيدة في القرية بأكملها التي ترتدي جلباب فضفاض أسود اللون وتضع بيشة على وجهها.
انتفض جسد بشار وشعر أنه في مأزق لا سبيل للخروج منه سوى بالموت، ولكنه فكر قليلا وقال:
_ولمَ سأذهب أنا برفقة جويرية إلى هناك؟!.
كاد أن يتحدث الجلاد لولا أن قال بشار مسرعا:
_أستمحيك عذرا سيدي.
ومن ثَم قال موجها حديثه لشمس وتظاهر بأنه اكتشف شيئا للتو:
_ولمَ لا تكونين أنتِ الفاعل؟! أنا لا أوجّه لكِ الإتهامات، ولكن فتاة مثلكِ متزوجة ولديها طفل ما الذي سيذهب بها إلى الشمال الشرقي؟! أليس هذا هو الإتجاه الذي تزعمين أنكِ رأتني أتجه نحوه؟!.
نظر الجلاد نحو شمس التي تمكنت من رؤية الشكوك في عينيْ الجلاد، فصاحت بقولها:
_إنه يريد أن يضللك يا سيدي، أنا كنت أراقبهم عن كثب دون أن يشعرون بي.
قال الجلاد بنفاذ صبر وهو يُخرج سلاحا أبيض من بين ملابسه دون أن يُشعِر أحداً بذلك:
_ولماذا كنتِ تراقبينهم؟!.
انسحب الدم من أطراف شمس وشعرت أنها أوقعت نفسها في الشرك،
اختلست النظر ورائها ومن ثَم أطالت النظر نحو الجلاد، وفجأة ولّت بالفرار، ولكن قبل أن تخطو خطوتين كان الجلاد لحق بها ومرر سلاحه فوق رقبتها فسقطت مسجية على الأرض، كان مشهد حزين للغاية، لا يخلو من نحيب زوجها وصياح صغيرها.
نظر الجلاد نحو بشار واقترب منه قائلا:
_ما حدث تواً لا يبرهن على برائتك، فأنت ما زلت مذنب وسأكتشف الأمر عما قريب.
أُخِذ بشار إلى مبنى المذنبين ثانيةً وظل به متقرفصا يستند إلى الحائط ويفكر في أمر جويرية،
كم يأمل أن يلتقي بها ويطمئن عليها ولكنه لا يعلم أين هي الآن، تنهد وغط في نوم عميق ينتشله من مما حدث قبل قليل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عند الساعة العاشرة صباحا
أتت كلثوم إلى المشفى كي تطمئن على حال جويرية، ولكنها فوجئت حينما رأت بكر جالسا على الكرسي المجاور لغرفة جويرية، ربتت على كتفه برفق وحين استدار إليها قالت:
_ألم تعود إلى المنزل؟! هل مكثت هنا طوال الليل؟!.
نهض بكر وهو يقاوم التثاؤب قائلا:
_فلنهبط إلى الطابق الأسفل كي نحضر القهوة حتى أفيق جيدا.
قالت كلثوم بغضب وهي تحاول جاهدة ألا يعلو صوتها:
_فقط أخبرني لماذا مكثت هنا طوال الليل!؟،
هل جننت؟! أم أنك لا تطيق الإبتعاد عنها!! أريد تفسيراً منطقيا لهذا، في الحال أعطني تفسيرا لكل ذلك قبل أن أفقد صوابي.
فجأة تذكر بكر الحديث الذي دار بينه وبين جويرية بالأمس،
فأمسك بيد كلثوم كي يبتعدا عن باب الغرفة قليلا وقال بفرحة عارمة:
_لا يمكنني تركها، حسنا، سوف أخبركِ بما قد يُذهب عقلكِ، فأنا كاد أن يذهب عقلي كذلك.
تنهدت كلثوم بملل وقالت:
_ألا يمكنك أن تخبرني بهذا الشي الهام دون أن تثرثر وتُكثر من اللغط؟!.
تظاهر بكر بالغضب وقال وهو يمسك وجنتي كلثوم برفق:
_لماذا دائما ما تفسدين الأمور وتجعليها تفقد رونقها؟! الأمر حقا يتطلب المقدمات،
ولكن ماذا أفعل بكِ؟! أنتِ فتاة مشاغبة وغير مستطاع السيطرة عليكِ.
ضحكت كلثوم وأزاحت يديه عن وجنتيها وقالت:
_هل هذا مدح أم زم؟! فقط أخبرني حتى أحدد شعوري إن كنت سأسعد بذلك أم لا!.
ضحك بكر وقال وهو ينظر لعيني كلثوم:
_اثنين في واحد، وهذا أجمل ما فيكِ.
ضحكت كلثوم بخجل وقد احمرت وجنتيها، بينما صمت بكر قليلا وقال:
_كِدت أن أسهو عن أمر المفاجأة، حسنا اصغي إليّ جيدا،
تذكرين ذلك الكتاب الذي وجدناه في المكتبة العامة؟!.
ضمت كلثوم حاجبيها بتذكر وقالت:
_أجل، لا أتذكر اسمه جيدا، على ما أتذكر كان مسمى باسم قرية ما ولكني لا أتذكر ما هو.
قال بكر بابتسامة واسعة:
_قرية أمارديا.
صاحت كلثوم في وجهه وقالت:
_أجل هذا هو لقد تذكر، أخبرتني ذات يوم أن رحلتك لبلدة أوتريستاند ستكون لاستكشاف أمر تلك القرية، ولكنك لم تذكر شيء عنها حتى الآن، أخبرني ما الأمر.
قفز بكر من شدة الفرح قائلا:
_هذه القرية حقيقية، ما زلت لا أصدق، ولكنها حقيقية، ذلك الكتاب لم يكن يحكي شيئا هزليا ، كل كلمة قرأناها في ذلك الكتاب كانت حقيقية.
قفزت كلثوم هي الأخرى واحتضنت بكر من شدة فرحها ومن ثَم ابتعدت عنه قائلة:
_لماذا ننتظر إذاً؟! دعنا نذهب إلى هناك كي نراها، لا أطيق الإنتظار هيا بنا.
أمسكت كلثوم بيد بكر وهمّا بالحراك بالإتجاه الذي تقبع فيه غرفة جويرية، ولكنهما فوجئا بها تقف أمامهم ومعالم الصدمة بادية على وجهها، وفور أن رآها بكر نزع يدع من يد كلثوم، ذلك التصرف لم يكن هيّن بالنسبة لكلثوم فقد آلمها ذلك كثيرا ولكنها تظاهرت بعدم الإكتراث.
بادر بكر بالحديث وهو يتجه نحو جويرية قائلا بوجه بشوش:
_صباح الخير، تشعرين بتحسن أليس كذلك؟! لماذا خرجتِ من غرفتكِ كنت سآتي إليكِ!.
نظرت إليه جويرية بملامح جامدة لا تعلم ماهيتها
وقالت وهي تستدير كي تعود إلى غرفتها:
_أريد أن أغادر ذلك المكان، وأيضا دعني أرى ذلك الكتاب.
نظر بكر نحو كلثوم التي اغرورقت عينيها لأنه أصبح إهتمام بكر كله ينصب على جويرية، شعرت بوخذة في قلبها حينما طرأ في رأسها أنه لم يسألها لمَ غادرت المشفى في عجلة ليلة أمس،
لم يطمئن عليها، استطاعت أن ترى وتدرك كيف ستكون مكانتها عنده فيما بعد.
انتبهت كلثوم من شرودها على صوت بكر وهو يُحرك يده أمام وجهها قائلا:
_أين أنتِ؟! فيما أنتِ شاردة هكذا؟! هل أنتِ بخير؟.
اصطنعت كلثوم ابتسامتها وقالت:
_كل شيء تحت السيطرة لا تلقِ بالا.
ابتسم بكر قائلا:
_حسنا، فلتذهبي إلى الغرفة كي تساعدي جويرية في ارتداء الثياب التي أحضرتِها لها، بينما سأذهب أنا كي أجلب إذن الخروج.
أنانيون نحن حينما نحب، أو على الأحرى حينما نشعر أن شخص ما خُلق خصيصا ليبقى بجانبنا، لا يُشترط أن يكون هذا الشخص حبيب الفؤاد، أو ربما يصبح كذلك في يوم من الأيام.
حينما نرفض أن نتشارك أشخاصنا المفضلين مع احد هذا لا يعتبر وِزر أبدا، أراه حق لنا ولا يُفترض أن نتناقش في هذا الأمر كثيرا.
ولكن ذلك لا يترتب سوى على المساحة التي تركها لنا أشخاصنا المفضلون،
فهناك منهم من لن يسمح لنا بمثل هذا الشيء وأيضا على صعيد آخر هناك من سيحب ذلك كثيرا.
لم تستطع كلثوم أن تُبدي عما يدور بداخلها، ولم تجرؤ كذلك على إلقاء اللوم على عاتق بكر لأنه بدأ يهتم بشأن جويرية ولم يلتفت إليها،
أرادت ألّا تلتفت لتلك الغصة التي في قلبها ولكن ذلك شيء لا محيص منه، تنهدت كلثوم وهمست في نفسها وقالت:
_لسنا سوى أصدقاء ولم ولن نكن أكثر من ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعدما عاد بكر وبحوذته إذن الخروج،
انتظر أمام الغرفة بينما دلفتا جويرية برفقة كلثوم إلى الغرفة كي تبدل جويرية ثيابها.
مر ما يقارب إلى النصف ساعة ولم يخرجا بعد،
حتى أن بكر انتابه القلق وكاد أن يطرق الباب لولا أن فُتح بواسطة كلثوم التي خرجت وعلى مقلتيها ابتسامة واسعة، انتظر بكر ولكن جويرية لم تخرج بعد، ضم حاجبيه وكاد أن يسأل عن سبب عدم خروجها ولكن أشارت له كلثوم بيدها كي لا يتكلم.
مدت كلثوم يدها ناحية الغرفة فأمسكت بها جويرية وخرجت من الغرفة وهي تكاد أن يغشي عليها من شدة الخجل، كانت ترتدي بنطال من الجينز لونه أسود وفوقه سُترة حمراء زادت من جاذبيتها.
فضّلت كلثوم أن تترك جويرية شعرها حرا طليق وأسدلته على ظهرها فذاها جمالاً وبريقا خلابا.
نظر إليها بكر بانبهار وتفحص ولم يجد أي من الكلمات تعبر عن مدى إعجابه بتلك اللوحة الرابضة أمامه التي أبدع فيها الخالق وأحسن خلقها.
كانت نظرات بكر تجاه جويرية شيء هي لم تعتاده من قبل، حيث أنها رأت ذلك جُرأةً منه أو كما تطلق على ذلك بمعنى أدق؛ فهي وقاحة، ولكن لا سيم أنها سعدت بذلك من الداخل.
كانت كلثوم تتعمد أن تطيح بنظرها بعيدا عن بكر وجويرية، كانت تريد أن تضمر النيران نشبت بداخلها مؤخرا، كانت تتنفس كثيرا وتردد في نفسها:
_كل شيء على ما يرام، ما أفكر فيه ليس صائبا، هو مجرد صديق لي ليس سوى ذلك، ولن أسمح بأن يحدث غير ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان عمار يريد أن يلتقي ببشار بأي طريقة ولكن خشي أن يُفضح أمره، لذلك ذهب إلى صديق له يعمل مع الجلادون، بعد أن تصافحا وتبادلا السلام فيما بينهم، بادر عمار بالحديث قائلا:
_لا أعلم كيف سأطلبها منك ولكني حقا بحاجة لمساعدتك يا صديقي.
قال صديقه الجلاد الذي يُدعى "زيد":
_كم اشتقت إليك يا صديقي، أستمحيك عذرا لأنني لا أجد وقت للحلوس برفقتك وتبادل أطراف الحديث، هيا أخبرني ما الذي تريده بالضبط؟! تعلم أنني أُقبل على الموت لأجلك فأنا لن أنسى أنك من أنقذني من قبل.
تبسم عمار ولاحت ابتسامته الخبيثة المعتادة فقد وفَّر عليه زيد ما كان يكابده، قال عمار بابتسامة يائسة:
_لدي صديق مُحتجز في مبنى المذنبون، أود أن أراه لأجل أمر ضروري.
شرد زيد وضم حاجبيه وهو يفكر ويمعن التفكير في ذلك الأمر فهو ليس سهلا أبدا وإنما هذة مخاطرة كبيرة، تنهدت أخيرا وقال بعدما كاد عمار يفقد الأمل:
_أنت تعلم يا صديقي أن هذه مخاطرة وأي خطأ ولو كان صغيرا سأضع حينها عملي على المحك وأنت تعلم أنه مصدر رزقي الأوحد.
عاد الأمل يدق في فؤاد عمار وعادت ابتسامته الخبيثة تنير وجنتيه وقال:
_أنت نعم الصديق حقا، حسنا سأمر عليك في المساء بعد انتهاء عملك وسنتحدث حول هذا الأمر، إلى اللقاء في المساء يا صديقي.
#صغيرة_الكُتَّاب