الفصل الثاني

لحظة سكون وهدوء تعتلي المكان، سلاح كل منهما موجه نحو الآخر بين نظرات ذهول وتعجب فيما بينهما.

كلاهما أحس بشعور غريب في أثناء ذلك الموضع، ولكن كان شعور كل منهما مختلفًا عن الآخر، فربما كان شعور أحدهم الرفق والآخر كان الاستنكار والخوف.

استقام مارتيني بسرعة ووضع السيف في غمده، ثم اعتذر إلى الفتى قائلا: عذرًا لم أقصد ذلك، هل أنت بخير؟

قالها وهو يمد يديه إلى الفتى لكي يساعده في النهوض ويحييه، ولكن الفتى أخذ بيده، ثم امسك باليد الأخرى معصم مارتيني وقلبه على الأرض.

ثم قال له:
-لم أكن بحاجة إلى انقاذ منك أيها العجوز المبهرج، دعني في سبيلي وأذهب، وإن كنت تريد مالا جزاء ذلك فأنت لم تفعل شيئًا أنا من قضيت عليه، أما إن كنت تبتغي شكرًا فاعتبر ذلك قد حدث، إلى اللقاء.

تعجب مارتيني من رد هذا الفتى ذو الثياب البالية، بدى غاضبًا ساخطًا على كل البشر دون استثناء، فما كان مارتيني ليتوه عن تلك النظرات، انها تشابه نظراته تمامًا نحو الوحوش.

لم يقل مارتيني أي كلمة أثناء ذلك، فقد أخرسه التفاجؤ والصدمة مما بدر من ذلك الطفل.

تبع مارتيني الفتى، قائلًا له بعتب:
-ألم تعلمك والدتك أن تشكر من يحاول مساعدتك؟

ولكن انقلب ذلك العتب إلى قشعريرة عندما التف الفتى بهدوء وأراه تعابير وجهه الذي صنعها، لقد تأكد بحكم خبرته أن هذا الفتى لم يشهد خيرًا من قبل، لم يشهد خيرًا من وحوش أو حتى بشر..

تنهد الفتى وعاد إلى هدوئه السابق وقال:
-هذه الغابة خطرة عليك أيها العجوز، عد من حيث أتيت، وعذرا على عدم شكرك، فليس لي أم تعلمني ذلك، ولا أنا بحاجة إلى مساعدة من أحد.

حاول مارتيني مد يديه إليه لكي يساعده ولكن شعر بالعجز لسبب لا يعلمه، فكيف لك أن تساعد من لا يبتغي منك مساعدة؟

لاحظ مارتيني ذهاب الفتى في هدوء دون أن ينبس بكلمه، واقفًا في مكانه يعض على أطراف أسنانه.

بمجرد أن اختفى الفتى، قال مارتيني جملة يحدث بها نفسه بصوت عالي، أغلب الظن أن تلك الجملة خرجت غيظًا وغضبا حين قال:
-أيظن أنه الوحيد الذي لاقى اليأس؟ لقد تجرعته مرارًا حتى أصبح طعم الشراب مثل الماء.

تحرك مارتيني مجددا نحو القرية التي مكث فيها الأبطال حتى يرتاح قليلًا وينام لبضع ساعات.

ولكن لم يغمض له جفن بسبب التفكير في ذلك الفتى في الغابة، لقد كانت ثيابه وآثار الطين على جسده توحي بأنه قد أتخذ الغابة بيتًا له، فكيف لمثله أن يعيش بتلك الغابة التي تتكاثر فيها الوحوش ليلًا وأنى له النوم هانئ البال بين طيات الطين والحشرات؟

نهض مارتيني من سريره ليتمشى قليلًا لعدم قدرته على النوم، فهمّ بالخروج بعد أن لبس بعض الملابس الخفيفة.

بمجرد خروجه وجد هالاند يقف بجانب بابه قائلًا له:
-ما الذي يشغل بالك يا مارتيني؟

ابتسم مارتيني ورد عليه قائلا:
-ومن أخبرك أن هناك ما يشغل بالي؟

ضحك مارتيني قائلًا:
-الجميع لاحظ ذلك، ليس أنا فقط، بل آنجي وريوك أيضًا، لذا لا تتصنع الغباء يا مارتيني.

-هل تفضحني الملامح لكي يلاحظ كل هذا؟

-كم من وقت تظن أننا أمضينا الوقت سويا يا مارتيني؟ يمكننا معرفة عندما يوجد أمر ما يؤرق قائدنا، هل الأمر متعلق بعائلتك؟ لقد كان الأمر في مثل هذه الأوقات من السنة، أم أن الأمر شيء قد حدث في تلك الغابة التي عدت منها حزينا مغتاظًا؟

-ربما يكون الأمر كلاهما معًا، لكن لا تشغل بالك أنت يا هالاند، شكرا من أجل سؤالك، مهلًا هل كنت تنتظرني أمام الباب كل هذا الوقت؟

-لا فقد أتيت للتو، ويبدو أنك لا تريد التحدث في الأمر لذا لن أضغط عليك، ولكن أعلم أنك إذا ما شعرت بأنك تريد قول شيئٍ سأستمع لك، بل سنستمع لك جميعًا يا قائدنا المبجل.

-قائدكم المبجل هذا ما هو سوى يائس لا يملك صلة بالحياة.

ضحك هالاند قائلًا:
-حتى وإن كنت مجرد رجل يائس، لا تنسى أيها اليائس أنك رمز للسلام، وأمل للناس، ضع هذا في عين اعتبارك، رغم أنك لو نظرت حولك، ستجد أنك تملك صلة بالحياة بالفعل، وأنا متأكد أنك ستصنع صلة جديدة اليوم وغدا وبعد غد.

-رمز للسلام؟ لا أعلم إن كنت استحق هذا اللقب حتى.

-لا يهم، المهم أنك حصلت عليه، لذا فلتجعل نفسك تستحق هذا اللقب، عن إذنك سأذهب لكي أخلد للنوم.

-رافقك السلامة يا رفيقي، إلى اللقاء.

-إلى اللقاء.

نزل مارتيني من على الدرج والابتسامة تعلو محياه، تلك المحادثة الصغيرة التي دارت بينه وبين هالاند، جعلته يدرك أشياء كان يحاول بجهد أن يتناساها، أشياء كان يحاول أن يطمسها مع الماضي، ولكن ما كان للمرء أن ينسى ما يريد نسيانه، بل ذلك ما يظل عالقًا في الذهن دون غيره، حتى وإن تجاهلته.

ذهب مارتيني للقاء الدوق الأعلى ريفنهورت، حيث طلب لقاءه في الغد ولكن رأى مارتيني أن ذهابه الآن قد يغنيه عن زيارة الغد التي ستكون متكلفة.

تقابل بالفعل معه أمام جدول صغير كان يجري بداخل البلدة، على كرسي عتيق ولكن نظيف معاد ترميمه.

ليرى حين وصوله الدوق يجلس وحيدا دون أي حرس ويقرأ جريدته تحت إضائة عامود طويل، في مؤخرته من الأعلى حجر روني يضيء كلما أمددته بالطاقة السحرية، وهناك بالفعل أنابيب سحرية تجري تحت هذا البلدة، تمد معظم الاماكن بالطاقة السحرية كهذا العامود.

لم يتعجب مارتيني من وجود ريفنهورت وحيدا دون حرس في هذا الشارع الذي لا يوجد به أحد، فقد كان صديقه ويعلم طباعه بالفعل، كما أنه يعلم يقينًا أن هذا الدوق ليس بمرء قد يُقتل أو يغتال على يد هاوي.

جلس مارتيني بجانب الدوق، فقال له ريفنهورت:
-ما الذي أردت لقائي من أجله في مثل هذه الساعة المتأخرة؟ إن الجو بارد.

ابتسم مارتيني مداعبًا وهو يقول.
-ما الذي أردته أنت من لقائي غدا في تلك المأدبة التي تنوي القيام بها؟

فرد عليه ريفنهورت وهو يقلب جريدته:
-وهل يحتاج المرء لسبب كي يلتقي بصديقه الذي لم يره منذ مدة أو يقيم له مأدبه؟

-أوليس هذا يرد على سؤالك السابق يا أيها الدوق الأعلى؟

ضحك الدوق ضحكة خفيفة مهندمة، وقال له:
-لقد افتقدت ردودك هذه حقًا، لقد أخذتك المغامرة بعيدا عنا ولكن ها أنت ذا، البطل الذي يتغنى الناس بإسمه.

-وأنت أيضا أصبحت دوقًا أعلى له مكانته واحترامه، اذكر قولك لي أنك تريد المغامرة أيضا وقتال الوحوش، ولكن مكانة عائلتك الاجتماعية ووفاة أبيك مبكرًا قد منعتك من ذلك، أو هذا ما تظنه.

-ما الذي تقصده بأن هذا ما أظن؟ إنه الواقع بالفعل.

-ليس الواقع أيها الدوق الأحمق، أنا أعلم بالفعل جهودك في تلك الحروب وتمديدك للجيوش والمغامرين بالمقتنيات السحرية، كما أن إدارتك لهذه البلد والحرص على أمانها وازدهارها، إنها حرب بحد ذاتها، ويبدو أنك متمكن من هذه الحرب.

-ياله من مديح بالغ في حقي، لا أظن أنني استطيع الرد على هذا.

-إذا لقد أردت مناقشة شيء آخر في تلك المأدبة صحيح؟ ليس مجرد طعام لنأكله.

-أنت تعلم بالفعل ما أريد مناقشته معك.

-أظن أن الأمر مبكر بعض الشيء، أو ربما لست مستعدا لذلك الآن.

-ليس مبكرًا، ولا يجب أن تعيش في الماضي كثيرًا، يجب أن تحصل على وريث لك يا مارتيني، فربما يكون ذلك الوريث البطل المعهود التي تحدثت عنه النبوءة.

-النبوءة؟ أتقصد كلام تلك العجوز الشمطاء؟ لا أعتد به حقًا.

-ما لبثت نبوءات ريناري التي تدعوها بالعجوز إلا وأن تحققت، وحسب نبوءتها سيكون البطل المعهود وريث أحد الابطال الخمسة، سيكون فتى يكره الجميع، من مكان ناءٍ، يلتقطه البطل وهو مغطَى بالطين وجسده ممزق، ذلك الفتى الساخط من سيكون البطل المعهود أو ألد الأعداء، سلاح ذو حدين.

جحظت عينا مارتيني بعد قول ريفنهورت للنبوءة بهذا الشكل فما انفك أن يترائى أمام عينيه سوى شيء واحد...

يتبع..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي