قلب رجل و 99 أنثى البارت العاشر
*"قلب رجل و99 أنثى" "البارت العاشر"*
في المشفى عند تمام الساعة العاشرة صباحاً
كانت جويرية ما زالت تقف أمام باب الغرفة خاصتها، كانت تشعر بالخجل لأنها تلك المرة الأولى التي ترتدي فيها مثل هذه الثياب، بالإضافة إلى نظرات بكر التي تلاحقها.
احتلت صمتهم هذا كلثوم بقولها:
_لن نظل هكذا للمساء أليس كذلك؟!.
ضحك بكر بحرج قائلا:
_بالطبع لا، فهناك الكثير من الأشياء أريد أن أُريها لجويرية.
امتعضت كلثوم ولكنها لم تُظهر ذلك، تحركت كلثوم في بطء نحو الغرفة كي تلتقط حقيبتها، بينما اقترب بكر من جويرية وقال:
_تبدين رائعة جدا في هذه الثياب.
نظرت جويرية نحوه قائلة:
_لا أظن ذلك، أنا لم أعتاد على مثلها، دائما ما كنت أرتدي ثياب فضفاضة أشعر فيها بالراحة أكثر من هذه.
تبسم بكر وقال بحفاوة:
_حسنا، سآخذكِ إذا للتسوق في أقرب وقت ممكن، ولنجلب لكِ الثياب التي تعجبكِ.
تبسمت جويرية بفرح وقالت:
_أشكرك لذلك.
خرجت كلثوم من الغرفة وهي تنظر نحو بكر وكأنها تود إلقاء اللوم عليه، لا تعلم لماذا ولكنها كانت تشعر بشي ما بداخلها جعلها تغضب وتمتعض لمجرد تبادل أطراف الحديث بينه وبين جويرية.
اتجهوا جميعا نحو السيارة واستقلوها وأدار بكر محركها متجها نحو مطعم مشهور في البلدة.
كانت جويريةتنظر للمباني والعقارات ببلاهة، كانت المباني شاهقة كالجبال، لم تمر على شيء حتى تسأل الكثير من الأسئلة عن ما هذا ومن ماذا صُنع وكيف صُنع، كانت منبهرة بكل شيء حتى أنها أُغرمت بتفاصيل كل تلك الأشياء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك شعور ينتابنا حينما ندرك أنه هناك شخص ما يهتم لأمرنا، ذلك الشعور يُشبه تغريد العصافير في الصباح الباكر بعد ليلة كاملة من الظلام الدامس الموحش؛ تلك الليلة التي تجتمع فيها مخاوفنا وتُقسم على الإجهاز علينا؛ من شدة المساويء التي لحقت بنا حينئذ سندرك تماما أنها لن تنتهي ولن تشرق الشمس ثانية،
ولكن بالرغم من كل ذلك تشرق الشمس وتنير أحلامنا من جديد وكأنها تخبرنا أن ما كان بالأمس فهو هناك ولن نسمح له بتلويث لوحاتنا البيضاء.
الأمر غاية في الجمال، بعد المعاناة ومطاردة قتاد طرقنا؛ نصل في النهاية؛ ندرك حينها أن كل تلك الصعاب كان لا بُد منها حتى نصير نستحق جبر الله لقلوبنا.
كانت جويرية منبهرة بكل ما تراه في الطرقات، حتى ثياب المارّة وأحاديثهم التي تمر عليها مرار الكرام مع سرعة سير السيارة، ولكن گل ذلك لم يكن شيء يُذكر أمام إنبهارها بِبكر؛ كانت تجلس في المقعد المجاور له؛ ابتعدت جويرية عن النافذة ونظرت نحو بكر بينما نظر لها هو الآخر،
استطاع أن يرى في عينيها ما عجزت عن قوله، عاد بكر ونظر أمامه لينتبه من الطريق وهو باسم الثغر، بينما نظرت جويرية من النافذة وقد تلاشت ابتسامتها تدريجيا حينما تذكر ما يعكر صفوها دائما ولكنها حاولت ألا تفكر في ذلك لكي لا تضيع ثمرة هذه اللحظات التي تحظي بها.
كانت كلثوم تجلس في المقعد الخلفي للسيارة وتراقب حديثهم بالرغم من أنهم لم يتفوها بكلمة واحدة، كانت كلثوم تشعر بشي ما يحترق بداخلها وكانت تأبى أيضا تصديق أن هذا ما هو إلا سوى عشق بلغ حدود الكتمان، إنها تضمر ذلك العشق بداخلها ولا تود أن يُفتضح أمرها.
انتبهت كلثوم من شرودها حينما توقفت السيارة أمام مطعم مشهور اعتادت أن ترتاده هي وبكر.
ترجلوا جميعا من السيارة واتجهوا نحو باب المطعم الذي استقبلهم فرد الأمن عنده ورحب بهم بطريقة تليق بهم ومن ثَم سمح لهم بالدخول،
لم يجلس بكر على طاولته المعتادة مع كلثوم لأنها لم تكن سوى بمقعدين، لذا اختار طاولة من ثلاثة مقاعد وجلسوا جميعا.
كان اهتمام بكر بجويرية ملحوظا جدا ولم يكن ذلك من الهين على كلثوم،
كان بكر يشرح لجويرية الأطباق المميزة التي يقدمها المطعم حتى تختار ما تريد، وبالفعل وقع إختيارها على أكلته المفضلة وكان ذلك شيء جعل بكر يضحك من شدة الفرح ومن ثَم قام بالطلب على ثلاثة أطباق مما وقع عليه الإختيار.
لم تكن جويرية تجيد استخدام الملعقة وكانت تأكل بيدها، أرادت كلثوم أن تخفي ضحكتها ولكنها لم تستطع حيث انفجرت قهقهاتها رغما عنها، لم تحزن جويرية لذلك بل تقبلته بصدر رحب، وعلى صعيد آخر علّمها بكر كيفية استخدام الملعقة ونظّف لها يدها بمحرمته الخاصة.
*في المساء*
كانت جويرية تجلس في وسط الفراش في غرفة خاصة بها، أحيطت بالكثير من الأكياس التي امتلأت بالملابس، كانت سعيدة بهم للغاية، نهضت ووقفت أمام المرآة بعدما التقطت الثوب الأزرق الذي اختاره لها بكر وأصّر كي تأخذه لأن هذا لونه المفضل.
ها قد نشب في صدرها الشعور الذي دائما ما كانت تفر منه، فإن كان الحب مقدّر لنا سيعثر علينا أينما ذهبنا، تنفست جويرية الصعداء وألقت بجسدها على الفراش وتذكرت حينما أتى بها بكر إلى ذلك البيت الصغير وأخبرها أنه له وسيجعلها تمكث فيه كيفما شائت.
أغمضت جويرية عينيها وظلت تتذكر تفاصيل وجهه التي باتت تعرفها جيدا وتحبها أيضا؛ عينيه الزرقاوتين وأنفه الطويل ولحيته التي زينت وجنتيه وشفتيه، إنه حقا مميز يستحق أن يُعشق من أعماق الفؤاد ولن يكفيه ذلك، ظلت صورته قابعة في مخيلتها حتى غطت في نوم عميق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عادت كلثوم إلى منزل والدها بعد يوم مجهد بالنسبة لها، صعدت إلى الطابق الثاني حيث تقبع غرفتها في أدنى المنزل بعيدا عن كل شيء.
دلفت إلى الغرفة وألقت حقيبتها ومن ثَم حذائها، قامت بفتح خزانتها وأحذت منها الثياب الخاصة بالنوم وسرعان ما بدلت ثيابها والتحفت في الفراش،
كان صوت أنفاسها عالٍ جدا، كان ذلك محاولة يائسة منها كي لا تسيل دموعها ولكن بائت بالفشل وتساقطت دموعها بالفعل، لا تعلم لمَ أو بمعنى أدق لم تُرِد أن تزعن لذلك الذي ينبض بين أضلعها باسم شخص واحد، إنه بكر؛ الذي لم ولن يكترث لأمر مشاعرها مهما حدث،
إنهما أصدقاء منذ سنوات عديدة ومع ذلك أتت تلك غريبة الأطوار واحتلته كما يحتل العدو البلاد، كان رأس كلثوم يُصدر ضجيج مزعج لم تستطع تحمله، كادت أن تنهض لولا أن يمعت خطوات والدتها تقترب من الغرفة فادَّعت أنها نائمة.
دلفت والدتها إلى الغرفة وهي تضع الهاتف عند أذنها بينما كانت تتفقد كلثوم، علمت الأم أن ابنتها تدَّعي النوم حينما رأت الدمع يسيل من بين رموشها التي لم تكف عن الحُراك، ابتعدت قليلا عن الفراش وقالت:
_إنها نائمة يا عزيزي، هل تود أن أوقظها؟!.
فخرج صوت بكر من الهاتف وهو يقول بنعاس:
_لا داعي لذلك، أردت فقط أن أطمئن ما إن كانت قد عادت للمنزل سالمة.
ابتسمت الأم وقالت بود:
_لا تقلق يا عزيزي إنها بخير، ولكن يبدو أنها منهكة قليلا لذلك غطت في نوم عميق.
فقال بكر ممازحا:
_هي لا تصدر أصواتا أثناء نومها أليس كذلك؟!.
ضحكت الأم كثيرا وقالت:
_بالطبع، ألا تسمع؟!.
ضحك بكر وكاد أن يغفو وهو يتحدث عبر الهاتف فقال بنعاس شديد:
_للأسف لم أتمكن من سماعها، يوما ما سآتي كي أستمع لصوتها عن كثب.
ضحكت الأم وقالت:
_لا بأس، فلتأتي متى شئت، أتمنى ىلك ليلة هنيئة مليئة بأحلام سعيدة.
ما إن انتهت الأم من كلمتها الأخيرة حتى ظهرت صورة جويرية في مخيلته فقال بابتسامة مليئة بالهيام:
_وداعا.
بعدما أنهت والدة كلثوم الإتصال، اتجهت نحو ابنتها وقالت وهي تربت على كتفها:
_كلثوم؛ لقد أنهيت الإتصال يا عزيزتي هيا انهضي.
نظرت كلثوم نحو والدتها وقالت:
_كيف علمتِ أنني ما زلت مستيقظة؟!.
تبسمت والدة كلثوم وقالت وهي تمسد فوق رأس ابنتها:
_وهل يخفى عليّ شيء كهذا؟!.
نهضت كلثوم وهي تحاول أن تخفي دموعها، فقالت والدتها وهي تربت على وجنتها:
_لا تخفيها عني، أنا والدتكِ يا عزيزتي، حينما تتألمين أشعر بذلك، فقط نفثِّي عما بداخلك، أخبريني عما يدور في رأسك،
أعلم أنه هناك شيء ما يزعجك وبشدة ولكني لا أعلم ما هو، جل ما أعرفه هو أن ذلك الأمر يتعلق ببكر، هيا أخبريني ما الأمر، لقد هاتفني توا وقال أنه إتصل بكِ عدة مرات ولم تجيبي، هيا أخبريني ما الأمر.
تنهدت كلثوم ومن ثَم اغرورقت عيناها، لا تعلم ما الذي عليها أن تقوله، هي ليست متأكدة مما تشعر، وتأبى تصديق ذلك حتى، أخذت شهيق عميق وقالت:
_أنا فقط لا أتحمل اقترابه من أي فتاة غيري، أشعر بنيران تشب بداخلي حينما يحدث ذلك،
لا أتحمل حقا، لقد أصبح فجأة يهتم لأمر فتاة لا يعرفها سوى منذ يومين وأصبحت أنا كتلك الأشياء التي لم يعد بحاجة إليها، أشعر وكأنني أحترق من الداخل يا أمي.
كانت الأم ترمق ابنتها بنظرات لوم وعتب، وما إن انتهت كلثوم من حديثها حتى قالت والدتها:
_الأمر ليس كما أعتقد أليس كذلك؟!.
خفق فؤاد كلثوم ولم تقدر على النظر في أعين والدتها وقالت بعدما وجّهت وجهها في اتجاه آخر:
_بالطبع لا.
تنهدت الأم بعدم ارتياح ونهضت وأشارت لابنتها بأن تندعود وتلتحف في فراشها وقالت:
_آمل ذلك، لقد تأخر الوقت كثيرا عليكِ أن تخلدي إلى النوم سريعاً.
خرجت الأم من الغرفة وأوصدتها جيدا بعدما غلَّقَت أضوائها.
نهضت كلثوم ثانيةً والتقطت جهاز اللاب توب خاصتها وقامت بتشغيله بعدما وضعته أمامها، كانت تتمتع برؤية صورها برفقة بكر، كانوا سعيدين جدا، ترقرقت الدموع في عيني كلثوم وهي تتحسس وجه بكر في الصور، ولكن فجأة أبعدت يدها وأزالة تلك الدموع التي ليست من المفترض أن تسيل،
تنهدت وحدثت نفسها بقولها:
_ليس سوى صديق؛ لن أسمح بأن يكون غير ذلك، ولن أسمح أيضا بأن تنتزع علاقتي به كصديقه، أجل لن أسمح لذلك بأن يحدث، تبسمت ومن ثَم ذهبت إلى النوم راكضة حتى صارت في ثُبات عميق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*في الصباح الباكر في قرية أمارديا*
فُتح باب مبنى المذنبين فجأة وعلى غير العادة، كانت الدهشة تسيطر على وجوه كل من فيه؛ على النقيض تماما من بشار الذي لم يلقِ بالا لذلك، كان فقط كل ما يشغل تفكيره هي جويرية؛ لم يكن يعلم أنه سيشتاق إليها كثيرا إلى هذا الحد،
لم يكن يعلم أنه يحبها بهذا القدر، كان يضرب بيده عرض الحائط ويتمنى لو يُدك، ولكن ذلك من المستحيل.
لم ينتبه بشار من شروده سوى على صوت عمار، في البداية ظن أنه يحلم ولكنه تأكد من وجود عمار عندما تحدث ثانيةً بقوله:
_لا بُد أنك اشتقت إليّ كثيرا أليس كذلك!!.
نظر بشار بجانبه فوجد عمار بالفعل، كان يرتدي ثياب الجلادون، بعدما كان بشار سعيدا برؤية عمار امتعض قائلا:
_هل صرت تعمل لديهم؟!.
ضحك عمار ببلاهة قائلا:
_هل تراني أجيد ذلك؟! بالطبع لا يا رجل.
ضحك بشار واحتضن عمار قائلا:
_رؤيتك أزاحت عن عاتقي همٌّ لم أكن أتحمله يا صديقي.
ربت عمار على كتف بشار وجلسا في الزاوية وهما ينظران لبقية المحتجزين وهم يتناولون الطعام الذي احضره لهم عمار بنهم،
كان عمار يحمل في يده حقيبة من القماش بها طعام لبشار، مد يده بها نحو بشار الذي التقطها سريعا وبدأ في تناول الطعام بشراهة فهو لم يتذوقه منذ أيام.
بعدما انتهى بشار من تناول الطعام وشرب قدرا كافيا من الماء، نظر نحو عمار وقال بجدية:
_كيف استطعت أن تفعل كل ذلك؟!.
ابتسم عمار قائلا:
_سأقص عليك ما حدث.
*فلاش باك*
في الليلة الماضية ذهب عمار إلى بيت صديقه زيد، استقبله زيد بوجه بشوش وكان قد أعد له عشاء به شتى الأطعمة التي يحبها عمار، سعد عمار بذلك كثيرا وقال:
_ما كل هذا يا صديقي لم يكن هناك داعي لكل ذلك.
تبسم زيد وربت على كتف عمار قائلا:
_هذه المرة الأولى التي تزورني فيها بعدما عملت ضمن الجلادون وكل هذا بفضلك يا صديقي.
تبسم عمار بخبث وقال:
_أشعر بالحرج حيال ذلك، ألن تكف عن تذكيري بفضلي عليك يا رجل؟!.
اتسعت ابتسامة زيد وقال:
_مهما فعلت لن أوفيك حقك يا أخي؛ بل أنت أكثر من أخٍ بالنسبة لي فالأخوة لا تفعل ما فعلته أنت، أنا على أتم الاستعداد كي أفعل ما تريد صدقني.
اتسعت ابتسامة عمار بشدة وقال:
_فلنتناول العشاء أولا ومن ثَم نتحدث في ذلك الأمر.
بعدما تناولا العشاء وتبادلا بعض الأحاديث المضحكة، قال عمار بجدية وهو ينظر نحو زيد بترقب:
_لدي صديق محتجز في مبنى المذنبين، هو لم يفعل شيء أبدا؛ لقد احتُجز ظلما..
كاد زيد أن يقول شيئا ما لولا أن أشار له عمار بيده وتابع بقوله:
_أعلم أننا لن نستطع إخراجه من هناك ولكني فقط أريد أن أراه، لقد تديّن مني بعض العملات الذهبية؛ هو لم يشتري بها شيئا وإنما أرادها لغرض ما وأنا أريد استرجاعها.
صمت زيد قليلا بينما كان عمار يعض على نواجزه بترقب خوفا من ألا يساعده زيد، تنهد زيد قائلا:
_حسنا، فلنقتحم بيته ونبحث عن تلك العملات، فلا أظن احتُجز بينما هم بحوذته؛ فهذا من المستحيل.
ادَّعى عمار الغضب قائلا:
_لا، من المستحيل أن أقتحم بيت صديقي هكذا دون علمه، أنا فقط أريد أن يخبرني أين هم وبالتالي سأذهب وأجلبهم ما إن سمح لي بذلك.
نظر زيد في الفراغ وتحسس لحيته ومن ثَم قال:
_ما اسم صديقك هذا؟!.
اضطرب فؤاد عمار فهو لم يكن يضع سؤال زيد هذا في الحسبان، تنهد عمار وزفر ببطء قائلا:
_بشار؛ صديقي اسمه بشار.
فزع زيد ونهض من جلسته قائلا بصوت عالٍ غاضِب:
_هل هذا المجرم صديقك؟!.
فنهض عمار هو الآخر وقال وهو يحاول أن يُهدِّيء من روع زيد:
_أقسم لك هو ليس بمجرم أنا أعرفه جيدا، وتلك الشكوك التي تحوم حوله ليست سوى شكوك، إنه صديقي وأؤكد لك أنه ليس بمجرم أبدا، إن حظه عاثر لدرجة أنه احتُجز في هذا المبنى ظلما.
حاول زيد أن يهدأ ومن ثَم قال:
_ما علاقته بتلك الفتاة التي تدعى جويرية؟!.
توقفت أنفاس عمار، فشعر لوهلة أنه تورط بمجيئه إلى بيت زيد،
قال وقد تملكه التوتر وكادت محاولته أن تبوء بالفشل في أن يهدأ ويسيطر على أعصابه التي بدأت في الإنهيار:
_لقد كان متيَّم بتلك الفتاة ولكنها هجرته لأنها تحب شخصا آخر.
مرر زيد يده على راسه وهو يفكر قائلا:
_ترى من الرجل الآخر الذي كان برفقتهما؟!.
صمت زيد قليلا ومن ثَم نظر في عيني عمار قائلا:
_إن جعلتك تلتقي به؛ هلا سألته من ذلك الشخص الآخر الذي كان برفقته هو وشمس في تلك الليلة المشئومة؟!.
ابتعد عمار عن زيد وهو يمثل الصدمة بينما هو يكاد أن يسقط أرضا من شدة توتره، قال عمار وهو يحاول أن يضبط أنفاسه ونفسه:
_هل صدقت تلك الفتاة؟! أيعقل!؟، أنا اقسم لك أن صديقي لم يفتعل المشكلات في حياته، وأنت تريد أن تعرف من ارتكب جريمة معه؟! لقد صدمتني فيك يا زيد.
فقال زيد وقد أخض صوته لسرية الأمر:
_الأمر خطير جدا يا عمار، أنت لا تعلم ما الذي تورط فيه صديقك، لقد قُتل الحاكم في الليلة عينها التي قُتل فيها كبير الجلادون، الأمر مُربك للغاية، عليك أن تساعدني،
يجب أن نعرف من ذلك الشخص فربما يدلنا على تلك الفتاة التي تدعى جويرية، أنا متأكد من ما قالته شمس، فهي لم تكن غبية بالقدر الذي يشجعها على الوثوب أمام كِبار الجلادون وتكذب بشيء كهذا، تلك الفتاة التي تدعى جويرية خطيرة للغاية، فبالرغم من إصابتها استطاعت الفرار.
انتفض جسد عمار وقال وهو يحدث في زيد قائلا:
_إصابتها!! كيف؟!.
تنهد زيد قائلا:
_نحن لم نزعن عن جميع الأدلة، سأخبرك لكن عدني بألا تخبر أحدا بذلك.
فقال عمار سريعا دون إكتراث:
_حسنا أعدك هيا أخبرني.
فقال زيد وهو يتحدث بصوت يكاد مسموع بالنسبة لعمار:
_في تلك الليلة؛ كانت جويرية تقف بجانب كبير الجلادون بعدما قتلته؛ ولكن ما لم تكن تضعه في الحسبان أن الجلادون بدأوا في الإنتشار وقد رآها أحدهم؛
هو علم أنها فتاة بالرغم من وجهها الذي ملأته الدماء، ووجّه سهمه نحوها وأكّد أنه أصابها بالفعل، وحينما قمنا بالتفتيش في جميع البيوت وجدنا بقعة دماء في بيت بشار، هذا ما أكد لنا تورط صديقك.
ابتلع عمار ريقه الذي كاد أن يجف وقال:
_لماذا إذا قُتلت شمس بالرغم من قولها الحقيقة؟!.
ضحك زيد بسخرية قائلا:
_لقد خشي الجلاد أن تكون علمت بحقيقة موت الحاكم، لذلك قتلها قبل أن تثور ثورة الأهالي وتعم الفوضى.
صمت زيد قليلا ومن ثَم قال بجدية وهو يمسك ذراع عمار بقوة:
_سأدعك تلتقي به وسأؤمن لك الطعام والشراب لجميع المحتجزون، دعه يخبرك أين تلك الفتاة واسأله أيصا عن ذلك الذي كان برفقتهم.
ارتعش جسد عمار فقال وهو يحاول أن يهدأ كي لا يفضح أمره:
_حسنا حسنا، ولكن ألم تبحثوا عنها خارج القرية؟!.
فقال زيد بتعصب: _بالطبع فعلنا، لقد أرسلنا أربعة منا؛ ولكنهم تأخروا جدا لذلك بعثنا خلفهم اثنين فوجدوهم جميعا قتلى غارقون في دمائهم.
فقال عمار وقد فاجأه الأمر كثيرا:
_هل داهمتهم وحوش؟!.
فقال زيد بابتسامة ساخرة:
_لقد داهمتهم وحوش؛ أجل، ولكن تلك كانت الوحوش الآدمية، ما تلك القوة التي لدى هذه الفتاة أنا حقا في ذهول منذ ذلك الحين.
تنهد عمار قائلا:
_حسنا، سأعمل على جلب أية معلومات منه، ولكني ما زلت لا أصدق أنه قد تورط في مثل ذلك الفعل الشنيع.
ربت زيد على كتف عمار قائلا:
_فلتتوقع الأسوأ من ذلك يا صديقي.
#صغيرة_الكُتَّاب
في المشفى عند تمام الساعة العاشرة صباحاً
كانت جويرية ما زالت تقف أمام باب الغرفة خاصتها، كانت تشعر بالخجل لأنها تلك المرة الأولى التي ترتدي فيها مثل هذه الثياب، بالإضافة إلى نظرات بكر التي تلاحقها.
احتلت صمتهم هذا كلثوم بقولها:
_لن نظل هكذا للمساء أليس كذلك؟!.
ضحك بكر بحرج قائلا:
_بالطبع لا، فهناك الكثير من الأشياء أريد أن أُريها لجويرية.
امتعضت كلثوم ولكنها لم تُظهر ذلك، تحركت كلثوم في بطء نحو الغرفة كي تلتقط حقيبتها، بينما اقترب بكر من جويرية وقال:
_تبدين رائعة جدا في هذه الثياب.
نظرت جويرية نحوه قائلة:
_لا أظن ذلك، أنا لم أعتاد على مثلها، دائما ما كنت أرتدي ثياب فضفاضة أشعر فيها بالراحة أكثر من هذه.
تبسم بكر وقال بحفاوة:
_حسنا، سآخذكِ إذا للتسوق في أقرب وقت ممكن، ولنجلب لكِ الثياب التي تعجبكِ.
تبسمت جويرية بفرح وقالت:
_أشكرك لذلك.
خرجت كلثوم من الغرفة وهي تنظر نحو بكر وكأنها تود إلقاء اللوم عليه، لا تعلم لماذا ولكنها كانت تشعر بشي ما بداخلها جعلها تغضب وتمتعض لمجرد تبادل أطراف الحديث بينه وبين جويرية.
اتجهوا جميعا نحو السيارة واستقلوها وأدار بكر محركها متجها نحو مطعم مشهور في البلدة.
كانت جويريةتنظر للمباني والعقارات ببلاهة، كانت المباني شاهقة كالجبال، لم تمر على شيء حتى تسأل الكثير من الأسئلة عن ما هذا ومن ماذا صُنع وكيف صُنع، كانت منبهرة بكل شيء حتى أنها أُغرمت بتفاصيل كل تلك الأشياء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك شعور ينتابنا حينما ندرك أنه هناك شخص ما يهتم لأمرنا، ذلك الشعور يُشبه تغريد العصافير في الصباح الباكر بعد ليلة كاملة من الظلام الدامس الموحش؛ تلك الليلة التي تجتمع فيها مخاوفنا وتُقسم على الإجهاز علينا؛ من شدة المساويء التي لحقت بنا حينئذ سندرك تماما أنها لن تنتهي ولن تشرق الشمس ثانية،
ولكن بالرغم من كل ذلك تشرق الشمس وتنير أحلامنا من جديد وكأنها تخبرنا أن ما كان بالأمس فهو هناك ولن نسمح له بتلويث لوحاتنا البيضاء.
الأمر غاية في الجمال، بعد المعاناة ومطاردة قتاد طرقنا؛ نصل في النهاية؛ ندرك حينها أن كل تلك الصعاب كان لا بُد منها حتى نصير نستحق جبر الله لقلوبنا.
كانت جويرية منبهرة بكل ما تراه في الطرقات، حتى ثياب المارّة وأحاديثهم التي تمر عليها مرار الكرام مع سرعة سير السيارة، ولكن گل ذلك لم يكن شيء يُذكر أمام إنبهارها بِبكر؛ كانت تجلس في المقعد المجاور له؛ ابتعدت جويرية عن النافذة ونظرت نحو بكر بينما نظر لها هو الآخر،
استطاع أن يرى في عينيها ما عجزت عن قوله، عاد بكر ونظر أمامه لينتبه من الطريق وهو باسم الثغر، بينما نظرت جويرية من النافذة وقد تلاشت ابتسامتها تدريجيا حينما تذكر ما يعكر صفوها دائما ولكنها حاولت ألا تفكر في ذلك لكي لا تضيع ثمرة هذه اللحظات التي تحظي بها.
كانت كلثوم تجلس في المقعد الخلفي للسيارة وتراقب حديثهم بالرغم من أنهم لم يتفوها بكلمة واحدة، كانت كلثوم تشعر بشي ما يحترق بداخلها وكانت تأبى أيضا تصديق أن هذا ما هو إلا سوى عشق بلغ حدود الكتمان، إنها تضمر ذلك العشق بداخلها ولا تود أن يُفتضح أمرها.
انتبهت كلثوم من شرودها حينما توقفت السيارة أمام مطعم مشهور اعتادت أن ترتاده هي وبكر.
ترجلوا جميعا من السيارة واتجهوا نحو باب المطعم الذي استقبلهم فرد الأمن عنده ورحب بهم بطريقة تليق بهم ومن ثَم سمح لهم بالدخول،
لم يجلس بكر على طاولته المعتادة مع كلثوم لأنها لم تكن سوى بمقعدين، لذا اختار طاولة من ثلاثة مقاعد وجلسوا جميعا.
كان اهتمام بكر بجويرية ملحوظا جدا ولم يكن ذلك من الهين على كلثوم،
كان بكر يشرح لجويرية الأطباق المميزة التي يقدمها المطعم حتى تختار ما تريد، وبالفعل وقع إختيارها على أكلته المفضلة وكان ذلك شيء جعل بكر يضحك من شدة الفرح ومن ثَم قام بالطلب على ثلاثة أطباق مما وقع عليه الإختيار.
لم تكن جويرية تجيد استخدام الملعقة وكانت تأكل بيدها، أرادت كلثوم أن تخفي ضحكتها ولكنها لم تستطع حيث انفجرت قهقهاتها رغما عنها، لم تحزن جويرية لذلك بل تقبلته بصدر رحب، وعلى صعيد آخر علّمها بكر كيفية استخدام الملعقة ونظّف لها يدها بمحرمته الخاصة.
*في المساء*
كانت جويرية تجلس في وسط الفراش في غرفة خاصة بها، أحيطت بالكثير من الأكياس التي امتلأت بالملابس، كانت سعيدة بهم للغاية، نهضت ووقفت أمام المرآة بعدما التقطت الثوب الأزرق الذي اختاره لها بكر وأصّر كي تأخذه لأن هذا لونه المفضل.
ها قد نشب في صدرها الشعور الذي دائما ما كانت تفر منه، فإن كان الحب مقدّر لنا سيعثر علينا أينما ذهبنا، تنفست جويرية الصعداء وألقت بجسدها على الفراش وتذكرت حينما أتى بها بكر إلى ذلك البيت الصغير وأخبرها أنه له وسيجعلها تمكث فيه كيفما شائت.
أغمضت جويرية عينيها وظلت تتذكر تفاصيل وجهه التي باتت تعرفها جيدا وتحبها أيضا؛ عينيه الزرقاوتين وأنفه الطويل ولحيته التي زينت وجنتيه وشفتيه، إنه حقا مميز يستحق أن يُعشق من أعماق الفؤاد ولن يكفيه ذلك، ظلت صورته قابعة في مخيلتها حتى غطت في نوم عميق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عادت كلثوم إلى منزل والدها بعد يوم مجهد بالنسبة لها، صعدت إلى الطابق الثاني حيث تقبع غرفتها في أدنى المنزل بعيدا عن كل شيء.
دلفت إلى الغرفة وألقت حقيبتها ومن ثَم حذائها، قامت بفتح خزانتها وأحذت منها الثياب الخاصة بالنوم وسرعان ما بدلت ثيابها والتحفت في الفراش،
كان صوت أنفاسها عالٍ جدا، كان ذلك محاولة يائسة منها كي لا تسيل دموعها ولكن بائت بالفشل وتساقطت دموعها بالفعل، لا تعلم لمَ أو بمعنى أدق لم تُرِد أن تزعن لذلك الذي ينبض بين أضلعها باسم شخص واحد، إنه بكر؛ الذي لم ولن يكترث لأمر مشاعرها مهما حدث،
إنهما أصدقاء منذ سنوات عديدة ومع ذلك أتت تلك غريبة الأطوار واحتلته كما يحتل العدو البلاد، كان رأس كلثوم يُصدر ضجيج مزعج لم تستطع تحمله، كادت أن تنهض لولا أن يمعت خطوات والدتها تقترب من الغرفة فادَّعت أنها نائمة.
دلفت والدتها إلى الغرفة وهي تضع الهاتف عند أذنها بينما كانت تتفقد كلثوم، علمت الأم أن ابنتها تدَّعي النوم حينما رأت الدمع يسيل من بين رموشها التي لم تكف عن الحُراك، ابتعدت قليلا عن الفراش وقالت:
_إنها نائمة يا عزيزي، هل تود أن أوقظها؟!.
فخرج صوت بكر من الهاتف وهو يقول بنعاس:
_لا داعي لذلك، أردت فقط أن أطمئن ما إن كانت قد عادت للمنزل سالمة.
ابتسمت الأم وقالت بود:
_لا تقلق يا عزيزي إنها بخير، ولكن يبدو أنها منهكة قليلا لذلك غطت في نوم عميق.
فقال بكر ممازحا:
_هي لا تصدر أصواتا أثناء نومها أليس كذلك؟!.
ضحكت الأم كثيرا وقالت:
_بالطبع، ألا تسمع؟!.
ضحك بكر وكاد أن يغفو وهو يتحدث عبر الهاتف فقال بنعاس شديد:
_للأسف لم أتمكن من سماعها، يوما ما سآتي كي أستمع لصوتها عن كثب.
ضحكت الأم وقالت:
_لا بأس، فلتأتي متى شئت، أتمنى ىلك ليلة هنيئة مليئة بأحلام سعيدة.
ما إن انتهت الأم من كلمتها الأخيرة حتى ظهرت صورة جويرية في مخيلته فقال بابتسامة مليئة بالهيام:
_وداعا.
بعدما أنهت والدة كلثوم الإتصال، اتجهت نحو ابنتها وقالت وهي تربت على كتفها:
_كلثوم؛ لقد أنهيت الإتصال يا عزيزتي هيا انهضي.
نظرت كلثوم نحو والدتها وقالت:
_كيف علمتِ أنني ما زلت مستيقظة؟!.
تبسمت والدة كلثوم وقالت وهي تمسد فوق رأس ابنتها:
_وهل يخفى عليّ شيء كهذا؟!.
نهضت كلثوم وهي تحاول أن تخفي دموعها، فقالت والدتها وهي تربت على وجنتها:
_لا تخفيها عني، أنا والدتكِ يا عزيزتي، حينما تتألمين أشعر بذلك، فقط نفثِّي عما بداخلك، أخبريني عما يدور في رأسك،
أعلم أنه هناك شيء ما يزعجك وبشدة ولكني لا أعلم ما هو، جل ما أعرفه هو أن ذلك الأمر يتعلق ببكر، هيا أخبريني ما الأمر، لقد هاتفني توا وقال أنه إتصل بكِ عدة مرات ولم تجيبي، هيا أخبريني ما الأمر.
تنهدت كلثوم ومن ثَم اغرورقت عيناها، لا تعلم ما الذي عليها أن تقوله، هي ليست متأكدة مما تشعر، وتأبى تصديق ذلك حتى، أخذت شهيق عميق وقالت:
_أنا فقط لا أتحمل اقترابه من أي فتاة غيري، أشعر بنيران تشب بداخلي حينما يحدث ذلك،
لا أتحمل حقا، لقد أصبح فجأة يهتم لأمر فتاة لا يعرفها سوى منذ يومين وأصبحت أنا كتلك الأشياء التي لم يعد بحاجة إليها، أشعر وكأنني أحترق من الداخل يا أمي.
كانت الأم ترمق ابنتها بنظرات لوم وعتب، وما إن انتهت كلثوم من حديثها حتى قالت والدتها:
_الأمر ليس كما أعتقد أليس كذلك؟!.
خفق فؤاد كلثوم ولم تقدر على النظر في أعين والدتها وقالت بعدما وجّهت وجهها في اتجاه آخر:
_بالطبع لا.
تنهدت الأم بعدم ارتياح ونهضت وأشارت لابنتها بأن تندعود وتلتحف في فراشها وقالت:
_آمل ذلك، لقد تأخر الوقت كثيرا عليكِ أن تخلدي إلى النوم سريعاً.
خرجت الأم من الغرفة وأوصدتها جيدا بعدما غلَّقَت أضوائها.
نهضت كلثوم ثانيةً والتقطت جهاز اللاب توب خاصتها وقامت بتشغيله بعدما وضعته أمامها، كانت تتمتع برؤية صورها برفقة بكر، كانوا سعيدين جدا، ترقرقت الدموع في عيني كلثوم وهي تتحسس وجه بكر في الصور، ولكن فجأة أبعدت يدها وأزالة تلك الدموع التي ليست من المفترض أن تسيل،
تنهدت وحدثت نفسها بقولها:
_ليس سوى صديق؛ لن أسمح بأن يكون غير ذلك، ولن أسمح أيضا بأن تنتزع علاقتي به كصديقه، أجل لن أسمح لذلك بأن يحدث، تبسمت ومن ثَم ذهبت إلى النوم راكضة حتى صارت في ثُبات عميق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*في الصباح الباكر في قرية أمارديا*
فُتح باب مبنى المذنبين فجأة وعلى غير العادة، كانت الدهشة تسيطر على وجوه كل من فيه؛ على النقيض تماما من بشار الذي لم يلقِ بالا لذلك، كان فقط كل ما يشغل تفكيره هي جويرية؛ لم يكن يعلم أنه سيشتاق إليها كثيرا إلى هذا الحد،
لم يكن يعلم أنه يحبها بهذا القدر، كان يضرب بيده عرض الحائط ويتمنى لو يُدك، ولكن ذلك من المستحيل.
لم ينتبه بشار من شروده سوى على صوت عمار، في البداية ظن أنه يحلم ولكنه تأكد من وجود عمار عندما تحدث ثانيةً بقوله:
_لا بُد أنك اشتقت إليّ كثيرا أليس كذلك!!.
نظر بشار بجانبه فوجد عمار بالفعل، كان يرتدي ثياب الجلادون، بعدما كان بشار سعيدا برؤية عمار امتعض قائلا:
_هل صرت تعمل لديهم؟!.
ضحك عمار ببلاهة قائلا:
_هل تراني أجيد ذلك؟! بالطبع لا يا رجل.
ضحك بشار واحتضن عمار قائلا:
_رؤيتك أزاحت عن عاتقي همٌّ لم أكن أتحمله يا صديقي.
ربت عمار على كتف بشار وجلسا في الزاوية وهما ينظران لبقية المحتجزين وهم يتناولون الطعام الذي احضره لهم عمار بنهم،
كان عمار يحمل في يده حقيبة من القماش بها طعام لبشار، مد يده بها نحو بشار الذي التقطها سريعا وبدأ في تناول الطعام بشراهة فهو لم يتذوقه منذ أيام.
بعدما انتهى بشار من تناول الطعام وشرب قدرا كافيا من الماء، نظر نحو عمار وقال بجدية:
_كيف استطعت أن تفعل كل ذلك؟!.
ابتسم عمار قائلا:
_سأقص عليك ما حدث.
*فلاش باك*
في الليلة الماضية ذهب عمار إلى بيت صديقه زيد، استقبله زيد بوجه بشوش وكان قد أعد له عشاء به شتى الأطعمة التي يحبها عمار، سعد عمار بذلك كثيرا وقال:
_ما كل هذا يا صديقي لم يكن هناك داعي لكل ذلك.
تبسم زيد وربت على كتف عمار قائلا:
_هذه المرة الأولى التي تزورني فيها بعدما عملت ضمن الجلادون وكل هذا بفضلك يا صديقي.
تبسم عمار بخبث وقال:
_أشعر بالحرج حيال ذلك، ألن تكف عن تذكيري بفضلي عليك يا رجل؟!.
اتسعت ابتسامة زيد وقال:
_مهما فعلت لن أوفيك حقك يا أخي؛ بل أنت أكثر من أخٍ بالنسبة لي فالأخوة لا تفعل ما فعلته أنت، أنا على أتم الاستعداد كي أفعل ما تريد صدقني.
اتسعت ابتسامة عمار بشدة وقال:
_فلنتناول العشاء أولا ومن ثَم نتحدث في ذلك الأمر.
بعدما تناولا العشاء وتبادلا بعض الأحاديث المضحكة، قال عمار بجدية وهو ينظر نحو زيد بترقب:
_لدي صديق محتجز في مبنى المذنبين، هو لم يفعل شيء أبدا؛ لقد احتُجز ظلما..
كاد زيد أن يقول شيئا ما لولا أن أشار له عمار بيده وتابع بقوله:
_أعلم أننا لن نستطع إخراجه من هناك ولكني فقط أريد أن أراه، لقد تديّن مني بعض العملات الذهبية؛ هو لم يشتري بها شيئا وإنما أرادها لغرض ما وأنا أريد استرجاعها.
صمت زيد قليلا بينما كان عمار يعض على نواجزه بترقب خوفا من ألا يساعده زيد، تنهد زيد قائلا:
_حسنا، فلنقتحم بيته ونبحث عن تلك العملات، فلا أظن احتُجز بينما هم بحوذته؛ فهذا من المستحيل.
ادَّعى عمار الغضب قائلا:
_لا، من المستحيل أن أقتحم بيت صديقي هكذا دون علمه، أنا فقط أريد أن يخبرني أين هم وبالتالي سأذهب وأجلبهم ما إن سمح لي بذلك.
نظر زيد في الفراغ وتحسس لحيته ومن ثَم قال:
_ما اسم صديقك هذا؟!.
اضطرب فؤاد عمار فهو لم يكن يضع سؤال زيد هذا في الحسبان، تنهد عمار وزفر ببطء قائلا:
_بشار؛ صديقي اسمه بشار.
فزع زيد ونهض من جلسته قائلا بصوت عالٍ غاضِب:
_هل هذا المجرم صديقك؟!.
فنهض عمار هو الآخر وقال وهو يحاول أن يُهدِّيء من روع زيد:
_أقسم لك هو ليس بمجرم أنا أعرفه جيدا، وتلك الشكوك التي تحوم حوله ليست سوى شكوك، إنه صديقي وأؤكد لك أنه ليس بمجرم أبدا، إن حظه عاثر لدرجة أنه احتُجز في هذا المبنى ظلما.
حاول زيد أن يهدأ ومن ثَم قال:
_ما علاقته بتلك الفتاة التي تدعى جويرية؟!.
توقفت أنفاس عمار، فشعر لوهلة أنه تورط بمجيئه إلى بيت زيد،
قال وقد تملكه التوتر وكادت محاولته أن تبوء بالفشل في أن يهدأ ويسيطر على أعصابه التي بدأت في الإنهيار:
_لقد كان متيَّم بتلك الفتاة ولكنها هجرته لأنها تحب شخصا آخر.
مرر زيد يده على راسه وهو يفكر قائلا:
_ترى من الرجل الآخر الذي كان برفقتهما؟!.
صمت زيد قليلا ومن ثَم نظر في عيني عمار قائلا:
_إن جعلتك تلتقي به؛ هلا سألته من ذلك الشخص الآخر الذي كان برفقته هو وشمس في تلك الليلة المشئومة؟!.
ابتعد عمار عن زيد وهو يمثل الصدمة بينما هو يكاد أن يسقط أرضا من شدة توتره، قال عمار وهو يحاول أن يضبط أنفاسه ونفسه:
_هل صدقت تلك الفتاة؟! أيعقل!؟، أنا اقسم لك أن صديقي لم يفتعل المشكلات في حياته، وأنت تريد أن تعرف من ارتكب جريمة معه؟! لقد صدمتني فيك يا زيد.
فقال زيد وقد أخض صوته لسرية الأمر:
_الأمر خطير جدا يا عمار، أنت لا تعلم ما الذي تورط فيه صديقك، لقد قُتل الحاكم في الليلة عينها التي قُتل فيها كبير الجلادون، الأمر مُربك للغاية، عليك أن تساعدني،
يجب أن نعرف من ذلك الشخص فربما يدلنا على تلك الفتاة التي تدعى جويرية، أنا متأكد من ما قالته شمس، فهي لم تكن غبية بالقدر الذي يشجعها على الوثوب أمام كِبار الجلادون وتكذب بشيء كهذا، تلك الفتاة التي تدعى جويرية خطيرة للغاية، فبالرغم من إصابتها استطاعت الفرار.
انتفض جسد عمار وقال وهو يحدث في زيد قائلا:
_إصابتها!! كيف؟!.
تنهد زيد قائلا:
_نحن لم نزعن عن جميع الأدلة، سأخبرك لكن عدني بألا تخبر أحدا بذلك.
فقال عمار سريعا دون إكتراث:
_حسنا أعدك هيا أخبرني.
فقال زيد وهو يتحدث بصوت يكاد مسموع بالنسبة لعمار:
_في تلك الليلة؛ كانت جويرية تقف بجانب كبير الجلادون بعدما قتلته؛ ولكن ما لم تكن تضعه في الحسبان أن الجلادون بدأوا في الإنتشار وقد رآها أحدهم؛
هو علم أنها فتاة بالرغم من وجهها الذي ملأته الدماء، ووجّه سهمه نحوها وأكّد أنه أصابها بالفعل، وحينما قمنا بالتفتيش في جميع البيوت وجدنا بقعة دماء في بيت بشار، هذا ما أكد لنا تورط صديقك.
ابتلع عمار ريقه الذي كاد أن يجف وقال:
_لماذا إذا قُتلت شمس بالرغم من قولها الحقيقة؟!.
ضحك زيد بسخرية قائلا:
_لقد خشي الجلاد أن تكون علمت بحقيقة موت الحاكم، لذلك قتلها قبل أن تثور ثورة الأهالي وتعم الفوضى.
صمت زيد قليلا ومن ثَم قال بجدية وهو يمسك ذراع عمار بقوة:
_سأدعك تلتقي به وسأؤمن لك الطعام والشراب لجميع المحتجزون، دعه يخبرك أين تلك الفتاة واسأله أيصا عن ذلك الذي كان برفقتهم.
ارتعش جسد عمار فقال وهو يحاول أن يهدأ كي لا يفضح أمره:
_حسنا حسنا، ولكن ألم تبحثوا عنها خارج القرية؟!.
فقال زيد بتعصب: _بالطبع فعلنا، لقد أرسلنا أربعة منا؛ ولكنهم تأخروا جدا لذلك بعثنا خلفهم اثنين فوجدوهم جميعا قتلى غارقون في دمائهم.
فقال عمار وقد فاجأه الأمر كثيرا:
_هل داهمتهم وحوش؟!.
فقال زيد بابتسامة ساخرة:
_لقد داهمتهم وحوش؛ أجل، ولكن تلك كانت الوحوش الآدمية، ما تلك القوة التي لدى هذه الفتاة أنا حقا في ذهول منذ ذلك الحين.
تنهد عمار قائلا:
_حسنا، سأعمل على جلب أية معلومات منه، ولكني ما زلت لا أصدق أنه قد تورط في مثل ذلك الفعل الشنيع.
ربت زيد على كتف عمار قائلا:
_فلتتوقع الأسوأ من ذلك يا صديقي.
#صغيرة_الكُتَّاب