سلالة دناليين البارت الثاني

*"سلالة دناليين" "البارت الثاني"*

حينما تكون النهايات حتمية فلا بد من محاولة جنونية للنجاة، فإن فلح الأمر كان بها، وإن لم يفعل فيكفي شرف المحاولة.

اتجه "مارك" نحو قبو منزله وهبط للأسفل، كان القبو فارغاً ظلامه حالك، لا يُسمع فيه سوى صوت الجرذان، قام "مارك" بتشغيل أضواء هذا القبو واتجه نحو الجانب الأيمن من القبو.

إقترب نحو مربع صغير في الحائط أضاء حينما مرر إصبعه فوقه برفق، قام بإدخال كلمة مرور فُتح عقبها باب سري، دلف خلف هذا الباب وقام بتشغيل المقبس الرئيسي للأضواء فسرعان ما صار ذلك المكان مضيئاً وكأنه يحث "مارك" على العمل من جديد.

لاح طيف ابتسامة باهته فوق شفتيه وهو يسير ببطء للأمام ويتأمل ذلك المكان الذي افتقده بشدة، كان هناك ممر طويل نسبيا ينتهي عند غرفة صغيرة لتبديل الملابس، دلف "مارك" إلى هناك وصار يتأمل بذلاته الفضائية.

كان ينظر نحوهم كل واحدة على حِدة وكلما أطال النظر نحو أي منهم تذكر كيف كانت رحلته إلى الفضاء حينما كان يرتديها، أي هناك واحدة منهم على وجه الخصوص كان يتفائل بها دائما.

فكلما قام بارتدائها كان ينجح في مهماته للصعود إلى الفضاء، وأخرى حينما كان يرتديها كان يصيبه سوء، تخطى "مارك" هذه الغرفة ودلف من خلفها إلى المكمن الذي يطلق عليه مسمى "ساحته الخاصة".

كان ذلك المكان عبارة عن مساحة شاسعة، جدرانها مطلية باللون الأبيض ليس سواه، اتجه "مارك" نحو جهاز ضخم يشبه الحاسوب ولكن يفوقه أضعافاً مضاعفة في الحجم.

تنهد "مارك" قائلاً:
_لا أعلم إن كان ما سأفعله سيجدي نفعاً ولكن لا بُد من المحاولة.
كاد أن يضغط على زر من اللون الأخضر، ولكنه فوجيء بمن أمسك بيده.

هلع "مارك" حينها وتسارعت اضرابات قلبه من شدة التوجس، زفر بشدة قائلا:
_"ميلاني"؟! ماذا تفعلين هنا؟!
تحدثت "ميلاني" وهي لا تزال ممسكة بيده لكي لا يضغط على ذلك الزر:
_ربما عليّ أن أُوجّه لك السؤال عينه!

تنهد "مارك" وجذب يده من بين أصابعها قائلاً:
_لم يسبق لكِ المجيء إلى هنا من قبل!
رمقته "ميلاني" بنظرات هادئة على النقيض تماماً من النيران التي نشبت بداخلها وقالت:
_لا أظن أن هذا ما يهم الآن.

فقط أخبرني ما الذي جاء بك إلى هنا في مثل هذا الوقت المتأخر؟!.
نظر مارك في ساعة يده فوجدها تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل،

زفر ببطء قائلاً:
_لقد أخبرتكِ قبل قليل أنني سأجد حلاً لهذه الكارثة، وربما سيكون في نطاق عملي، هل سهوت عما أخبرتكِ؟!

لاحت علامات الغضب على وجهها وقالت بنبرة حادة:
_ظننت أنك ستعمل على بحث ما في سبيل إيجاد مضاد لذلك الڤيرس، لم أكن إخال أنك ستخضع لفكرة جنونية كهذه.

تبسم "مارك" بخيبة أمل قائلا:
_ربما ما أود فعله جنوني حقاً، ولكني لا أملك خياراً آخر، عليّ أن أحاول في هذا الأمر، البشرية تستحق أن تحيا أليس كذلك؟!

خفق فؤاد "ميلاني" وقالت بعدما انتابها التوتر:
_بالطبع تستحق، ولكني أخشى من نهاية مأساوية كالتي لحقت بصديقك وأسرته.

امتعض "مارك" وهو يمسح على وجهه بندم وقلة حيلة قائلا:
_لقد كان مقدّراً لهم ذلك.
تنهد لبرهة وتابع حديثه بقوله:
_لا زلت أشعر بالأسف والندم عما حدث.

سأبذل قصارى جهدي كي ننجوا جميعاً من هذه النهاية المحتمة، ربما حينها أستطع التكفير عن خطأي.
تبسمت "ميلاني" بعدما وضعت كفها اليمنى فوق وجنته وتحسست وجهه ولحيته التي اشتعل بها الشيب مؤخرا، فقد أتم عامه الأربعين قبل عامين تقريبا.

تنهدت بأمل قائلةً:
_كن حذراً يا عزيزي، سأنتظرك في الأعلى.
أومأ "مارك" برأسه دون أن يذعن بينما تركته زوجته وصعدت للأعلى.

وجّه مارك نظره نحو ذلك الجهاز الضخم وضغط على الزر ذو اللون الأخضر، أصدر الجهاز صوت يكاد مسموع ومن ثَم أضاءت شاشته كبيرة الحجم.

تحرك "مارك" خطوتين إلى اليسار حيث يقبع شيء ما يشبه لوحة المفاتيح ولكن به رموز تختلف كثيراً الأحرف الإنجليزية، صار "مارك" يضغط على تلك الرموز ومن ثَم ينظر نحو الشاشة ويتابع ما يكتبه.

فبدا وكأنه يكتب رسالة ما بِلُغة ما، استغرق الأمر ما يقارب إلى عشرون دقيقة وما إن انتهى حتى صار ينظر إلى ما دوّن تواً وكأنه يتأكد من صحة ما كتب، حرك المؤشر نحو علامة بدت وكأنها خاصة لإرسال مثل هذه الرسائل ومن ثَم ضغط عليها.

ظهر أمامه على الشاشة شكل مصمم للأستشعار ومدى قوة الإشارة وهل ستُرسل رسالته أم سيتعذر الأمر!، ولحسن حظه أنه قد فلح الأمر.

***

في الطابق الثاني
دلفت "ميلاني" إلى غرفة نومها وهي تفكر مليا في ما سيفعل زوجها، ليس شكاً في قدراته وإنما خوفاً عليه، هي تعلم جيداً كم من الصعب عليه الشعور بالخسارة أو الفشل،

على الرغم من سوء الأحوال في العالم بأسره إلا أنها مطمئنه فقط لتواجدها بجانبه، كانت في قرارة نفسها أن يفلح الأمر الذي يسعى إليه حتى ينجو العالم، فليس هناك شيء تريده بشدة سوى أن تظل بجانبه حتى يُرَدُّوا إلى أرذل العمر وتتمكن منهما الشيخوخة.

اتجهت "ميلاني" نحو المرآة ونظرت نحو انعكاس صورتها، لا تزال جميلة جداً وكأنها في الثالثة والعشرون من عمرها، فعلى الرغم من تجاوزها سن الخامسة والثلاثون إلا أنها لا تزال شابة يافعة تتمتع بصحة بدنية ونضارة ليست لأحد ممن في مثل عمرها.

تبسمت حينما طرأ على عقلها أن كل ذلك بفضل زوجها "مارك"، هو الذي يأبى عليها الحَزَن ويفعل كل ما بوسعه كي لا يُشعرها بالسأم والإمتعاض.

انتبهت من شرودها حينما سمعت صوت أقدام في الغرفة المجاورة لها، تلك الغرفة التي وقع عليها الإختيار لتكون لأطفالهم الذين لم يُرزقا بهم حتى الآن وذلك بسبب بعض المشكلات لدى "ميلاني".

تعلم جيداً أن مارك لن يجرؤ للدخول إلى هذه الغرفة، لأنه كلما مرّ عليها أصابه الشجن، لملمت خصيلات شعرها المموج وقالت بعدما تسارعت ضربات فؤادها من شدة الخوف:
_"مارك".. عزيزي أهذا أنت؟!

لم تحصل على أي رد، وهذا ما زاد من رهبتها، أخذت شهيقا عميقاً واتجهت بخطوات متأنية نحو الغرفة المجاورة وهي ترتجف بشدة، أمسكت بعصا" "الهوكي" خاصتها وسارت نحو تلك الغرفة، توقفت أمامها لبرهة ووضعت أذنها فوق الباب فربما تستمع لأي صوت.

في البداية لم يكن هناك شيء يدعو للقلق وكادت أن تذهب لولا أن صدر صوت وكأن أحدهم تعثر في لُعبة ما وهءا ما جعلها تنتفض بشدة، زفرت بقوة وأمسكت بمقبض ذلك الباب اللعين وأداردته ببطء.

دلفت إلى الغرفة بهدوء تام ومن ثَم سارعت بتشغيل ضوء الغرفة، وحينما نظرت في الأرجاء لم تجد أحداً، لم تمر سوى دقيقة واحدة حتى أمسك بعنقها أحدهم وصدم رأسها في الحائط فسقطت أرضاً مغشي عليها.

***

في إحدى الدول العربية، تحديداً في منزل يبدو عليه أنه لأسرة فقيرة، كانت تقبع في بهوه سيدة تكاد أن تضع مولودها، كانت صرخاتها مدوية بينما كان زوجها يجلس بجانبها لا يدري ماذا يفعل أو ما الذي يجب عليه فعله!

استطاعت زوجته أن تخبره بإسم صديقتها الطبيبة التي تمكث على بُعد ما يقارب من خمسة عشرة دقيقة سيراً على الأقدام.
نهض سريعا ذلك الزوج وصار يركض بكل ما أوتي من قوة كي يصل إلى بيت تلك الطبيبة في أسرع وقت ممكن.

كان يركض كثيراً ويتوقف لبرهة كي يلتقط أنفاسه ومن ثَم يتابع الركوض إلى أن صار أمام منزل الطبيبة مباشرة، كاد أن يقرع الباب ولكن فوجيء بأن باب المنزل مفتوح بالفعل!، في البداية تردد في الدخول ولكن حينما تذكر صرخات زوجته انتفض وسارع للدخول إلى هناك.

هدوء مخيف كان يملأ ذلك المنزل الذي بدا وكأنه قد هُجر منذ زمن، كان يسير ببطء خشيةً من أن يُفاجأ بأحد ما يغضب من وجوده في الداخل بهذه الطريقة، كاد أن يصيح مناديا على الطبيبة لولا أن سمع صوت صادر من إحدى الغرف.

تتبع لك الصوت حتى توقف أمام الغرفة التي صدر منها ذلك الصوت، طرق الباب برفق قائلاً:
_أيتها الطبيبة! هل أنتِ في الداخل؟! أستمحيكِ عذرا لأنني اقتحمت منزلكِ بهذه الطريقة ولكن زوجتي على وشك أن تضع المولود.

لقد أخبرتني أنها تحدثت إليكِ بهذا الشأن، وأننا لا نملك ما يكفي من المال لكي تلد في المشفى، فهلا جئتِ برفقتي إلى منزلنا!؟ إن وضعها يزداد سوء، أخشى عليها من أن يصيبها أذى.

صمت الزوج حينما انتبه لأن الطبيبة لم تتحدث ولم تخبره أنها ستأتي بالفعل!، شعر بالحرج لبرهة قائلاً:
_أيتها الطبيبة هل تسمعينني؟

وكالمرة السابقة لم تجيبه الطبيبة، اضطُّر حينها لأن يقتحم الغرفة وبالفعل قام بفتح الباب بروية، فوجيء حينها بالطبيبة تقف في آخر الغرفة وتنظر عبر النافذة، ضم حاجبيه بتعجب قائلاً:
_أيتها الطبيبة.. هل أنتِ بخير؟!

فوجيء حينما لم تلتفت إليه أو حتى تتفوه بكلمة واحدة، ظلت كما هي بلا حُراك، غضب الزوج حينها لأنها لم تلقِ بالاً لما كان يقول، فاتجه نحوها وربت فوق كتفها برفق قائلاً:
_أأنتِ خير!.

حينها فقط التفتت إليه الطبيبة وهي تزمجر بشدة، سقط الزوج أرضاً وصار يزحف للخلف بينما كانت الطبيبة تتقدم نحوه ببطء وهدوء كالذي يسبق العاصفة.

لم تكن ملامح وجهها كالتي يعرفها، بدت مختلفة تماما، كانت تبدو جلودها وكأنها منصهرة إلى حد ما، يميل لونها للزرقة، حتى أن عينيها صارت وكأن بها خطب ما، لم تكن عينيها على ما يرام.

كانت تبدو زائغة لا يمكنها الرؤية بواسطتها، بالإضافة إلى شفتيها التي صارت مطلية بدماء متجلطة.
كان صدر ذلك الزوج يعلو ويهبط بشدة، كان يريد أن يول بالفرار ولكن خارت قواه كليا ولم يعد يتمكن حتى من الزحف مبتعداً عن تلك التي أمامه.

توقفت الطبيبة لبرهة وحرّكت رأسها ببطء وكأنها تود التركيز على صوت شيء ما، وذلك لم يكن سوى صوت اضطرابات فؤاد ذلك الزوج المسكين.

تبسمت الطبيبة وكأنها تستمتع بخوفه وهلعه!، ومن ثَم انقضت عليه وفتكت به قبل أن يتوسل إليها من أجل زوجته ومولوده.

***

في الولايات المتحدة الأمريكية
كان "مارك" جالساً فوق كرسيه يراقب علامة الإستشعار في شاشة حاسوبه الغريب، كان ينتظر أن تظهر علامة يعرفها جيداً تشير إلى أن رسالته التي بعثها تم إستلامها من الجهة الأخرى أم لا، ولكنه كان يغفو رغماً عنه.

لذا قرر أن يترك كل شيء كما وهو ويصعد إلى الطابق الثاني كي ينال قسطاً من الراحة ويعاود مرة أخرى في الصباح الباكر.
كان يغلبه النُّعاس حينما خرج من القبو، ولكن جحظت عيناه برهبة وخوف لم يعهده من قبل حينما وجد قطرات من الدماء في الأرض.

كانت تلك القطرات ممتدة في خط مستقيم وقد صار معها "مارك" حتى يكتشف إلى أين تشير، ولكنها انتهت قبل أن يصل إلى الغرفتين اللتين يكمنان في نهاية الطابق، ولم يكونا سوى غرفة نومه وغرفة الأطفال.

تنهد وهو يحاول أن يهدأ وينفض الأفكار السيئة من رأسه، دلف إلى غرفة النوم فلم يجد "ميلاني"، كاد أن يبحث عنها في المطبخ ولكنها صاحت منادية عليه فجأة وقالت بصوت لاهث:
_"ماركوس".

شعر "مارك" حينها بأن كل شيء توقف حتى ضربات قلبه، فهو يعلم جيداً أن زوجته لا تتفوه بإسمه كاملاً سوى في حالتين فقط لا غير، أولاهما حينما تكون غاضبة منه، والأخرى التي تجعله يود لو أن يتقيأ أحشائه حزناً هي حينما يكون قد لحق بها سوء.

لم يكن صوتها صادراً سوى من غرفة الأطفال وهذا ما زاد اضطرابه.
لم ينتبه "مارك" سوى حينما وجد نفسه بداخل الغرفة وتحديدا في منتصفها.

شعر فجأة بأن قدراً من الماء المثلج سُكب فوق رأسه وتغلغل في سائر جسده وصولاً إلى أصابع قدمه حينما رأى زوجته تجلس فوق كرسي صغير صُمم خصيصا للأطفال،

وخلفها مباشرةً "جون" الذي كان على أُهبة الإستعداد كي يسفك دمائها بواسطة أنيابه وقد سال اللُّعاب من فمه تعطشاً للدماء ولحوم البشر.
كان "مارك" يرتجف بشدة.

حاول أن يتمالك كي يتمكن من الحديث مع "جون" حتى يجعله يترك "ميلاني" وشأنها ولكنه كان يتلعثم كلما حاول النطق بكلمة واحدة.
تعالت قهقهات "جون" قائلاً:
_ألن ترحب بصديقك؟!

صمت لبرهة ومن ثَم تابع قائلاً:
_أنت لا تُحسن التعامل مع أصدقائك المقربين يا "جون"، ترى لماذا؟!.
كان "جون" يتحدث وهو يقاوم تلك القشعريرة التي تسري في جسده بالكامل ولا تتوقف حتى أنها جعلت جسده ينتفض بشكل مستمر.

تمالك "مارك" وقال وهو يجمع رباطة جأشه قائلاً:
_أتركها وشأنها أرجوك، هي لم تخطيء معك في شيء.
فقال "جون" سريعاً:
_وأنت فعلت!، لمَ؟!.

تنهد "مارك" وهو يعتصر حزناً قائلاً:
_لم أكن أعلم أن ذلك سيحدث، فقط أردت أن تخضع للعلاج بأفضل المراكز الطبية.

زمجر "جون" بغضب متقع واتجه نحو "مارك" وأمسك بياقة ثوبه وجذبه نحوه بشدة قائلاً بأعلى طبقات صوته:
_وما الذي حدث حينها!! فقدت زوجتي وابنتي، هل يمكنك إعادتهن للحياة؟! هل ستستطع فعل ذلك؟! هل ستتمكن من إضمار النيران التي نشبت بداخلي مؤخراً؟!

اغرورقت عيني "مارك" وطأطأ رأسه وحركها بالنفي قائلا:
_لا.. لا يمكنني ذلك، ولكني أقسم لك بأن ما حدث خرج عن إرادتي، لقد أردت إنقاذهن ولكني لم أتمكن من ذلك، فكان حينها قد فات الآن.

أومأ "جون" برأسه قائلا بهدوء مخيف:
_إذاً.. كان من المفترض أن تأتي إلى هنا وتجد فقط أشلاء من بقايا جسد زوجتك، ولكني لم أتمكن من فعل ذلك، ولكن هذا ما كان يجب عليّ فعله، كان من المفترض أن أُعِد لك مفاجأة، ولكن أتعلم.. لا يهم سأفعلها الأن.

اتجه "جون" نحو "ميلاني" وقد بيّت أمره على أن يمزقها إرباً، ولكن سرعان ما أمسك "مارك" بعصا الهوكي التي يقطت من يد زوجته قبل قليل،

وقام بتسديد ضربة قوية فوق رأس "جون" فسرعان ما سقط أرضاً مغشيا عليه، وما إن تأكد مارك من أن "جون" فقد وعيه حتى أمسك بيد زوجته ولاذا بالفرار.
#صغيرة_الكُتَّاب
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي